تحليلٌ في قراءة متواترة

بسم الله الرحمن الرحيم
تحليلٌ في قراءة متواترة
د. ضياء الدين الجماس

قال الله تعالى

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا 1سورة النساء

تُذكِّر هذه الآية الكريمة الإنسانَ بعظمة الربِّ الخالق وهو الله تعالى في إبداعه طريقة خلق البشر في الأصل من نفس واحدة كاملة الخلق، ثم شاءت حكمته أنْ يجعل منها الذكر والأنثى ليحتاج كل منهما للآخر في التكاثر من جهة والارتباط بينهم بخصائص التراحم والرحمة المشتقة من اسمه الرحمن سبحانه وتعالى، وسمى جهاز التوالد بالرحم ليُذَكِّر الناسَ بأصلهم الواحد ويربطهم بربهم الرحمن من جهة أخرى. وانطلاقاً من هذا الهدف العظيم تطلب الآية الكريمة اتقاء حرمات الله تعالى وكل ما يقطع أواصر القرابة بصلتهم بالمودة والرحمة.
في هذه الآية الكريمة وردت قراءتين متواترتين لكلمة (والأرحام) . أحداهما بالنصب وهي واضحة الدلالة لكل من يقرؤها (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) وتكون الأرحامَ معطوفة على لفظ الجلالة (اللهَ) المنصوب، ويكون المعنى ببساطة ( اتقوا اللهَ والأرحامَ).
وأما القراءة الثانية فكانت بجرِّ (والأرحامِ) لتثير تساؤل العقول عن سبب الجر، وهي قراءة بالغة البلاغة فيها معان كثيرة تكلم بها النحاة والمفسرون كما يلي :
1- أنها معطوفة على هاء الضمير المجرور (به) أي : تساءلون باللهِ والأرحامِ. وهو ما كان من طبيعة العرب في التساؤل بالرحم ( القربى).
2- أنها مجرورة بحرف جر محذوف يدل عليه ما قبله أي : تساءلون به وبالأرحامِ ( وليس فيها معنى جدبداً)
3- أن الجرَّ بواو القسم على تقدير قسم الله بالرحمِ تعظيماً لقدرها وأهميتها مثل قسمه ( والتين والزيتون... والذاريات..) والتقدير : ورب الأرحامِ.

وقد تبين لي تحليل آخر لم أقرأْه في التفاسير ولكنه يستند إلى بلاغة القرآن في أسلوب الحذف الذي يدل عليه العقل السليم. فمن قول الله تعالى : (واتقوا اللهَ) نستدل عقلاً أن هناك مضاف محذوف فالله تعالى لا يتقى بذاته ولكن يتقى عذابه وحرُماته والتقدير ( واتقوا حُرُمات اللهِ) فمحل لفظ الجلالة (اللهِ) الجر على الإضافة ، وأمثال ذلك في القرآن الكريم كثيرة. ويكون عطف (والأرحامِ) على محل لفظ الجلالة الأول ويكون المعنى: واتقوا حُرُمات اللهِ والأرحام) أي واتقوا حرمات الله وحرمات الأرحام أن تقطعوها.
اللهم إن كان فهمي صحيحاً فبتوفيق منك يارب الأرحام ، وإن كان غير ذلك فباجتهاد خاطئ منى أسألك فيه الرحمة والغفران. والحمد لله رب العالمين.
ملاحظة
قرأ غير الكوفيين كلمة (تسَّاءلون) بتشديد السين لإدغام تاء فيها على أن أصلها تتساءلون.وبالتشديد نستفيد معنى شدة الأهمية وكثرة التساؤل. والله أعلم

ما من اختلاف في القراءات المتواترة إلا تحتوي على فوائد عظيمة تدل قطعاً على أنه كلام الله تعالى فوق مستوى البشر في الصياغة والفصاحة والبلاغة.
والحمد لله الذي أنار قلوبنا بنور حروف الكتاب المبين المنير

من روائع القراءات التي شكك بها المبطلون
في سورة طه /قال الله تعالى
(فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى 62 قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى 63 طه)
قرأ حفص : قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ .... 63 طه
قرأ ابن كثير: قَالُوا إِنْ هَذَآنِّ لَسَاحِرَانِ .... 63 طه
قرأ أبو جعفر : قَالُوا إِنَّ هَذَينِ لَسَاحِرَانِ .... 63 طه
قرأ الباقون : قَالُوا إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ .... 63 طه
أربع قراءات متواترة في أربع كلمات متتالية من روائع البلاغة والبيان.
يصور النص مدى اختلاف سحرة فرعون وتنازعهم حول تأثير خبر ما جاء به موسى وهارون عليهما السلام من آيات على مستقبل سحرهم وكشف زيف كيدهم. فبحركات إعرابية بسيطة ظهر ت أربعة نماذج من هؤلاء السحرة:
فريق 1 : (قَالُوا : إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) أكّدَ هذا الفريق بدرجة مخففة سحر هذين الرجلين بتخفيف شدة (إنَّ) المؤكدة الفعالة بجعلها (إنْ) غير الفاعلة على النص. وإعراب النص سهل واضح :فتكون (إنْ) حرف ناسخ مخفف بلا عمل ، (هذان) مبتدأ (لساحران) خبر. واللام مزحلقة .
فريق 2 : شدّد التركيز على شخصية هذين الرجلين المشار إليهما من خلال مدّ ألف (هذآنِّ) وتشديد نونها. وهم أكثر قدرة على التعبير البلاغي من الفريق الأول.
فريق 3 : كان قولهم أكثر تعبيراً في التأكيد على أهمية الحدث باستعمال (إنَّ) المشددة الأشد توكيداً من المخففة وقد جعلوها فاعلة بنصب المبتدأ للتركيز على أهمية هذين الرجلين وأثرهما في هذا الحدث الخطيرالعجيب.أي أبرز قولهم أهمية الحدث ومن جاء به معاً.
فريق 4 : استعمل (إنَّ) المؤكدة للاهتمام بالحدث دون إعارة الاهتمام بالرجلين بإبطالهم عمل إنَّ على الرجلين بتقدير ضمير محذوف ( قالوا إنه -إنَّ الخبر - هذان لهما ساحران) أو إبطال عملها بلاغياً موافقة لأحد اللغات الفصيحة التي تلغي عملها على المثنى ( وكل ياء يسبقها حرف مفتوح). وربما أراد القرآن الكريم تصويرهم بأنهم الفريق الأقل فصاحة من غيرهم فالعبارة منقولة عن قول السحرة أو أنه أراد إظهار حقيقتهم بأنهم الأشد أهمالاً لأهمية الرجلين، فإهمال عمل إنَّ الناسخة جاء لتحقيق هدف بلاغي في تعبير هو الأدق فصاحة عن حال هذه المجموعة من السحرة.
ففي تغيير الحركات الإعرابية يظهر إعجاز البلاغة القرآنية في تصوير مدى تنازع السحرة فيما بينهم: .ومن المعاني البلاغية الأخرى التي أوردها النحويون:
(إنْ) للنفي بمعنى (ما) فيكون معنى النص : ما هذان إلا ساحران وفي ذلك استخفاف بالحدث وبالرجلين.
(إنَّ) بمعنى (نعم) أي : نعم هذان لهما ساحران . ومهما اختلفت التبريرات فهي تصور اختلاف السحرة فيما بينهم حول أهمية الحدث ومن أتى به وخطورته.

بلاغة قراءة متواترة لابن عامر
د. ضياء الدين الجماس

في قول الله تعالى
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 137
هذه قراءة جمهور القراء في النص (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ).
وهي واضحة الدلالة تشير إلى أن شركاء المشركين ( من شياطين الإنس والجن) زينوا لهم قتل البنات من أولادهم ليردوهم في جهنم ويشككوهم في دينهم. فكلمة شركاؤهم فاعل مرفوع لفعل زَيَّن المبني للمعلوم.
وقد قرأها ابن عامر الشامي بروايته المتواترة: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلاَدَهِمْ شُرَكَآئهُمْ).
وفي هذه القراءة فوائد بلاغية وحكمية لا تنطوي عليها القراءة الأولى وقد غابت عن كثير من المتدبرين :
1- جاء الفعل (زُيِّنَ) بصيغة المبني للمجهول ليبحث الفكر عن الفاعل الحقيقي وراء التزيين الشيطاني الذي بينته القراءة الأولى. والفاعل الحقيقي هو الله تعالى الذي أذِنَ للشياطين بالتزيين، ولولا إذنه ما فعلوه.
2- في عبارة : (قتلُ أولادَهم شركائهم) تقديم وتأخير بلاغي لإبراز أهمية الأولاد وتفضيلهم على الشركاء. وأصل العبارة : قتلُ شركائهم أولادَهم. أي أضاف القتل للشركاء.
3- بهذه الآية يفهم أن من يقوم بتزيين القتل لأي قاتل فهو شريك معه في القتل ، أي يعد عند الله قاتلاَ لأنه السبب بتزيين القتل والدافع لارتكابه ، وفي شرع الله ( والفتنة أشد من القتل).
هذه المعاني الجوهرية الرائعة لم تظهرها قراءة الجمهور ، وبذلك نرى روائع تكامل معاني القراءات المتواترة. (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا 82 النساء)

جاء في تفسير القرطبي عن القشيري حول قراءة ابن عامر الأخيرة:
وقال القشيري : وقال قوم هذا قبيح ، وهذا محال ، لأنه إذا ثبتت القراءة بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو الفصيح لا القبيح . وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان ( شركائهم ) بالياء وهذا يدل على قراءة ابن عامر . وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء ; لأن الشركاء هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه ; فالفعل مضاف إلى فاعله على ما يجب في الأصل ، لكنه فرق بين المضاف والمضاف إليه ; وقدم المفعول وتركه منصوبا على حاله ; إذ كان متأخرا في المعنى ، وأخر المضاف وتركه مخفوضا على حاله ; إذ كان متقدما بعد القتل . والتقدير : وكذلك زين لكثير من المشركين قتلُ شركائهم أولادَهم .

إذا ثبتت القراءة بالتواتر فهي الأفصح في كلام الكلام وهو حجة على غيره لايلزمه دعم بحجة شعرية أو نثرية