فزع الملك خفرع من نومه فهرع الحرس إلى مضجعه، استدعى طبيبه الخاص ومستشاره، بدا عليه الوهن والشرود..
دخل كبير الوزراء على وجه السرعة، تقدم بعد أن أدى طقوس الاحترام للاطمئنان على صحته، وقبل أن ينطق! دخلت زوجة الملك (مراس) وعلامات القلق والاضطراب على وجهها، بادر الطبيب بطمأنتها ثم طلب الملك من الجميع تركه مع المستشار .

لدي سر أريد أن أفضى به إليك..
رؤيا منذ زمن تقض مضجعي..
يقترب المستشار أكثر بينما يعتدل في جلسته: أنثى!.. أتت في تحد سافر وقبيح صارخة ( أنا السيدة التي سبقت كل عصر، تحررت من قيود الاِستبداد، قمت باحتلال الحرية بذكاء دون حروب. عرضوني في البداية على الخديوي إسماعيل فاعتذر!.. لم يكن لديه وقتها السيولة اللازمة ليدفع مهري الباهظ.. حسناً فعل.. إذ كيف يمكن للجوهرة النادرة أن تلمع في شرق يقبع تحت ظلم عميق!.. أتمتع اليوم بحرية مطلقة، بعد أن قام أحد عشاقي بحملة تبرعات لصالحي، حريات الآخرين تقف عند حدودي، ومن أجل أن يبقى هذا الرمز.. قمت بتحريف مفهوم العدل والعدالة لصالحي، حتى لو عاش العالم أزمة من الحريات،المهم حريتي).
يصمت دقيقة مقطبا حاجبيه، ينهض، يجول في غرفته بخطوات غاضبة ملوحا بيديه: كيف!
كيف تجرؤ هذه النتنة على أن تنطق؟!
يا للحطة والوضاعة!
لقد قالت إنها من مكانها تراقب الكثير، ولا تسمح لأي تواجد لمظاهر القوة والكرامة خارج حدودها!..
قالت: منذ أن توليت مقاليد الحرية، منعت أن ينحت تمثال لغير نجومي، ومنعت نحت ما يشبه تمثالك أنت (خفرع).. الملك الذي استطعت البقاء إلى يومي هذا.. حتى بات يقلقني تاريخك!.. تمثال أبوك (خوفو) أكثر من تمثالك ارتفاعا لكنك الأكثر صموداً وتحديا.. لا أكترث لتماثيل الشرفاء فهي لا تبقى؛ قبل أعوام نحت تمثال لأحد أهم المعادين لي،بعد ثلاثة أيام من تنصيبه، أسقط بأمر من جهاز القمع المتربص بكل تمثال حي !..

عاد الملك إلى مكانه يكتنفه الذهول فتدخل الوزير: منذ الغد سوف يتم نحت تمثالك الأعظم..
أرجو أن تهدأ يا مولاي..
قفز من مكانه صارخا: كيف لتمثال جامد لا حياة فيه أن يهزم حرية حية؟!..
لا بد من قطع لسانها الممتد حتى حدود الأرق، كم أتمنى أن أنسف حرية الحلم وحلم الحرية!
تلك التي تمسك بيدها اليمنى مشعلاً ضخماً، بينما تحمل في يدها اليسرى كتابا نقش فيه تاريخ.. لا أعلم إن كان لاستغلال البلاد أم لاستقلال الكلاب!.. وعلى رأسها ترتدي تاجا مكونا من سبعة أسنة موجهة، تقول أنها تمثل أشعة ترمز إلى البحار السبع!..المعنى أعمق من هذا الهراء وأظنه سر قوتها الذي لا تفشيه لأحد..!

مولاي.. سنختار فجر الغد وتحت أي مسمى فتاة لها مواصفات سيدة حلمك، لتكون فداء لك، ولتسمع قهقهة النيل وقت الغرق..
لازال صدى كلماتها يتردد على مسامعي : ( لقد صنعتُ مملكتي التي تقوم على تصفية كل من لا يكون تابعاً لي، يكسر تمثاله بعد أن تثقب عينيه، ثم يقطع رأسه تحت سمع وبصر كل من حوله.. ومن يعترض يشرب ماء النار!.. لا توجد سلطة تقف أمامي.. عندما حاول أحدهم أن يرفع صوته، بلمح البصر أطحت به، وفي ساحة الفردوس غرست علم الحرية على رأسه.. ليكون عظة لغيره.. إن شموخي ليس له مثيل ولن يكون إلا تماثيل لا مثيل لها)..

تململ الملك وقد غرق في بحار من الحيرة وهو يردد كلماتها: كل تاريخ الأرض يجب أن يحرف! كل حرية أقدم مني سوف أنفيها! أنا من أنجبت الكثير من الأقنعة، كلها تنتسب لي! قلدتهم بعض ذل بكثير تخلف وهوان، أسجنهم في مفاهيم رجعية تخدم بقائي!

وقف وبقهقهات استهزائية: اسمع ما تقول (المحتل يزرع الأرض.. الخائن يسقيها.. وصاحبها يقطف الحجارة!
كان لا بدمن تزوير التاريخ كي تسخر ثروات العالم لي وتنتمي لتاريخي.. ويمحى.. ينسى كل تاريخ قبلي وبعدي...
ليس إلا أنا.. أنا التي تجسدت في هذا التمثال الذي يوزع أوهام الحرية، ثم تأتيه وتقبل أيامه، وتغفو في أحضانه ثروات الدنيا)!!..

كمهزوم بعد حرب ضروس ألقى بجسده المثخن بالحيرة والشرود على سريره وهو ما زال يردد كلامها: ( الشعلة بيدي ليست إلا لمحرقة تفوق النازية رعبا فيما لو فكر الخونة الرعاع... الأوباش المأجورون العملاء والأفاقون أن لا يحبونني، مفهومي للحرية هو قدرتي على السعي وراء مصلحتي التي أراها بحسب منظوري، بدون شروط وإن أدت وأفضت إلى إضرار الآخرين، لا حاجة بي إلى الحب، ولا يضرني الكره، كلها نفايات زائدة، لابد أن تطرح إلى المدافن.. سجوني لا تعد ولا تحصى.. وأمتلك من الهدايا الذرية الكثير، أبعثها لكل من يكرهني بإخلاص!.. أغلف القنابل الفسفورية وأرسلها على جناح السلام، تلك الكذبة الساذجة حتى النكبة!..
حتى الهواء... ما يزيد من زفير عن حاجتنا نعبئه لغرف الإنعاش كي يتعلم ذلك الذي يقترب من الهمس.. لغة الصمت)!

استسلم الملك لنوم نزل عليه كأمطار صحراوية فغادر المستشار.
عندما استيقظ في اليوم التالي ذهب مسرعاً ليشاهد ما تم إنجازه من التمثال، لكنه لم يجده..
ووجد تمثال الحرية منتصبا أمامه!