كيف نحل مشكلة تعلم النحو العربي؟
د. محمود أحمد الزين
* كبير باحثين في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي
علم النحو العربي يشكل عند الكثيرين عقدة تحول بينهم وبين تعلمه، بل تحول بينهم وبين تعلم اللغة العربية إجمالا، فكم يسمع الإنسان من هؤلاء شكواهم الملحة من وضع الحركات في أواخر الكلمات كأنما يتمنون أنها لم توجد أصلا أو أن يمكنهم الاستغناء عنها وترك الكلام من دونها.
وهذه أمنية تجسد ضخامة المشكلة، وتجسد ضرورة البحث عن حل يقضي عليها تماما ويريح القارئ والمتعلم منها، ويجعل اللغة العربية قريبة المتناول من كل عربي، وإذا عرف المشكلة إنسان عاقل عارف بالعربية فسيقول إن الحل ليس في استئصال هذه الحركات الإعرابية، كما أن حل معالجة الأمراض ليس في استئصال الأعضاء المريضة إلا عند الضرورة القصوى التي يمكن فيها ذلك، إنما حل مشكلة الحركات الإعرابية هو في معرفة أثرها في الكلام، وفي بيان سهولة تعلمها، كما أن حل مشكلات الأمراض هو في معرفة أهمية تلك الأعضاء المريضة وآثارها ومداواتها، وفي معرفة خطورة استئصالها عند الإمكان.
نتيجتان مرتان
نعم يمكن الاستغناء عن الحركات الإعرابية كما هو الشأن في أكثر اللغات الأخرى وفي اللهجات العربية غير الفصيحة، حيث إن موقع الكلمة في الجملة يدل على المعنى الذي أريد من تركيبها مع غيرها، فالفاعل في اللغة الانجليزية مثلا مقدم على الفعل دائما، وبذلك وحده يعرفه السامع والقارئ فيستغني عن الحركات التي تميز الفاعل في اللغة العربية لأن موقع الفاعل في العربية غير ثابت والمقصود هنا الفاعل من ناحية المعنى فنقول (قام الطالب) ونقول: (الطالب قام)، ويصير الأمر أكثر إشكالا حين يوجد المفعول به في الجملة فإنه يمكن أن توجد حالة ثالثة فنقول: (ضرب الطالبَ المعلم) وحينئذ تصبح ضمة الفاعل ضرورية، وفتحة المفعول كذلك ليتميز الضارب من المضروب. وكذا لو قلنا: (الطالبَ ضرب المعلم). ولو أوجبنا أن يكون الفاعل مقدما على المفعول دائما ليكون معروفا أنه فاعل، والمفعول بعده دائما كقولنا: (المعلم ضرب الطالب) لاستغنينا كما يتمنى هؤلاء الراغبون في تسهيل اللغة عن الحركات الإعرابية كالضمة والفتحة هنا.
نعم هذا ممكن لكن ما نتيجته؟
هذا له نتيجتان، أولاهما مُرّة والثانية أمرّ، فمن الناحية الشكلية لو افترضنا أن المعنى في هذه الحالات كلها واحد نكون قد قتلنا مرونة تركيب الجملة العربية وقضينا عليها بالجمود إذا اقتصرنا من حالات الفاعل الثلاث على واحدة فقلنا: المعلم ضرب الطالب.
ونكون قد فرضنا على المتكلم حالة واحدة لا يتجاوزها، والمرونة أمر يحتاج إليه الشاعر كثيرا للحفاظ على أوزانه.
أما من الناحية المعنوية فالضرر أكبر وأشد مرارة لأن المعنى بين الحالات الثلاث ليس واحدا إلا من جهة الإجمال، أما من جهة التدقيق والتفصيل فهناك فرق له وزنه الكبير في اللغات الراقية هو الدلالة على الجزء الأهم من هذه الجملة، فكلما كان الجزء أهم كان تقديمه أولى كما قال سيبويه رحمه الله تعالى: “كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم، وهم به أعنى” يعني أكثر اعتناء.
فإذا قلنا: (الطالبَ ضرب المعلم) كان المفعول به أهم أجزاء الجملة كأن وقوع الضرب على الطالب كان غير متوقع، فلما وقع كان جديرا باهتمام من السامع أكثر من الضرب نفسه وأكثر من فاعله، وحين نقول: (ضرب الطالبَ المعلم) تكون أهمية المفعول به في الجملة بعد الفعل وقبل الفاعل أي يهمنا أن نعرف المضروب أكثر مما تهمنا معرفة مَن ضربه، وحين نقول: (ضرب المعلمُ الطالبَ) يكون أهم ما في الجملة أن نعرف وقوع الضرب ثم من الذي أوقعه ثم من الذي وقع عليه الضرب، وهذا هو الوضع الأصلي للجملة الفعلية العربية، وكذلك الأمر في الجملة الاسمية فحين نقول: (قائم زيد) تكون معرفة الخبر هي الأهم، وحين نقول: (زيد قائم) يكون المبتدأ هو الأهم، وهذا هو الوضع الأصلي للجملة الاسمية.
حفاظاً على التراث
وهذه الأهمية لولا الحركات التي تميز الفاعل عن المفعول لما أمكن إبرازها، وحذف الحركات يضيع هذه الخصائص المعنوية فنحتاج إلى كلام زائد لأجل بيانها، بل يلغي وجودها ويصيب لغتنا العربية إصابة قاتلة في جانب من أعز جوانبها، وبه نكون قد جمدنا لغتنا وحرمناها هذا الانضباط الدقيق في حين أن الناس تتسابق إلى أن تجعل من لغاتها أكثر تصريفا وأكثر رحابة ومرونة وأكثر انضباطا.
ونكون بذلك أيضا قد قتلنا جانبا كبيرا جدا من تراثنا العربي وقطعنا صلتنا به فلا يفهمه أحد إلا من عاد إلى قواعد اللغة العربية وفهمها جميعا متكاملة دون تقطيع، ويكون هذا القتل لا لشيء من الغايات المهمة سوى مراعاة الرغائب النفسية في التهاون والكسل عند من يريد تيسير اللغة بحسب ظنه ليتعلمها دون جهد وهو يلهو ويلعب أو ليتعلمها وهو يغط في نوم عميق.
ولا بد أن نتذكر أن العلماء في كل جانب من جوانب المعارف الإنسانية لم يهملوا العلوم الصعبة ولا ألغوها بل بذلوا كل نفيس لتعلمها وتقريبها وتيسيرها لمن يريدها.
وإذا فهمنا هذا وجب علينا أن نبحث عن حل في كشف سهولة المقدار الأساس من النحو العربي، وهذا شيء مهم، ومن حق كل عربي أن يسال عنه بكل صراحة وإلحاح، ويسأل عنه أهل الاختصاص لتنفك هذه العقدة عند الكثيرين منا فيرجعوا إلى لغتهم التي هي هويتهم بالحب والحرص والإجلال .