دروس في العروض الإيقاعي -5:



(الإيقاع):
الإيقاع الوزني المنتظم ألزمُ خصائص الشعر وأهم مقوماته ؛كما يرى الأستاذ عبدالرحمن آلوجي
والإيقاع هو تفاعل للنبر والكم كما في رأي الأستاذ أبو ديب
ويصرح الأستاذ شوقي ضيف “ولعل لغة من اللغات قديماً وحديثاً لم تعرف تكامل الإيقاع في موسيقا الشعر على نحو ما عرفته لغتنا العربية العريقة”
و"الشعر هو الكلام المخيّل المؤلف من أقوال موزونة ومتساوية وعند العرب مقفاة، ومعنى كونها موزونة، أن يكون لها عدد إيقاعي"السجلماسي"

وعن وظيفة الإيقاع فيقول الأستاذ عبدالرضا علي:

الإيقاع عنصر أساس في الفنون كافة وعلى أنحاء مختلفة، لكنه في الشعر يأخذ شكلاً منظماً ومهندساً استناداً إلى معايير علم العروض وقوانينه فيما أصطُلح عليه بـ(الوزن الشعري)
وهذا النوع من الإيقاع لا يوجد في النثر بشكل عام .
ويقول الخوارزمي :
الإيقاع هو النقلة على النغم في أزمنة محددة المقادير .
وأيضاً هذا الإيقاع لا يوجد في النثر .ويضيف الأستاذ ضيف :
والموسيقا ــ الإيقاعية ــ هي التي تحرّك المتلقي وتجعله ينفعل وتثير فيه إحساساً وجدانياً غريباً تجعله يشعر بما يسمع من أبيات شعرية متناسقة ذات تناغم يقرب من الغناء
واعتبرالعلماء أن الإيقاع يأتي على ثلاثة مستويات نوعية:
1. يكون الإيقاع على نظام المقاطع؛ ويدعى بالإيقاع الكمِّي.
2. الإيقاع الكيفي و يقوم على النَّبْر في الجُمَل، وربما في الكلمة الواحدة.
3. التنغيم: ويعتمد على أصوات الجُمَل، من صعود وانحدار وما شابه
ويعتبر الأستاذ نعيم اليافي أساس الوزن هو الكلمة، بينما الإيقاع أساسه الجملة أو الوحدة.
ويذكر الأستاذ فاخوري أن العرب حافظت على وَحدة الإيقاع والوزن أشد المحافظة، بدليل التزامه بهما في كل أبيات القصيدة، وزادوا أن التزموا رويًّا واحدًا في جميع القصيدة، وأن العرب قد جعلت بعض المحسنات البديعية من مُقومات الموسيقا الخارجية للشعر؛ مثل: الجناس والترصيع، والتسميط والازدواج، كقول الخنساء:
حامي الحقيقة، محمود الخليقة،
مَهديّ الطريقة نفّاع وضرَّارُ
جَوَّابُ قاصيةٍ، جزَّار ناصيةٍ
عقَّادُ ألْوِيَةٍ، للخيل جَرَّارُ

وكذلك قول الهذلي؛
وتلك هيكلةٌ خَودٌ مبتّلةٌ
صفراءُ رعبلةٌ في منصب سنمِ
سودٌ ذوائبها بيض ترائبها
محضٌ ضرائبها صيغتْ على كرمِ

فحُسن التقسيم والترصيع وتَكرار الأصوات واضحٌ، وكل هذا أعطى إيقاعا موسيقيًّا طَرِبتْ له الأُذن، وسُرَّتْ به النفسُ


الإيقاع في علم النفس:
وجد الباحثون في علم النفس أن الإيقاع الموسيقي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة الطفل ابتداء من المرحلة الجنينية، فهو يتعرف على “الإيقاع” في الرحم، ويعيش وفق نظامه الدقيق: فنبضات قلب الأم المنتظمة، و“نغمتا” الشهيق والزفير، تشتل في نفسه أشياء جميلة الذكرى ترتاح لها نفسه عند تذكيره بها مستقبلا بإيقاعات أخرى منها الهدهدة، هز السرير، غناء الأم اللطيف قريبًا من أذنه، مما يساهم في تهدئته وفي نومه وفي جعله يبتسم برضا.. أي أن هذه الإيقاعات والأنغام المختلفة تبعده عن التوتر والتشنج والألم
لذلك شدد الباحثون على حاجة حديث الولادة إلى أن يستعيد تلك الإيقاعات المفقودة، وعلى ضرورة مساعدته على إيجادها، وعلى خلق المناخات الملائمة لذلك، من أجل تنمية الحس الإيقاعي لديه، ما يساعده لاحقاً على اكتساب الإيقاع اللغوي، والإيقاع التواصلي السلوكي في حياته، فيتفاعل مع الآخرين باتّزان وهدوء
إن الحساسية السمعية المرهفة التي يتمتّع بها الجنين، هي أقوى بداية لنشوء العلاقة بين الطفل والحياة
فقد اتفق علماء الأجنة على ان الأذن هي أول عضو يتكون في الجنين
اذ تبدأ وظيفة الاذن السمعية بعد 18 أسبوعا فقط من بداية تكوين الجنين و الذي يستطيع تميز الأصوات تماما بعد 24 أسبوعا من تكوينه. وهناك دراسات تبين أن الجنين يتأثر تأثيرا ايجابيا بالموسيقى الهادئة اذ انها تؤدي الى تهدئة ملحوظة في ضربات قلب الجنين ؛
واذا كان الجنين يستطيع سماع الأصوات وتمييز النغمات الموسيقية ابتداء من الشهر الثالث للحمل فإنه يستطيع بعد سنوات من ولادته ادراك وتمييز الإيقاعات والألحان التي كان يسمعها وهو داخل الرحم وذلك طبقا لتجارب على الطفل حينما يبكي فإنه يتوقف عن البكاء بمجرد سماعه أغنية من الأغاني التي سمعها وهو جنين وهذا ماأكدته الدراسات التي أجريت على 59 طفلا حديثي الولادة وبينت ان 94% منهم يكفون عن البكاء ويستغرقون في النوم فور سماعهم للموسيقا التي كانوا يسمعونها وهم أجنة
وتستخدم الموسيقا الآن لنمو الجنين بشكل صحي, وتنمية قدراته العقلية, ويقال أن بعض مقطوعات لموتزارت ترفع من نسبة ذكاء الجنين والطفل, ولعل العرب هم أول من اكتشف العلاج بالموسيقا, وهناك متحف ألماني متخصص للآلات العربية التي استخدمت لهذا الغرض إبان العصور الأندلسية
وقد اكتشف العالم الياباني “إيموتو” تأثير الموسيقا على كريستال الماء, ففي مختبره قام بتعريض ماء أثناء تجمده لمجموعة من المقطوعات الموسيقية لبيتهوفن وموتزارت وغيرهم, فوجد أن كريستال الماء يتشكل بطريقة جميلة, بينما يتشكل بطريقة بشعة إذا تعرض لأفكار ومشاعر سلبية, فإذا كان هذا تأثير الموسيقا على الماء, فكيف يكون تأثيره على الإنسان وجسم الإنسان يحوي أكثر من 60% من مكوناته ماء
إن هذه الحقائق تجعلنا أن نؤمن بتأثير الإيقاع العميق على سايكولوجية الجنين وبخاصة تلك الإيقاعات الملازمة له دون فكاك (ضربات قلب الأم)حتى تكون جزء من كيانه الشخصي وبنيته الخلوية منذ نشأته الأولى وإذا ذكّر بتلك الإيقاعات مستقبلا استقبلها بشوق وراحة في النفس وطمأنينة تقوده إلى الارتياح والنشوة عند سماع كل إيقاع متجانس في حياته المستأنفة؛وهذه الميزة لا ينفرد بها الإنسان فقط بل حتى الحيوانات التي تنصت وتقطع حركاتها عند سماعها إيقاعات منتظمة وإن كانت على شكل أصوات طبيعية أو إنسانية؛وذلك ما حدث لإبل "مضر" جد العرب حين سمعت إيقاعات صوته الشجي مناديا "وا يداه --وا يداه"عند سقوطه من على ظهر راحلته فاتخذوا ذلك أول إيقاع في الشعر العربي
ولتعريف الإيقاع ؛فالوقع ؛هو صوت وقع الرجل عند المشي وإيقاع الصوت؛إتفاقه وتوقيعه على موقعه؛فهو إن كان منسقا يكون وقعه على الأذن جميلا مقبولا للأسباب المذكورة والمؤثرة على نفسية المتلقي وإلا نفرت عنه النفوس بدون انتظام لوقعه
في العصر الجاهلي اقترن الشعر بإيقاع خطوات الإبل التي كانت تملأ أكثر فترات حياتهم آنذاك؛ تلك الخطوات المنتظمة في إيقاعاتها(نقول إيقاعاتها لأنها لم تكن على وتيرة أو سرعة واحدة) فكان إيقاع بحر الرجز مثلا أن جاء بين السرعة والأناة –والهزج كان إيقاعا راقصا تبعا لتنوع سير الإبل وانعكاس وقع أقدامها على مسامع الحداة أو انتقال حركاتها إلى راكبيها وتحريكهم بانتظام وإيقاع معين
ومن التنسيق بين هذه الإيقاعات الصادرة من الإبل وبين تلك الراقدة على أخيلة جيناتهم إبان الطفولة المبكرة (مرحلة الأجنة)خلقت الصور الشعرية الأولى عندالعرب فكان الإيقاع الشعري هو الصورة التي يقصد بها الكشف عن النمط التحتي للحقيقة العلياوهويشير إلى عدد الدلالات السطحية والعميقة في القصيدة الشعرية العربية فعُد(الإيقاع)أقوى عناصر الجمال في الشعر العربي لذلك كان وسيلة الحكم المثلى على مسامع العربي لتقييم قصائده الشعرية
عبرتْ الفاعلية الشعرية عند العرب عن نفسها بغنى إيقاعي مدهش ؛ولئن كانت رتابة الصحراء والسياق المادي للحياة قد انعكست في مظاهر أخرى للنشاط الفني؛فقد حفل إيقاع الشعر بحيوية وتنوع هما نقيض الرتابة المباشر بل ربما كانت الحيوية المنبعثة من تنوع الإيقاع صورة لحنين لا واع لرفض الرتابة بالغناء ؛الغناء المرهف المنسرب المائج الراقص الصاخب أحيانا الهامس أحيانا والهازج الراجز أحيانا 0 هكذا يصف الأستاذ أبو ديب ولادة اٌيقاع الشعر العربي ؛فالإنسان الأول رسم مشاعره وأفكاره بين صمت الصحراء وأطلق العنان لسجيته كي تطلق أصواتًا إيقاعيية مبهمة هي أقرب إلى اللغة البدائية التي طورتها حاجته فيما بعد، واستمر الارتقاء عبر التاريخ حتى ارتقت لغة إيقاعاته إلى تلك الدرجة الحالية من الكمال والتي أسماها شعرا؛فهو بنى أولى سلمه الإيقاعي على تنسيق الحداء :
إنْ يأتني لصٌّ فإني لصُّ
أطلسُ مثل الذئبِ إذ يعتسُّ
سَوقي حُداءٌ وصفيري نسُّ
ثم تدرج نحو رقي النسج الإيقاعي في أعلى درجات الدقة والرهف الوجداني فكانت ولادة القصائد الطوال التي علقت على عرض التأريخ الأدبي للعرب
واختلفت الآراء في أيهما أسبق في النشأة الشعر أم النثر، ويكاد الجميع يتفق على أن الشعر أسبق من النثر لأن النثر نوع من الأدب يحتاج إلى روية وتفكر ونظر لا تتوافر في أمة إلا بعد اجتياز مرحلة معينة من مراحل تطورها. أما الشعر فيرتبط مع الغناء برباط القربى لأن الإنسان أول ما غنى كان غناؤه صوتيًا ثم بدأ يضع الكلمات على شفتيه لتتناغم مع اللحن، وكانت ألفاظه غير منتظمة، ثم بدأ يضع جملاً وتراكيب ذات معنى ويلحنها وبدأت أولى أوزان الشعر تظهر، ولذلك كان الشعر أقرب إلى الشعور الفطري منه إلى الشعور العقلي على عكس النثر.
تشكلتْ لدى الشاعر العربي –يقول الأستاذ أبو ديب-إيقاعات منتظمة لها قيم رياضية يعرفها هو بعفوية وفطرة 0حين نظم الشاعر العربي أو سمع قصيدة فإن كل وحدة إيقاعية في البيت منها تجسدتْ لديه قيمة معينة محددة0وكان همّ العربيّ الأول فيما يخص الإيقاع هو أن تحافظ كل وحدة في الشكل الإيقاعي على قيمتها الرياضية
إن الإيقاع –كما نرى- هو الآلة العجيبة التي تنظّم جزيئات بعض الكلام تنظيما تخيليامتماسك البناء قوي الآصرة ليبعث في النفس راحة وطمأنينة حينا وتقلبا وثورة وقلقا حينا آخر
إن الإيقاع كمنزلة الروح للجسد؛متى تسلل إلى شيء بعث فيه الحياة ولذلك لا يمكن تدوين أسس هذه الروح وقوانينها رغم محاولات العلماء الكثيرة بواسطة الوسائل التي ذكرناها في الفصول وهو- أي الإيقاع- يشترك في علوم المنطق والموسيقا والشعر والرياضيات
ورب قارئ كريم يسأل ألم يدون العلماء السلم الموسيقي والبحور الشعرية ومقاييس اللغة ؟؛فالجواب ؛بلى دونوا لها أوزانا كـالأقصاق واليكرك والجورجينا وهي أوزان مبنية على وحدات صغيرة(الدم والتك والسكتة)في الموسيقا؛وفي الشعر دونوا البحور الشعرية ووحداتها الصغيرة(المتحرك والساكن)لكنهم لم يدونوا الإيقاع كروح للحرف والكلمة والجملة لأن هذه الروح لا تمكث على ورق نقرأه؛فلو كان ذلك لطربنا إذا قرأنا قطعة موسيقا؛ أو بيت شعر؛ أو مسألة رياضية
إن ما يجمعني بالرياضيات والإيقاع ذلك الصوت الرخيم المسجّل في ذاكرتي منذ خمسين عام حيث معلم الرياضة يردد مع حركاتنا (1—2—3—4)ولا أكذب نفسي إن قلت أن تلك المقاطع لا تزال من أجمل الإيقاعات في الذاكرة ولقد حاولت طول هذه المدة أن استكنه سبب حلاوتهاوتقبلهافي نفسي فلم أفلح؛لكني على يقين من نسيانها إن كانت مادية بحتة

إن من أهم الإيقاعات الوزنية للشعر عند العرب هي تلك التي جمعها ونظمها الخليل بن احمد ضمن بحور ه المعروفة (المتقارب +الرجز+الهزج+البسيط+الطويل+ لكامل+الوافر+الخفيف+المنسر ح+الرمل+السريع+المديد+المضا رع +المجتث+المقتضب)ثم ألحق بها (المتدارك)من قبل الأخفش
فلا شك أن لكل بحر سمته الإيقاعية الخاصة ولا يمكن تجانس إيقاع بحر ضمن إيقاع بحر آخر وإلا لما اختلفا من حيث النشأة؛وقدتبرز نظرة حديثة تساوي بين إيقاع وآخر مثل؛
(وإذا راية مجدٍ رفعت...نهض الصلتُ إليها فحواها)فقد نسبه البعض لإيقاع الخبب؛لكن الأذن المرهفة لا تسمعه إلا ضمن إيقاع "الرمل" 0
إن العرب نطقوا الشعر على إيقاعات طويلة وذلك للتفريق بين الشعر والنثر أو الكلام العادي ولتكون تلك الإيقاعات بارزة بقوة أكثر في النظام الفوق مقطعي (السبب \ه ؛والوتد \\ه والفاصلة \\\ه)ولكي يضاعفوا الإيقاع عند كل كلمة من شعرهم ؛ فلم يقفوا عند إيقاع النبر والتنغيم في الحرف والحركة
ولنعلم أن لإيقاعات البحور نظام دقيق متقن فيه تناسب منتظم بين مواقع أجزائها بالنسبة لبعضها (بين المتحرك والساكن؛وبين السبب والوتد ومواقعها ضمن وحداتها الإيقاعية )
فنرى مثلا تبادلا لموقع السبب الخفيف في بحر المتدارك والمتقارب؛وفي الرمل والرجز فله تقديم وتأخير ؛فهذا التغيير في مواقع الأجزاء الإيقاعية يعطي لكل بحر-بل لكل تفعيلة- إيقاعاتها الخاصة بها تميزها عما سواها وكثيرا ما يخلط الفهم -مثلا- حول تساوي مستفعلن في بحري الكامل والمنسرح أو بين مفاعيلن الهزج والوافر ولم يُنبه إلى موقع كل تفعيلة منها بالنسبة للتفعيلة الأخرى