كانت قاذفاتُ الموتِ ومجلباتُ الدمارِ في هذه الليلةِ على مقربةٍ من مكانِه أكثر من أي يومٍ مضي
أنهكته مرارةُ الوحدةِ ـ وتعالت ضرباتُ قلبِه تفصحُ عن خوفِه، فوقف شارد اللبِّ، ذاهلَ الطرفِ متألمًا على دماءٍ أُهرقت، وأرواحٍ غادرت ولن تعودَ، وطمأنينة وُئدت، وجروحٍ لن تندملَ.
ًدوى صوتُ انفجارٍ مروعٍ فجأة ارتجَّ له المكانُ ـ دخلت شظيةٌ محطمة زجاج النافذة
ِتنطلقُ من فوقَ رأسِه كَسَهمٍ وترشقُ في الجدار.
فزعَ وارتعبَ وتحركَ هلعًا في الظلامِ؛ فتزلجتْ قدمُه ووقعَ منبطحًا، وقد التوى كاحلُه،
ٍامتلأ المكانُ بدخانٍ كثيف.
َّتراءتْ له صورة زوجتِه وأولاده ـ داهمَه الحنينُ، واكتنفه شوقٌ شديدٌ، ود لو يضمهم لحضنِه, أو يغيب هو في أحضانِهم ... و غامتْ الدنيا.
رنَّ الهاتفُ الأرضيُّ رنينًا متواصلًا ـ انتبهت حواسُه بعدَ فترةٍ، اجتازَ الحدَّ الفاصل بين الإغماءِ واليقظةِ .. حاولَ أنْ يخترقَ ببصرِه حجبَ الظلام للوصولِ إلى سماعةِ الهاتف ـ رفعها محاولًا أن يلمْلمَ شتاتَ نفسِه المتبعثرة .. بذلَ جهدًا لكيْ يخرج صوته قائلًا : نعم.
َجاءَ الصوتُ من الطرفِ الآخرِ متلهفًا : أيوة .. مهندس حمدي ـ هلْ أنت بخيرٍ؟؟
ٍـ ردَّ .. نعم .. نعم بخير.
ـ كيفَ حالك طمئنني عليك؟
ـ الحمدُ لله.
نسمعُ أصواتَ الضربِ قادمةً من منطقتِك.
ـ نعم لم يتوقفْ من أوَّلِ الليل.
ـ ولِمَ تغلقُ محمولك؟
ـ نفذَ الشحنُ ـ الكهرباءُ مقطوعةٌ .. والماءُ أيضًا
ٍنفذَ الطعامُ ـ والدواءُ ... لمْ يبق لديَّ سوى نصف زجاجةِ ماء.
ـ سامحكَ اللهُ ـ حاولنا إخراجِك من العمارةِ منذُ أكثر من أسبوعٍ، ولكنك رفضت
الآن نعجزُ عن الوصولِ إليك.
ِّـ لمْ أعلم إنَّ الأمورَ ستصلُ إلى هذا الحد
ـ لكن تحذير الجيشِ كان واضحًا ـ عليكم بإخلاءِ المنطقةِ حتّى نستطيع ِمجابهةَ الإرهابيين والقناصةِ المختبئين في البيوت .
ـ حاولت ألَّا أثقل عليكم.
ـ ما الذي تقوله يا رجل ـ ألا تعلم أنَّك أحد أفراد أسرتي.اسمعْ ـ أقفلْ الآن وسأحاولُ أنْ أتصرف.
مرَّ الوقتُ ثقيلًا بطيئًا .. رنينُ الهاتفِ يعلو مرةً أخرى .. رفعَه في سرعةٍ .. جاءَه صوتُ صديقِ عمرِه وربُّ عملِه مرةً أخرى قائلًا: حمدي .. لقد اتفقت مع الهلالِ الأحمر، سيعملُ على تأمينِ خروجِك في الصباحِ من المبنى ـ وسيأتي بك إلى حيث أكون في انتظارِك.
لا تخش .. كلُّ شيءٍ سيكون على ما يرام إنْ شاءَ الله.
في اليومِ التالي التقى أحمدُ بصديقِه بعدَ أن تولَّى الهلالُ الأحمرُ إخراجَه بأمانٍ فعانقه في مودةِ
قائلًا : حمدًا للهِ على سلامتكَ يا رجل لقدْ كدنا أن نفقدك ـ كانتْ ملامحُه مجهدةَ متعبةَ وسمرة وجهِه يشوبُها شحوبٌ واصفرارٌ وذبول .. فاستضافه أيامًا إلى أنْ تعافى، ثم جاءه قائلا:
لقدْ اتفقتُ مع سائق ـ سيقلك إلى مطارِ الأبرقِ على بعدِ ثلاثمئة كيلو من بنغازي ـ وهناك ستجدُ تذكرةً محجوزةً باسمك إلى الإسكندرية.
تدفقت العواطفُ شلالًا ـ اختنقَ صوتُه وارتعشت كلماتٌ صادقة :
لكنِّي لاأريدُ أن أترككم ـ بنغازي بلدي مثلكم تمامًا ـ إنها عشرة خمسة وعشرين عامًا قضيتها معكم هُنا.
صمتَ أحمدُ برهةً واغرورقت عيناهُ بالدموعِ وثقلٌ مخيفٌ يجثمُ على صدرهِ وتصلَّبت ملامحُه وهو يقول: عندما ننتصرُ على الإرهابِ، ويستقر وضعُ البلادِ ـ ستعود يا أخي مرةً أخرى
شكرًا لكَ أيُّها الأصيل.
تعانقا طويلًا, وأجهشا بالبكاءِ كالأطفالِ، ولكن فكرة واحدة كانت تدور في
ذهنيهما
هل سنلتقي ثانية ؟؟؟؟