مدحت عكاش عميد الأدب السوري والحامل الفكري النادر في المشرق


نادرا ما تبحث عن سيرة قاص أو شاعر أو روائي سوري أو عربي من الجيل الذي بدأ مسيرته الأدبية في النصف الثاني من القرن الماضي إلا وتطالعك عبارة “كانت بداية منشوراته في مجلة الثقافة لصاحبها مدحت عكاش”.
مدحت عكاش ابن مدينة حماة، المحامي ومدرّس اللغة العربية في مدارس دمشق، متسلحا بمخزون ثقافي غنيّ ومتنوع وبحسّ عال بالمسؤولية، قرر امتهان الصحافة، مهنة المتاعب، صاحبة الجلالة والسلطة الرابعة، بعد أن قدم من حماة في زمن ثورتها ضد الفرنسيين، فكان أحد المناضلين ضدهم شعراً وفعلاً، يقول عكاش “ما أزيز الرصاص إلاَّ أغانٍ/ يتبارى بشدوها منشدوها/علمتنا أم الطماح حماةٌ/ كيف يلقى منونَهم ظالموها”.

فتمّ سجنه أكثر من مرة، وعذّب بالسياط في كل مرة، ولكنه صمد ضد المحتلين، وتابع قيادة التظاهرات، وكتابة القصائد الحماسية والمقاومة، وبعد أن انتصر الشعب السوري وتحقق الجلاء تركت الدراسة لإعالة أسرته، وبعد سنوات تقدم من جديد إلى فحص الشهادة الثانوية “الفرع الأدبي” مباشرة مجتازاً سنوات من مقاطعة المدرسة ونال الشهادة الثانوية بدرجة تفوق.

ثم رحل إلى دمشق ودرس في كلية الحقوق وفي عام 1950 تخرج فيها، إلا أن العمل القانوني لم يستهوه فرفض أن يكون محامياً أو قاضياً، وتابع تدريس مادة اللغة العربية كما كان يفعل وهو طالب في كلية الحقوق، وقد درس على يديه صفوة الشباب من سائر المحافظات السورية، وصاروا فيما بعد بين ضابط كبير أو وزير أو مسؤول في الدولة له مكانته المرموقة، كما يقول هو عنهم.

الصحفي العنيد

مع الوقت وفي مناخ دمشق تلك الأيام، أخذ عكاش ينظم الشعر وبعض القصائد الغنائية التي غنّاها له عدد من المطربين ولحَّنها بعض الملحنين أمثال حليم الرومي ونجيب السراج وغيرهما.

كان العام 1958 منعطفا هاما في حياته كما في الحياة الثقافية السورية بشكل عام، حيث أسس مجلته “الثقافة” بعد حصوله على ترخيص مزدوج لتأسيسها من قبل شكري القوتلي وجمال عبدالناصر رئيس دولة الوحدة بين مصر وسوريا آنذاك.

عبر مشروع ثقافي مستقل كان استثناءً في زمانه ومكانه واستمراريته أسهم عكاش في ترسيخ تقاليد الصحافة الثقافية السورية، وانطلاقا من إيمانه بأن الثقافة وحدها هي التي تميّز وتبني وتصنع كرامة، وبأن التنمية الثقافية هي الأصل، استمرّت مجلته أكثر من خمسين عاما في الظروف الصعبة التي توقفت فيها عدة مجلات كمجلة “الحديث” و”عصا الجنة” و”الصباح” و”النقاد” وغيرها.

مجلة 'الثقافة' يعرفها السوريون مثلما يعرفون أي معلم من معالم دمشق، حين كانت تصدر من مكتب في بيت دمشقي قديم جمع الأدباء والمثقفين والفنانين وغيرهم من المهتمين بالشأن الثقافي على مدى اكثر من ثماني سنوات في مرحلتها الأولى. فكان يعيش في مكاتبها أصدقاء عكاش المقربون مثل بدوي الجبل والرصافي وعمر أبو ريشة
استمرت “الثقافة” بهمّته وهمّة أصدقائه وعشاق الثقافة رغم الظروف الاستثنائية في كافة مناحي الحياة التي مرّت بها سوريا في فترة الانفصال، وبإنجازه لعشرات الدراسات والكتب والتحقيقات الأدبية والشعرية في الترجمة والأدب المقارن والتراث تعجز مؤسسات عن إنجازها تربّع على عرش الصحافة الثقافية متسلحا بجهد ومثابرة وعمل دؤوب كان محط إعجاب كل من عرفه عن قرب أو بعد.

من معالم دمشق

على مدى عشرات السنين، في شارع الأرجنتين منطقة زقاق الصخر بدمشق، كان مكتب وإدارة مطبعة المجلة معلما من معالم المدينة، يعطيك صورة مصغرة عن البيت الدمشقي القديم الذي كان حول بركته الجميلة يجتمع كبار الكتّاب الذين يرفدون المجلة والجريدة بمقالاتهم، ولكن في العام 2000 قامت السلطة بمصادرة المنطقة برمتها بحجة تجديدها، فهدمت الأبنية القديمة والمساجد والأضرحة، ودخلت الجرافات تشلع القلوب والذكريات كما تشلع الشجر والحجر، مما اضطر عكاش لنقل مكتب مجلته “الثقافة” إلى بناء إسمنتي ضيق في برج دمشق وسط العاصمة.

تم إصدار أعداد منها خاصة بكبار الشعراء والأدباء العرب، أذكر منهم الشاعر القروي وإلياس فرحات وعمر أبو ريشة وبدرالدين الحامد، وعن أدباء الأردن والعراق والسعودية والجزائر وليبيا والمهجر، وصدرت كتب كثيرة مثل كتابه عن ابن الرومي ورسائل الجاحظ، و”من روائع الأدب الأندلسي”، “القصائد الأولى لبيتر تومبست” ترجمة عن الإنكليزية، وغيرها.
كثير من المثقفين والكتاب يعترفون بفضل مجلة الثقافة عليهم وبأخلاق مؤسسها مدحت عكاش ومهنيّته التي فتحت لإبداعاتهم أبوابا كانت مغلقة، العلامة الراحل شاكر الفحام قال عنه عندما نال جائزة جبران “إن الصديق الأستاذ مدحت عكاش ليمثل في مسلكه ومنطلقاته في الحياة فضائل هذا الجيل وخصاله الحميدة، لقد شارك في مسيرة وطنه النضالية المشاركة الجادّة مندفعاً لا يبخل بتضحية، ثم واجه بشجاعة وتصميم الصعاب والعقبات التي اعترضت مطامحه، فتغلّب عليها بصبره وجلده على العمل والدرس″.
* ندرة البدائل

الشاعر الفلسطيني طاهر رياض فيقول لـ”العرب”: كان ذلك في صيف عام 1974 وضعت قصيدتي الأخيرة في مغلف كتبت عليه العنوان (مجلة الثقافة-الأستاذ الأكرم مدحت عكاش) وأرسلتها بالبريد، لم تكن المفاجأة أن القصيدة نشرت في العدد التالي من ملحق المجلة الأسبوعي، بل بالتقديم لها الذي جاء فيه “ما نزال نكتشف أن بين ظهرانينا شعراء مبدعين مجهولين، وهذا الشاعر أحدهم”. أذكر الفرحة التي غمرتني آنذاك، حتى أني اشتريت بمصروفي الأسبوعي ما استطعت من ذلك العدد، وكانت تلك أول قصيدة تنشر لي في حياتي، وبعد ذلك بأيام أخبرني أحد الأصدقاء أن مدحت عكاش يرغب في التعرف إليّ، برهبة حملت خجلي وسنوات عمري السبع عشرة ومضيت إلى مكتب المجلة. كان المكتب عبارة عن بيت دمشقي عريق في زقاق الصخر. كان يجلس في باحة الدار السماوية، حول فسقية أنيقة، بصحبة بعض الكتاب، أذكر منهم عبدالسلام العجيلي وأحمد الجندي وإسماعيل العامود. وحين عرّفت بنفسي كانت دهشتهم كبيرة، ونهض عكاش، بعد أن تأملني دقيقة، ليصافحني قائلاً “كنا نتوقع رجلاً في الأربعين من عمره على الأقل”.

بقي مدحت عكاش في مكتبه ذاك حتى أيامه الأخيرة يعمل على قراءة وتحرير الأعداد الأسبوعية والشهرية من المجلة، تاركا فيه أرشيفا جامعا لمعظم أدباء سوريا والوطن العربي عبر خمسين مجلدا ضخما، أشرف مدحت عكاش على إعدادها وتصنيف أوراقها في مكتبه، مضيفاً بذلك وثيقة هامة من وثائق الأدب العربي المعاصر، قبل أن يغيّبه الموت عن عمر يناهز الـ88 عاما في العام 2011، ولكن المشهد الأدبي في المشرق العربي اليوم يشكو ندرة الذين يسيرون على نهج عكاش في صناعة الثقافة ودعم المواهب والمضي في عجلة التنمية الفكرية، وإن كانت لا تخلو منهم الساحة في كل جيل.


"الثقافة" والمثقفون

خرجت مجلة “الثقافة” الشهرية التي تعنى بشؤون الأدب والثقافة والدراسات والترجمات، من مكتب في بيت دمشقي قديم جمع الأدباء والمثقفين والفنّانين وغيرهم من المهتمّين بالشأن الثقافي على مدى أكثر من ثماني سنوات في مرحلتها الأولى. فكان يعيش في مكاتبها أصدقاء عكاش المثقفون والأدباء مثل بدوي الجبل والرصافي وعمر أبو ريشة.

ولأهمية تلك الظاهرة المستقلة التي أصبح القراء يتلقفونها بكل لهفة، كما ينتظرها الكتاب والفنانون لرؤية نتاجاتهم منشورة ومطبوعة، تمّ في منتصف العقد السادس تحويل المجلة الشهرية إلى مجلة أسبوعية تصدر كل يوم سبت، وهكذا استطاعت “الثقافة” جمع أقلام الكتاب الذين أغنوها بعشرات القصائد والقصص القصيرة والدراسات الهامة، وبعد ما يقارب العشر سنوات ستعود المجلة الشهرية الأمّ للصدور إلى جانب الأسبوعية متضمنة بين دفتيها الملاحق الثقافية حول أبرز التجارب الأدبية السورية.

لم يكتف عكاش بالمجلة بل بادر إلى تأسيس دار نشر “دار مجلة الثقافة” لتكون رديفا لهدف المجلة الكبير في الكشف عن المواهب الأدبية الشابة فكانت أغلب منشوراتها تذيّل بأسماء جديدة لكتاب سوريين وعرب، أصبح جلّها فيما بعد أعلاما في حقل الثقافة المحلية والإقليمية وأحيانا العالمية.

وداد جرجس سلوم صحيفة العرب