أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: فاس العتيقة بعد مجيء القمر وبعد هروبه

  1. #1
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Apr 2005
    المشاركات : 8
    المواضيع : 6
    الردود : 8
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي فاس العتيقة بعد مجيء القمر وبعد هروبه

    ينقطع سيل الأرجل ويتيه الناظر إلى الأزقة الخالية. إذا هو دخل من " باب بوجلود " استقبله أطفال منتصف الليل حاملين بين أناملهم أعواداً تشتعل موتاً, واضعين في راحة أكففهم مناديل مسقية بماءٍ, لست أقصد ماءَ ضريح إدريس الثاني, بل أعني ماء السفر إلى آخر الدنيا بمقابل بخس أو ربما دون مقابل. بعد ذلك, يعبر زقاق " الطالعة الصغرى " راجياً أن يسمع خرير مياه " سقاياتها " وصوت قراءة القرآن الكريم من داخل أروقة كتاتيبها. لكنه لا يسمع شيئاً ولو ذرة مما رغب فيه. فالمتسولون نائمون على عتبات الدكاكين, والكتاتيب أُغلقت لأن الفقيه الأمريكي يعتبرها منبع الانحراف أو كما يسميه " الإرهاب ". في ذات الوقت تكون " الطالعة الكبرى " تعيش حروباً طاحنة بين عصابات المخدرات والخمور... . السيوف تقطع رؤوساً قد أينعت كما لو أن الحجاج بين يوسف حاضر هناك.
    أما إذا ولج من " باب الرصيف", فرائحة ولا رائحة البخور تعبر قنوات أنفه فتحدث له اختناقات. يزيد خطوات فيجد نفسه بساحة " الصفارين", يتأمل برهة, يتذكر أن مكتبة القرويين في المكان نفسه. بوده دخولها وتصفح كتبها ومخطوطاتها النادرة, لكنه لا يعلم أنها على عتبة الانهيار وقد سرق منها الشيء الكثير وبيع بأموال كثيرة. في الوقت الذي يتوغل فيه بين الدروب الضيقة تتراءى له أكوام قشور من فواكه متعددة وأشلاء دجاج لا يقرب للحياة بشيء. لا تكاد تلامس رجلاه باب المنزل الذي يقصده, حتى ينزل الموت عليه من السماء ليس على يد الملاك "عزرائيل" لكن من سور متآكل البنيان. بقى المسافر طريح الأرض, ينزف الدماء في انتظار الفرج. تمر الساعات كالسنوات وجمجمة صديقنا لازالت في نفس المستوى مع رجليه, إلى أن مر شيخ يمشي على ثلاث, كان يقصد ضريح إدريس الثاني ليؤم بالناس صلاة الصبح. لم يكن الإمام حاد البصر ولا كبير الخطوات لذلك تعثر بالجثة وتدحرج أمامها دون أية حركة بعد سقوطه. بعد لحظات مر بالمكان نفسه واحد من خريجي حانة, ما إن انحني برأسه ليتحقق الغائبين حتى تغلبت عليه جوارحه فأصبح في عداد الذين أراد تحقق أمرهما. شهد القمر كل ما حدث فحجب وجهه خجلاً بعدما قال: ألا يوجد بهذا البلد من يحمي الآدميين؟
    هرب القمر بعدما نادى أخته الشمس لكي تعاين ما حدثها عنه.
    ركزت الشمس أنظارها على ساحة " بوجلود " العريقة, لكنها لم تجد فيها عراقة عدا طريقة الالتفاف حول المسارح الشعبية أو " الحلاقي ", الشباب هناك أوربيون: شعرهم نسائي, طويل, ملون لكن ليس بفنية. فهم لا يعرفون إلا أدنس عادات الغرب وأحقر تعاملاته مع الغير, كانوا كالقردة التي يشاهدونها في "حلقة" "المعلم علي", لا فرق بينهما. أما البنات فحدث ولا حرج عليك يا أيوب, ملابس ناقصة الطول تظهر البطن وما جاوره, كأن فأراً جائعاً مر بها فجعلها عشاء يومه, وسراويل يلصقونها رغماً عنها على لحمهم حتى يقال (أختنا هذه...).
    عرجت الشمس نظراتها في حزن شديد وهي تهمس في أذن جبل بقي يتمدد لكي يرافقها في رحلتها:" إن دعاء رجل صالح يحمي هؤلاء البلهاء من سخط الله".
    صفير, تهليل وتكبير, نظافة, رائحة عطرة تنبعث من" باب الرصيف", في" باب بوجلود" أطفال تعكس وجوههم نوراً مصطنعاً, بل كل شيء كان مصطنعاً. تعجبت الشمس لهذه العملية السريعة, من حقها التعجب, فكيف لأمة متخلفة أن تصبح في لائحة المتقدمين في ومضة ضوء. لم تمر غير هنيهة حتى انكشفت الحقيقة, كل هذا التنظيم وهذا النفاق لأن حاكم البلاد هو زائرنا اليوم. ينافقه القهارمة المتواجدون على جوانبه ويقولون: كل شيء على أحسن الأحوال, نم على جنب الراحة". يبقى المسكين في "دار غفلون", ويؤكد له المواطنون فكرته المزيفة بصراخهم المليء بوطنية النفاق. يمر صاحب الفخامة ويتلاشى نوره بين سيارات الأمن, وتعود الحياة إلى طبيعتها: السارقون يغوصون بأصابعهم الطويلة داخل جيوب نساء مسكينات يقصدن سوق "السلالين", لاقتناء الخضر الحقيرة, خضر "العرام". التجار إلى تجارتهم وأي تجارة هي, لا مردود جيد وضرائب متعددة الأسماء تتسابق على تحطيم الرقم في تحطيم حياة الناس. الدكاترة المعطلون عن العمل متمسكون بإضرابهم أمام باب مجلس "النوام" رغم تساقط أمطار الهراوات على رؤوسهم, وأستغرب ! يضربون أمام نيام وأي نيام هم, من العيار الثقيل.
    في طريقها إلى البيت لقيت الشمس القمر فقالت له: لقد زار حاكم البلاد المدينة. فقال لها: هل حدث له ما حدث للرجل المسكين والإمام الشيخ وخريج الحانة. أجابته بابتسامة مزيفة, فقال: ما هذا الرد الغريب. فقالت: ما حدث كان أعظم, لقد حول هؤلاء المتخلفون مدينتهم من عاصمة علم إلى عاصمة نفاق, من عاصمة حب وسعادة إلى عاصمة بغض وتعاسة. بقي الأخوان يتبادلان أطراف الحديث – كنت أنصت لهما عبر فتحة بين باب منزلنا والسماء- إلى أن سألها الأخ الأكبر: ما ترينا فاعلين إذا حدث فساد في المواطنين المندرجين تحت لواء الطبيعة؟ أجابته بصرامة: نحن لا نخون بعضنا البعض عكس الآدميين, ولا ننافق بعضنا البعض عكس الآدميين, ولا نجعل نفسنا طعاماً سهلاً لكواكب أخرى عكس الآدميين, وإن حدث أن وقع مثل هذا سنثور على الفاسد, فإن كانت شجرة اقتلعنا جذورها, وإن كانت نجمة أطفأنا نورها, وإن كان هلالاً حرمناه من الاكتمال. وإذا كانت شمساً قال لها القمر؟ ردت برحابة صدر: نسلب منها حرارتها فتصبح قطعة باردة لا فائدة منها.

    * رد الناقدة والأديبة الفلسطينية سعاد جبر على النص:

    نص سردي تتكاثف سمة الاختزال فيه لتتركز في نقطة ضوئية أيدلوجية، تتناثر انعكاساتها على النص في رمزية معبرة، تحمل معها اللوعة والأسى، وحالة التضادات؛ التي تحكم الشخوص في النص من جهة، وحالة الصراع الدامي الذي تنتفي فيه إنسانية الخصم سواء كان من جلدتنا في ثوب السلطة المستبدة، في إطلالتها السوداوية على النص، أو من غير جلدتنا الذين أحالوا الوردة النازكة التي تتفتح أكمامها حبا في لغة السارد إلى دمار وقطع جسدية ملقاة على قارعة الطريق ونزف دامي يجتاح معابر " أن " السارد الجريح في مقطع قلبه المشارف على الهلاك جملة وتفصيلا وعلى مرأى آدمية البشر المنتشية غفلة وذهولا، وهنا تتشكل حالة المفارقة التي تنسحب في لغة السارد من آدمية الأرض في ذل الحال والمآل إلى الطبيعة في أوج عنفوان تصاعد روحها في سفر العز والكرامة، فتغدو السطور غيمة مفارقة بين لغة ايدولوجيا الواقع الهش المصطنع الخادع، المترامي في أحضان التهالك والاستلاب وعفوية الطبيعة في سرمدية عشق الحرية وعصا الإباء السحرية في أساطيرها السرمدية والحان شمسها وقمرها في لغة الاستلهامات وزقزقة عصافيرها، وما حمله تذكار كرامتها من استلهامات القوة وعنفوان لغة الوجود ورفض الفناء على مر الزمان.
    وهذه الثنائية تتركز في كتابات مبدعنا: ايوب المزين في ريشة تشكيلية من التسامي والصعود نحو رمزية يبدعها السارد في لغة الكشف والتجريد في عين الفطنة وبعد الاستشراف، بحيث تغدو الحقيقة في هيكل جسدها على عين الحقيقة فتغدو لغة الحاضر الغائب في ذاكرتنا، فترتسم في سمت إغفاءة المساء وفقاعات واقعنا المنهك، فتغدو مع لغة التجريد سطورا ناطقة وحروفا جريحة ويقظة تصدح في سماءات فطنة الوعي ووردة الأفهام، لتغدو صورة الواقع في عين تضاداته وملماته الصعبة في الزمن الصعب تحايا الورد النازك لك مبدعنا: أيوب المزين, تحملها لك طيور النورس التي تطالع بحار حروفنا الجريحة فتحمل معها كنه الاستفهامات والسؤال والجواب معا.

  2. #2
    الصورة الرمزية د. سمير العمري المؤسس
    مدير عام الملتقى
    رئيس رابطة الواحة الثقافية

    تاريخ التسجيل : Nov 2002
    الدولة : هنا بينكم
    العمر : 59
    المشاركات : 41,182
    المواضيع : 1126
    الردود : 41182
    المعدل اليومي : 5.27

    افتراضي

    أخي الفاضل أيوب:

    هو هو ذات الأسلوب المميز والمبشر بحرف جدير بالقراءة. إنني بحق سعيد بأن تكون جزءاً أصيلاً من أسرة الواحة فقلمك لا يقل روعة وألقاً.


    سأنقل الموضوع هذا كأخيه إلى حيث يجب أن يكون فينشر الفائدة.



    تحياتي وتقديري
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jul 2003
    المشاركات : 5,436
    المواضيع : 115
    الردود : 5436
    المعدل اليومي : 0.72

    افتراضي

    أخ فاضل كان هنا ثم غادر !

    لك قلم أديب و مجيد ، فأين أنت الآن عن واحتنا التي تعشق الأدب و أصحابه ؟

    وصفت " فاس " و من غير الحبيبة أسماء هنا يعرفها حق المعرفة ! ستكون لأسماء بصمة هنا لا ريب .

    كن بخير دوما و أبداً .

المواضيع المتشابهه

  1. قَبْلَ مَجِيءِ الغَجَر ..
    بواسطة أحمد بلقمري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 12-04-2021, 05:25 PM
  2. ليل يجيء . . . ولا مجيء
    بواسطة ياسر سالم في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 13-01-2013, 05:38 AM
  3. مجيء بعض الصيغ على الأصل
    بواسطة فريد البيدق في المنتدى النَّحوُ والصَّرْفُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-06-2009, 11:52 AM
  4. أصغر بائع متجول في فاس عمره 4أعوام ونصف
    بواسطة عزيز باكوش في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-05-2009, 12:15 AM
  5. زغاريد على شفاه فاس
    بواسطة يوسف أحمد في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 28-06-2008, 03:20 PM