مفهوم المدرسة الرمزية في الشعر الحديث:

إن مفهوم المدرسة الرمزية في الشعر الحديث هي تلك التجربة الفنية التي لا حدود فيها بين مرحلة الشكل والمضمون إنهما يوحدان في رؤيا نفسية تزول منها المميزات بين عالم الطبيعة وعالم النفس في هذا المجال .
إن الشاعر الحديث ينعم حينما يتقصى الأشياء ليستبطن أسرارها لكنه يظل يشعر بالرغم من قرع الذهن والتقصي أن ما يدركه يختلف تماما عن تلك الصور الغامضة التي تعتري نفسه أمام حقائق الوجود ومظاهره. وعلى هذا نرى أن معظم الشعراء الكبار يعبرون بالرموز وذلك لأن الرمز هو وسيلة حية صادقة للتوحيد بين الداخل والخارج واسقاط الحدود بين عالمي المادة والروح .
فالرمز والغموض في الشعر لا يضعهما الشاعر اعتباطًا في قصيدته ، وإنما هما بمثابة عملية لاصطياد الرؤية التي تكمن في أعماق نفسه.
إن الشاعر الرمزي يحاول أن يعبر عن أسرار الحياة النفسية السحيقة ، عن أعماقها اللاشعورية ، وأن يقبض على اللحظة الحضارية النفسية فيما هي تبرق وتخطف قبل أن يدركها الإدراك ويعيها الوعي ويجزئها إلى معان وأفكار، ذلك لأن الفكر الشعري كما يقول نوفالس : " ليس فكرًا نفعيا أو فكرًا منطقيًا أو فكرًا نظريًا ، بل هو أولاً وبالذات فكر مغلف في صور الخيال الرمزي ".
والتعبيرات الشعرية كثيرًا ما تجيء مليئة بالشحنات الميتافيزيقية كما أن المفاهيم الميتافيزيقية كثيرًا ما تجيء مغلفة بالرموز الشعرية ، وإن الشعر لابد من أن يظل ميتافيزيقيًا ، ومن الجائز أيضًا أن يظل جوهر الميتافيزيقيا شعريًا. وكما يقول اسبنوزا :" إن الشعر هو ميتافيزيقيا الأدباء كما أن الميتافيزيقا شعر الفلاسفة "
إننا إذا ما درسنا بدقة وعمق ما قاله نوفالس وكذلك ما قاله اسبنوزا عن ما هية الشعر الرمزي على سبيل المثال – ناهيك عما قاله الآخرون ، في هذا المجال – نجد أن المنطق والتجربة يؤيدان ذلك أولاً لأننا نفهم من كل ما قيل الآن عن الرمزية أنها ليست مجرد غناء أو صناعة وخطابة منبرية ، فالشعر الغنائي والخطابي انفعال ، في حين أن الشعر الرمزي الحديث خلق جديد للأشياء ، إنه في حد ذاته كشف للحظة الحضارية التي يعيشها الشاعر، أي كشف من الداخل . ولأننا نفهم أن الغموض والرمز في الشعر لا يعبر عنهما الشاعر اعتباطاً إنما هما ناتجان لا عن سبب خارجي بل بسبب داخلي ، سبب كما يقول الأستاذ إيليا الحاوي " بطبيعة الرؤيا التي هي بمثابة مغامرة " إن الشعر إذن كما قلت سابقًا عمق ميتافيزيقي من خلال ومضة تبرق في سماء الشاعر، أي أنه كشف للحظة الحضارية التي يعيشها الشاعر .
هذه هي الرمزية كما يراها الشعراء الرمزيون ، أما رمزية الشعراء التقليديين فهي من نوع آخر إنها تلك الصناعة اللفظية البلاغية التي يلجأ إليها الشاعر التقليدي في حالة التدفق الذهني. وإذا يريد الشاعر أن ينقل أفكاره وانفعالاته ذهنيًا وبكل وضوح فالأحرى به أن ينقلها نثرًا ، لأن الأفكار الذهنية ليس من اختصاص الشاعر وإنما هي من اختصاص الناثر الملتزم كما قد أوضحنا ذلك في دراسة سابقة.
إلا أننا نحب أن نؤكد أن كثيراً من الشعر التقليدي يمتاز بالإبداع الشعري لغة ووزناً وموسيقى , ورؤيا شعرية في منتهى الروعة، إلا أنه علينا أن نقرأه كمادة تاريخية حيث أنه لا يعبرعن المرحلة الحضارية التي نعيشها. لقد أدى دوره ذلك الشعر القديم فكان شعراً عظيماً رائعاً بالنسبة لزمانه ومجتمعه، فهو تاريخنا يجب علينا أن نعتزبه لا أن نقلده ونجتره و إلا فماذ يتبقى للشاعر من إبداع في تقليده للشعر القديم؟