البديل المؤقَّت

قصة : بقلم الأديب المغربى / محمد فطومى

على أنقاض الرّجل المحروق شيّدوا الملهى ..عذراً و لكن أقلّ من فينا بائس و إلاّ لأدركنا بسهولة أنّهم على أنقاضنا أيضا سيضحكون .
محلّ فاخر لبيع العطور و الهدايا ، و كلّ ما تشتهيه النّسوة و الصّبايا ، كثير الألوان ، مضاء بشكل أخّاذ ، لا أحد باستطاعته أن يقاوم النظّر إليه .
حقّا وحده الزّخرف يملك القدرة على محو الماضي ، و إبطال مفعول سحر الأسود و الأبيض ، مهما طالت هيمنته و تظاهرت أطلاله بالصّمود .
فطول العروق أمر غير محيّر بالمرّة ، كما أنّه لا يضاعف جهود البتر لو أردنا ذلك ، فغوص السّكّين واحد.. الذي يتغيّر في كلّ مرّة هو مكان القطع ، و ليس سواه .
جرّبت الإنغماس أكثر في الرّاهن ، لعلّي أطرد وجع التّفكير في الذي حتما سيليه ، من دائرة أفكاري ، فما أفلحت ، بل وجدتني أكثر استسلاماً لها .
كيف أفعل و الحال أنّ آخر عهد لي بهذا المحلّ هو لمّا كان ورشة للحدادة كان صاحبها الوسيم صديقي ، أمضى فيها ما يزيد عن العشرين عاماً ، قبل أن تحترق بالكامل و هو بداخلها ، جرّاء شرارة انطلقت من آلة القصّ لتنفجر قارورة الغاز .
و منذ اللّيلة الأولى التي تلت الحادثة، بدأت أشغال التّرميم و الطّلاء، و تحت جنح المصلحة العمياء ركّبوا الرّفوف و جهّزوا المحلّ .
كأنّ الذي قضّاه بين هذه الجدران كان مجرّد قصّة كتبت بالطّبشور على لوح أملس .
بحركة بسيطة ماجنة مسحوها و أضرموا فيها الجحود .
القصّة رائعة لو قرؤوها قبل أن يسارعوا في فرش اللّوح أمام المحلّ لرفاهة الحرفاء .
في ذلك الشّبر تحدّثنا كثيراً ، تسامرنا ، حلمنا و أحببنا ، قلنا كلاماً كثيراً على نور فانوس زيتيّ قديم .
باح لي بعشقه لرقيّة سمراء الحيّ ،أطلعني على قلبه الفسيح ، واشتكاني قلّة الشّهادات و إلاّ لتقدّم لخطبتها.
أخبرني باكيا بأنّ رقيّة لم تكن تعيره اهتماماً و لم تكن تلتفت إليه و لا إلى صندوقه الأسود .
خائنة هي الجدران و لئيمة و خادمة لمن بداخلها .
ليس للجدران ذاكرة .
لأنّها هي الذّاكرة .
تهب نفسها لصاحب المرحلة الجديدة بغباء و سهولة تماماً كما تهب السيّارات نفسها لراكبها و الكراسي للجالس عليها.
أنا لا ألوم الجدران فهي مأمورة و لا المدينة فهي كبيرة و من حقّها أن تجدّد بنا أسطولها في كلّ مرّة .
و لا سكّانها فهمّهم هو ما انتقص من مؤونة و أثاث في بيوتهم ، وفاؤهم لأيّامهم تماماً كوفاء الواحد منّا لعلبة السّجائر التي في جيبه .. و لا ألوم رقيّة فهي آونة كغيرها.
لم يذنب هؤلاء ، و لست أرثي صديقي .
كلّ ما هنالك هو أنّي حين شاهدت رقيّة داخل المحلّ و هي تجرّب المساحيق و تضحك بدلال لصاحبه الجديد ، انتبهت إلى زوال المراحل .. و ألمّت بي المسألة و أحاطت بي من كلّ جانب .
وآمنت بعد شرود طويل بأنّ هناك أمراضاً حميمة يجب أن نصاب بها كي نتخلّص من فجور اقتلاع الأدوار و تصديقها جزافاً و الجهر زهواً بنيلها و التّنكيل بفاقدها و نسف الطّامحين ،المشرئبّة أعناقهم لها .. و لكي ينجو محيطنا الواهب للحياة و الجمال من حولنا و يتعافى من رداءة التّربّص بعضنا ببعض دون ذرّة حياء بحجّة اقتضاء الحاجة.
القليل من الوعي بأنّنا منتهون منذ البداية ، و بأنّ القلادة التي حول أعناقنا ليست سوى راهن لعبته المفضّلة انتحال الوجوه و الألقاب ، سيفي بالغرض .
داء أرّقني حمله و لا يزال مادمت المصاب الوحيد به،فليته ينتشر كما انتشرت الغفلة و التّناسي .. و ليت كلّ المنتفخين قرؤوا ما بداخل قلاداتهم و فهموها جيّدا ، لأنّهم لو فعلوا لارتجّوا مصفوعين و لتكسّرت قرونهم على الفور .. سيجدون ورقة كتبت عليها عبارات حافية جارحة تخبرهم برتبتهم ، تحصيها و تقصيهم :-أنت البديل المؤقّت-.
أمّا أنت صديقي فبوسعك أن تنام الآن قرير التّلاشي : لقد هذيتُ قصّة غيرتك على مدينة تهوى طيّ الصّفحات معصّبة العينين .. فما أوفر حظّك ، و ما أخوفني و أشقاني لو صحّ فعلاً أنّي ذكريات نفسي..
تمت

قراءة نقدية بقلم / هشام النجار

التحليل الموضوعى :

" البديل المؤقت " .. هل هذه هى الحياة وهل هذا هو الانجاز الكبير فيها ؟ وكيف لو قرأ غالبية البشر قصة وجودهم من قبل بدايتها ومن بعد نهايتها – وليس فقط ما بين البداية والنهاية - ؟ هل نظروا الى القصة بتلك الشمولية والتوسع ليعوا مكانة أحدهم ودوره ومهمته ومقدار انجازاته الذاتية ، بالنظر الى من كان وما كان قبله ، وبالنظر الى من سيكون وماسيكون بعده !
هنا قصة مختلفة تماماً ؛ فالحكاية أكبر بكثير من مجرد رجل عاش محروماً طامحاً ومات محروقاً وينتهى الأمر ويتوقف السرد ، انما تستمر التصورات والتأملات ويتواصل الرصد ، لنكتشف ونحن نطالع فلسفة القص حقائق الحياة المرة ، ويمتد بصرنا سريعاً الى ما قبل مجيئنا وما بعد رحيلنا محروقين أومدهوسين بالكراهية والأطماع والأحقاد ، فهل نحن - كما نتخيل ونتصور برؤانا القاصرة المحدودة بين مشهدى البداية والنهاية – راسخين بأقدامنا ومكانتنا وانجازاتنا ورمزيتنا فى هذا الواقع وتلك الحياة ؟ وهل ستمتد تلك الانجازات وهذه المكانة والرمزية لتصنع لنا حضوراً معتبراً وذكرى محترمة بعد الرحيل ؟ أم أن الواحد منا كهذا الرجل ؛ مجرد " بديل " لمن قبله .. وليس مستمراً ولا ممتداً ولا خالداً ذكره ، بل فقط " مؤقت " !
هكذا بذلك البؤس وبتلك المأساوية التى يرثى لها " عذراً و لكن أقلّ من فينا بائس و إلاّ لأدركنا بسهولة أنّهم على أنقاضنا أيضا سيضحكون " .
مأساوية تجعلك فى مهب ريح العبث ، تأتى وتذهب بلا أثر ولا كيان ولا تاريخ ولا مسيرة ولا مكانة ، ترث أحدهم ويرثك آخر ثم تقمع سيرتك تحت أنقاض النسيان ، وتمحى آثارك وذكرك كان لم تكن يوماً ولم تشهد لك الدنيا وجود " بحركة بسيطة ماجنة مسحوها وأضرموا فيها الجحود " !
النظر هنا الى مقطع طبيعى من قصص البشر الطبيعيين ؛ يتسامرون ، يحلمون ، يحبون ويتبادلون الاعترافات البسيطة على مجرد " شبر " من الأرض وعلى ضوء فانوس زيتى قديم ، " في ذلك الشّبر تحدّثنا كثيراً ، تسامرنا ، حلمنا و أحببنا ، قلنا كلاماً كثيراً على نور فانوس زيتيّ قديم " ، فهلا تتحمل الحياة ذلك وتسمح لتلك الأحلام الصغيرة لتكبر ولهذا الحب ليتنفس ؟ وهل تفسح الطريق قليلاً وأن يتسع " الشبر " لعدة أمتار واقعية تترجم عليها تلك الأمنيات البسيطة ؟
والنظر هنا أيضاً لمشهد ومقطع طبيعى آخر يتكرر ، فقد تفشل تجربة وينتقل صاحبها لأخرى ليخلد آثاره ومواجده ويخلق ذكراً لشخصيته وينحت لكيانه ومشاعره صورة على جدران الحياة : " أخبرني باكيا بأنّ رقيّة لم تكن تعيره اهتماماً و لم تكن تلتفت إليه و لا إلى صندوقه الأسود " .
لكن البشع والعبثى أن تضطهد مشاعر الانسان وكرامته بهذا الشكل ، فحتى الجدران والمكان تذهب لصالح المرحلة الجديدة ، وليست فقط المشاعر ، فلا يقتصر الأمر على فشل تجربة عاطفية عابرة ، انما فشل فى اثبات الوجود والبقاء على قيد الانسانية أثناء الحياة وبعد الممات ، ويمحى كل أثر وكل اسم وكل عنوان وكل ذكرى تدل على صاحب المكان ، ويستبدل ذلك كله بعلامات ويافطات ونشاطات وحضور صاحب المرحلة ، الذى سطا على كل شئ ، على الاسم والقيمة والتاريخ والحضور والجدران والمشاعر .
لذلك لا يليق السرد العادى التقليدى مع تلك المآسى غير التقليدية التى لا يليق بها سوى رصد فلسفى تأملى عميق .. " خائنة هى الجدران ولئيمة وخادمة لمن بداخلها ، ليس للجدران ذاكرة ، لأنها هى الذاكرة " .
فاذا محيت الجدران واحترقت فماذا يتبقى للانسان ؟
ليس اعتداءاً فقط على مشاعره وعواطفه ، انما محو كامل واعتداء شامل على تراثه ووجوده وانسانيته .
هو لا يقص ولا يستمتع بسرد الحكاية يجعل من نفسه بطلاً موازياً للقصة ، فلا يحظى البطل المطحون المنتهك ببطولة مطلقة تجعل منه النموذج الذى لا يرتجى غيره ، انما يطرح القاص نفسه كبطل يسعى لأن يكون أكثر تأثيراً ، من خلال فجيعته بمأساة احتراق مشاعر وتاريخ ومكان وآثار صديقه ، وأيضاً من خلال فلسفته التى يحرص على لفها بشئ من الغموض ، الذى يجعلنا نتحفز للبحث عن مخرج وعن انجاز انسانى ، يخلق للواحد قيمة ووجوداً راسخاً ، عصياً على المحو والحرق ، فاذا كان لا مفر من كونه " بديل " لمن سبقه ، فلا أقل من أن يصنع واقعاً مختلفاً ومستقبلاً أكثر صموداً لكيانه ، فلا يستسلم لكونه " مؤقتاً " :
بهذا الطرح الفلسفى : " داء أرّقني حمله و لا يزال مادمت المصاب الوحيد به ، فليته ينتشر كما انتشرت الغفلة و التّناسي .. و ليت كلّ المنتفخين قرؤوا ما بداخل قلاداتهم و فهموها جيّدا ، لأنّهم لو فعلوا لارتجّوا مصفوعين و لتكسّرت قرونهم على الفور .. سيجدون ورقة كتبت عليها عبارات حافية جارحة تخبرهم برتبتهم ، تحصيها و تقصيهم :-أنت البديل المؤقّت- "
التصوير الفنى :
جاءت الصورة الفنية الكلية أكثر اتقاناً وبراعة وروعة من الصور الفنية الجزئية ؛ فالقصة تسلط الضوء بكثافة على واقع مهين يعانى منه المهمشون ، سببه الأول موت الروح وانحسار لغة المشاعر عند طبقة السادة والأثرياء وأصحاب المصالح والمشاريع الرأسمالية الاستهلاكية ، وتجسد ببراعة مقتل الأحاسيس واحتراق الرومانسية والعواطف الانسانية البريئة ، لتبنى على أنقاضها بالأسمنت المسلح علاقات بين البشر تحكمها المظاهر الخادعة والاكسسوارات المزيفة .
فى اشارة الى سيطرة المادة ولغة المال والمصالح ؛ حيث تبذل " العواطف " و " المشاعر " فقط لمن يملك الثمن فى دنيا المظاهر الملطخة بأدوات التجميل وبهرجتها الخادعة !
وهى الصورة العامة التى احتوت صوراً جزئية تنطق بموت المشاعر وجحود الأشياء ؛ ف " الجدران خائنة ولئيمة " و" تهب نفسها لصاحب المرحلة " .
البطل الأصيل فى القصة ( صديق الراوى ) يحب فى صمت فتاة الحى التى لم تكن لتلتفت اليه لعدم نيله شهادة ، وهو يعمل فى ورشة حدادة ، تحترق الورشة به فى مشهد مؤثر يعبر عن النار المضرمة فى قلوب البسطاء من الشباب المهمشين التى يعانونها وهم يداعبون فى صمت أحلامهم المؤجلة دون أمل فى تحقيقها .
وعلى أنقاض أحلام البطل المحترقة تبتسم فتاته وهى تجرب المساحيق فى دلال لصاحب محل مستحضرات التجميل الذى بنى سريعاً على أنقاض الورشة المحترقة .
جاء اختيار القاص لطبيعة نشاط المحل الذى بنى على أنقاض البطل المحترق موفقاً جداً ، حيث القيمة والمشاعر الصادقة مصيرها النسيان والجحود ، وما تراه من فخامة وأبهة ما هو الا زيف وطلاء كمكياج النساء وزينتهن قليل من الماء يمحوها .
تجديد ابداعى :
القصة تتميز بثراء لغتها وبلاغة تعبيراتها ، وقد بلغت فى كثير من مقاطعها ذروة النضج الفنى ، وقد أعجبنى التجديد فى أسلوب السرد والقص بمفردات شاهقة وتراكيب مدهشة ، فيقول عن حادثة احتراق صديقه فى ورشة الحدادة : " كأن الذى قضاه بين هذه الجدران كان مجرد قصة كتبت بالطبشور على لوح أملس بحركة بسيطة ، ماجنة مسحوها وأضرموا فيها الجحود " .
هو لا يسرد سرداً تقليدياً ، انما تأملياً فلسفياً مغلفاً بالوجع والغموض : " القليل من الوعي بأنّنا منتهون منذ البداية،و بأنّ القلادة التي حول أعناقنا ليست سوى راهن لعبته المفضّلة انتحال الوجوه و الألقاب، سيفي بالغرض " .
ويقول فى الخاتمة : " أما أنت فبوسعك أن تنام الآن قرير التلاشى .. لقد ( هذيت ) قصة غيرتك على مدينة تهوى طى الصفحات معصبة العينين فما أوفر حظك وما أخوفنى وأشقانى لو صح فعلا بأنى ذكريات نفسى " .
وكانت تلك الخاتمة على هيئة حوار وخطاب موجه لصديقه ، الذى كان ذاته ضحية المدينة القاسية فى استهلال القصة : (على أنقاض الرّجل المحروق شيّدوا الملهى .... محلّ فاخر لبيع العطور و الهدايا،و كلّ ما تشتهيه النّسوة و الصّبايا ..... كأنّ الذي قضّاه بين هذه الجدران كان مجرّد قصّة كتبت بالطّبشور على لوح أملس ، بحركة بسيطة ، ماجنة مسحوها و أضرموا فيها الجحود ) .
وما بين البداية والخاتمة يبقى الشقاء والخوف " وما أخوفنى وأشقانى " ، من البدايات وما قبلها ومن النهايات وما بعدها ، فى مدن صماء عمياء ، تمحى فيها آثار البشر وذكرهم وتشيد على أنقاض مشاعرهم وتاريخهم صروح الخداع والزيف .