حلّ التعارض الظاهري بين نصّين..
حلّ التعارض الظاهري بين نصّين..
عجبتُ لصنيع أستاذنا الدكتور عبدالكريم زيدان رحمه الله في كتابه (الوجيز في أصول الفقه) عند حلّ التعارض الظاهري بين نصّين، فقدّم النسخ ثمّ الترجيح ثم الجمع، يقول: (وإذا تعذرت معرفة الناسخ، وانعدمت طرق الترجيح التي ذكرناها، وكان النصّان في قوة واحدة، كما ذكرنا، فإن المجتهد يلجأ إلى الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين)!
ولا بدّ من بيان معنى التعارض المقصود، قبل بيان سبب تعجبي، فالتعارض هو ما كان في ذهن المجتهد، وليس في الشرع، إذ الشرع منزهٌ عن التعارض، يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: (التعارض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر، وإما من جهة نظر المجتهد، أما من جهة ما في نفس الأمر ؛ فغير ممكن بإطلاق، وقد مر آنفاً في كتاب الاجتهاد من ذلك ـ في مسألة أن الشريعة على قول واحد ـ ما فيه كفاية، وأما من جهة نظر المجتهد ؛ فممكن بلا خلاف).
ويقول: (وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر فالأمر على ما قالوه جائز ولكن لا يقضى ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة وإن أرادوا تجويز ذلك في نفس الأمر فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة).
أما مكْمن العجب فهو تأخيره (الجمع) بين النصّين، وتقديم النسخ والترجيح عليه!
والصحيح أن النصوص إذا تعارضت في ذهن المجتهد حاول الجمع بينها أولاً، إذ إن إعمال النص أولى من إهماله، فالشارع أنزل الأحكام للعمل بها، فإذا كان هذا العمل مقدوراً عليه بوجهٍ من الوجوه فلم القول بالنسخ والترجيح؟!
ثمّ إذا لم يستطع المجتهد الجمع أخذ بالترجيح قبل النسخ، والسبب عندي أن الترجيح وإن كان فيه التوقف عن العمل بأحد النصّين، فإن النصّ المرجوح يبقى دون إلغائه، فقد يكون المرجوح راجحاً عند مجتهدٍ آخرٍ، وقد يُعمل به في ظرفٍ من الظروف، وحالٍ من الأحوالٍ..
بينما القول بالنسخ (وهو الحلّ الأخير) ففيه إزالة حكمٍ بالكامل، بحيث يحلّ الحكم الأخير محلّ الأول ويرفعه بالكلية، وهذا أمرٌ يحتاج إلى تأنٍ وتدقيقٍ وتريّث، لأن القول بالنسخ يحتاج إلى دليلٍ، ولا مدخل للإجتهاد فيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): (النسخ لا يصار إليه إلا بيقين وأما بالظن فلا يثبت النسخ).
ويقول ابن حزم الأندلسي في (الإحكام في أصول الأحكام): (لا يحل لمسلم أن يقول في آية ولا حديث بالنسخ إلا عن نص صحيح).
ويقول الشاطبي في (الموافقات): (إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق ؛ لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق. ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبرَ المتواتر ؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعى نسخه فلا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام، مكية كانت أو مدنية).
ويقول ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): (الطعن في الروايات الثابتة بالظن الذي لا مستند له لا يقبل، والنسخ لا يصار إليه إلا بدليل).
ويقول السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن): (قال ابن الحصار ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح ولا معارضة بينة لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر في عهده والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد).
إذن.. الترتيب الصحيح لحلّ التعارض الظاهري هو: الجمع ـ الترجيح ـ النسخ.
وليس العكس: النسخ ـ الترجيح ـ الجمع.
والله أعلم..
رد مع اقتباس