لا يخلو أن يجتمع الناس في عقائدهم ومناهجهم على أمرين اثنين لا ثالث لهما ألا وهما العقل و النّقل, فإما أن يجتمعوا على العقل وحده و يحكّمونه في معيشتهم و فيما شجر بينهم فهم بذلك يؤلّهون العقل و يعطّلون الشّرع, و إما أن يجتمعوا على النّقل وحده دون إعمال العقل فيغيب فيهم العلماء و يعطّلون وظيفة العقل, وهم في هذا كلّه أصناف..
فإذا سلّمنا بهذا فإنّنا نصل إلى أنّ الناس أربعة أصناف لكل صنف مميّزات, منهم الأذكياء و هم أولو الألباب و منهم البهائم أو هم أضلّ, و منهم من هم بين هؤلاء و هؤلاء أدركوا نصف الحقيقة والطّريق.
أمّا الصنف الأوّل و هو فريق الأذكياء الذين وصفهم الله تعالى بأولي الألباب فهم أصحاب "النّقل السّليم و العقل السّليم" لهم فطر سليمة و عقول كبيرة مكّنتهم من إدراك الحقيقة التي لا مرية فيها و أنّها لا تشوبها شائبة فانقادوا لها طواعية و منهم السّابقون ومنهم المتأخّرون. هؤلاء سلِمت عقولهم فقبلت النّقل السّليم فصاروا يجمعون بين العقل و النّقل السّليمين كما اجتمعت لهم خصلتان إحداهما إعمال العقل في رفض كلّ ما يخالف النّقل السّليم الذي تلقّوه عن رسول الله صلى الله عليه و سلّم عن ربّه تعالى و أعظمها ردّ أيّ تحريف للقرآن و ردّ كل حديث يخالف التشريع السّماوي عن طريق قواعد ثابتة, فقد آمنوا بالله و رسله فلا يصحّ عقلا إنكار أو ردّ أي جزئية من جزئيات رسالاته و قد آمنوا بربوبيته وألوهيته و أسمائه و صفاته وكلّها تقتضي الكمال, و ثانيهما إعمال النقل في ردّ كل ما يخالف النّقل و العقل من ممارسات و أحكام جائرة كاستحلال فروج و شرف الغير بغير حقّ و أموالهم و مجهوداتهم, وهؤلاء هم أهل السّنة و الجماعة وهو منهج السّلف الصّالح.
و أمّا الصّنف الثاّني فهم من فسد عندهم العقل و النقل سواء, فهؤلاء عقيدتهم و منهجهم قد طالهما التّحريف كعقيدة المشركين, و النّصارى الذين رفضت عقولهم الحقّ, و قد لا يكون لديهم دين يدينون به على الإطلاق فيكون نقلهم عن الله تعالى منعدما و إنّما نقلهم ينتهي عند بشر و هو مذهب تأليه العقل البشري و التعطيل الكامل للتّشريع السّماوي و هي عقيدة الملحدين و قد يدينون بدين موضوع كالوثنيين كالإغريق و المجوس عبدة النّار و هم في ذلك مع سابقيهم سواء, و هؤلاء عقولهم فاسدة و فطرهم انحرفت عن طريقها الصحيح فصارت لا تقبل نقلا بسب قلّة الفهم الذي يعتري العقول فينكرونه جهلا و مثلهم النّصارى يؤلّهون المسيح البشر و ينكرون الألوهية المطلقة لله عزّ و جلّ و يجعلون من عباده آلهة و هم يعتريهم ما يعتري سائر البشر من ضعف و مرض و جوع و قضاء الحاجة و احتجّ القرآن بهذا و خاطب عقولهم في قوله تعالي "مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ", فهما محتاجان للأكل و الشّرب عكس الإله فهو غني عن العالمين و كلّ ما في الوجود مخلوقاته و هي مفتقرة إليه. قال الطّبري في تفسيره: إنه كناية عن الغائط والبول. وفى هذا دلالة على أنهما بشران, ثمّ قال { انظر كيف نبين لهم الآيات} أي الدلالات. { ثم انظر أنى يؤفكون} أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان, إنتهى قوله, و في هذا دلالة على فساد عقولهم و إلّا كيف قبلت هذا الهراء.
و أمّا الصّنف الثّالث فهم الذين سلِم عندهم النّقل و لكن في عقولهم فساد جعلهم يجعلون النّصوص في غير موضعها و يستدلّون بها في غير موضع دلالتها و ليس فيهم العلماءُ أصحاب العقول السّليمة و لا يسمعون للعلماء. فهؤلاء كمن يركب البقر و يأكل الحُمُر الأهلية و يغرسون الحجر و يلقّحونه بغية إنتاجه أو كمن يركب السيّارة في البحر و يركب السّفينة في البرّ ليس فيهم من يرشدهم و لا يسمعون للعقلاء, لديهم وسائل الرّقي و لكن لا يعرفون كيف يستعملونها حال الأعراب إذا دخلوا المدن و أفسدوا فيها ليس فيهم من يعرف عادات أهل المدينة و وسائل عيشهم و لا يقبلون نصحا من أهل المدينة. فتجدهم يستدلّون بآيات و أحاديث فيما يوافق أهواءهم و عقولهم الضّيّقة مثل الخوارج في استدلالهم بقوله عزّوجلّ "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون"[المائدة:44] و حكموا بالكفر على كل من لم يحكم بالشّريعة و لم يلتفتوا إلى قول ابن عبّاس بأنّه كفر دون كفر و بأنّ التّفريق بين من يعتقد بوجوب الحكم بالشّريعة دون سواها ومن يرى لها بديلا واجب, قال الشّيخ ابن باز رحمه الله: يطلق عليه أنه كافر وظالم وفاسق، لكن إن كان يرى أن حكم الله لا يصلح أو أنه يجوز تحكيم القوانين هذا كفر أكبر، فإن كان لا يرى ذلك، ولكنه يفعل ذلك عن معصية، وعن هوى، فهو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، فإطلاق الكفر عليه والظلم والفسق جائز على كلا الحالين، أو الأحوال الثلاثة، لكن إن كان استجاز الحكم بغير ما أنزل الله، واستباحه سواء قال: أن حكم الله أفضل، أو مساوم، أو قال: أن حكم الطاغوت أفضل، فهو بهذا مرتد، وكفره كفر أكبر، وظلم أكبر، وفسق أكبر، أما إذا حكم بغير ما أنزل الله، لهوى في نفسه، على المحكوم، أو لمصلحة المحكوم له، أو لرشوة أخذها من المحكوم له، هذا كله يكون من باب الكفر الأصغر، والظلم الأصغر، والفسق الأصغر، وإن أطلق عليه كفر، وإنما كفر بهذا المعنى، من باب الزجر، نسأل الله العافية, إنتهى قوله.
ويدخل في هذا الصّنف من أدركت عقولهم ما نزل من الحقّ وعلموا بأنّه النّقل السّليم جاء مصدّقا لما بين أيديهم و ما يخفون من الحقّ و يعلمون مواضعه و أوجه استدلالاته و لكن جحودهم و حسدهم عطّل عقولهم فهم لا يختلفون عن الطّائفة السّابقة من هذا الباب بل هم أشدّ فسادا للعقل ذلك بأنّهم قبلوا على أنفسهم تحدّيا هم صانعوه لا طاقة لهم به و لم يفرضه عليهم أحد و جعلوا يحرّفون الكلم عن مواضعه و هو مذهب اليهود و من هو على شاكلتهم, و العجب كلّ العجب أنّ تحدّيهم مستمرّ رغم كلّ الدّلائل و الإنذارات المتكرّرة في النّصوص التي لا ينكرونها و هو أعظم فساد للعقل على الإطلاق إذ كيف يجرؤون على تحدّ من يؤمنون بقدرته المطلقة على عذابهم و هم يحجمون على تحدّ من هو دونه من البشر و ربّما الحيوانات! فلو توعّدهم أحد ملوك الدّنيا لذهبوا إليه مذعنين طائعين يلتمسون عفوه و يرجون إحسانه و هم مع ذلك وسيلتهم التّقية و المداهنة.
و أمّا الصّنف الرّابع فهم من فسد النّقل عندهم و سلمت عقولهم فهؤلاء لم يصلهم النّقل السّليم إمّا بسبب بعدهم عن مصدره و إمّا بسبب التّعتيم أو شبهة و إذا و صلهم أذعنوا له و قبلتهم عقولهم و فاضت عيونهم من الدّمع كمن قال فيهم الحقّ تعالى " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون" المائدة [82] ومنه النّجاشي الذي عرف الحقّ و آمن به عكس قيصر ملك الرّوم وهو نصراني ولكنّه عرف الحقّ و لو يؤمن و كسرى الذي أنكر الحقّ و استكبر و لم يتدبّر.
و هذه الآية تتضمّن أصنافا ثلاثة و هم المؤمنون و هم الصنف الأوّل أصحاب النّقل و العقل السّليمين, و المشركون و هم في الصنف الثّاني أصحاب النّقل و العقل الفاسدين و لم يقبلوا بالدّين السّليم, و طائفة من النّصارى و هم في الصنف الرّابع أصحاب العقول السّليمة و النّقل الفاسد الذي يؤلّه المسيح علية السّلام والذين أذعنوا للحقّ لمّا سمعوه. و في آية أخرى نجد الصّنف الثّالث و هم من قال فيهم الحقّ تعالى:" وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَاتَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً" النّساء [115], ففيهم من يشاقق الرّسول بعد أن تبيّن الحقّ :و قد ورد في تفسير ابن كثير ما يلي "وقوله : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ) أي : ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فصار في شق والشرع في شق ، وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له" و نجد أنّ اليهود و من هو على شاكلتهم علموا الحقّ و رفضوه و شاقّوا الله و رسوله و هم الطّائفة الثّانية من هذا الصّنف. ومنهم من فسّر القرآن و الأحاديث بعقله الضّعيف و عدل عن سبيل المؤمنين الرّعيل الأوّل و خير القرون و هم الطّائفة الأولى من هذا الصّنف, فال الشّيخ المحدّث الألباني رحمه الله في هذا الباب: "... (وَمَـن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى .. نُوَلِهِ مَاتَوَلَّى ) لم يقل هكذا ، إنما أضاف إلى مشاققة الرسول ، اتباع غير سبيل المؤمنين ، فقال عزوجل : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَاتَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً ) [ النساء :115 ].
إذاً اتباع غير سبيل المؤمنين وعدم اتباع سبيل المؤمنين أمر هام جداً إيجاباً وسلباً ، فمن اتبع سبيل المؤمنين فهو الناجي عند رب العالمين ، ومن خالف سبيل المؤمنين فحسبه جهنم وبئس المصير ..
من هنا ضلت طوائف كثيرة . . . وكثيرة جداً . . . قديماً وحديثاً، حيث إنهم لم يلتزموا سبيل المؤمنين، وإنما ركبوا عقولهم، بل اتبعوا أهوائهم في تفسير الكتاب والسنة، ثم بنوا على ذلك نتائج خطيرة، وخطيرة جداً، من ذلك : الخروج عما كان عليه سلفنا الصالح... إلى آخر قوله رحمه الله تعالى, إنتهى قوله.
الله أعلم و أستغفر الله و أتوب إليه.