أسس الأدب السامي
المستشار الأدبي : حسين علي الهنداوي-مدرس في جامعة دمشق
باستطاعة الباحث المتفكر اكتشاف أنّ مقادير الارتقاء في درجات سلّم البلاغة العالية والأدب الرفيع في اللّسان العربي تعتمد على نصيب الكلام من عناصر الجمالُ المؤثر في النفس الإِنسانية، المفطورة على الميل إلى الأشياء الجميلة، وحُبّها، والارتياح لها، والتأثّر بها، والانفعال السّارّ بمؤثراتها. وكون الكلام في مفرداته وجُمَلِهِ فصيحاً وفْقَ ضوابط وقواعد ومنهج اللّسان العربي، ولا يخلو هذا الأساس من مؤثرات جماليّة وبليغاً مطابقاً لمقتضَى حال المخاطب به فرداً كان أو جماعة، وبالغاً التأثير المرجوَّ في نفسه، ولا يخلو هذا أيضاً من مؤثراتٍ جمالية. فحبُّ الجمال فطرةٌ في النفس الإِنسانية، فهي بقوة فطرية قاسرة تميل إليه، وتنجذب نحوه، وليس بمستطاع النفوس أنْ تغيِّر فطرها التي فطرها البارىء المصوِّر عليها. والجمال شيء يصعب تحديده، ولكن باستطاعة النفوس أنْ تحسّ به وتتذوّقه متى أدركته، وعندئذٍ تميل إليه وتَنْجَذِب نحوه، وتأنس به، وترتاح إليه، وتَسْعَدُ بالاستمتاع بلذّة إحساس المشاعر به ولو تخيُّلاً، ويتفاوت النّاس في قدراتهم على تذوُّق الجمال والإِحساس بدقائقه كشأن تفاوتهم في سائر قدراتهم المادّية والمعنوية: مثل القوى الجسمية، وقدرات الذكاء، وقوى الإِبصار والسمع والشمّ والذوق واللّمس. والجمال يكون في كل المجالات التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة، حتى مجالات الأفكار، والتخيّلات، والوجدانيّات، والطباع، والأخلاق، وأنواع السلوك الإِرادي النفسي والظاهر. ففي ساحة المرئيات تشاهد الأبصار مرئيات جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتاً كبيراً، وتشاهد مرئيات قبيحة تتفاوت فيما لديها من نسب القبح تفاوتاً كبيراً وتشاهد وسطاً فاتراً لا يجذب بجمال، ولا ينفِّر بقبحٍ. وفي ساحة الأصوات يسمع السامعون أصواتاً جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتاً كبيراً، ويسمعون أصواتاً قبيحة تتفاوت فيما لديها من نسب القبح تفاوتاً كبيراً، وتسمع أصواتاً فاترة لا تجذب بجمال ولا تُنَفِّر بقبحٍ. ونظير ذلك في ساحة الروائح، وفي ساحة الطعوم، وفي ساحة الملموسات التي فيها ناعم وخشن، وصلب وليّن، وقاسٍ وَلَدْن، وحارٌّ وبارد. وفي المشاعر الوجدانيّة ندرك أنَّ لدينا مشاعر وجدانية جميلة لذيذة، كمشاعر الحبّ، ومشاعر الإحساس بفعل الخير، ومشاعر الأبُوَّة والأمومة، والشعور بطمأنينة القلب، وبالأمن. وندرك أنَّ لدينا مشاعر وجدانية قبيحة نتألّم بها، كالشعور بالذّلة والصّغَار، وكالحقد، والحسد، وكالشعور بالخوف والقلق. وندرك أنّ لدينا مشاعر وجدانيّة فاترة لا تُحدِث لذّة نفسية ولا تُحدِث ألماً، كمشاعر الانتماء إلى أسرة مغمورة ليس لها مجد يُحدث في النفس لذّة الافتخار، وليس لها فضائح وقبائح تُحْدِث في النّفس ألم الصَّغار. وفي الساحة الفكرية نُدرك أفكاراً جميلة حلوة، وأفكاراً قبيحة مرّة، وأفكاراً فاترة لا تُحْدِث انفعال استحسان ولا انفعال استقباح. إنّ الفكرة الذكيّة المبتكرة فكرة جميلة، وإنّ الفكرة الغبيّة المستنكرة فكرة قبيحة، وإنّ الفكرة العاديّة المكرّرة دون غرض فنِّي أدبي فكرة فاترة تمرُّ دون أنْ تثير أي انفعال، وكذلك الفكرة الغامضة التي لا يستطيع من تُعرض عليه أنْ يُدركها. ويمرُّ في أذهاننا شريط أفكار طويل فلا يُحدث فينا أيّ انفعال من لذّة أو ألم، إنّها أفكار فاترة، وربّ فكرة تمرّ فتثير إعجاباً وانفعالاً عظيماً نحوها، وقد تمرُّ فكرة فتتقزّز النفس منها وتصرفها بسرعة وتتجاوزها. وفي ساحة التخيّل تمرُّ أخيلة جميلة حلوة لذيذة، وتَمرُّ أخيلة قبيحة كريهة، وتمرُّ أخيلة في شريط طويل، فلا تُحدث أيّ انفعال . وفي ساحة التعبير البياني عن الأفكار والمطالب والتخيّلات والمشاعر النفسيّة والوجدانيّة تُوجَد تعبيرات بديعة جميلة جذّابة، تتملّك المشاعر، وتؤثِّر في القلوب، وتتفاوت فيما بينها بما تحظَى به من نِسَب الجمال تفاوتاً كبيراً. وتوجد تعبيرات قبيحةٌ منفِّرة، وهذه تتفاوت فيما بينها بما فيها من نِسَب القبح تفاوتاً كبيراً، وتُوجَد تعبيرات فاترة تمرُّ دون أنْ تُحدث في النفوس أيّ انفعال محبوب أو مكروه. ومن المعلوم لدى ذواقي الجمال أنّ الزينة من الجمال، وأنَّ كثيراً من المقاصد والمطالب إذا قُدِّمت إلينا مغلّفة بزيناتها أو مقرونة بزيناتِها كنّا أكثر قبولاً لها، وانسجاماً معها، لأنَّ جمال الزينة قد جذبنا إليها، وأقنع عواطفنا وانفعالاتنا بقبولها، ولنحظَى بلذّة الاستمتاع بالجمال، فتتحقّق من وراء ذلك المقاصد الأساسيّة والمطالب. وهذه الحقيقة تشمل الأفكار، فإذا قُدّمت بعض الأفكار المقصودة وما اشتملت عليه من مطالبِ اعتقادٍ أو عمل ممتزجةً أو مقرونة بزينات جميلة فكرية أو لفظية كانت النفوس أكثر انجذاباً إليها، وقبولاً لها، ثمّ تمسكاً بها أو عملاً بما طلب فيها.. فالفكرة المرّة قد تحتاج غلافاً حلواً جميلاً يزيِّنها حتى يبتلعها مَنْ توجّه له. والفكرة الشديدة الحموضة قد تحتاج مخالطاً يعدِّل حموضتها حتى يستسيغها من توجّه له. والفكرة القاسية بطبعها قد تحتاج أسلوباً يليِّنها ويعدِّل قساوتها . والفكرة الخشنة بطبعها قد تحتاج أسلوباً ناعماً يغلِّفها ويهوِّن ابتلاعها. وكما أنَّ الحسِّيّات الجسدية يحتاج كثير منها إلى ما يجمّله ويحسِّنه ويزيِّنه للنفوس حتى تستسيغه، كذلك الأفكار التي نريد تقديمها إلى الآخرين قد يحتاج كثير منها إلى ما يجمِّله ويحسِّنه ويزيِّنه للنفوس حتى تستسيغه، وهذا التجميل والتزيين والتحسين هو من عناصر الأدب الرفيع لا محالة. ولكنْ ليس من الضروري لكلّ فكرة مقصودة بالذّات أنْ تُصنَع لها مزِّينات جماليّة لا يكون الكلام ذا أدب رفيع إلاَّ بها. فكثير من الأفكار جمالُها ذاتِيّ، وإذا قُدِّمت مجرّدة من كل الزينات والأصباغ والألوان في أحوال ملائمة لهذا التقديم كانت أرفع أدباً، وكانت النفوس أكثر تقبُّلاً واستساغةً لها، فهي تزدردها او ترتشفها بشهوة بالغة. وقد يكون من رفيع الأدب تقديم الفكرة المرّة من غير تغليف ولا تحلية لتقديمها لمن يحسن إذاقته مرارتها، كأنْ يكون عدوّاً مجاهراً بعداوته مواجهاً بشتائمه، وفي بعض الحالات التربويّة نلاحظ أنّه كما يحسن الضرب يحسن ما هو نظيره من الكلام. والجمال في الوجود مع إدراك النّاس له وإحساسهم بكثير من صوره، دقيق العناصر متشابكها فهو شيء يصعب جدّاً تحديده، ويَصْعب قِياسُه، ولا تنحصر ألوانه. وبما أنّ الأدب لون من الجمال، فهو إذن تنطبق عليه قواعد الجمال العامّة. ومِنْ أبدَعِ صُوَرِ الجمال التنويع فيه والتنقلّ من لون إلى لون آخر منه، أمّا الثبات والتكرار للصورة الواحدة في كل الأوقات فهو مُمِلٌّ للنفوس مهما كانت هذه الصورة جميلة. ومع وجود قسم من الجمال لا يختلف اثنان في استحسانه، وقدر من القبح لا يختلف اثنان في استهجانه، فكم توجد أوساط مشتبهات تختلف فيها أذواق النّاس، وتختلف وجهات أنظارهم إليها. فما يستحسنه بعض النَّاس منها قد لا يراه غيرهم حسناً، وما يستقبحه بعض النّاس منها قد لا يراه غيرهم قبيحاً، وتتدخّل النظرات الذاتيّة الشخصية في قسم المشتبهات بشكل واسع، ويصعب فيها تحديد النظرة الموضوعية. ويخضع الأدب لهذا القانون العام . فقد يُرْضِي كلام ممدوحاً مغروراً بنفسه بحبّ المديح، فيراه أدباً رفيعاً مستحسناً، لكنّه في الوقت نفسه يُسْخِط حاسداً له، فيراه تزلّفاً تافهاً، وأسلوباً في المدح سخيفاً مستهجناً، ويسمعه فريق ثالث فلا يرى فيه ما يحرّك النفس بإعجاب ولا ما يحرِّك النَّفس بتقزّز واستهجان. وقد تُرْضِي تعبيرات حبِّ معشوقة، فتراها أدباً رفيعاً مستحسناً، فتحفظها وترويها بإعجاب، لكن هذه التعبيرات قد أسخطت في الوقت نفسه أترابها، فرأينها تعبيرات سخيفةً مبتذلة. ثمّ يسمعها حياديّون فلا يرون فيها رأيَ المعشوقة المعجَبَة، ولا رأي أترابها الساخطات، بل يرون فيها أدباً عادّياً ولدى تحليل العوامل التي تجعل النّاس يختلفون في نظراتهم الجماليّة إلى الأشياء اختلافاً كبيراً، حتى إنَّ الشيء الواحد قد يستحسنه فريق، وقد يستقبحه فريق آخر، ويجعله فاتراً واقفاً على الحياد فريق ثالث، والمستحسنون له قد يتفاوتون في درجة استحسانه، والمستقبحون له قد يتفاوتون في درجة استقباحه. فقد تتواضع بيئة ما على استحسان لون جمالي، من سلّم الارتقاء الجمالي، إلاَّ أنّ تأثير البيئة يجعل الناشئين فيها يقتبسون منها الأذواق الجماليّة، فيتأثّرون بأحكامها الناقصة، أو أحكامها التي لا تَنِمُّ عن ذوق رفيع، وكذلك البيئات الراقية تمنح الناشئين فيها أذواقاً رفيعة، والبيئات تتفاوت تفاوتاً كبيراً في هذا المجال. وتصيّد نقاط الجمال والإغضاء عمّا سواها، وجعله أرضية لا تثير الانتباه. وقد يكون العكس، فتكون القدرة النقدية ذاتَ إحساس مفرط تجاه تصيّد نقاط النقص أو القبح فقط، أمّا سواها فتُغضي عنه، وتجعله أرضيّة غَيْرَ مُثِيرة للانتباه كذلك تلعب سعة التجارب وضيقها دوراً في اكتساب ذوق الإِحساس بالجمال، وتفاوت نسبه. فذو الخبرات الطويلة الباحثة والناقدة يكون أقدر على تذوُّق الجَمال، وإدْراك درجاته المتفاوتات، من الإِنسان العاديّ غير ذي الخبرة، أو السائر في طريق البحث والنقد، ولم تكتمل بَعْدُ لديه القدرة على تَذوُّق الفروق الجمالية. ولتحقيق عناصر الكمال والجمال الأدبي

لا بُدَّ أوّلاً من توافر الأركان الأساسية للكلام البليغ، وهي:

(1) مطابقته لمقتضى حال المخاطب به.
(2) التزامه بقواعد اللّغة وضوابطها في مفرداتها وتراكيب جملها.
(3) خلُوّه من التعقيد اللّفظي، والتعقيد المعنوي.
وبعد توافر هذه الأركان الأساسيّة توجد عناصر كثيرة تُكْسِبُ الكلام ارتقاءً أدبيّاً وتُعْطيه جمالاً وإبداعاً، ورونقاً وحياةً، وقدرةً على التأثير والهيمنة على النفوس والأفكار والقلوب. وبمقدار ما يُمْكِنُ أن يجتمع في الكلام من هذه العناصر، متلائمةً غير متنافرة، متوائمة غير متشاكسة، مُتَحابّة غير متباغضة، مطابقةً لمقتضى حال المخاطب، يكون تسامي الكلام في سلّم الكمال الأدبيّ الرفيع، الّذي يحتلُّ قمّته لدى التحليل المْجَهريّ الدقيق كلام الله تعالى المعجز، ثمّ يأتي من دونه كلامُ الناس، مع المسافات الشاسعات بينه وبين قمّة كلام الناس. وكما نقتبس عناصر الجمال والكمال من لوحات الطبيعة التي خلقها الله تعالى لنا، فنعمل الأعمال الفنيّة الرفيعة بمحاكاة الفنون المختلفة فيها ضمن قدراتنا البشريّة، ونتتلمذ على الأمثلة الجمالية الكمالية التي تقدّمها لنا، فنكتسب منها الذوق، وفنون الصنعة الرائعة، بأشكالها وألوانها وأنغامها وملامسها وأنظمتها وحركتها وحياتها وعواطفها ولذّاتها وآلامها وذكرياتها وتحسّراتها ، وآمالها ومخاوفها، إلى سائر الظواهر الطبيعية في كل جامد متحركّ ونام وحيّ. كذلك يقتبس أهل البصيرة عناصر الجمال والكمال الأدبي من اللّوحات البيانيّة البديعة المنزّلة من لَدُنْ حكيم عليم، والتي نتدبّر ما نتدبّر منها في كتاب الله المجيد على مقدار قدراتنا البشريّة. وهذا التدبّر الواعي يحتاج إلى بصيرة نفّاذة لمّاحة، وصبر طويل، ومعالجات متكرّرات، ومعرفة بما توصّل إليه المتدبَّرون السابقون، وبحث مستمر لاستنباطات جديدة، والكلام ولفظ المعنى ومن الْبَدَهِيّاَت الأساسيّة أنّ الكلام ذا الدلالة اللّغوية إنّما هو لفظ ومعنى.؛ أمّا اللفظ، فينحلّ إلى قسمين (مفرد ومركب.) ؛ أمّا المفرد فمن المنظار الأدبي، يمكن أنْ نقسِّمه الكلام اللّيّن السهل، كقول الله تعالى في سورة (الرحمن 55) : {الرحمان * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان * الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 1 - 6] والكلام القويّ الجزل، وتتفاوت في ذوق الفصيح ذي الحسِّ المرهف درجاته. ومن أمثلة القوي الجزل المفردات التالية من سورة (الشمس 91) : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) } "ضُحاها - جَلاّها - يَغْشاها - طَحَاها - بِطَغْواها - إذا انْبَعَثَ أشْقَاها - فَعَقَروها - فَدَمْدَم عليهم - عُقْباها". والكلام الحُوشِيُّ الغريب، وتتفاوت درجاته ، والحوشي الغريب ما قلّ في العرب استعماله، لثقله على الألسنة، حتى يكاد بعضه يُهمل في الاستعمال عند معظم العرب، مثل المفردات التالية: ( الْحَنْطَبَة : بمعنى الشجاعة. والْحَيْزَبُون، والشَّهْرَبَة: بمعنى المرأة العجوز). والكلام الصعب الجموح، وتتفاوت درجاته. ومن الصعب الجموح ماهو حوشي غريب، ولكن ليس كل صعب جموح كذلك، فقد لانت في ألسنة العرب كلمات صعاب، وبقيت مستعملة دارجة بيْن أُدبائهم إلاَّ أنّها صعبة على الألسنة لها جُموح ونفور، مثل الكلمات التالية: (غَضَنْفر: من أسماء الأسد. ومُسْتَشْزِر: أي مفتول. وعَقْعَقٌ: اسم لطير). والأديب رفيع الأدب، مرهف الحسّ في ذوق الكلمات، يختار في كلامه (اللّين السهل. والقوي الجزل). ويضع ما يختار في موضعه مراعياً حال المخاطب وما يسرُّه من المفردات، وما يلائم ذوقه، ولغة قومه. ويحسن به أنْ يختار لبعض الموضوعات مفرداتٍ ذاتَ جَرْس موسيقي وإيقاعٍ رشيق. ويختار أيضاً من الكلمات ما يلائم المعنى من لين وسهولة أو قوّة وجزالة. ويختار أيضاً من الكلمات ما هو أليق بالمناسبة، وبالموضوع العام للكلام، وأكثر ملاءمة لهما. ويبتعد عن الحوشي الغريب، ويجعل الصعب الجموح مقصوراً على مواطن خاصّة تستدعي لفتة أدبيّة مميزة مثل كلمة: (ضِيزَى) في وصف القسمة الجائزة غير العادلة، { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) } [ ] لما لهذه الكلمة بحروفها وصيغتها من إيحاءات تلائم التشنيع على القسمة الجائرة. وأمّا المركب في المنظار الأدبي ، فينقسم إلى (المتلائم المتناسق، المتوائم السهل حَسَنُ السّبك. والمتنافر الصعب العَسِر النطق وسيِّىء السَّبك ضعيف الإِنشاء. ومعقَّد الترابط صعب الفهم.) والأديب البليغ رفيع الذوق، ذو الحسّ المرهف، المتمرّس بصناعة القول الرفيع يحاول أنْ يكون كلامه سليماً من أنْ يكون سيِّىء السبك، ضعيف الإِنشاء، ومن أنْ يكون معقّد الترابط صعب الفهم. ويتحرّى أنْ يكون كلامه من القسم الأوّل (المتلائم المتناسق المتوائم السهل حَسَن السبك) . ويبتعد جَهْدَ مستطاعه عمّا هو متنافرٌ صعب عَسر النطق، ويُولِي عناية لصياغة الجملة صياغة فنّية سَهْلَة الفهم، لا توقع فكر المخاطب بارتباك في ربط مفردات الجملة، ولا تُكَلِّفه مشقّة، حتى يفهم المراد منها ، ولرصْف الجمل رصْفاً يثير الاستحسان والإِعجاب لدى المخاطب. وقد يحتاج هذا إلى التفنُّن في الجُمل، ما بين متوازنات طولاً وقصراً أحياناً، ولا ضابط لمَواطن الجمال فيها إِلاَّ الحسّ المرهف الذوّاق للجمال الأدبي. ومن جهة الكثافة ينقسم الكلام إلى (الإيجاز، والمساواة، والإِطناب)، وتخفّ الكثافة ببسط الكلام وتمديده، ويتدرّج ذلك في سلَّم كثير الدرجات، وتنقسِّم مستويات الكثافة في الكلام إلى الكلام الموجز المختصر. والكلام الذي هو متوسط البسط، وعنوان هذه المرتبة عند علماء البلاغة (المساواة) ولكن ربّما كان التحديد لها يختلف مع تحديد علماء البلاغة ؛ ومن ذلك كثير من أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل قوله: "(اجتنبوا السبع الموبقات". قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟. قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النّفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقَذْف المُحْصنات المؤمنات الغافلات ) ". رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ؛ والكلام المبسوط ، وهو ما لو حذف منه شىءٌ بالنسبة إلى حال المخاطب به لفهم المراد فهماً تامّاً، دون كدٍّ ذهني، ولا تأمّل طويل ، وعنوان هذه المرتبة عند علماء البلاغة: (الإِطناب) إذا كانت الزيادة في الألفاظ ذات فائدة، وإلاّ كانت الزيادة من قبيل الإسهاب والتطويل. وأمّا المعنى فالنظر إليه يكون من جهة كوْن المعنى له لفظ لغوي موضوع أو مستعمل في عُرْف النّاس أو في مصطلحاتهم للدّلالة عليه، أو ليس له لفظ يدلّ عليه. وجهة الدّلالة على المعنى عن طريق الأسلوب الكلامي المباشر، أو عن طريق الأسلوب الكلام غير المباشر. وجهة المعاني أنفسها وقيمها الفكريّة والجماليّة. فالمعاني التي يمكن أنْ يحيط بها علم الإِنسان، أو يصل إليها إدراكُه الذهني، أو تخيُّلاته، تنقسم إلى المعاني التي لها ألفاظ لغويّة تدلّ عليها. والمعاني التي ليس لها ألفاظ لغويّة تدلّ عليها. مثل بعض الوجدانيّات والمشاعر النفسيّة التي لا يجد الشاعر بها ألفاظاً تدلّ عليها. وبعض المركبات التخيّلية التي ليس لها أمثلة في الواقع. والغيبيّات التي لم يصل إلى حسّ النّاس أيّة صفة من صفاتها، ولكنْ أدركوا بعض آثارها، وكلّنا نلاحظ أنّه كلّما وضح في أذهان النّاس معنى من هذه المعاني، وصاروا بحاجة إلى تداوله والتعبير عنه بدؤوا يضعون لفظاً منقولاً أو مرتجلاً يدلّ عليه، ومع تداول هذا اللّفظ مشيراً إلى المعنى الذي وُضِع له يغدو رمزاً معروفاً، فكُلما ذُكِرَ اللّفظ ربط به الذّهن معناه، مستخرجاً له من خزائن المعاني عنده، ووضعه في ساحة التصوّر الحاضر.. وفي المقابل تموت ألفاظ دالّة على معانٍ لأنّ هذه المعاني لم تعد الحاجة ماسّة إلى تداولها، كأسماء بعض الأدوات التي أهمل النّاس استعمالها. ومِنَ المُلاحظ أنَّ اللّغات يستعسر بعضها من بعض مَعَانِيَ وألفاظاً فتغدو متداولة في غير مواطنها الأصليّة بعدَ أنْ لم تكنْ كذلك. وكثيراً ما يحتال الإِنسان ليدلّ الآخرين على معنى لا يجد له في اللّغة لفظاً يدلّ عليه دلالة واضحة، إذْ يَلْحَظُ شبهاً قويّاً أو ضعيفاً بينه وبين شيء ممّا له في اللّغة لفظ يدلُّ عليه، فيستخدم اللّفظ الدالَّ على هذا الشبيه فيضرب مثلاً منه، أما جهة الدلالة على المعنى بالأسلوب المباشر أو غير المباشر. فإمّا أنْ ندلّ عليه في الكلام بالأسلوب المباشر السافر؛ وإمّا أن ندلّ عليه في الكلام بالأسلوب الملامس بساتر. وإمّا أنْ ندلْ عليه في الكلام بالأسلوب غير المباشر. فالأسلوب المباشر السافر هو الأسلوب الذي تكون الدلالة فيه على المعنى المراد باللّفظ الموضوع له لغة، وهو ما يسمّى ( حقيقة لغويّة ) ، أو باللّفظ الدّال عليه في الاستعمال العامّ الدارج وهو ما يسمّى ( حقيقة في العرف العام ) . أو باللّفظ الدّال عليه عند أهل علم من العلوم، أو فنّ من الفنون ، أو في الاصطلاح الشرعي، وهو ما يسمّى ( حقيقة في الاصطلاح الخاص ) . والأسلوب المباشر السافر في الكلام قد يكون في كثير من الأحوال هو الأسلوب الأوقع والأكثر تأثيراً ، أو الأنفع والأجدى ، أو الأكثر ضبطاً. والأصل في الكلام هو الأسلوب المباشر السافر، وله النّسبة الأكبر من كلّ الكلام . ومن الأحوال التي يكون فيها الأسلوب المباشر السافر أوقع وأكثر تأثيراً ، أو أنفع وأجدى، أو أكثر ضبطاً خطاب الذين يصعب عليهم الفهم بأسلوب غيره ، وحينما يكون المخاطب في حالة انفعالية أفقدته الهدوء والصّفاء الفكري ، وبيان الحقائق الكبرى العقديّة ، كالكلام الذي يحدّد قضايا الإِيمان ، فهذه يجب فيها التصريح المباشر السافر، مثل: ( لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله ) . ( آمنت بالله وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِه واليوم الآخر) . ولدى بيان المبادىء التي تعلنها الشعارات، ولدى كتابة نصوص التشريع أو التقنين ، فالأدب الرفيع فيها هو التعبير بالأسلوب المباشر السافر، ولدى التعبير عن الأحكام القضائيّة، وفي معظم مواقف الدعاء لله تعالى، فالتعبير المباشر السافر الموجز فيها كثيراً ما يكون هو الأدب الأرفع ، مثل : ( ربّ اغفر لي، وارحمني، واهدني، وسدِّدني، وعافني، وارزقني حلالاً طيِّباً مباركاً فيه ) . وفي كثير من صور التعليم المنهجي ، وفي ذروات التعبيرات العاطفية ، فالتعبير المباشر السافر فيها عند التصافي ، وانعدام الرقباء هو من أرقى الأدب وأرفعه ؛ والأسلوب الملامس بساتر هو الأسلوب الذي يُستخدم فيه للدلالة على المعنى المراد طريق التشبيه والتمثيل ، أو الاستعارة ، أو المجاز المرسل ، أو المجاز العقلي إذا قلنا به. فحين نقول: ("وجهه كالقمر" ) ، فإنّ السامع أو القارىء يلمس أنّ المراد وصفه بأنّه جميل ، ولكنّ حِسَّ اللّمس يقع على ساتر التشبيه بالقمر، ولا يباشر الملموس المراد، وإنّما يباشر الساتر ، فبين اللاّمس والملموس فاصل الساتر، وهو هنا التشبيه. ويتكاثف الساتر في التشبيه البليغ ، ويزداد الساتر كثافة في الاستعارة التصريحية. ويزداد الساتر كثافة أخرى في الاستعارة المكنية . كما جاء في القرآن في سورة [الإسراء/17 م/50 ] : {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الآية: 24] على طريقة الاستعارة المكنيّة ، فإنّه يلمس المراد نفسه أيضاً، كأنّه يشعر بأنّ كثافة الفاصل قد زادت من جهة ، وازدانت بحلاوة ملامس خاصّة بها ، مع جسّ المراد من ورائها. ونلاحظ نظير ذلك في المجاز المرسل ، وفي المجاز العقليّ إذا قلنا به . فقول الله تعالى في سورة [ البقرة /2 ] : {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ... } [الآية: 19] . هو من المجاز المُرسل بإطلاق الكلّ وإرادة البعض، ونحن حين نسمع هذا القول، ويسرع إلى تصوّرنا أنّ الإِصبع كلّها لا تدخل عادة في الأُذن ، إنّما الذي يدخل منها رأس الأنملة فقط نعلم أنَّ المراد أنَّهم يجعلون رؤوس أناملهم في آذانهم، ولكنْ لَمَسْنا ذلك من وراء فاصل ، وهو هنا ساتر المجاز المرسل . ومع لمسِ المراد من وراء الساتر أحسسْنا بزينة خاصّة في هذا الساتر نفسه ، وبفكرة مضافة ، وهي أنّهم يبالغون بضغط أصابعهم على آذانهم، فلو كان الواقع يسمح بدخولها كلّها في آذانهم لفعلوا من شدّة ذعرهم وحذرهم، وهذا معنى بديع يضفي على الكلام زينة حلوة . إنّ هذا الأسلوب الذي هو وسط بين الأسلوب المباشر السافر، والأسلوب غير المباشر، أسلوب يتّسع لإضافة زينات أدبيّة كثيرة، تضفي على الكلام جمالاً، ورَوْنقاً وبهاءً، مع ما في هذه الزينات من أفكار ودلالات يمكن إضافتها، ومن تصوير فنّيّ بديع يمكن أنْ يقدّمه الأديب البارع عن طريقها. والأسلوب غير المباشر يكون بالتعبير عن فكرة لتفهم معها فكرة أخرى، عن طريق اللّوازم العقلية القريبة، أو متوسّطة القرب، أو البعيدة، أو شديدة البعد. وهذه الفكرة الأخرى إنّما يريد المتكلّم الإِشارة إليها من طرف خفي، ولا يريد التعبير عنها بأسلوب مباشر، لغرض بياني أو غرض تربوي، أو أي غرض آخر يقصده البلغاء. فمع ما في هذا الأسلوب من دلالة على ذكاء من يستعمله، ومع ما فيه من مجال واسع لتفنّن أدبي لا حصر له من قِبَل نوابغ الأدباء، وعباقرة البلغاء والشعراء، فهو مجال لتحقيق أغراض كثيرة، منها : ( عدم مواجهة المخاطبين بما يراد إعلامهم. وإرضاء نفس من يخاطب به، إذ يشعر بأنّه محترم مقدّر مِنْ قِبَل من يخاطبه، وإخفاء المراد على جمهور المستمعين، وإشعار المخاطب وحده بالرمز، لأغراض سياسيّة، أو عسكريّة أو تربويّة، أو نحوها ) . كما وقع في غزوة الخندق، إذ بلغ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ بني قريظة نقضوا عهدهم، فأرسل وفداً من الأنصار فيه سيِّدا الأوس والخزرج إلى كعب بن أسد القرظي سيِّد يهود بني قريظة ليستطلعوا الخبر، وقال لهم: انطلقوا حتّى تنظروا، أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أمْ لا؟ فإنْ كان حقاً فالْحَنُوا لي لَحْناً أعرفه، ولا تفتُّوا في أعضاد القوم (أي : تكلّموا بالرمز ولا تتكلّموا بصريح القول) . وكذلك فعلوا لمّا علموا أنَّ بني قريظة قد نقضوا عهدهم حقاً. إنَّهم لمّا عادوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سلَّموا عليه، ثمّ قالوا له: عَضَلٌ والْقَارَة. ففَهِم الرسول المراد، وعلم أنّ القوم قد غدروا كما غدرت عَضَلٌ والْقَارة بأصحاب الرجيع. والتوصّل عن طريق اللّوازم العقلية إلى معان قد لايكن لها ألفاظ تدلّ عليها دلالة مباشرة وتزيين الكلام ليكن أكثر تأثيراً في نفوس المخاطبين . وقد يكون الأسلوب غير المباشر مقرِّباً للفكرة الغامضة، أو مقدِّماً لها مقترنة بحُجَّتِها المُقْنعة بها. وإمكان التهرّب من إرادة المعنى عند الإِحراج، وذلك إذا كانت إرادته تسوء المخاطب به، أو تسوء غيره من أنداده أو حسّاده أو غيرهم. ومِنْ أمثلة ذلك مَنْ يُشير بطَرْف خفيّ إلى حبِّه، أو يلمِّح إلماحاً خفيِّاً، لأنَّ أمامه رُقباء من الأنداد أو الحُسّاد، أو مَنْ لا يَرْضَى بهذه العلاقة غَيْرةً أو نَخْوة أو مخافة العار، والمتكلِّم لا يريد إثارة هؤلاء نحوه لئلاّ يَكِيدُوه. وفي كثير من الأحوال يكون خطاب النّاس بالأساليب غير المباشرة هو الأجدى، لأنَّه أوقع في نفوسهم، وأكثر إرضاءً لغرورهم، أو أوفق لظروف أحْوالهم. ولكن لا يصحّ أنْ يكون كلّ الكلام جارياً وفق الأسلوب غير المباشر. إنَّ الأسلوب غير المباشر ينبغي أن يكون في غضون الكلام الجاري على الأسلوب المباشر، وبمقدار الأغراض البلاغيّة، وبمقدار الحِلْيات التي تتزيَّن بها الحِسان عادة. وينبغي أيضاً أن يكون الكلام متنوعاً، لا ملازماً لوناً واحداً من ألوان الأساليب غير المباشرة. إنَّ أبدع الكلام وأحلاه ما كان متنوعاً كثير الألوان، غير مقتصر على نَمَطٍ واحد . إنَّ طبائع النفوس عجيبة، وينبغي أنْ يكون ميزان الأديب تُجَاهها شديد الحساسية، يتتبعها بالمؤثّرات الآنية عليها. ويُعرف الأسلوب غير المباشر عند علماء البلاغة باسم (الكناية) والمعنى المدلول عليه بهذا الأسلوب غير المباشر ، إمّا أنْ يكون معنى قريب التناول لا يحتاج إلى متابعة لوازم عقليّة متعدِّدة مثل قوله الله تعالى: {وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [ البقرة : 19 ] . أيْ: ويثيبهم ويدخلهم جنّات النعيم. لأنَّ من أحبّه الله أكرمه وأدخله في رحمته، فهذه من لوازم المحبّة. ونظيره في القرآن كثير. ويدخل فيه مثل قوله الله تعالى في سورة [الإِسراء/17 /50 ] في بيان واجبات برِّ الوالدين: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ... } [ الآية: 23] . أي : ولا تفعل أيضاً ما هو أشدّ!، وهذا يفهم بداهة لأنّ من نُهِيَ عن القبيح الأخفّ فهو منهي عن القبيح الشديد والأشدّ لزوماً عقليّاً ، وإمّا أنْ يكون معنىً متوسّط البعد، يدركه الذهن دون تأمّل عميق، وينتقل مع لوازم منطوق اللّفظ إليه بغير مشقّة فكريّة. مثل الكناية عن كَثْرة إطعام الضيفان عند البدو، أنْ يقول قائلهم فلان: ("كثير الرَّماد") أيْ: مضياف جَوَاد. لأنَّ كَثرة الرّماد عندهم مِنْ كَثرة إيقاد النَّار، وكثرة إيقاد النَّار مِنْ كَثرة الطبخ عليها، وكَثْرة الطبخ تدلُّ على كَثْرة الضيوف بحسب العادة. وإمَّا أنْ يكون معنىً بعيداً، بسبب كَثْرة لوازمه العقلية، أو بسبب أنَّ هذه اللَّوازم تحتاج إلى تعمّق في التفكير حتّى يدركها الذّهن، وغالباً لا يدركها إلاَّ الأذكياء والعلماء. مثِّل قول إبراهيم عليه السلام حين رفض عبادة الأصنام كما جاء في سورة( الأنعام/6/55 ) : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هاذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} [ الآية: 76 ] . ".أيْ: إنَّ غياب الكوكب ظاهرة حدوث، وصفه الحدوث لا تكون من صفات الرَّب الخالق، فالكوكب لا يصلح لأنْ يكون ربّاً، فأنا لا أحب عبادة الآفلين الذين ليس أحد منهم يصلح لأنْ يكون ربّاً خالقاً، إنَّما أحبَّ عبادة ربِّي الحقّ. فجملة {لا أُحِبُّ الآفلين} في معرض البحث عن الربِّ الخالق، تستدعي لدى أهل الفكر والنظر والأذكياء التأمّل كل هذه اللّوازم. وإمَّا أنْ يكون معنَى يُلمح لمحاً، أو يشم شمّاً، ويتطلّب إدراكه حِسّاً مُرْهَفاً، وممارسة لإِدراك مشاعر النفوس من وراء تعبيرات اللّسان. وقد لا تظهر لوازم فكريّة تدلُّ عليه، بل قد تكون الإِشارة إليه من قرائن الأحوال، أوْ مِنَ التصريح بشيء وعدم التصريح بقرينه أو مُقَابِله، مع وجود الدواعي لهذا التصريح. ويعمل الذّكاء وقوّة الحَدْس في هذا المجال لاكتشاف ما يختلج في النفوس من معانٍ لم يُفْصِحْ عنها اللّسان، لسببٍ مِنَ الأسباب، كالاستحياء، أو الكِبَر، أوْ العِفَّة، أو الخَوْف، أو غير ذلك. مثل قول موسى عليه السلام بعد أن سقى لابنتي الشيخ الصالح عند ماء مدين ثم تولّى إلى الظّل، كما جاء في سورة [ القصص ] :{ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [ الآية: 24 ] . فهو في هذا يشير باستحياء إلى حاجته إلى الزوجة إشارة خفيَّة لا تُعْرف إلاَّ من قرينة الحال. وقوْل أيُّوب عليه السلام بعد أنْ طال به المرض ثمانيةَ عشر عاماً: يا ربْ إنِّي مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذاب. قال تعالى مبيِّناً دعاءه في سورة [ ص ] : { واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [الآية: 41] . بنُصْب وعذاب: أيْ بتعب وبلاء ومؤلمات جسديّة ونفسيّة، فهو في دعائه هذا يشير باستحياء إشارة خفيّة إلى طلب الشفاء، معلّلاً ذلك بأثر وساوس الشيطان في نفسه من جراء طول المرض، فهذه الوساوس قد زادت متاعب جسده وآلامه وعذَّبت نفسه. وقوْل امرأة عمران حين وضعت جنينها الذي كانت قد نذرتْهُ محرَّراً لبيت المقدِس، وكانت تنتظر أنْ يكون ذكراً، فجاء أنثى وأسمتْها مريم، قالت كما جاء في سورة [ آل عمران ] : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } [ الآية: 36 ] . وقالت: { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى ... } [الآية: 36] . وقولُ ذي النّون عليه السلام وهو في بطن الحوت لربّه، كما جاء في سورة { الأنبياء ] { لا إلاه إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [الآية: 87] . فالقول توحيد وتسبيح واعتراف بالذنب، إلاَّ أنَّه يشير باستحياء شديد من طرف خفِيّ ِإلى طلب النجاة. إنَّ المعاني كبحور عظيمة لها سطوح وشواطىء، وتحت السطوح أعماق، وتحت الأعماق أعماق أخرى، وتحت الأعماق أغوار، وتحت الأغوار أغوار سحيقة. ومِنَ النّاس مَنْ يأخُذ من المعاني ما يصل إلى الشواطىء، ومنَ النّاس منْ يركب بحار المعاني ويجري على سطوحها، ويتناول منَ السطوح أو منَ العمْقِ القريب. ومنَ النّاس منْ يغوص إلى بعض الأعماق، ومنَ النّاس منْ يغوصُ إلى بعض الأغوار، ويتفاوت النّاس في نِسَب غوصهم، وكل منهم يستخرج منْ بحار المعاني على مقدار غوصه، وعلى مقدار استيعابه. وأمّا عناصر الجمال في المعاني فمتنوِّعة، منها تناسُق الأفكار وترابطها بوشائجها المنطقيّة دون إعنات للفكر، ثمّ تكاملها ولو مع طيّ بعض العناصر التي يمكن أنْ تفهم ذهناً، وما تشتمل عليه المعاني ممّا يحرّك في النّاس المشاعر الوجدانيّة أو النفسيّة الحلوة، والعواطف الوجدانيّة أو النفسيّة الحلوة، أو يرضي شهوات النفوس. وما يُعجب الأذهان من إشراقات ذكاء، وأفكار جديدة مبتكرة، بشرط أنْ لا تكون قبيحة بطبيعتها. وما يسرُّ الخيال ويعجبه ويُمْتِعُه ممّا يرضي الرغبات النفسيّة التي يتمنّاها الإنسان ويعجز عن الوصول إليها وتحقيقه . إنّ التصوير الفنّي الذي يُبرز في الكلام صورة الواقع المتحدَّث عنه، حتّى كأنّه مُشَاهَدٌ ملموس بحركته وحياته ورونقه وجماله هو من أرفع الأدب وأجمله، وكم من واقع هو أجمل وأكمل من الخيال. وإنّ الكلام الذي يعبِّر عن الحقائق الفكرية المجرَّدة بطريقة مفهومة سهلة ليِّنة طيّعة في الفكر وفي اللسان، هو من أرفع الأدب وأجمله.. وإنَّ الكلام الذي يعبِّر تعبيراً صادقاً عن مشاعر النّفس الوجدانيّة أو التخَيُّلِيَّة لدى مُشاهَدةٍ طبيعية أو حادثة إنسانيّة هو من أرفع الأدب وأجمله. وإنّ الكلام الحلو الذي يُرضي الآمال والمطامع النفسيّة، بإقناعات صادقات ، أو بإقناعات توهِم بأنّها صادقات، فتستر بها عورات التلفيق والكذب، هو من أرفع الأدب وأجمله.
في قول المتنبّي:
كفى بجسمي نحولاً أنّني رجل ... ....لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني
وفي قول الآخر:
ولوْ أنّ ما بي من جَوىً وصبابةٍ ... على جَمَلٍ لم يدخل النّار كافر
قد نلاحظ فكرة غريبة لا يتصيّدها إلاَّ شاعر ذَكِيّ، فنُعْجَبُ بطرافتها، ولكنّنا مع ذلك نمُجُّها، لأنَّها تشتمل على دعوى كاذبة سخيفة. أمَّا حين تكون الفكرة مبتكرة حلوة، وتكون الدَّعوى صادقة في أصلها، مضخَّمة مجسَّمة مبالغاً بها في صورتها الأدبيّة، فإنّ الكلام يكون حينئذٍ أرفع أدباً، وأعلى كعباً، وأوقع في النّفس. هَلُمَّ فَلْنَلْحظ اجتماع الصدق والأدب الرفيع في قول الله تعالى في سورة [ ق ] : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] . إنَّ في هذه الآية حلاوة فكرة السؤال والجواب. وحلاوة الجواب الذكي الذي لم يكن مباشرة بصيغة: ( لم أمتلىء) أو بصيغة (لا) مع كثرة الذين أُلقوا فيها. وإنّما جاء على صيغة سُؤال النَّهِم الشَّرِه طالب المزيد: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ؟!!. وما دام باستطاعة الإِنسان أنْ ينتقي من الحقّ والصدق عناصر جماليّة لأدبه فما أوفر الحقّ والصدق في بيانات الإِسلام ، ومن الأفكار الجديدة المبتكرة ما هو جميل جداً ولإِشراقات الذكاء في الأدب تأثير عظيم جدّاً في ارتفاع المستوى الأدبي . لقد اعتاد الأُدباء والشعراء أن يُشَبِّهوا الجواد بالبحر، لأنّ البحر ماؤه كثير، وعطاؤه وفير، فهو لا يمنع آخذاً منه، لكن إشراقات الذكاء مكَّنت الشاعر من أنْ يعطي هذا التشبيه المتداول زينةً جديدة مُحَبَّبة بتقسيم البحر إلى لُجَّةٍ وساحل، فقال في ممدوحه :
هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ ... فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ والْجُودُ سَاحِلُهُ
الشاعر والناقد : حسين علي الهنداوي
صاحب موسوعة( المرصد الأدبي )حجم الموسوعة خمسة عشر ألف
صفحة