.. جلست على صخرة منعزلة في جانب الطريق وأنا أمسك دم رأسي بضمادة بيضاء ، والحزن يضغط على صدري ، أحاطت بــي جماعة من الناس ، غبار شاحب يسكن أكتافهم ، على الوجوه تجاعيد عميقة تحصي عدد السنين . نثرت عليهم همومي ، تأملوا ظلي ، وجدوه ليس على مقاس جسمي ، حاول أحدهم أن يحول بيني وبين ظلي ليعرف أكثر عني ، برجلي اليمنى نثرت التراب بين أرجلهم محاولا إنهاء هذا اللقاء العاصف ..
بخط عريض كتبت لهم عنواني على ورق مقوى، يأخذون الورقة ، يقرأون ما كتب فيها ، يحدقون في جسمي ويرمون الورقة في وجهي . ألتقطها وأصابعي ترتجف ، أحسست أني أتكلم مع الريح ..
قلت :
ــــ يا أخي ما اسم القرية التي نحن فيها ؟
خرقــني بنظرة تقـتلع أنفاسي ، توالت النظرات تباعاً ، ولما شبعوا من وجهي ، نفضت مخاوفي بين أيديهم ،هممت أن أفرغ جراب أسراري بين قلوبهم .. توقفت أتأمل عيونهم ، ألاحق أجسامهم . تهامسوا ، وشوشوا .. قالوا بلسان واحد : من أنت ؟
تراجعت إلى الوراء وتركتهم يشنقون غضبي ..
اختلطت علي مسارب القرية ، تغيرت معالم طرقها ، دور جديدة نتأت وأخرى انمحت . من النوافذ نساء يسرقن النظرات ، أطفال يتوقفون عن اللعب ، فتيات يغيرن الطريق من أمامي ، قلت في نفسي : من أنا ؟
ـــ أنت ، يا أختاه ..
كشفت عن وجهها ، رمت الوشاح على كتفها ، جميلة ، فاتنة ، بسطت الورقة في وجهها وقـلت :
ـــــ هل تعرفين عنوان هذا المنزل ، نظرت إليه في استغراب ، علا صدرها فطردت أنفاسا حارقة من جوفها مست وجهي ، اهــتز جيدها ، شخصت ببصرها إلى السماء وبدأت تنظر في كل الجهات وقالت :
ــــ لعلك تعني من كان يقطن في هذا المنزل ؟
ــــ أي والله ، من سكنوا وطن قلبي .
أشاحت بوجهها وانصرفت .. اندست بين مسلك ضيق تحفه من الجانبين أعواد سدر يابسة ، وهي تلوك بين شفتيها كلمات. قلت: يا عقلي ، ألا تذكر عنواني ؟ أو أصابك الخرف قبل الأوان ؟
عادت تلك الفتاة ومعها شيخ كبير، نظر إلي في ارتياب ، أسقطت عيني إلى الأرض. تشابك مع نظارته المربوطة بخيط في عـنقه ، اقترب مني ، مضى زمن وهو يقرأ قسمات وجهي .. كلت عيناه فقال بصوت حازم :
ــــ هيا يا رجل ، اتبعني ، أعرف المنزل المذكور في العنوان . أشار بيده للفـتاة ، انصرفت على التو وقلبها معلق بين البقاء والرحيل .. سرت وراءه وأنا كالمخطوف ، أشار بإبهامه وقال :
ــــ هناك ، تلك الدار المهدمة . لكن .. لقـد خلت من أهلها منذ زمان ، يقال أن طفلا صغيراً لهم نجا ، لم يعد بعدما رجع كل سكان القرية ..
أحسست أنه يجردني من ملابــــسي ، تركته وهو يعانق ذاكرته المثقوبة عسى أن يفـك تشابك خيوط الماضي .. وقفت أمام منزل منهار، نصف باب خشبي متهرئ أكلت النار نصفه الأعلى ، ركلته فاهتزت أتربة كاليحموم بين أقدامي ، غـرف منزوعة الأسقـف ، شقوق عميقة تستفــز الجدران ، قـفل مرمي في فـناء الدار اعتراه صدأ كثير ..
جمد الدم في عروقي ، بدأت أبحث بين الأنقاض ، وجدت دمية مبتورة الأعضاء ، رماد أسود يخنق أنفاسها ،حركتها ، تصاعـد غبار أسود هيج الغشاء المخاطي لأنفي ، عطست .. اهتز صوتي وامتد ، فزعت العصافير من حولي . تلك الدمية كانت لأختي سلمى، لعلها الآن في ريعان شبابها ، صفات الجمال كانت تظهر عليها وهي لا تتعدى سنتين من عمرها. لا أدري أين كانت تختبئ آنذاك؟ وماذا حـل بها ؟ يقال إنها نجت كما نجوت .
خطوت وقطع قصب السقـف تــئن تحت وطأة أقدامي ، دم يابس يلتصق بإطار صورة كانت تضم وجهي أمي وأبي . أطلقت أحزاني في وجه الجدران المتآكلة ، ابتعدت قليلا ، كبر الشك في نفسي ، ارتفع وصيد الخوف في أحشائي ، دموع تسرد تفاصيل حياتي . سرت وأنا أجـر جسداً ينتعل حذاء خربه التيه والضياع ، أخطو بأقدام ساخطة ، هممت أن أغسل خسارتي بعــري فاضح ، وأثقل جسدي بأحجار من أعلى الشاطئ لأعانق عمق البحر ..
تأملت المنزل من جديد ، منزل أضاع هيبته ، بقي شاخصاً بآثاره يندب تاريخه المجيد ، يلملم ما تبقى من رائحة أنفاس بشرية سكنت أعمدة سقوفه .. نضجت كلمات جارحة في جوفي فأحرقت لساني .. أحسست أن أظافـري تتحرك لتمسك بأعـناق من خربوا مطبخ أمي ، وهشموا سرير أبي ..
هربت صغيراً ليلا ، وعدت كبيراً في وضح النهار ، من ثـقب تلك الغرفة الضيقة هربت ، كنت أعدو وأنا أكتم أنفاسي بخرقة خشنة نزعتها من قميصي ، من ذاك التل كنت أشاهد ، وقطرا ت الدموع تقفز على سطح ركبتي العاريتين .. من هناك كنت أسمع صراخ أمي وأبي ، والنيران تأكل جسميهما ، لا أدري أين فر بعض سكان القرية ؟ مضى زمن من الليل ، والنيران تجهز على منازل القرية بانتظام ..
من خيط ذاكرتي ، أفصل الجدران ، أعيد بناءها على مقاسها الأصلي ، استحضرت بقوة خريطة منزلي ، تشابهت علي الحدود وزوايا البيوت .. من ثقب الماضي ما زلت أحكي تفاصيل الذين أجرموا ، فقـد كانوا من الذين آمنوا .. قـتلوا ، نهبوا ، شردوا ، أحرقوا ..
ابتعدت عن القرية وأنا ألاحق صوتي بين طرقات وعـرة المسالك ، والمساء يكاد يعلن عن رحيله ، أعـجـن خطواتي بين الحقول ، ورائحة الانتقام تتبعني ..
سأعــود ... ولا بد أن أعـود ..