المستشار الأدبي: حسين علي الهنداوي

القيم الإيجابية والسلبية للعرب الجاهليين
لا ينفك الإنسان منذ أن سكن الأرض وهو يبحث عن استقراره المتعلق بوجود قيم خيرة سامية يحقق من خلالها وجوده الحق ، ولكن مسيرة الإنسان المتعثرة جعلته بفضل مصالحه يتخذ القيم السلبية مطية له ، وبذلك نشأ الصراع بين قيم الخير والشر وما يزال هذ االصراع قائما إلى يومنا هذا ، والعرب كغيرهم من الأقوام عايشوا صراع القيم وتناوبت حياتهم بين بحث عن قيم الخير وجنوح إلى قيم الشر، فتقاسمتهم قيم الخير وقيم الشر تبعا للحالة البيئية التي عاشوها وبالرغم مما ظهر في شعر الجاهليين من قيم سلبية فرضتها ظروف الحياة والبيئة،فإن صورة الإنسان العربي تبقى متجلية فيها مشرقة تنزع إلى المثل السامية وتتعلق بالحق والخير والحفاظ على العهود ، والتضحية في سبيل الآخرين؛ ذلك أن القيمة مفهوم اجنماعي لما يعد مرغوبا فيه من الناس، من الأهداف ومعايير الحكم، ولا شك في أن مجموعة القيم التي يؤمن بها فرد من الأفراد وجماعة من الجماعات تكوّن نظرة هذا الفرد أو تلك الجماعة في الحياة، والقيم قد تكون صريحة حين ينص عليها أو يشار إليها بوضوح، وقد تكون ضمنية يستدل عليها من سلوك الأفراد أو الجماعات؛ فالقيم السلبية هي كل مفهوم غير مرغوب فيه من الناس أو سلوك مرفوض من الشرائع السماوية أو من الناحية الاجتماعية؛ ويتجلى في الشعر الجاهلي الصراع بين القيم الايجابية والسلبية....بين صوت العاطفة المندفعة ونداء العقل المتزن في الحرب والسلم، والثأر والتسامح، والثورة على الظلم والاستسلام للأقوياء، ومقاومة النفوذ الأجنبي وغير ذلك .
وقد تمتّع هؤلاء العرب بمجموعة من القيم الإيجابية ، كالمروءة ، والوفاء ، والعزة ، والنبل ، والكرم والشجاعة ، والبطولة ، كما سيطرت عليهم قيم سلبية تتمثل في التعصب القبلي ، والاعتماد في الرزق على الإغارة ، وحيازة ميراث المرأة مالا ونفسا،والوأد والثأر والخلف في العهود وشرب الخمرة ولعب الميسر والقمار والذبح على النصب وعبادة الأوثان ، وجميعها تنطلق من البيئة الصحراوية التي تفرض ما يتناسب مع واقعها . فقد كان عنترة مثلاً يجمع بين القيم الإيجابية والقيم السلبية في حياته ومعاملته، فهو يحترم جاراته ولا يتلصص عليهنّ،ولا يختلس النظر إليهنّ ، وهذه قيمة إيجابية بينما تجده في الجهة الأخرى لايخجل من شرب الخمرة إذ يعتبرها من مقتضيات الرجولة والشهامة
سَمْحٌ مُخَالَقَتي إِذا لَمْ أُظْلَمِ أَثْنِي عَلَيَّبما عَلِمْتِ فَإِنَّني
مُرٌّمَذَاقَتُهُ كَطَعْمِ الْعَلْقَمِ وَإِذَاظُلِمْتُ فَإِنَّ ظُلْمِي بَاسِلٌ
رَكَدَ الَهواجِرُ بالَمشُوفِ الُمْعَلمِ ولَقَدْشَرِبْتُ مِنَ الُمدَامةِ بِعدمَا
قُرِنَتْ بأَزْهَرَ في الشَّمالِ مُفَدَّمِ بِزُجَاجَةٍصَفْرَاءَ ذَاتِ أَسِرَّةٍ
مَالي وعِرْضِي وافِرٌ لَمْ يُكْلَمِ فَإِذا شَرِبْتُ فإِنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ
وكما عَلِمْتِ شَمَائِلي وتَكَرُّمي وإِذا صَحوْتُ فَما أَقَصِّر عن نَدًى
وهذا طرفة بن العبد يعد الخمرة والتمتع بالمرأة من صفات الرجولة والفتوة مع أن ذلك من القيم السلبية التي تحاربها القيم الإسلامية والحضارات المتمدنة ، ويقرن مع هذه القيم السلبية قيمةإغاثة الصريخ وهي قيمة إيجابية تدل على مدى ما بلغ العرب من التعاون الإنساني .
وَجدِّكَ لم أَحفِلْ مَتى قامَ عُوّدي ولَولا ثَلاثٌ هُنَّ من عيشةِالْفَتى
كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ باَلماءِ تُزْبِدِ فَمِنْهُنّ سَبْقِي الْعاذِلاتِ بِشَربَةٍ
كَسِيدِ الْغَضا نَبّهْتَهُ الُمتَوَرِّدِ وَكَرِّي إِذَا نادَى اُلمضافُ مُحَنَّباً
بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِباءِالُمعَمَّدِ وَتقصيرُ يوم الدَّجنِ والدجنُ مُعجِبٌ
ولو رحنا نستعرض ما للجاهليين من قيم متنافرة لاحتجنا إلى بحث مستقل ، ولكننا ستحط بنا طائرة القيم الإيجابية في مطار زهير بن أبي سلمى الشعري الذي جعل من القيم الإيجابية ديدنه الحياتي ومنهج دعوته للخير والصلح والتآلف بين القبائل وذلك لعلاقته الجذرية بالحنيفية السمحاء التي كان عليها أبونا ابرهيم الخليل عليه السلام:
46 ثَمانِينَ حَولاً لا أَبا لَكِ يَسأمِ سَئِمْتُ تَكالِيفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ
47 وَلكِنَّني عن عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ وَأَعْلَمُ مَافِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ
48 تُمِتْهُ وَمِنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ رَأَيْتُ الَمنايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَن تُصِبْ
49 يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسِمِ وَمَنْ لايُصانِعْ في أْمُورٍ كَثِيرَةٍ
50 يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ وَمَنْ يَجْعلِ المعْروفَ مِن دُونِ عِرْضِهِ
51 على قَوْمِهِ يُسْتَعْنَ عنْهُ وَيُذْمَمِ وَمَنْ يَكُ ذافَضْلٍ فَيَبْخَلْ بفَضلِهِ
52 إِلى مُطْمَئِنِّ الْبِرِّ لا يَتَجَمْجمِ وَمَنْ يُوفِ لايُذْمَمْ وَمن يُهدَ قلبُهُ
53 وَإِنْ يَرْقَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الَمنَايَا يَنَلْنَهُ
54 يَكُنْ حَمْدُهُ ذَمّاً عَلَيْهِ وَيَنْدَمِ وَمَنْ يَجْعَلِ الَمعْرُوفَ في غَيْرِ أَهْلِهِ
55 يُطيعُ الْعَواِلي رُكِّبَتْ كلَّ لَهْذَمِ وَمَن يَعْضِ أَطْرَافَ الزِّجاج فإِنَّهُ
56 يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظلمِ الْنّاسَ يُظَلمِ وَ *مَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاِحهِ
57 وَمَنْ لَمْ يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لم يكَرَّمِ وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسِبْ عدُوَّا صَدِيقَهُ
58 وَإِنْ خَالَهاتَخْفَى على النّاسِ تُعْلَمِ وَمَهْمَاتَكُنْ عِنْدَ امْرِىءِ مِنْ خْلِيقَةٍ
59 زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلّمِ وكائنْ تَرَى من صامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ
60 فلَمْ يَبْقَ إِلا صورَةُ اللَّحْمِ والدَّمِ لسانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فؤَادُهُ
61 وَإِنَّ الْفَتَى بَعْدَ الْسَّفَاهَةِ يَحْلُمِ وَإِنَّ سَفَاهَ الْشَّيْخِ لا حِلْمَ بَعْدَهُ
62 وَمَنْ أَكْثَرَالتّسآلَ يَوماً سَيُحْرَمِ سأَلْنافَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمْ

من موسوعة (المرصد الأدبي )