القضية كلها تتوقف على هذا الأمر ، وسوف يسهل علينا فهم الأحداث وتفكيك الاشكاليات اذا انطلقنا من هذه البداية ؛ حيث الاجابة على سؤال الهوية ، من نحن وماذا نريد وما هى أهدافنا ومقاصدنا . نحن لا نسأل عما هى الحركة الاسلامية ؟ من حيث طبيعة تكوينها وأبعاد وتاريخ نشأتها ، وهل هى جماعة أم فرقة أم تيار أم حزب ولا عن تنويعاتها وفصائلها ورموزها وأوجه التباين والاختلاف داخلها ، فبحثنا هنا ليس فى البعد الوظيفى أو الشكلى أو التاريخى ، انما بحثنا فى جوهر الهوية ، حول ماهية الحركة وماذا تريد .. وتشخيص الهوية هو بداية الطريق الصحيح ؛ لأن الاجابة على سؤال : ماذا نعمل ؟ تتوقف على الاجابة على سؤال : من نحن ؟ وتحديد لوائح وبرامج العمل والانتاج والنشاط تترتب على تحديد لوائح وبرامج الهوية بشكل دقيق . من أراد انتاج سيارات فلن يفتتح وينشئ بطبيعة الحال مصنعاً للسكر أو الشيكولاتة أو النسيج ، انما سيحدد بوضوح فى البداية هويته وطبيعة نشاطه ليحصل فى النهاية على منتجه الذى خطط لتصنيعه والاستثمار فيه . هنا لابد من استعادة العناوين الرئيسية للأحداث لندرك أولاً أنه لم يكن هناك ثمة تحديد واضح ومعلن وحاسم للهوية ومنطلقات التحرك ؛ فالاخوان مثلاً تبدأ بمعاداة الأحزاب ورفض فكرتها وتنتهى بتشكيل حزب ليحظر هو الآخر كما حظرت الجماعة عدة مرات ، وهناك اغتيالات وعنف وتفجيرات وثورات وسعى للسلطة وللانفراد بها ، وهناك سرية وعلنية وسلاح ومتفجرات وهناك من يتحدث فى الدعوة وعن المنهج ويدعو الآخرين ، لكن الى أى شئ ؛ الى الانضواء تحت الحكم الالهى خلف حكومة يقودها اسلاميون ؟ أم الى طريق الله واقامة الدين فى الضمير والأسر والمجتمعات ؟ لتحشر كلمة الدعوة ضمن ممارسات ومصطلحات شتى من جاهلية الى حاكمية الى حزبية .. الخ فأين الهوية وما هو المقصد ، وأين الاجابة على : من نحن ؟ هناك ضرورة لازمة لتحديد هوية الأمة وتياراتها ، فهل هى أمة حاكمة لا تقوم بمهامها الا من خلال سلطة وسيطرة ، أم أمة داعية مبلغة ؟ وبين هذين التصورين والنموذجين فجوة زمنية هى التى تسببت فى هذا الخلاف المنهجى الكبير ، حيث حددها وحيد الدين خان بالمسافة الزمنية بين ما بعد الخلافة الراشدة وبين تأسيس حركة الدعوة فى مكة ، لينطلق الكثيرون – وهم الأغلبية - مصدر اعتباراً من تاريخ ما بعد الخلافة الراشدة ، لتتشكل منهجيته وفق تصورات الفتوحات والممالك والحكومات والزعامات ، بينما التاريخ الاسلامى وبداية الحركة الاسلامية الصحيحة انما تنطلق من مكة حيث شرع النبى صلى الله عليه وسلم فى دعوة الناس الى التوحيد والهداية ، ولو بدأ المسلمون وانطلقوا من ذلك التاريخ المبكر لعثروا على نموذجهم واهتدوا الى هويتهم وهو نموذج الداعية وهى هوية الأمة الداعية . ما شأن الدعوة اذاً بالشغب والتفجير والتخريب والتطاول والاستعلاء على البشر والتكفير ؟ حيث لا علاقة للدعوة بأى حال من الأحوال بتلك الفوضى وهذا العبث والضلال ، لكنهم مع ذلك يقحمون اسم ومصطلح الدعوة فى سياق ممارساتهم ، وهذا مرجعه فى الأساس لعدم وضع تصور كامل للاجابة عن سؤال الهوية لنحصل فى النهاية على منتج آخر تماماً ، فليس هذا هو خلق الداعية ولا سلوكه وليست تلك هى ردود أفعاله وليست تلك هى طبيعة تعاملاته مع الناس سواء الأصدقاء أو الأقارب أو الحلفاء أو الأعداء . شخص المفكر الملهم وحيد الدين خان المرض بدقة وأطلق عليه " عمى الدعوة " ؛ فالمصاب بعمى الألوان لا يشعر باصابته بذلك المرض بل يجهله تماماً ، انه على علم فقط بتلك الألوان التى تسمح عينه برؤيتها بينما الألوان التى لا يتمكن من رؤيتها فيحسب أنه لا وجود لها . أوضاع المسلمين الراهنة توحى بأنهم أصبحوا مرضى من هذا النوع مما يدعونا أن نطلق عليهم .. اذ يرى المسلم المعاصر كل شئ سوى أمر الدعوة الذى يتعامى عنه . يعرفون الألوان ويرددون أسماءها مثل الأحمر أو الأزرق أو الأخضر لكنهم لا يرونها ولا يعرفون حقيقتها ، وكذلك كثير من المسلمين اليوم يرددون كلمة الدعوة ولكنهم يقومون بممارسات لا تمت لها بصلة ويأتون بمناهج ورؤى ويقومون بأفعال تتنافى تماماً مع مصطلح الدعوة وتناهض أنشطتها