أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: رؤية نقدية لقصة " اللقيمات الحانية " للأديبة غادة يسرى محمد

  1. #1
    الصورة الرمزية هشام النجار أديب
    تاريخ التسجيل : May 2013
    المشاركات : 959
    المواضيع : 359
    الردود : 959
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي رؤية نقدية لقصة " اللقيمات الحانية " للأديبة غادة يسرى محمد

    اسمحوا لى ان أقدم رؤية نقدية لاحدى نصوص الأديبة غادة يسرى محمد التى تعرفت عليها أثناء تحكيمى فى مسابقة من مسابقات القصة القصيرة

    اللّقيمات الحانية

    قصــة :بقلم / غادة يسري محمد.

    "لابد من القيام بذلك ... مهما كلّف الأمر ! "
    قال ذلك في نفسه .. كنوع من التشجيع الداخلي للقيام بأمر يلح عليه منذ فترة طويلة .
    ارتدى أفضل ما استطاع من ثياب ... نظر عشرات المرّات إلى المرآة المكسورة المعلّقة في إهمال في غرفة نومه البسيطة ... و قبيل خروجه من المبنى الآيل للسقوط الذي يسكن فيه مع أمّه في إحدى شققه الصغيرة جدا ... أصرّ على تلميع حذائه المتماسك بصعوبة ...متفحصاً إيّاه ... فقد أمضى وقتا طويلاً من الليل يعالج ما به من عيوب و ينظّفه بكل دقّة ...
    لحظة غلقه لباب الشقة .. سمع ذلك الصوت الحنون يناديه : " أحمد ...يابنيّ .... أنت لم تتناول أي طعام و قد قارب الوقت على العصر .. أما من لقيمات يقمن أودك ؟ "
    بدا و كأنه قد انزعج ..فأجاب بكل ضيق : " اليوم هو الجمعة ..يوم أجازتي ... فلن أحتاج لذلك الطعام الذي يعينني على العمل !"
    و انطلق غير عابيء بنظرة حزينة ارتسمت على وجه أمّه المليء بأخاديد الزمن و آهاته ....
    وصل أخيراً ... تسارعت ضربات قلبه .. فيما كان يخطو بإصرار لا تصاحبه ثقة ...نحو المدخل ... فتح الباب الزجاجي بكف يده اليمنى الغارقة في العرق و الارتجاف ... و ...دخل ...
    تساءل في نفسه بينما هو يتجه إلى أقرب كرسيّ اعترضه " لماذا أحس بأن الجميع يحدّق بي ؟ .. ربما يفعلون ذلك بكل من يدخل ... نعم ... هو فضول بكل تأكيد !"
    حضر النّادل مسرعاً .. و نظر إليه نظرة غير مريحة على الإطلاق .. ثم قال ببرود :
    " تفضّل قائمة الطعام ! و بالطبع موضّح فيها : الحدّ الأدنى الذي ينبغي دفعه هنا !"
    أجاب أحمد بكثير من الحيرة " الحدّ الأدنى ؟ا "
    ردّ عليه النادل بنفاذ صبر " نعم ! عليك دفع خمسون جنيها في كل الأحوال ..سواء أكلت بها شيئا أو لم تأكل !"
    انصرف النادل ..تاركا أحمد شاردا ..محدّثا نفسه:
    " خمسون جنيها ؟ أنا أستلم خمس جنيهات في اليوم لقاء عشر ساعات من العمل الشاق !... لا تكاد تكفي لأي نفقات آدمية ..و مع ذلك فأنا أدّخر المبلغ منذ شهور لآتي إلى هنا ... إلى هذا المطعم الذي لطالما داعب خيالي كلّما مررت به - و لو مرة واحدة في حياتي ! خمسون جنيها كاملة من أجل لقيمات ؟؟ ... لكنّي أحس أن النظرات لا تزال تحوطني من كل جانب !"
    اضطرب من هذا الإحساس ..من كونه مراقب ..فبدأ يًعدّل من بدلته الصفراء المخططة .. و رتّب المنديل الأحمر في جيبه من جديد ....ثمّ انحنى يرفع جوربه الأخضر و ينفض الغبار بعصبية و توتّر عن حذائه ذي اللونين الأبيض و الأسود .... و تذكّر كيف استعار ذلك القميص الورديّ من صديقه حامد ..دون أن يخبره بالطبع عن سبب حاجته للقميص .
    بدأ بقرأ محتويات قائمة الطعام ... لم يفهم المسمّيات فهو بالكاد يعرف القراءة ..لكنه يفهم جيدا لغة الأرقام .. جنّ جنونه و هو يمرر عينيه بإحباطٍ رهيب ما بين سطور و صورٍ لما لذ و طاب من طعام و شراب !
    شرد قليلا ... و أفاق على صوت النّادل يستعجله أن يطلب أي شيء ...نظر حوله .. لا زالت العيون تتربّص به !
    فكّر ثمّ قال بحزم : " شكرا "! "
    و سار نحو الباب غير عابيء بأي نظرات أو همسات ..!
    هرع إلى البيت ... أحسّ باحتضان درجات السلّم المتهالكة لحذائه المرقّع ... فتح الباب بلهفة شديدة
    خلع رابطة العنق الزرقاء التي كادت أن تخنقه ، ثمّ وضع كيساً من البرتقال على الطاولة...
    نظر إليها بحب ، كان الحزن في عينيها قد انقلب إلى بكاءٍ مرير.
    نظرت إليه أمّه في تساؤل قائلة : " حمدا لله على سلامتك يا بنيّ "
    جرى إليها .. يقبّل رأسها و يحتضنها في حنان قائلاً : " هل لي ببعضٍ من لقيماتك الشهيّة ؟""

    رؤية نقدية بقلم هشام النجار

    تحليل موضوعى
    قصة ترسم واقع الحياة بريشة فنان صافى الذهن يتلذذ بالابداع ويستمتع بلحظات تجلياته الفارقة ، وقد جمعت بين المتناقضات وأظهرت حجم الهوة الطبقية وقسوة استعلاء رأس المال وتأثير مظاهر المادة والرفاهية على النفوس الرقيقة المفعمة بالبساطة المعجونة بالبراءة ، من خلال تجربة ومغامرة دفعت بواحد من ملايين البسطاء لارتياد أحد استقطاعات النخبة من الأغنياء ووحوش رأس المال وحيتان المجتمع ليحقق حلم قديم عشش فى شهيته المحنطة لسنوات طويلة ، وهناك تقابله قسوة ووحشية وتسلط لقيمات النخبة الثرية ، التى لا ترحم تشوف العاديين واشتهاءاتهم المحرمة ؛ فمجرد حضور أحدهم فى تلك الأماكن المحظورة مستهجن ومحل انتقاد ورفض ، فنظرات النادل وتصرفاته فيها ازدراء وطعن فى مشروعية وجود شخص يرتدى مثل تلك الثياب وذاك القميص وذلك الحذاء الذى يشير الى مستواه الاجتماعى وسط منتجع أو مقهى أو مطعم يدفع الأغنياء مقابل تذوق وجباته آلاف الجنيهات .
    وهو يشعر بالغربة فى المكان الذى غامر بدخوله لتحقيق تلك الرغبة المكتومة المدعومة ببضعة جنيهات كدح لأشهر فى سبيل ادخارها ، ومرتادو المكان الفخم يلاحقونه بنظراتهم ، فهذا ليس منا ولا يشبهنا ومظهره دال على فقره الشديد ، فهل باستطاعته أن يدفع ما ندفعه نحن ، أم أنه مجنون فقد عقله ، أم أحد هؤلاء الشيوعيين " أو الثوريين الذين يعترضون على أقدار الله ومشيئته !
    اللقيمات الحانية هى التى تغسل عار النظر بازدراء واستعلاء ، ويأكلها المرء وهو مرتدياً كامل كرامته وفى كامل أناقته الانسانية ، تحنو على حذائه المرقع درجات السلم الصماء التى لا تعرف تلك الفروق الطبقية البغيضة بين البشر ، ويرتاح فى حضن أمه التى ربته على الترفع والعزة ، لتتضاعف حلاوة مذاق لقيماتها الحانية ، بعد أن تيقن من أن طعام الأثرياء مسموم بنظرات الازدراء ، موبوء بالتكبر والاحتقار ، مدهون بالشعور بالتميز والعنصرية ، بلا طعم ومذاق حقيقى حتى دون أن يتذوقه .

    تجديد ابداعى
    رسائل فلسفية ، ومتعة ذهنية:
    القصة مع احتفاظها بجماليات وفنون القصة القصيرة الحديثة ، فهى تحمل رسائل فلسفية وتمس مشاعر كامنة فى النفس الانسانية ، وقد عشنا مع رغبات بطل القصة الكامنة فى ولوج عالم أبهره بفخامته وزينته وأبهته ، وكيف تهيأ ببعض التلميعات والاصلاحات الظاهرية لخوض تجربة رمزية تشعره – ولو لبعض الوقت – بانتمائه ووجوده داخل ذلك العالم الغريب عليه ، فقد قرر تذوق طعام أحد المطاعم الفخمة الذى ينتمى لهذا العالم المبهر بأضوائه وأزيائه وألوانه المغوية ، لكنه لم يجد فى تلك اللقيمات باهظة الثمن رغم لذتها الظاهرة حنو وعطف لقيمات عالمه الحقيقى الذى ينتمى اليه .
    وفقت القاصة فى رسم مشهد النهاية الذى عبر بصدق عن ارتباط بطل القصة بعالمه الحقيقى واحتفاء الجماد قبل البشر به ؛ هنا :( هرع إلى البيت ... أحسّ باحتضان درجات السلّم المتهالكة لحذائه المرقّع)
    القصة من احدى زواياها تكريم للأم وعودة الى أحضانها وأشيائها الصغيرة وتفاصيل حياتها التى تبدو من الظاهر بسيطة ، الا أنها فى جوهرها تملك سر السعادة وتمنح الراحة والطمأنينة ، فى مقابل التيه والضياع الذى يحياه المشاغبون الذين تنكروا للأم وتكبروا على ( لقيماتها الحانية ) وجحدوا عطاءها مبهورين بمظهر خادع ، أومسحورين بعالم مادى فقد الاحساس والروح ، وداس على المبادئ والقيم وتنكر لكل شئ جميل فى حياتنا .
    ومن زاوية أخرى تضرب لنا القصة المثل لكل ما يرغبه الإنسان بعيداً عن عالمه وليس فى متناوله ؛ فقد يكون ظاهرياً لذيذاً مدهشاً وشهياً ومرغوباً لكنه - فى الجوهر وعند الممارسة الفعلية – لن يشعر معه بالطمأنينة والحميمية التى يجدها فقط مع ( لقيماته الحانية ) التى تنتمى الى عالمه وينتمى اليها .
    تلك هى الرسالة اذاً بوضوح : لن نشعر بالسعادة الحقيقية الا عندما نعيش بين أحضان من يحبوننا لذواتنا مهما كانت رثاثة ثيابنا أو رداءة متاعنا أو قلة أموالنا وفقرنا ، يحبوننا لشئ ما وقر فى قلوبهم نحونا وامتزج بكيانهم .
    فسيان حينئذ أن نرفل معهم فى سعة القصور الكبار أو تؤوينا معاً كهوف الجبال .
    التصوير الفنى :
    طغت المتعة الذهنية على متعة التذوق الفنى فى هذه القصة ؛ فالقصة خلت – الا فى النادر – من الصور الفنية الجزئية واعتمدت فقط على رشاقة الألفاظ وقصر العبارات وسرعة وسهولة التحول من مشهد لآخر
    وهذا – مع البعد الفلسفى للقصة وتمكنها من اطلاعنا على ما يعتلج من رغبات ومشاعر متناقضة داخل النفس الانسانية – عوض كثيرا الفقر الذى تعانيه القصة من ناحية التصوير الفنى الجزئى .
    وهنا بعض تلك الصور التى تم توظيفها ببراعة لخدمة أغراض القصة ودعم مضامينها الفلسفية ؛ فاللقيمات " حانية " ، ودرجات السلم " تحتضن " الحذاء المرقع .

  2. #2
    الصورة الرمزية د. نجلاء طمان أديبة وناقدة
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : في عالمٍ آخر... لا أستطيع التعبير عنه
    المشاركات : 4,224
    المواضيع : 71
    الردود : 4224
    المعدل اليومي : 0.68

    افتراضي

    جناح الضوء تناثرت ريشاته هنا...!!

    للقاصة وللمحلل النقدي تحايا على جناح الشفق!

    اسمتعتُ هنا حقًا ..

    تقدري
    الناس أمواتٌ نيامٌ.. إذا ماتوا انتبهوا !!!

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,105
    المواضيع : 317
    الردود : 21105
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    لن نشعر بالسعادة الحقيقية الا عندما نعيش بين أحضان من يحبوننا لذواتنا
    مهما كانت رثاثة ثيابنا أو رداءة متاعنا أو قلة أموالنا وفقرنا.

    رسالة قوية أرسلتها الكاتبة إلى ذهن المتلقي بإبداع
    ورؤية نقدية رائعة ألمت بالموضوع وحللته وقيمته
    فشكرا لكما معا .. أمتعتموني.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. رؤية نقدية لقصة " المهنة مراسل حربى " للأديبة هبة الله محمد حسن
    بواسطة هشام النجار في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 14-06-2022, 08:41 PM
  2. رؤية نقدية لقصة " خمس دقائق أخرى " للأديبة خلود جمعة
    بواسطة هشام النجار في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 02-10-2021, 12:25 PM
  3. رؤية نقدية لقصة " باب الشتاء " للأديبة خلود جمعة
    بواسطة هشام النجار في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 17-06-2015, 12:13 AM
  4. رؤية نقدية لقصة " الوديعة " للأديبة آمال المصرى
    بواسطة هشام النجار في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 21-11-2014, 01:44 PM
  5. رؤية نقدية لقصة " صياد " للأديبة الكبيرة ربيحة الرفاعى
    بواسطة هشام النجار في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 12-10-2014, 11:07 AM