الأدب السامي- الجزء الثاني :
المستشار الأدبي :حسين علي الهنداوي-
مدرس في جامعة دمشق

ولتحريك المشاعر الوجدانيّة والنّفسيّة الحلوة تأثير عظيم في ارتفاع المستوى الأدبيّ ولا ريب في أنّ النّاس تُعجبهم وترضيهم وتحلو لديهم المعاني التي تحرّك لديهم المشاعر الوجدانيّة والنّفسية الحلوة، والعواطف الوجدانية والنّفسيّة الحلوة، أو تذكّرهم بها. مثل ( مشاعر الحبّ، ولقاءات الأحبّة، وعواطف الحنان والشفقة، ومشاعر الشوق لدى العُشّاق، ومشاعر الإِيمان وأحاسيسه العميقة لدى المؤمنين، ومشاعر العبادة الحلوة لدى العبّاد الصالحين، ومشاعر الفخر والاعتزاز بالأمجاد، ومشاعر الإِحسان وفعل الخير، ومشاعر الأخوّة والصدق والوفاء، ومشاعر الأبوَّة والأمومة وسائر القرابات، ومشاعر العطف على الأيتام، ومشاعر التوبة والندم والرجعة إلى الله، ومشاعر الزهد في الدنيا والتطلُّع إلى النعيم المقيم في الآخرة، ومشاعر التضحية والبطولة والفداء، ومشاعر الإِيثار، ومشاعر البرّ والتّقوى، ومشاعر التحدِّي والصمود وآمال النصر على الطغاة والبغاة و الشياطين). ثمّ إنّ المشاعر النّفسيّة والوجدانيّة منها ما هو ساذج بسيط، ومنها ما هو مركَّب متفاصل، ومنها ما هو مركَّب متداخل معقّد. ويرتقي مستوى الكلام الأدبي لدى عِلْية الأدباء، ولدى العامّة أيضاً، بقدر ارتقاء المشاعر التي يأتي التعبير عنها ولو بطريقة مباشرة. ويصلح مثالاً لهذا سموُّ المشاعر في قول المتنبِّي لسيف الدولة:
إنْ كَان سَرَّكُمُو مَا قَالَ حَاسِدُنَا ... فَمَا لِجُرْح إِذَا أَرْضَاكُمُو ألَمُ
يَامَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ ... وِجْدَانُنا كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ عَدَمُ
ومركب المشاعر في قوله له:
يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إلاَّ فِي مُعَامَلَتِي ... فِيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
وإذا كان للمشاعر الوجدانيّة والنّفسيّة هذا الأثر في ارتقاء مستوى الكلام الأدبيّ، وفي تأثيره القويّ على النّفوس، فإنّ لدى الدّعاة إلى الله كنزاً عظيماً من المشاعر التي يتيسّر لهم الانتفاع منها في تحقيق أهداف الدّعوة، وفي رفع مستوى كلامهم الأدبيّ. ولا بد أنّ يكون المتكلِّم منفعلاً حقَّاً في عمق وجدانه ونفسه، بالمشاعر التي يريد التعبير عنها، ويحرص على تحريكها في أعماق سامعيه أو قارئيه.إنّه كلَّما كانت مشاعر الداعي حول ما يدعو إليه من دين الله أعمق، وكان إحساسه بها أعنف وأوضح، كان تأثيره في سامعيه أكثر وأعمق، ولذلك نجد تأثير المخلِصين عظيماً. وحين تقترن بهذه المشاعر الصادقة العميقة قدراتٌ أدبيّة على البيان، وتجارب مختلفات في ميادين التعبير الأدبي عن الأفكار وعن الأحاسيس والمشاعر النفسيّة أو الوِجْدَانيّة، فإنَّ القدرة على التعبير عن هذه المشاعر تكون أكمل وأوفى، ثم يكون الكلام أكثر نفاذًا إلى أعماق سامعيه أو قارئيه، وأكثر تحريكاً لمشاعرهم. ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام ملاءمة أسلوبه البياني للهدف العام من الكلام. وللمضمون الفكري في الموضوع العامّ الذي يجري فيه الكلام، وفي الفكرة الخاصّة التي يَتَحَدَّث عنها. ولوضع المخاطب وحالته الفكريّة والنّفسيّة والاجتماعية. ولِلْمُنَاخ النفسيّ العام الذي يُلقى فيه، أو يوجَّه له، فالمناخات النفسيّة كثيرة، ولكلٍّ منها أسلوب بياني يلائمه. وللتوصّل إلى الملاءمة المطلوبة التي هي عنصر مهمٌّ جداً من عناصر الجمال الأدبي لا بدّ من ملاحظة حال المخاطبين أو الّذين يُوَجَّه لهم الكلام وذلك بصفة عامّة. ويدخل في هذا ملاحظة بيئتهم العامّة، ومفاهيمهم السائدة بينهم. وملاحظة الحالة النّفسية والفكريّة والاجتماعية التي يكون عليها المخاطبون بصفة عامّة. ويدخل في هذا ملاحظة حالات السلم والحرب والأمن والخوف، وسعة الرزق والجوع، والنّصر والهزيمة، والإِيمان الكُفر والنِّفاق، والطمع واليأس، والمسرّة والحُزْن، والصفاء والكَدَر، ونحو ذلك من الأحوال النفسيّة الخاصّة، التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان. ويدخل في هذا أيضاً ملاحظة حالات الذّكاء والغباء، وطمأنينة الفكر واضطرابه، والعلم والجهل، ونحو ذلك من الأحوال الفكريّة التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان. ويدخل في هذا أيضاً ملاحظة الحالات الاجتماعيّة، كالبداوة والتحضُّر، والرفعة والضِّعة، والقوَّة والضعف، والقيادة والانقياد، ونحو ذلك من الأحوال الاجتماعية التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان. وملاحظة الظرفين الزماني والمكاني اللَّذين يُقَالُ فيهما أو يُعدُّ لهما لكلام. فمن الأساليب البيانيّة ما يلائم ظرفاً من الظروف الزمانيّة أو المكانيّة، في حين أنّه قد لا يلائم ظرفاً آخر. إنّ ما يلائم في مكان الفرح، لا يلائم في كان التَّرَح، وما يلائم في مواطن تأدية النُّسُك، قد لا يلائم في أسواق البيع والشراء، وكذلك العكس، وقس على هذه المتخالفات ملاحظة الْمُنَاخ النفسيّ العام، فالمناخات النّفسيّة كثيرة، ولكلٍّ منها أُسلوب بيانيّ يلائمه. ومنْ أمثلة الْمُنَاخات النّفسيّة: المناخ الخطابي، ، المناخ العاطفي، مناخ السفر، مُنَاخ الحضَر، مُنَاخ الخوف، مناخ الطمَع، مناخ القلق، مناخ الهدوء والسكينة، مناخ الغضب، مناخ الرِّضا، مناخ التربية والتعليم، مناخ الموعظة والإِرشاد، مناخ الخصومة والجدل، مناخ الطلب والاستجداء، مناخ الدُّعاء، وهكذا إلى مُنَاخات كثيرة أخرى. وملاءمةُ الأسلوبِ البيانيّ للهدف من الكلام هي رُكن أساسي وجوهري لارتفاع مستوى الكلام الأدبي البليغ . فحين يكون غرض الكلام مثلاً أنْ يُحْدِث تأثيراً إقناعياً، يكون الأسلوب البياني الأكثر إقناعاً وتأثيراً في هذا المجال هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة. وحين يكون غرض الكلام أنْ يُحْدِث انفعالاً حماسيّاً، ويستثير خلق الشجاعة والبسالة والإِقدام، يكون الأسلوب البياني الأكثر إثارة للحماسة واستثارة للبسالة والشجاعة والإِقدام هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة. وحين يكون غرض الكلام أنْ يُثِير الغضب أو يُحْدِث الغيظ، يكون الأسلوب البيانيّ الأكثر إثارة للغضب أو إحداثاً للغيظ، هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة. فمن أرفع الأدب في هذا المجال قوله الله تعالى في سورة (آل عمران) بشأن المنافقين الّذين إذا خلَوا عضُّوا أناملَهم غيظاً من المؤمنين: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الآية: 119] . وقول الله تعالى بشأن المشركين الذين يَكْرَهُوَن ظهور الإِسلام وانتصاره في سورة (الصف) : {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [الآية: 9] . ولكنّ الإِسلام قد عزل السباب والشتائم عن أدبه، وأوصى المسلمين بذلك، فقال الله تعالى في سورة (الأنعام) : {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الآية: 108] . كما عزل عن أدبه ما يسمّى بالأدب المكشوف أو أدب الفراش، وسَتَرَ القرآن عوراتِ هذا المجال بالكنايات والعمومات، مثل: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} [النساء: 43] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء} [آل عمران: 14] {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] ، [الأحزاب: 49] {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3، 4] {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] وحين يكون غرض الكلام تحقير من يوجّه الكلام ضدّه، أو السخرية منه، يكون الأُسلوب البيانيّ الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة، بشرط أن لا يعكس الأثر على موجِّه الكلام. وحين يكون غرض الكلام أنْ يستعطف من يُوَجَّهُ له، فيحرِّك لديه عاطفة الشفقة، أو الرحمة أو يحرِّك لديه خُلُق الجود، أو نحو ذلك، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة. وحين يكون غرض الكلام التودّد والتحبّب لمن يوجّه له الكلام، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً والأرفع منزلة في هذه الحالة. وحين يكون غرض الكلام استرضاءَ مَنْ يُوَجَّهُ له الكلام صراحة أو ضمناً، في دافع من دوافع نفسه، كالكِبْر، أو العُجْبِ بالنفّس، في جمالٍ، أو علمٍ أو حَسَبٍ، أو نَسبٍ، أو مكانةٍ اجتماعية، أو قُدْرَةٍ إداريّة، أو حِكْمَةِ أو حُنْكَةٍ، أو غيرِ ذلك، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً والأرفع منزلة في هذه الحالة. وهكذا في سائر أغراض الكلام. ولكلّ غرض من أغراض الكلام أساليبُ تُنَاسبه، فما يصلح في مجال الحماسة لا يصلح في مجال الإقناع، وما يحلو في الخطابة لا يحسن في مقام التعزية، وما يحسن في الجدل لا يحسن في مقام الاعتذار، وما يلائم بثّ الوَجْد، قد لا يلائم اسْتِجْدَاءَ الرَّفْد، وما يُنَاسِبُ المدح قد لا يناسب الهجاء. وذوق الأديب البليغ يُحِسُّ بوجوه الملاءمة أو عدمها بين أساليب الكلام وبين الأهداف منه، فيتحَرَّى أفضل الأساليب مُلاَءَمَةً للهدف الذي يقصده من كلامه. ولا غَرْوَ أنَّ بعض الأساليب الملائمة للهدف أكثر ملاءمة وأعظم تأثيراً من بعض. ثمّ لكل صنف من أصناف المخاطبين، ولكلّ حالٍ من أحوالهم الفكريّة والنفسيّة والاجتماعية أساليبُ ملائمة، وأساليبُ غير ملائمة، وعلى المتكلِّم البليغ أنْ ينظر في صنف من يريد توجيه كلامه له، وأنْ ينظر في حالته الفكرية والنّفسيّة والاجتماعية، ويُحسن اختيار الأسلوب الكلامي الذي يُلائمه ويؤثّر فيه فرداً كان أو جماعة. فمن أصناف النّاس عامّة وخاصّة ، وجاهلون وعلماء، وأغبياء وأذكياء ودَهْمَاء وأمراء، وبُدَاة جفاةٌ ومتحضِّرون، وأهلُ حِلْم وعقل، وأهلُ خِفّة وطَيْش، ومنهم من يُمْلَكُ من طريق عاطفته، ومنهم من يُمْلك من طريق عقله. وهكذا تختلف أصناف النّاس اختلافاً كثيراً، ولكل صنف منهم أساليب من القول تلائمه، وتكون أكثر تأثيراً في من أساليب أخرى. ونظير اختلاف النّاس اختلاف أحوالهم الفكرية والنّفسيّة والاجتماعية، فما يلائم الإِنسان وهو هادىء الفكر قد لا يلائمه وهو مشوّش الفكر مضطربة ، وما يلائمه وهو في حالة الرضا قد لا يلائمه وهو في حالة الغضب، وما يلائمه وهو فقير ذليل قد لا يلائمه وهو في سَعَة من المال وعِزّ، وما يَصْلُح له من الخطاب وهو وحده قد لا يصلح له وهو بين النّاس. وهكذا إلى سائر اختلاف الأحوال، ولكل حال أساليبُ من القول مناسبة، وبعضها أكثر مناسبة وملاءَمة وتأثيراً من بعض. وفي هذا المجال الذي تختلف فيه أهداف الكلام، وتختلف فيه أصناف المخاطبين، وتختلف فيه أحوالهم، تتفاوت مراتب البلغاء والبيانيِّين. وقد لا نستطيع حصر الأساليب البيانيّة وإنْ حاولنا ذلك، ولكنّنا نستطيع توضيح المراد من الأسلوب البياني بذكر طائفة من الأساليب الكلاميّة التي إذا كانت ملائمة للغرض العام من الكلام، والوضع العام للمخاطب، والحال الخاص له، والْمُنَاخ النفسيّ العامّ، كانت أسلوباً بيانيّاً مُرْتَقِياً في معارج البلاغة الراقية، والأدب الرفيع. فمن الأساليب الكلاميّة أسلوب الْعَرضِ المباشر الصريح للفكرة المراد الإِعلام بها، أو العرض الملامس بساتر. وأسلوب العرض غير المباشر الذي يُعْتَمَدُ فيه على مقدار ذكاء المخاطب، ويدخل في أسلوب العرْض غير المباشر التعريضُ والتَّلمِيح، ومعاريض الأقوال، والإِشارةُ الخفيّة، وفحوى الكلام، ولهذا الأسلوب صُوَر كثيرة جداً. وأسلوب الإِطناب وعرض الفكرة مبسّطة موضّحة من كل جوانبها، ولهذا الأسلوب مراتبُ وصُوَر كثيرة، وهذا الأسلوب يناسب أصنافاً من النّاس، وأغراضاً معيّنة من الكلام، وأحوالاً خاصّة للمخاطبين. وأسلوب الإِيجاز والاختصار، ولهذا الأسلوب أيضاً مراتب وصُوَر كثيرة، وأسلوب الإِيجاز والاختصار يناسب أصنافاً من النّاس، كالأذكياء، والأمراء، وأهدافاً معيّنة من الكلام، وأحوالاً خاصّة للمخاطبين. وأسلوب الترغيب، وله مراتب وصُوَر كثيرة، وهو في الغالب يلائم معظم النفوس الإِنسانيّة، لما أودع الله فيها من مطامع. وأسلوب الترهيب، وله أيضاً مراتب وصوَر، وهو كأسلوب الترغيب يلائم في الغالب معظم النّفوس الإِنسانيّة، لما أودع الله فيها من حذر وخوف. وأسلوب العُنْفِ والقسوة، وهو يلائم بعض النّاس وفي بعض الأحوال. وأسلوب الرِّقَّة واللّين. وأسلوب الإِثارة للعواطف والانفعالات، وكثيراً ما يكون هذا الأسلوب نافعاً ومجدياً في الحماسة والخطابة. وأسلوب الإِقناع الفكري الهادىء. وأسلوب الجدل. وأسلوب الكتابة التَّقْنِينيَّة، والكتابة العلميّة المحرّرة، والمحدِّدَة للمقاصد بنصوص بعيدة عن الاحتمالات الأخرى. وهكذا تختلف أساليب الكلام، وكلُّ منها يناسب أهدافاً معيّنة، وأصنافاً معيّنة من النّاس، وأحوالاً خاصّةً للمخاطبين، ومُنَاخَاتٍ نفسيّةً عامّة، وقد يجتمع عدد من أساليب الكلام في كلام واحد حينما لا تكون متنافية، أو حينما يلائم بعضها بعضاً.. وكلّما كان المخاطب أكثر ذكاء ورغبةً في تَلْبية الطلب، كان إخفاء الإِشارة إلى الطلب في أسلوب القول الدّال عليه لدى مخاطبته أعلى منزلة من الناحية البيانيّة، وأكثر بلاغة، هذا من غير النّصوص التي يُقصد منها تثبيت أحكام بعيدة عن الاحتمال الذي قد يُفهم منه غير المراد. وهنا تتكاثر الأساليب التي تشير في خفاء إلى المطلوب، وبعضها أرقى من بعض، أو أعذب وأحلى، أو أبدع أو أكثر نفعاً وتأثيراً. والبليغ حقاً هو الذي يُحْسِنُ الملاءَمَة بين أسلوبه البياني وبين الهدف الذي يقصده، والموضوع الذي يتحدّث فيه، ووضع المخاطب الذي يُوَجِّهُ له كلامه، وحاله التي هو عليها، وسائر الأمور التي يمكن أن يُلائِمَها أسلوب من الكلام ولا يلائمها أسلوب آخر. ولا بد من الإِشارة هنا إلى أنّ هذه المَلاءَمَة في الأسلوب البياني، ليست هي كلَّ شيء في تحديد الجمال والأدبي، بل توجد عناصر جماليّة أخرى كثيرة، قد يشتمل عليها الكلام أو لا يشتمل عليها مع مراعاة الملاءمة في الأسلوب البياني. ونظرةٌ في مختلف الأساليب البيانيّة تجعلنا نمرُّ على أسلوب العرض المباشر الجاف، فأسلوب العرض المباشر المغلّف بما يلطِّفه ويخفّف جفافه، ونمرُّ على الأسلوب الساذج البسيط، فما هو قريب منه. وقد يلطِّف العرضَ المباشر التشبهُ والتمثيلُ فيجعلُه ملموساً بساتر، والمحسِّنات اللّفظية، وأنواع من الزينة المعنوية، ودَعْمُ الخبر بالمؤكدات والشواهد، ودَعْمُ الطَّلَب بالمبرّرات والترغيب والترهيب. ثمّ نمرّ على أساليب العرض غير المباشر التي يدخل فيها التعريض، والتلميح، والكناية، والقصّة، وضرب الأمثال، وتَرْكُ صِيَغ الطلب إلى صيغ الْخَبَر الذي يراد منه الطلب، إلى غير ذلك من الأساليب البيانية الكثيرة التي لا يُعرض فيها المطلوب بشكل مباشر، وقد يقترن أسلوب العرض غير المباشر بما يؤكد الخبر الذي تضمّنه الكلام، أو بما يحرِّض على تحقيق المطلوب في الكلام، كالترغيب والرهيب. وأصحابُ الذَوق البياني الرفيع يُحسنون استخدام الفنون البلاغيّة التي يذكرها علماء البلاغة، وفنوناً أخرى يبتكرونها، فالفنون البيانيّة لا تُحصر، والفكر الإِنساني مؤهل لأن يبتكر فيها بدائع وروائع جديدة، تهديه إلى خصائص الإِبداع الفنّي التي وهبها الله للإِنسان. ومن عناصر الجمال الأدبيّ الذي يزيد الجمال جمالاً، والحسن حسناً وبهاء، التنويع والتنقّل والتلوين بين الصور والأشكال الجماليّة في الكلام. إنّ التزام الأديب لطريقة واحدة من الجمال الأدبيّ يكرّرها باستمرار في كلامه أو في معظم كلامه، ممّا يجعل مشاعر سامعيه أو قارئيه تَتَبَلّد تجاه هذا اللون من الجمال، فتفقد ما كنت تحسّ به من استعذاب وحلاوة وطلاوة، ويدبّ السأم إليها، ولا بد من الاستفادة من عكس الكلام للدلالة على فكرة أخرى، غدا هذا اللون بعد حين مادّة لتندّر بعض المقلّدين الساخرين. وهذا العكس في الكلام هو ما كان على وزن العبارة المشهورة: ("كلام الأمير أمير الكلام" ونقول في نظائرها: "الجمال الأدبيّ وأدب الجمال" - "الطَّبْعُ الْحَسَنُ والْحُسْنُ المطبوع". و"شعراءُ العلماء وعُلَمَاءُ الشعراء" - "روائع النَّثْرِ ونَثْرُ الرَّوَائع") . ومن التزام الوتيرة الواحدة المملّة ما نجده في مقامات الحريري على الرّغْم من حلاوة بعضه لأوّل مرة، لكنّ التّنقّل في الألوان الأدبيّة، والتنويع في استخدام العناصر الجمالية في الكلام، من الأسباب التي تجدّد إثارةَ الانتباه للإِحساس بالجمال، وتجدّد الاستمتاع بلذّة الأدب الجميل، وترفعه إلى مستوى الروائع، وتَمْنَعُ تسلُّل والْمَلَلِ إلى نفوس المستمعين أو القرّاء . إنّ التَّنَقُّل مثلاً في النَّثْر من المتوازنات القصيرة، إلى المتوازنات الطويلة، إلى المتفاوتات الرشيقة ضمن نسق معجب جميل أَحبُّ إلى النّفوس الحضاريّة الذوّاقة للجمال من الثبات على وتيرة واحدة منها. ثم إذا استطاع الأديب أنْ يُلاَئِمَ بين المضامين الفكرية وبين الأسلوب الذي اختاره كان ذلك أكثر إعجاباً وإبداعاً. وكذلك التَّنَقُّل من الخبر، إلى التساؤل، إلى الجواب، إلى التمنِّي فإلى الخبر، فإلى الحوار والمناقشة، فإلى الْجَدَلِ، فالْحَماسة، فالمنطقيّة العقليّة، فالعاصفة، فالحديثِ الهادىء، إلى غير ذلك من ألوان وفنون بيانيّة، مع شرط الملاءمة، وعدم التنافر الجمالي. ومع التنقّل ينبغي للأديب أنْ يكون قادراً على الإِحساس بالتحوّلات النّفسيّة لدى من يُوَجِّهُ له كلامه، ليختار من أساليب القول ما يلائم الحالة النّفسيّة التي وصل إليها. إنّ هذه القدرة على هذا الإِحساس، مع القدرة على التكيُّف السريع والانتقال إلى الأسلوب الأدبيّ الجديد الملائم، هي الوسيلة البارعة الموصلة إلى امتلاك الألباب والقلوب والنّفوس بأدب رفيع. ومهما كان الأديب أقدر على هذا التكيُّف، مع اختيار اللّون الأدبيّ الملائم، وأقدر على استخدام مختلف الأساليب في كلامه، والتَّنقُّل البارع بينها من غير تكلُّف ولا قفزات منفّرات، كان أكثر أدباً، وأرفع أسلوباً، وأقدر على امتلاك من يُوَجِّه له كلامه. ولنا في هذا بكتاب الله العظيم أسوةٌ رائعة، فمن خصائص الإِعجاز القرآني التنويع البديع الرائع في الأساليب، مع ملاءمة كلّ نوع من أنواع الأساليب للمضمون الفكري الذي يُرَادُ بيانه في النَّظْم القرآني المنزَّل. ومن عناصر الجمال الأدبيّ تزيين الفكرة المقصودة بالذات بأفكار أخرى عن طريق التمهيد أو المقارنة أو التذييل بعرض أفكار تمهّد للأفكار المقصودة بالذات، وتزيِّنُها وتجعلها مقبولة. وأمثلة هذا التمهيد كثيرة في القرآن العظيم ومنها: قول الله لرسوله في سورة (آل عمران) : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} [الآية: 159] . فقول الله لرسوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] تمهيد حلو في ثناء وتكريم، لتحذير ضمني من شيء غير واقع حتماً، ألاَ وهو الفظاظة وغلظ القلب الذي جاء بصيغة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . ثمّ نلاحظ أنَّ الجملتين معاً كانتا تمهيدين رائعين لتوجيه التكليف بقوله تعالى لرسوله: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] . وقول الله تعالى في سورة (آل عمران) : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الآية: 164] . إنَّ هذه الآية بمضامينها قد كانت تمهيداً يهيِّىء نفوس المؤمنين لتقبّل تلويمهم على ما بَدر منهم من تذمُّر واستنكار لبعض المصائب التي أصابتهم في أعمالهم الجهاديّة، بأسباب من عند أنفسهم، وهو ما جاء في الآية التالية للآية السابقة: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هاذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] . وقد علّم الله موسى أن يُمهِّد لفرعون بمقدِّمات العرض الرفيق جدّاً، قبل أنْ يوجِّه له الدَّعوة المقصودة، وهي أنْ يتزكّى أي يتطهّر من الكفر والطغيان والظلم والعدوان. فقال له كما جاء في سورة [ النازعات ] : { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى } [ الآيات: 17 - 19] . ونجد في القرآن آيات كثيرةً مختومة بنحو قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 4، 7 ] . {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [ البقرة: 195] ، [المائدة: 13] . {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] . {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58] . {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} [القصص: 77] . { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } [ آل عمران: 32 ] ممّا يشير إلى الوعد أو الوعيد بعد بيان المطلوب من فعل وترك. ومن عناصر الجمال الأدبيّ الرفيع في الكلام ضرب الأمثال، بشرط أن تتوافر فيها الشروط الفنِّية للأمثال، وتستجمع الشروط الأساسيّة العامّة للكلام البليغ. ويشترط في ضرب المثل أنْ يكون له غرض بيانيّ، لا أنْ يكون مجرّد عبث في القول. وللأمثال القرآنيّة أغراض يحسن أنْ يقصدها البلغاء هي الأغراض الأخلاقية والتربوية التي هدَفَتْ إليها الأمثال القرآنيّة ، كتقريب صورة الممثَّل له إلى ذهن المخاطب عن طريق المَثَل. والإِقناع بفكرة من الأفكار، وهذا الإِقناع قد يصل إلى مستوى إقامة الحجّة البرهانيّة، وقد يقتصر على مستوى إقامة الحجّة الخطابيّة، وقد يقتصر على مجرّد لفت النّظر إلى الحقيقة عن طريق صورة مشابهة. والترغيب بالتزين والتحسين، أو التَّنفيرُ بكشف جوانب القبح، فالترغيب يكون بتزيين الممثّل له وإبراز جوانب حسنة، عن طريق تمثيله بما هو محبوب للنّفوس مرغوب لديها. والتنفير يكون بإبراز جوانب قبحه، عن طريق تمثيله بما هو مكروه للنّفوس أو تنفر منه. وإثارة مِحْوَر الطّمع، أو مِحْوَر الخوف لدى المخاطَب، ففي إثارة محوَر الطمع يتّجه الإِنسان بمحرّض ذاتيّ إلى ما يُرَادُ توجيهه له، وفي إثارة محور الخوف يبتعد الإِنسان بمحرِّض ذاتيّ عما يُرَادُ إبعاده عنه. والمدح أو الذّم والتعظيم أو التحقير. وشَحْذُ ذهن المخاطَب، وتحريكُ طاقاته الفكرية، أو استرضاء ذكائه، لتوجيه عنايته حتّى يتأمّل ويتفكّر ويصل إلى إدراك المراد عن طريق التفكُّر. والأمثال التي يَدْفَعُ إليها هذا الغرض إنّما يُخَاطَب به الأذكياء، وأهل التأمُّل والنَّظر والبحث العلمي، وكبراء القوم. ومن خصائص الأمثال القرآنية. دقّة التصوير مع إبراز العناصر المهمّة من الصُّورة التمثيليّة. والتصوير المتحرِّك الحيّ الناطق، ذو الأبعاد المكانيَّة والزمانيَّة، والذي تبرز فيه المشاعر النَّفسيّة والوجدانيّة، والحركات الفكرية، للعناصر الحيّة في الصورة. وصدقُ المماثلة بين الممثَّل به والممثّل له. والتنويع في عرض الأمثال، مرّة بالتشبيه، ومرّة بالعرض المفاجىء وبالتمثيل البسيط، وأخرى بالتمثيل المركّب ؛ ومن عناصر الجمال والكمال الأدبيّ الرفيع في الكلام أنْ يكون له سطح تفهمه العامّة دون غموض ولا ارتباك ذهنيّ، وأنْ يكون له مع ذلك عمقٌ تفهمه الخاصّة بالتأمّل والتعمُّق وإعمال الذكاء. ثمّ كلّما تعمَّق في التدبُّر تواردت عليه مفاهيم جديدة تتكامل بها لديه المعرفة المتعلِّقة بدلالة الآية. والعمق في الكلام يتكوّن من عدم الإشارة باللّفظ إلى الترابط المنطقي بين المعاني، والكنايات البعيدة ذوات الدلالات المتتابعات. والمحاذيف التي تُحْذَف للإِيجاز، ويقتضيها معنى النّص، أو يستدعيها التوازن والتناظر والتكامل فيه، أو غير ذلك، ويبقى المعنى بعد حذفها صحيحاً، إلاَّ أنّه جزء من المعرفة التي يدلُّ عليها السطح والعمق معاً. والعمقُ القرآنيّ عمقٌ معجز، لهذا سيظلّ في القرآن جديد يفهمه المتدبّرون المتعمّقون. والسّطحُ والْعُمْقُ في القرآن شيءٌ غير الظاهر ، ومن ميزة السطح والعمق في القرآن أن الْعُمْقَ يُكَمِّل السطح، ولا ينقضه، ولا يتنافى معه. وشأن المتدبِّر في القرآن كشأن الباحث في سطح البحر وعمقه. ومن بُلغاء البيان مَنْ يكون لبعض كلامهم سطح وعمق، إلاَّ أنّ العمق لديهم سهل الاستخراج وقد يتنافى مع السطح. إنّْ قول المتنبِّي لكافور الإِخشيدي: (لقد كنت أرجو أنْ أراك فأطربا)" له سطح يمدح به كافوراً، لكنَّ له عمقاً يسخر به مومنْ ومن عناصر الجمال والكمال الأدبيّ الرفيع في الكلام أنْ يكون له عدّة أهداف، وهذه الأهداف كلُّها مقصودة به . وقد يكون الكلام مثلّث الهدف، أو أكثر من ذلك، وكل صاحب علاقة يأخذ من النَّصّ ما يناسب حاله، ويكْثُر هذا في النُّصوص القرآنيّة، فقد يكون الكلام تهديداً وتوعُّداً للكافرين، ووعداً للمؤمنين، وتربيةً وتأديباً وتسلية للرسول صلوات الله وسلامه عليه. ومن الأمثلة القرآنية على تَعَدُّد الهدف من النصّ قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال ) : {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} [الآية: 59] . ففي هذا النصّ هدف إلقاء الوهن في قُلوب الكافرين، ولو عظمت قوّاتُهم. وهدف رفع مستوى القوى المعنوية في قلوب المؤمنين، وشحذُ همّتهم لإعداد القوى المادية التي يسبقون بها الذين كفروا تمهيداً للتكليف بإعداد المستطاع من القوة الذي جاء في الآية التالية لهذا النص. ومن عناصر الجمال في الكلام الشعري أنْ يُرضي الحسّ الموسيقي في الإِنسان، ويدغدغه بإمتاع. ذلك نَّ للموسيقى وموازنيها تأثيراً مستعذباً في النُّفوس، فإذا جاء الكلام موزوناً على بعض موازنيها الحلوة المستعذبة اكتَسَبَ حلاوة مُحبَّبَة. ثم إذا توافرت في الكلام مع ذلك عناصر متلائمة من عناصر الجمال والكمال الأدبي ازداد الكلام حُسناً وقوّة تأثير في النَّاس. إنَّ الأشياء الجميلة التي تلامس مشاعر الإِنسان بمؤثراتها الحلوة من جانبين، هي أكثر تأثيراً فيه من التي تلامس مشاعره من جانب واحد. وكلّما ازدادت الجوانب ازدادت قوّة التأثير، حتّى تصل إلى محاصرة الإِنسان من كل مشاعره الجسديّة والنفسيّة والفكرية والوجدانيّة، فيفقد عندئذٍ كل مقاومته، ويستسلم استسلاماً تامّاً، مستغرقاً في لذّات المشاعر الحُلوة. إنَّه إذا اجتمع المنظر الجميل، والصوت الحَسَن، والرائحة الزّكية، والطعم اللّذيد، والملمس الحُلو الممتع، والرّاحة النّفسيّة، وكان الحديث أدباً جميلاً رفيعاً، موضوعاً بقالب موسيقي شِعري، فقد حاصر الجمال معظم مشاعر الإِنسان، وأخذَ يهيْمن عليها بمؤثراته الحُلوة، حتى يَسْلُبَها كل مقاوماتها، فتستلم استسلاماً تامّاً. ولمّا كانت النَّفس الإِنسانية تَطْرَبُ للموسيقى، وترتاح لموازينها الحُلوة، وكان الشِّعر كلاماً يجري في بعض جداولها، وعلى بعض موازنيها، كان للشعر تأثير حلو على النُّفوس الإِنسانية، ويتفاوت النَّاس في مدى إحساسهم بهذا النَّوع من أنواع الجمال في الوجود، وفي تذوُّقهم له، لذلك نلاحظ أنَّ بعض النّاس يتأثّرون بالشِّعر أكثر من بعض، مع وجود أصل التأثّر عند كل النّاس إلاَّ نادراً. وبعض النّاس لديه بالتكوين الفطري فِطْرَةُ نَظْم الكلام على ميزان شِعري. فالكلام الموضوع في قالب ميزان شِعري أسرع إلى الحفظ، وأثبت في الذاكرة، وأسهل استدعاءً عند الحاجة. فلا غَرْوَ إذن أنْ يكون الشِّعر عنصراً من عناصر الجمال , وإنَّ الشِّعر سلاح من أسلحة الأدب، وهو وسيلة حياديّة بذاتها، إنْ استُخْدِمت في الخير كانت خيراً، وإنْ استُخدِمت في الشرّ كانت شرّاً. وقد تكون شدّة الحذر من الانزلاق بالشِّعر إلى فئة الّذين يتَّبعهم الغاوون قد كفَّت كثيراً من الذين يملكون في فطرتهم القدرة الشِّعرية العالية عن أن يخوضوا بحور فنونه، ويستخدموه للدّعوة ويبلغوا فيه إلى مستوى فحول الشُّعراء. إنَّ نسبة الجمال في الكلام ترتقي جداً حينما نُدرك أنّ الأديب قد اختار الصورة البلاغيّة التي أوردها في كلامه لغرض فكريّ زائد على مجرّد اختيار صورة جماليّة بلاغيّة يذكرها علماء البلاغة. وإنَّ الصورة البلاغيّة مهما كانت جميلة في ذاتها تغدو كجسد بلا روح إذا كانت خالية من غرض فكري بياني تهدف إليه في البيان، باستثناء عناصر الجمال اللّفظي أو الموسيقي، والزِّينات التي لا تحتمل أداء غرض فكريّ بيانيّ. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] إنَّ الصورة البلاغيّة في النَّص تتلخَّص بإسناد السيلان إلى الوادي، مع أنّ المراد سيلان الماء فيه. إنَّ الذي يملك الحسَّ الأدبي الرفيع يقول: لا. لأنَّه يتساءل: ولماذا أسند السيلان إلى الوادي بدل إسناده إلى الماء؟ وما الدَّاعي إلى ذلك وما هو الغرض منه؟. وبالتأمّل يجد الجواب على تساؤله، إذ يرى أنَّ الغرض الفكري البياني من هذا الإِسناد هو إعطاء السامع أو القارىء صورة تُشْعِرُ على سبيل التخيّل بأنَّ الوادي يسيل فعلاً لكثرة تدفّق الماء وارتفاع نسبته في جانبي الوادي. وهذه الصورة قد تحدث في وهم الإِنسان أو في تخيّلاته حينما يشاهد هدير الماء الكثير الذي يغمر قدراً كبيراً من الوادي. فالتعبير إذن تصوير صادق لما يَجْرِي في التخيُّل لدى مشاهدة الحدث المادي. وقد يكون من عناصر الجمال الأدبي في الكلام الجمع بين الأشياء المتضادّة في صورة كلاميّة متناسقة. وذلك لأنَّ الأضداد سريعة التخاطر في الأذهان، فإيرادها قد يُحْدِثُ ارتياحاً جماليّاً في النَّفس. وفي الصُّوَر الحِسِّية مِشَاهِدُ للتضاد أمثال ذلك، والحسّ الذوّاق للجمال يتحكّم بإدراك التناسق أو التنافر في الصورة التي تجمع بين المتضادّات، إذ ليس كلّ جمع بين المتضادّات يُحْدِثُ هذا الارتياح النَّفسي قول الله تعالى في سورة [ النجم ] : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [الآيات: 43 - 45] . ومن ذلك قول الله تعالى في سورة (الحج/ 22/ 103 ) : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الآيات: 3 - 4] ، وقول الله تعالى في سورة (الروم) : { ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الآيات: 6 - 7] ، وقول الله تعالى في سورة (الأعلى) :{ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} [الآية: 13] . وقد يكون من عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام مسايرة المخاطب في تداعي أفكاره، بالمقدار الذي يُحْدِثُ الارتياح ولا يُورِث الملل. وإنَّ ممّا يُحْدِثُ المسرّة والارتياح في الكلام أنْ يُتَابِعَ الأنفس فيما تسترسل به من أفكار تتداعى، ويَجْلُبُ بعضها بعضاً، ويُمْسِكُ بعضها بأعناق بعض، بشرط عدم الاسترسال المملّ . وكثيراً ما يكون قطع الاسترسال وترك النَّفس لتستكمل بذاتها بقيّة العناصر هو الأجمل لديها، والأحبّ لمشاعرها. والأديب ذو الحسّ المرهف يستطيع أن يُدْرِكَ متى يحسن الاسترسال مع تداعي أفكار المخاطب أو القارىء، ومتى يحسن قطع الاسترسال، ومتى يحسن الانتقال لأمر مثير بالمفاجأة الحلوة المعجبة. فمن أمثلة المسايرة الحلوة لتداعي الأفكار قول الله تعالى في سورة (فاطر) : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} [الآيات: 27 - 28] . إنّ الحديث عن اختلاف الألوان في الثمرات يستدعي في الأفكار تصوّر اختلاف الألوان في الجبال، لأنَّها هي التي تبرز في اللّوحة الفنيّة أوّلاً بعد النّظر إلى الثمار في أشجارها، فيخطر اللّون الأبيض منها على اختلاف درجاته، فالأحمر على اختلاف درجاته، ثمَّ الأسود، ثمّ ينتقل الذهن بالتداعي الفكري إلى الألوان في الدوابّ والأنعام. هذا هو الأمر الغالب بالنسبة إلى واقع أحوال النَّاس. ولا يخفى أنّ متابعة الأفكار في تداعيها الذاتي كثيراً ما يكون مريحاً للنُّفوس، ومُعْجباً لها، فهو إذن من عناصر الجمال الأدبي، إذا استوفى شروطه، وخلا من المنفِّرات أو المزعجات، ولم يَطُلْ حتى يُحْدِثَ الْمَلَلَ والسّأَم. ومن الأمثلة أيضاً: قول الله تعالى في سورة (الغاشية) : {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ * وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} [الآيات: 17 - 20] . ففي هذه الآيات تصوير للوحة فنّية متحرِّكة، تبدو بالتتابع كما هي في النَّص، بالنسبة إلى الناظر الجالس في الصحراء، إذا مرّت بعيداً عنه قافلة من الإِبل. إنّ أوّل ما يلفت نظره لدى مشاهدة هذه اللّوحة من مشاهد الطبيعة، أنْ يتركَّز انتباهه في مشاهدة قافلة الإِبل، وتكون القافلة بالنسبة إليه هي بؤرة المشهد، لأنَّها هي المتحرِّك الآسر الجالب للانتباه، وتلقائيَّاً ينتقل نظره بعد ذلك إلى الأفق، من مستوى نظره إلى أسنمة الجمال إلى الأفق، حتّى إذا ملأ نظره من الأفق نزل ليرى الجبال من بعيد، ثمّ بعد ذلك ينخفض نظره ليركزّ انتباهه في مشاهدة الأرض المنسطحة. ومن عناصر الجمال الفنِّي نقل الأسماء أو الصِّفات من مواضعها الطبيعيَّة وإضفاؤها على غيرها ومن بديع هذا النَّقل قول الشاعر: (وسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ) فقد أضْفَى صفة السيلان على الأباطح، وهي لما يمرّ فيها، بعد أنْ أضفاها على أعناق المطيّ وهي للماء، لأنّ التخيّل يلحظ صفة سيلان الماء حينما يشاهد أعناق الإِبل تتموّج وهي تسير على الأباطح الجماد ومخاطبته، وقول الله تعالى في سورة (الكهف) في سياق قصّة موسى والخَضِر عليهما السلام: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الآية: 77] . ففي هذا نقل صفة الإِرادة التي هي للحيّ المريد، وإضفاؤها على الجدار الذي لا حياة له ولا إرادة، لأنَّ صورة الجدار هذا تُحْدِثُ في تخيّل الناظر إليه أنّه كعجوز من النَّاس هَرِم، وهو يريد أن يستريح من قيامه ويسقط إلى الأرض انقضاضاً كانقضاض الطائر راكعاً أو ساجداً أو مستلقياً، فأعطاه صفة الإِرادة وصفة انقضاض الطائر. وقول الله تعالى في سورة (يوسف/ 12/ 53 ) حكاية لقول إخوة يوسف لأبيهم: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الآية: 82] . أي: واسأل أهل القرية التي كنا فيها، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها . وقول الله تعالى في سورة (القمر) : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [الآيات: 11 - 12] . ففي هذا النّص تصويرٌ بارع يُبْرِزُ مشهدَ انصباب الماء من السماء، حتى كأنّ أبواباً فيها هي بمثابة سُدودٍ فتحت فانصبّ الماء المنحصر وراءها. ويُبْرِزُ مشهدَ تفجُّر الماء من مواضع لا تحصى من الأرض، حتّى لكأنّ الناظر إلى الأرض يرى أنّها كلّها قد صارت عيوناً يتفجّر الماء منها تفجّراً، ليلتقي في بحرٍ طامٍ خِضَمِّ لا يُبْقِي ولا يذر. وكتمثيل القرآن بقلب المؤمن في هدايته بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنّها كوكب درّي. قال الله تعالى في سورة (النور) : {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} [الآية: 35] . ففي هذه الآية ضرب الله مثلاً لنور القرآن المعنوي بمصباح أرضي من صنع النّاس، ذي نور صافٍ من أيَّةِ شائبة، وهذا النّور يتلألأ كالكوكب الدرّي، والقرآن بالنسبة إلى سائر كلام الله كقطَرة من بحر، وكذلك نور المصباح بالنَّسبة إلى سائر ما خلق الله من نور في الكون الكبير. ومن روائع التلويح إلى المعاني بالإِشارات التي لا تفهم إلاَّ بذكاء لمّاح، استعمال لفظة الكفّار المرادفة للفظة الزارع في قول الله تعالى في سورة (الحديد) : {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الآية: 20] . فقد استعملت هذه اللّفظة "الكُفّار" المرادفة في معناها هنا اللفظة "الزرّاع" بدل استعمال لفظة "الزرّاع" تلويحاً بأنّ مقابل الزرّاع في المثل هم الكفّار في الممثَّل له، فالمعجبون بزينة الحياة الدُّنيا المغرورون بها هم الكفّار، ويقابِلُهُمْ في المثل الزرّاع الذين يعجبهم النّبات إذا نزل عليه الغيث فاخضرّ وأنبت. ولمّا كانت تطلق في اللّغة لفظة "الكفّار" على "الزرّاع" لأنّهم بزرعهم يدفنون الحبّ في الأرض فيسترونه، والكفر في اللّغة هو الستر، اختيرت لفظة "الكفّار" هذه بالذّات، لتدلّ على الزرّاع في مكانها التي استعملت فيه، ولتلوِّح بأنّ مقابِلَهُمْ في الممثَّل له هم الكفّار بيوم الدين. ويزيدنا ثقّة بأنّ اختيار هذه اللّفظة هنا كان مقصوداً، لتَحْمِل هذا التلويح الذي لا يُتَنبَّه له إلاَّ بذكاء لمّاح اختيارُ كلمة "الزرّاع" في موقع آخر من القرآن، لأنّ ذلك الموقع لا حاجة فيه إلى مثل هذا التلويح، وهو ما جاء في وصف أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإِنجيل، كما روت لنا سورة (الفتح) إذ قال الله تعالى فيها: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} [الآية: 29] . فقد استعملت هنا لفظة "الزُّرَّاع" لأنّ مقابلها في الممثّل له ليسوا بكافرين، بخلاف "أَعْجَبَ الكفَّارَ نَبَاتُهُ" ومن تقريب الغائب بوضعه في صورة متخلية في أذهان المخاطبين، وصف طلع شجرة الزقوم بأنّه يُشْبِهُ رؤوس الشياطين، وهو ما جاء في سورة (الصافات/) بقول الله عزَّ وجلّ فيها: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الآيات: 64 - 65] . طَلْعُها: أي ثمرها. ففي أخيلة النّاس صورةٌ بشعة مرعبة لرؤوس الشياطين، فجاء تقريب صورة طلع هذه الشجرة الخبيثة، بأنّه أبشع وأقبح صورة تتخيّلونها، وهي رؤوس الشياطين ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام الإِتقان في إبراز دقائق الصورة، ماديّةً كانت أو غير مادّية، وذلك لدى رسمها في الصورة الكلاميّة، مع استيفاء العناصر اللازمة لإِبراز الحقيقة بشكل جميل وواضح. ويزيد الصورة جمالاً تركُ جوانب فيها يُتَابعها الفكر وحده، ويستكملها الخيال بنفسه، مع إيجاد المنافذ أو الإِشارات التي يُمْكِنُ الانطلاق منها إلى هذه الجوانب المتروكة، كالرمز، والإِشارة الخفيّة، وما يستتبعه الكلام باللّزوم الذهني، وغير ذلك . ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام لفت النَّظر إلى معانٍ دقيقة لا يتنبّه لها الذهن العاديّ من أوّل وهلة، لكنّه إذا لُفِتَ نَظَرُهُ إليها، أو انتبه لها بنفسه أُعْجِبَ بها، وربّما أحسّ أنه امتلك أمراً طريفاً لم يكن يخطر على باله. ومن أمثلة هذا قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "ومن بطّأ به عمله لم يُسرع به نسبه". وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ". وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "أنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً" قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: "تَحْجُزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ". فنبّه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأقوال على أفكار طريفة قلّما يتنبّه لها الذهن العادي، وقلّما تَخْطُر على البال، لا سيّما ما جاء في بيان نصر الظالم، فمن المثير للاستغراب دعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نُصْرَةِ إخواننا الظالمين، لكن من المريح والمثير للإِعجاب تفسير ذلك بَحَجْزِهِمْ عن الظلم، وكفِّهِمْ عن ممارسته والقيام به، لئلاّ يوقعهم في المهالك ؛ ومن عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام حُسْنُ تركيب الجمل، بتنظيم مفرداتها على وفق نَسَق متلائم لا تنافر فيه ولا تشاكس، وكذلك انتقاء المفردات الجميلة التي تحمل أقوى وأحلى وأدقّ دلالة على المعنى المراد، والأديب ذو الحسّ المرهف يُلْقِي على المعاني التي لا يجمل التصريح بها سِتْراً كلاميًّاً، إذ يدلُّ عليها بالكنايات والإِشارات والتلميحات ومعاريض الألفاظ.ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى في سورة (النِّساء) : {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [الآية: 43] . من الغائط: أي من المكان المنخفض الذي يذهب إليه عادةً من يريد قضاء حاجة الإِنسان، والتعبير بقوله تعالى: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} [المائدة: 6] . فيه كناية عن قضاء الحاجة الناقضة للوضوء. أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ: فيه كناية عن الجماع وهو عمل يجب ستره وإن كان مباحاً، فَحَسُنَ في الكلام ستره بالكناية. وكذلك فيما حُكي عن أم المؤمنين عائشة عن حالها مع الرسول في عدم النَّظر إلى العورات: "ما رأيت منه ولا رأى منِّي" تعني العورة المغلَّظة. ومن عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام تخصيص بعض المترادفات ذات الدلالة اللّغويّة العامّة بما فيه خير ورحمة، وتخصيص بعضها الآخر بما فيه شرّ وعذاب. وهذا من الأدب القرآني الرفيع، ومنه قول الله تعالى في سورة (النساء) : {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} [الآية: 85] ففي جانب الشفاعة الحَسَنة استعملت كلمة "نصيب" وفي جانب الشفاعة السيِّئة استعملت كلمة "كِفْل" مع أنَّ الكِفْلَ والنصيب مترادفان في اللّغة، ويستعملان في الخير والشرّ، والرحمة والعذاب، ولكنّ تباين النصيبين في الحقيقة اقتضى في أدب اللّفظ التَّغَايُر في الكلمات الدّالاّت على المراد ضمن النصّ الواحد. فالتغيير هنا جاء بتغيير اللّفظ كلّها مادّة وصيغة.


الشاعر والناقد :حسين علي الهنداوي
صاحب موسوعة ( المرصد الأدبي ) حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صقحة