قراءة في رواية " إنه البحر "

للروائي اليمني المبدع الأستاذ صالح با عامر.

إنه البحر عنوان مثير لرواية الأستاذ صالح باعامر.
قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) الجاثية: . 12 عند قراءتنا لرواية "إنه البحر" نرى أحداث هذه الرواية هي ما عبرّت عنه هذه الأية الكريمة بكل ما تحمله من معنى ، إلا أن في الرواية الموت والحياة. ,والصراع مع البحر من أجل البقاء في طلب الرزق، حيث نرى البحارة على هذا البحر العريض الواسع تحت رحمة الامواج العاتية يبتغون ما تيسر لهم من البحر من فضل الله، وهذا قدرهم في المخاطرة في ركوب هذا البحر طلباً للرزق. وهكذا هو البحر. لابد للإنسان أن يتعايش معه في مسيرة حياته.
عندما بدأتُ قراءة هذه الرواية قراءة عابرة كقراءتي لكثير من الروايات، وجدتُ نفسي أعيش أحداث هذه الرواية بكل خفاياها و تفاصيلها فقد أعادتني لطفولتي عندما كنت معجباً بقراءة رواية روبنسون كروزو للكاتب الإنجليزي العالمي دانيال ديفو. حيث أن القاسم المشترك بينها وبين رواية "إنه البحر" هو البحر إلا أن بطل رواية دانيل ديفو شخصية واحدة وهو روبنسون كروزو، وأبطال رواية " إنه البحر" أكثر من واحد وأكثرهم إثارة ونشاطاً هو شخصية " السحيم".
نرى أن القارئ المثقف الجاد لن يمر قراءة عابرة على رواية " إنه البحر" فهي حسب منظوري المتواضع تخطت الإقليمية لتلامس مستوى الروايات العالمية، حيث أن المتتبع لقراءة القصص العالمية يرى في رواية " إنه البحر" أنها شملت كثيراً من عناصر القصص العالمية بأسلوب ممتع راقٍ تجعل القارئ يعيش مع أحداثها. كنتُ كلما أعدتُ قراءتُي لهذه الرواية شدتني بأسلوبها السهل الممتنع وأحداثها المثيرة أن أعيد قراءتها من جديد وذلك بما يتخللها من حبكات فنية رائعة لايجيدها إلا كاتب مبدع بارع متمكن من فنه.
ومن إبداع مؤلف هذه الرواية أنه عرّف " هذا الكتاب " في غلاف الرواية بهذه الكلمات البسيطة التي تجعل القارئ أن يطلع عليها ليرى ما فيها من أحداث مثيرة. يقول الكاتب :
" جئناك ……
يا اللؤلؤة السمراء
ياحاوية الأعراق والأجناس
والثقافات.
توقنا التأفرق فيك
والتوحد بك بكل ما فيك
يا جزيرة الاخضرار
والشموس والأقمار
جئناك ……
وفي ليلة أطل " جوهر" فصُدم حين رأى ابنته " ممتاز" في أحضان " الغرابي" اشتعل غيظاً ...نتف شعر لحيته الكثة وهم بالنزول ليلقن الاثنين درساً لن ينسيانه، لكنه خشى من ان تلوك الألسن اسمه. "
وهذا كثيراً ما يحدث في مثل هذه الحالات خشية أن تلوكه الألسن كما عبرعنه المؤلف. كذلك نرى المؤلف بدأ روايته بدون مقدمات كما نرى في بعض الروايات العالمية وخاصة روايات الكاتب العالمي فرانزكافكا بوصف دقيق جداً لجوهر الرواية وهي حياة الصيادبن في كيفية اصطياد الأسماك وكيف كان "السحيم " بطل الرواية يعاني هذه الحياة الصعبة في البحر وقلبه معلق بالحسناء، زوجته. وهذه إشارة خفية رائعة من المؤلف قلما نجدها في كثير من الروايات. إن هذه المعاناة لم يعاني منها " السحيم" وحده ، بل الصيادون الذين فارقوا أهليهم وذويهم ومحبيهم معرضين حياتهم للخطر تحت رحمة هذا البحر. يقول الكاتب :
"قوض عوائق اختياراته وخطا … كلما وطئ يم تعمق حلمه. كلما حام حول يؤرة أسماك أرخى عدته، فناوشتها صغائر الأسماك.. على صفحة يمًَّ أعمق. تشكلت لوحة لرماح بحرية تزرق نحو أسماك القرش وتنغرز بعض منها في رؤوسها فيتبادل بعض من أقوياء البحارة سحبها بعسوة حتى الموت، بينما يتولّى عدد آخر شق بطونها بآله حادة تشكل بداخلها أخاديد متوازية فيغمرونها بالملح ويطبقون عليها ….. يفكر السحيم عميقاً ويناجي طيف حسناء … يراقب ما يجري حوله وينظر إلى المدى الأبعد.
ما قاله التجلوب
عند قراءتنا لهذا الفصل من الرواية نرى أنفسنا أننا أمام عالم سحري غريب بعيد عن واقعنا المعيش ، " عالم الما ورا " كما يصفه المؤلف . عالم " السعد " بنت من بنات الأنس وعالم " شيرون " جني من قبائل الجن الذي تملكه " السعد " كما يبدو لنا. بدأت "السعد" في الشرح - أي نوع من رقص الزار على ما نعتقد - بعد أن تلبّسها "شيرون" وأخذت تردد أمام النساء:
شرح …. شرح …. شرح.
وأخذت تنادي عليه : شيرون … شيرون …. حتى انشق سقف المنزل وانتشرت في المكان رائحة شمت فيها عبق أزمنة وأمكنة موغلة، فتعملق أمامها شيرون. حدقت فيه فأنكرته.
أأنت …..
سألها شيرون
أي مهمة ستكلفينني بها ؟
- الليلة آخر ليالي التجلوب وكما عهدتني أرغب بموافاتي بأنباء سفن البلدة المبحرة.
- سأشق البحر وآتيك بالنباء اليقين.
- في أي صورة ستظهر عليّ ؟
- في صورة رجل أفريقي يجمع بين أشكال والوان كل الأعراق.
إلا أن شيرون لم يستطع أن يلبي طلبها في الحال، بل طار بها من جبال إلى جبال ومن سهول ووديان وحدائق غناء، ووديان وصحارى قاحلة ومن ملك جان إلى ملك جان آخر وبعد عناء طويل أنشق البحرفتعملق شيرون وبعث للسعد إيماءات وإشارات متتالية ترجمتها السعد كلاماً. (سفن تقترب من جزيرة " لامو" سفن راسية عند جزيرة عبد الكوري، سفن تبخر باتجاه " شيلة" وأخرى تجاوزت كعال فرعون "الفرج والمستهل" دخلنا جزيرة قلنسيا " سبار" الجزوة بخير" والجزوة هي طاقم السفينة."

توظيف الرمز والخرافة في رواية " إنه البحر"
نرى المؤلف وظـّف الرمز والخرافة في بعض فصول الرواية ، حيث نرى أن توظيف الرمز والخرافة في الرواية كما هو الحال في الشعر الحديث يحتاج إلى رؤية فنية عميقة كما نراها عند كبار الشعراء الرمزيين، وذلك يحتاج إلى كثير من الجهد والحنكة الفنية، وهي من أساسيات الوصول إلى الجودة و الإبداع، ، كما نراها عند توفيق الحكيم في روايته يا طالع الشجرة. وقد لامس الكاتب شيئاً من هذا الإبداع.
لكن نرى أن توظيف الرمز و الخرافة أوالأسطورة عند بعض الروائيين والشعراء اصبحت ظاهرة جديدة في الأدب العالمي الحديث بمختلف فنونه شعراً كان أم نثراً لتصبح هي المسار السائد للنصوص الأدبية، حيث يطرح ذلك الاتجاه العديد من ا لعلامات المتعلقة بالعملية الإبداعية نفسها و أهمها مدى صحة أن يكون ذلك نوعا ً من الهروب من الواقع أو عدم القدرة على تناوله، بالإضافة الى مدى إمكانية توظيف تلك الخرافات أوالأساطير في العمل الأدبي بحيث تثريه وتزيد من زخمه ولا تجعله مجرد تسلية وترفيه، يهرب بها الكاتب من واقعه ويجر معه القارئ الى إنفصاله عن مجتمعه إلى عالم مجهول لا معقول. فهل هذا هو ما يراه مؤلف هذه الرواية، أم أن له رأياً آخر يختلف عن هذه الآراء. إلا أننا نرى أن هذا التوظيف أعطى الرواية زخماً و بعداً عالمياً كما نرى في "مسرحية الكراسي" للكاتب المسرحي الفرنسي أوجين يونسكو، ومسرحية "بانتظار جودو" للكاتب الإيرلندي صموئل بيكت.

رواية "إنه البحر" تمتلك إيقاعات رائعة متسارعة تجعل القارئ يتابعها، وأبعاداً فنية أتقنها المؤلف في وصف البحر والصيادين، وحبكه روائية أبدع فيها مؤلف الرواية وشخصيات تضج بالحركة، ولغة سهلة قريبة الى الأسلوب الصحفي. إلا أن تلك ليست هي المميزات الوحيدة للرواية، فأننا عندما تغورمن خلال النص والحوار في أعماق شخصياتها، الذين يمثلون الواقع دون رتوش أو تكلف في الأسلوب، نشعر وكأنهم عينات حقيقية تعكس بأمانة وبصدق ما يعتمل في صدورأبطالها. أما هيكلها فهو قريب من شكل الإخراج السينمائي، فالأحداث في الرواية تتوالى بسرعة وبإيقاع قوي. كما أنها اعتمدت على تصويرالأحداث كما هي في الواقع كما نراه من خلال الكلمات والوصف، مما يجعل القارئ يتخيل ويجسد الشخصيات في مخيلته، والأماكن وكأنها شريط متحرك أمامه، لتصبح مطالعتها ممتعة وشيقة. ومن جهة اخري نرى الرواية تمارس نقدا واعيا وإيجابيا لذلك المجتمع البدائي البسيط ، كل ذلك من خلال تصوير الواقع كما هو.

لقد أبدع الأستاذ صالح باعامر في هذه الرواية إبداعا يشكر عليه ، وبانتظار أن يتحفنا بإبداعات أخرى على مستوى الروايات العالمية كما في رواية إنه البحر.