أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 13

الموضوع: جدران الألـــــــــم

  1. #1
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي جدران الألـــــــــم

    .. جلست على صخرة منعزلة في جانب الطريق وأنا أمسك دم رأسي بضمادة بيضاء ، والحزن يضغط على صدري ، أحاطت بــي جماعة من الناس ، غبار شاحب يسكن أكتافهم ، على الوجوه تجاعيد عميقة تحصي عدد السنين . نثرت عليهم همومي ، تأملوا ظلي ، وجدوه ليس على مقاس جسمي ، حاول أحدهم أن يحول بيني وبين ظلي ليعرف أكثر عني ، برجلي اليمنى نثرت التراب بين أرجلهم محاولا إنهاء هذا اللقاء العاصف ..
    بخط عريض كتبت لهم عنواني على ورق مقوى، يأخذون الورقة ، يقرأون ما كتب فيها ، يحدقون في جسمي ويرمون الورقة في وجهي . ألتقطها وأصابعي ترتجف ، أحسست أني أتكلم مع الريح ..
    قلت :
    ــــ يا أخي ما اسم القرية التي نحن فيها ؟
    خرقــني بنظرة تقـتلع أنفاسي ، توالت النظرات تباعاً ، ولما شبعوا من وجهي ، نفضت مخاوفي بين أيديهم ،هممت أن أفرغ جراب أسراري بين قلوبهم .. توقفت أتأمل عيونهم ، ألاحق أجسامهم . تهامسوا ، وشوشوا .. قالوا بلسان واحد : من أنت ؟
    تراجعت إلى الوراء وتركتهم يشنقون غضبي ..
    اختلطت علي مسارب القرية ، تغيرت معالم طرقها ، دور جديدة نتأت وأخرى انمحت . من النوافذ نساء يسرقن النظرات ، أطفال يتوقفون عن اللعب ، فتيات يغيرن الطريق من أمامي ، قلت في نفسي : من أنا ؟
    ـــ أنت ، يا أختاه ..
    كشفت عن وجهها ، رمت الوشاح على كتفها ، جميلة ، فاتنة ، بسطت الورقة في وجهها وقـلت :
    ـــــ هل تعرفين عنوان هذا المنزل ، نظرت إليه في استغراب ، علا صدرها فطردت أنفاسا حارقة من جوفها مست وجهي ، اهــتز جيدها ، شخصت ببصرها إلى السماء وبدأت تنظر في كل الجهات وقالت :
    ــــ لعلك تعني من كان يقطن في هذا المنزل ؟
    ــــ أي والله ، من سكنوا وطن قلبي .
    أشاحت بوجهها وانصرفت .. اندست بين مسلك ضيق تحفه من الجانبين أعواد سدر يابسة ، وهي تلوك بين شفتيها كلمات. قلت: يا عقلي ، ألا تذكر عنواني ؟ أو أصابك الخرف قبل الأوان ؟
    عادت تلك الفتاة ومعها شيخ كبير، نظر إلي في ارتياب ، أسقطت عيني إلى الأرض. تشابك مع نظارته المربوطة بخيط في عـنقه ، اقترب مني ، مضى زمن وهو يقرأ قسمات وجهي .. كلت عيناه فقال بصوت حازم :
    ــــ هيا يا رجل ، اتبعني ، أعرف المنزل المذكور في العنوان . أشار بيده للفـتاة ، انصرفت على التو وقلبها معلق بين البقاء والرحيل .. سرت وراءه وأنا كالمخطوف ، أشار بإبهامه وقال :
    ــــ هناك ، تلك الدار المهدمة . لكن .. لقـد خلت من أهلها منذ زمان ، يقال أن طفلا صغيراً لهم نجا ، لم يعد بعدما رجع كل سكان القرية ..
    أحسست أنه يجردني من ملابــــسي ، تركته وهو يعانق ذاكرته المثقوبة عسى أن يفـك تشابك خيوط الماضي .. وقفت أمام منزل منهار، نصف باب خشبي متهرئ أكلت النار نصفه الأعلى ، ركلته فاهتزت أتربة كاليحموم بين أقدامي ، غـرف منزوعة الأسقـف ، شقوق عميقة تستفــز الجدران ، قـفل مرمي في فـناء الدار اعتراه صدأ كثير ..
    جمد الدم في عروقي ، بدأت أبحث بين الأنقاض ، وجدت دمية مبتورة الأعضاء ، رماد أسود يخنق أنفاسها ،حركتها ، تصاعـد غبار أسود هيج الغشاء المخاطي لأنفي ، عطست .. اهتز صوتي وامتد ، فزعت العصافير من حولي . تلك الدمية كانت لأختي سلمى، لعلها الآن في ريعان شبابها ، صفات الجمال كانت تظهر عليها وهي لا تتعدى سنتين من عمرها. لا أدري أين كانت تختبئ آنذاك؟ وماذا حـل بها ؟ يقال إنها نجت كما نجوت .
    خطوت وقطع قصب السقـف تــئن تحت وطأة أقدامي ، دم يابس يلتصق بإطار صورة كانت تضم وجهي أمي وأبي . أطلقت أحزاني في وجه الجدران المتآكلة ، ابتعدت قليلا ، كبر الشك في نفسي ، ارتفع وصيد الخوف في أحشائي ، دموع تسرد تفاصيل حياتي . سرت وأنا أجـر جسداً ينتعل حذاء خربه التيه والضياع ، أخطو بأقدام ساخطة ، هممت أن أغسل خسارتي بعــري فاضح ، وأثقل جسدي بأحجار من أعلى الشاطئ لأعانق عمق البحر ..
    تأملت المنزل من جديد ، منزل أضاع هيبته ، بقي شاخصاً بآثاره يندب تاريخه المجيد ، يلملم ما تبقى من رائحة أنفاس بشرية سكنت أعمدة سقوفه .. نضجت كلمات جارحة في جوفي فأحرقت لساني .. أحسست أن أظافـري تتحرك لتمسك بأعـناق من خربوا مطبخ أمي ، وهشموا سرير أبي ..
    هربت صغيراً ليلا ، وعدت كبيراً في وضح النهار ، من ثـقب تلك الغرفة الضيقة هربت ، كنت أعدو وأنا أكتم أنفاسي بخرقة خشنة نزعتها من قميصي ، من ذاك التل كنت أشاهد ، وقطرا ت الدموع تقفز على سطح ركبتي العاريتين .. من هناك كنت أسمع صراخ أمي وأبي ، والنيران تأكل جسميهما ، لا أدري أين فر بعض سكان القرية ؟ مضى زمن من الليل ، والنيران تجهز على منازل القرية بانتظام ..
    من خيط ذاكرتي ، أفصل الجدران ، أعيد بناءها على مقاسها الأصلي ، استحضرت بقوة خريطة منزلي ، تشابهت علي الحدود وزوايا البيوت .. من ثقب الماضي ما زلت أحكي تفاصيل الذين أجرموا ، فقـد كانوا من الذين آمنوا .. قـتلوا ، نهبوا ، شردوا ، أحرقوا ..
    ابتعدت عن القرية وأنا ألاحق صوتي بين طرقات وعـرة المسالك ، والمساء يكاد يعلن عن رحيله ، أعـجـن خطواتي بين الحقول ، ورائحة الانتقام تتبعني ..
    سأعــود ... ولا بد أن أعـود ..

  2. #2
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    من خيط ذاكرتي ، أفصل الجدران ، أعيد بناءها على مقاسها الأصلي ، استحضرت بقوة خريطة منزلي ، تشابهت علي الحدود وزوايا البيوت .. من ثقب الماضي ما زلت أحكي تفاصيل الذين أجرموا ، فقـد كانوا من الذين آمنوا .. قـتلوا ، نهبوا ، شردوا ، أحرقوا ..
    مؤسف أنّ يدّعي مثل هؤلاء الإيمان، فالمؤمن لا يحرق النّاس في بيوتها!
    سرد رائع ووصف مؤثّر لحالات التّدمير ومخلّفات الاعتداءات، ومشاعر بطل جاءت صادقة ومعبّرة بقوّة , وعنوان رائع!
    شكرا على جمال الأسلوب ومتعة اللّغة أخي الأستاذ الفرحان
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  3. #3
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    مؤسف أنّ يدّعي مثل هؤلاء الإيمان، فالمؤمن لا يحرق النّاس في بيوتها!
    سرد رائع ووصف مؤثّر لحالات التّدمير ومخلّفات الاعتداءات، ومشاعر بطل جاءت صادقة ومعبّرة بقوّة , وعنوان رائع!
    شكرا على جمال الأسلوب ومتعة اللّغة أخي الأستاذ الفرحان
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    الأديبة المتألقة .. كاملة ..تحية طيبة ..
    شكراً على قراءتك الهادفة والمركزة لهذا النص المتواضع ..
    شكراً على المتابعة والاهتمام رغم طول النص .. اهتمام أعتز به ..
    تقديري واحترامي / الفرحان بوعزة ..

  4. #4
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    ومن ثقب في جدار الماضي استطاع الفرار الى المستقبل على أمل سد تلك الفتحة التي تعرض لعقله ذلك الفيلم الذي بدأ قبل الفجر ولم ينتهي الى الأن
    ومن جدار مثقوب الى جدار مهدم ومن ماض مؤلم الى مستقبل مجهولة
    ومن طفولة بجدران محترقة الى شباب بلا جدران
    وقصة من قصص الظلم والعدوان وانتهاك الحرمات والانسانية بأسلوبك الرائع وصورك الموجعة بجمال
    كل التقدير والاحترام
    دمت رائعا

  5. #5
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    قصة جميلة تطرق أبواب الذكريات الأليمة ..
    كل من يدعي المبادئ يواجهه لسان يخرج من بين الدمار والأنقاض..
    سرد جميل وإحاطة بالتفاصيل تكمل الصورة وتحرك المشهد.
    تحياتي أستاذ الفرحان بو عزة.
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  6. #6
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلود محمد جمعة مشاهدة المشاركة
    ومن ثقب في جدار الماضي استطاع الفرار الى المستقبل على أمل سد تلك الفتحة التي تعرض لعقله ذلك الفيلم الذي بدأ قبل الفجر ولم ينتهي الى الأن
    ومن جدار مثقوب الى جدار مهدم ومن ماض مؤلم الى مستقبل مجهولة
    ومن طفولة بجدران محترقة الى شباب بلا جدران
    وقصة من قصص الظلم والعدوان وانتهاك الحرمات والانسانية بأسلوبك الرائع وصورك الموجعة بجمال
    كل التقدير والاحترام
    دمت رائعا
    الأديبة المتألقة خلود تحية طيبة ..
    شكراً لك على قراءتك القيمة لهذا النص المتواضع ،
    فعلا إنها ثقوب الماضي تطل علينا كلما اشتد علينا الألم ..
    شكراً على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة ..
    تقديري واحترامي .. الفرحان بوعزة ..

  7. #7
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد السلام دغمش مشاهدة المشاركة
    قصة جميلة تطرق أبواب الذكريات الأليمة ..
    كل من يدعي المبادئ يواجهه لسان يخرج من بين الدمار والأنقاض..
    سرد جميل وإحاطة بالتفاصيل تكمل الصورة وتحرك المشهد.
    تحياتي أستاذ الفرحان بو عزة.
    فعلا أخي عبد السلام المبدع المتألق ،هي ذكريات أليمة تتجدد كلما استيقظت الذاكرة
    وتداعت الأحزان والهموم كأنها تمر في الحاضر ..
    شكراً على قراءتك الهادفة والمركزة ..
    محبتي وتقديري / الفرحان بوعزة ..

  8. #8
    الصورة الرمزية مصطفى الصالح أديب
    تاريخ التسجيل : May 2014
    الدولة : شرق الحلم
    المشاركات : 1,031
    المواضيع : 44
    الردود : 1031
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ..

    نص من العيار الثقيل
    بخطى واثقة سار للنهاية المحيرة
    وترك الباب مشرعا على مصراعية
    بدا البطل إنسانا عاديا جدا
    وليس مثل أبطال هوليوود ينتقم ويقتل بلا رحمة

    حتى أن رأسه شجت كونه سأل عن شيء لا يحب أن يتذكره أحد

    إبداع من نوع آخر

    دمت رائعا

    كل التقدير
    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

  9. #9
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مصطفى الصالح مشاهدة المشاركة
    ..
    نص من العيار الثقيل
    بخطى واثقة سار للنهاية المحيرة
    وترك الباب مشرعا على مصراعية
    بدا البطل إنسانا عاديا جدا
    وليس مثل أبطال هوليوود ينتقم ويقتل بلا رحمة
    حتى أن رأسه شجت كونه سأل عن شيء لا يحب أن يتذكره أحد
    إبداع من نوع آخر
    دمت رائعا
    كل التقدير
    شكرا لك أخي المبدع المتألق مصطفى على قراءتك الهادفة والمركزة ..
    اهتمام أعتز به ..
    محبتي وتقديري / الفرحان بوعزة ..

  10. #10
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    نص حمل وجيعة الحرف بواقع يفرض نفسه على البوح بكل ألوانه
    السرد متألق متفوق، بتتابع جميل وتفصيل وصفيّ للمكانية ودخيلة البطل أضفى على النص تشويقا، وأداء قصّي متمكن


    دمت بروعتك أديبنا الكريم
    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. معلقة أولى .. على جدران العروبة : لطفي زغلول
    بواسطة لطفي زغلول في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 23-01-2008, 10:02 PM
  2. منشورات فدائية على جدران قاعدة امريكية
    بواسطة محمود شاكر الجبوري في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 02-01-2008, 08:50 AM
  3. على جُدْرانِ اللَّيْلِ
    بواسطة مروة دياب في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 44
    آخر مشاركة: 21-11-2006, 09:59 PM
  4. كتب أنيس منصور لاول مرة على النت ...من جدران المعرفة
    بواسطة بهاء كامل في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 08-03-2006, 07:36 PM
  5. بين جدران المطبخ .. هل تجد المرأة الإبداع !
    بواسطة نور جمال الخضري في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 22-12-2005, 05:46 PM