دروس في العروض الإيقاعي -4



التنظير الفلسفي لوزن الشعر:
لعل ابن سينا حين يرى أن المحاكاة تكون في الشعر من قبل (الوزن والكلام واللحن )يدرك أن هذا يتعلق بالشعر المغنى؛ومن ثم فهو يرى أن الكلام المخيل والوزن قد ينفردان بالشعر دون اللحن
لذلك يقول ابن رشد:وقد تجتمع هذه الثلاثة(الوزن والكلام المخيل واللحن)بأسرهامثلما يوجد عندنا في الموشحات والأزجال؛فإن أشعار العرب ليس فيها لحن وإنما فيها:إما الوزن فقط وإما الوزن والمحاكاة معا
إن كلام ابن رشد هذا يذكرنا بقول الفار ابي المقرر من أن الشعر العربي لا يعد اللحن جزء منه كما هو في أشعار بعض الأمم إذ هو يقوم فقط على(المحاكاة)أو التخييل والوزن
نظر الفلاسفة المسلمون "للوزن"في الشعر على أنه وسيلة من وسائل المحاكاة (أو التخييل)؛لكنهم في الوقت نفسه حرصوا على التأكيد أن القول لا يكون شعرا إلا إذا اجتمع فيه المحاكاة والوزن معا
وعلى الرغم من الحاحهم على أن المحاكاة والوزن هما عنصرا الشعر الجوهريان ؛فإنهم جعلوا الأولية المطلقة للمحاكاة (التخييل)؛حتى أصروا على أن القول ليفتقد سمة الشاعرية في حال افتقاده المحاكاة وفي هذا يقول الفارابي"وكثير من الشعراء الذين لهم قوة الأقاويل المقنعة يضعونها ويزنِونها فيكون ذلك عند كثير من الناس شعرا؛وإنما هو قول خطبي عدل به عن منهاج الشعر إلى الخطابة"
و ابن سنا يؤكدالفكرة ذاتها حيث يرى أيضا أن الوزن وحده لا يجعل من القول شعرا:"وقد يعرض لمستعمل الخطابة كما يعرض لمستعمل الشعر خطابية وهو لا يشعر إذاأخذ المعاني المعتادة والأقوال الصحيحة التي لا تخييل فيهاولا محاكاة ثم يركبهاتركيبا موزونا ؛وإنما يغتر بذلك البله وأما أهل البصيرة فلا يعدون ذلك شعرا"
إن استخدام العرب للنبرات(النبر)في خطبهم بوصفها من أحوال النغم في النثر الخطابي يحقق وزنا للكلام الأمر الذي يدفع بابن سينا إلى القول:
"للنبرات حكما في القول يجعله قريبا من الموزون "
أما ابن رشد فإنه يرى أن هذا الوزن الذي تحققه النبرات يكاد يجعل من القول الخطابي شعرا
وعلى الرغم من أن ابن سينا وابن رشد قد عنيا عناية تامة بالتنغيم والنبر في الخطابة ؛فإنهما لم يجعلا لأي منهما دورا محددا في موسيقا الشعر؛فابن رشد يرى أن النغم ضروري في أوزان أشعار ما سلف من الأمم ما عدا العرب لأن الأمم كانوا يزِنون أبياتهم بالنغم والوقفات أما العرب يزنِونها بالوقفات فقط
ويضيف ابن رشد أن عادة العرب في استخدام الأخذ بالوجوه قليلة ؛وأما الأمم فربما أقاموها في الأشعار مقام الألفاظ ومن الواضح أن ابن رشد أدرك الفرق بين الشعر التراجيدي اليوناني والشعر العربي من حيث طبيعة كل منهما ومدى اعتمادهما على الأداء؛فالشعر التراجيدي لا يصبح التركيز فيه على الأشعار من حيث هي ألفاظ فقط وإنما تدخل عوامل أخرى لها من التأثير ما يؤدي إلى الاستغناء عن الكلمات أحيانا مثل الأشكال والهيئات الخاصة بالمؤدّين وما يقومون به من حركات وإشارات وإيماءات فضلا عن النغم ولهذا يقول أرسطو في كثير من الأشياء التي تتعلق بالأمور الخارجة عن اللفظ"غير مفهوم عندنا ولا نافع"
علاقة الوزن الشعري بالموسيقا:
أشار الفلاسفة المسلمون إلى أن الوزن الشعري يتميز عن الوزن النثري أو الخطابي ؛فوزن الشعر عددي وهو تعاقب الحركات والسكنات التي تشكل الأسباب والأوتاد والفواصل وتكرارها على نحو منتظم؛فالفارابي يذهب إلى أن الشعر ينبغي "أن يكون بإيقاع وأن يكون مقسوم الأجزاء وأن تكون أجزاؤه في كل إيقاع سلابات وأسباب وأوتاد محدودة العدد وأن يكون ترتيبها في كل وزن ترتيبا محدودا ويكون ترتيبها في الأجزاء متساوية لتصير أجزاؤه متساوية في زمان النطق بها؛وألفاظه في كل وزن مرتبة ترتيبا محدودا"
يشير الفارابي إلى أن التفعيلة ليست هي الوحدة الأساسية للإيقاع وإنما البيت كله وهو في هذا يقترب من النظرة الحديثة التي ترى أن البيت كله هو الوحدة الأساسية في الإيقاع وأن التفعيلات لها وجود مستقل من حيث هي تفعيلات ؛بل توجد من حيث علاقتها بالقصيدة ككل
ويرى ابن سينا أن التناسب الكمي والكيفي الذي يقوم عليه تعاقب التفاعيل في الوزن الواحد وأئتلاف تفاعيل مع أخرى هو أن توالي الحركات والسكنات وتكرارها لا بد من أن يتم على أساس مراعاة نسبة عدد حروف التفعيلة الواحدة للتفعيلة الأخرى التي تشكل معها قاعدة البيت
ويعرض إخوان الصفا للتناسب بين التفاعيل في الوزن الواحد بمراعاة نسبة المتحركات وأزمانها للسواكن وأزمانها ؛ذلك أنهم يرون أن من ألذ الموزونات من الأشعار ما كان غير مزاحف والذي متزحف من الأشعار هو الذي حروفه الساكنة وأزمانها مناسبة لحروف متحركاتها وأزمانها
ويتمثل ذلك التناسب عندهم في البحر الطويل "فهو مركب من ثمانية مقاطع فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن وهذه الثمانية مركبة من اثني عشر سببا وثمانية أوتاد جملتها ثمانية وأربعون حرفا ؛عشرون منها سواكن وأربع عشرة متحركات ونصف المصراع اثنا عشر حرفا خمسة سواكن وسبعة متحركات؛ونسبة سواكن حروف ربعه إلى متحركاته كنسبة سواكن حروف نصفه إلى متحركاته؛وكنسبة سواكن حروفه كلها إلى نسبة متحركاته كلها
نفهم من قولهم أن نسبة الحروف السواكن إلى الحروف المتحركة في الشطر أو في البيت 7:5أي أن الحروف المتحركة ينبغي أن تكون على نسبة (مثل وثلث)بالنسبة للسواكن؛وهذه النسبة هي ذاتها التي أقام ابن سينا على أساسها الأئتلاف بين التفاعيل التي تشكل الوزن الواحد؛لكن هذه النسبة تنطبق على البحر الطويل والبسيط ولا تنطبق على بقية البحور مثل الكامل والوافر حيث تصبح المتحركة 5 والساكنة 2؛لكن هذا لا يلغي قانون اخوان الصفا في هذه البحور من وجه آخر حيث أن نسبة سواكن حروف ثلث البيت إلى متحركاته كنسبة سواكن نصفه إلى متحركاته وكنسبة سواكن كله إلى متحركات كله ؛لكن إذا كان التناسب لا يتحقق عند اخوان الصفا إلا في الأوزان غير المنزحفة فهل يعني أنهم يرون في الأشعار المنزحفة خروجا عن شرط التناسب؟ففيما يبدو أن استواء الوزن وعدم انزحافه هو الشرط الأساسي لتحقيق التناسب عندهم؛وذلك ما اختلف الفارابي عنهم حيث يرى في التغيير والزحاف في الوزن استحسانا وإن كان خروجا عن الأصل.
الوزن والمعنى؛ ذهب ابن سينا وابن رشد إلى أن الوزن في الشعر وسيلة من وسائل التخييل أو المحاكاة في الشعر ؛مثل التشبيه والاستعارة وقد أصبحت هذه الفكرة تشغل الباحثين المحدثين المهتمين بالوزن والعروض في الشعر؛فيرى بعضهم أن العروض في الشعر صورة رمزية مثله مثل الاستعارة
لقد تصور الفلاسفة أن الشعراء اليونانيين حددوا وزنا شعريا لكل غرض من أغراض أشعارهم ؛فالفارابي يذهب إلى أن اليونانيين وحدهم دون غيرهم من الأمم هم الذين خصصوا لكل نوع من أنواع الشعر وزنا خاصا به؛فجعلوا أوزان المدائح غير أوزان الأهاجي وأوزان الأهاجي غير أوزان المضحكات وهو يرى أن هذا هو المعيار الصحيح لاستخدام الوزن في الشعر الذي ينبغي أن يلتزم به شعراء الأمم الأخرى ؛وقد تابعه في ذلك ابن سينا
لقد قام الفارابي بأحصاء ما تناهى إلى عمله من أصناف الشعر اليوناني وأنواعه موضحا أن لكل نوع من هذه الأنواع وزنه الخاص الذي يليق به؛فـ"طراغوديا "مثلا يذكر فيه الخير والأمور المحمودة و"ديثرمبي"له وزن ضعف طراغوديا أما "قوموذيا"فله وزن معلوم تذكر فيه الشرور وأهاجي الناس وأخلاقهم المذمومة
غير أن أرسطو لم يشر لعلاقة تربط الوزن بالغرض الشعري؛فعندما تحدث عن مناسبة الوزن السداسي_الملحمي_ ومناسبة الوزن الأيامبي للرقص والتروخاني للعمل فلأنهما وزنان تشيع منهما الحركة ولم يكن يقصد مناسبة الوزن للموضوع ولم يكن يقصد أن هناك من المعاني والتخييلات ما يناسب الأوزان الطويلة ومنها ما يناسب الأوزان القصيرة كما يرى ابن رشد وابن سينا؛وفي هذا يرى ابن رشد أن المعنى سابق الوزن فالشاعر يكتب المعاني المخيلة نثرا ثم يكسوها وزنا ملائما لذلك يقول"أول أجزاء صناعة المديح الشعري هو أن تحصي المعاني الشريفة التي بها يكون التخيل ثم تكسي تلك المعاني الوزن الملائم للشئ المقول فيه"
يؤكد الكندي فكرة تطابق كل وزن من الأوزان لمعنى من المعاني أو انفعال من الانفعالات من الناحية التي ألح عليها الفارابي وابن رشد وابن سينا وعلى هذا نجد اخوان الصفا يشيرون إلى أهمية القول الموزون لما يقوم به من استثارة تخييلية للمتلقي وهم يرون أن الأبيات الموزونة تثير الأحقاد الكامنة وتحرك النفوس الساكنة وتلهب نيران الغضب .
أقام الفلاسفة المسلمون بناءهم الفلسفي على تمجيد العقل؛وقد جعل الفلاسفة المنطق هو الآلة التي تمد الفلاسفة بالقوانين التي تعصم المرء من الخطأ وتسدد خطاه نحو استكمال قواه الناطقة والوصول إلى الرشد الإنساني الذي يمكنه أخيرا من تحصيل المعارف والعلوم كي يحقق غاية الغايات وهي السعادة القصوى
ورأوا أن النظر في الشعر –من حيث هو كلام مخيل-أمر يخص المنطقي وحده وهذا يعني أنهم أخضعوا التنظير للشعر للنظر العقلي الفلسفي ؛ثم جعلوه فرعا من فروع المنطق وقياسا من أقيسته.