أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: أثر الشخصية في الأساليب الأدبية -حسين علي الهنداوي

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2016
    المشاركات : 710
    المواضيع : 706
    الردود : 710
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي أثر الشخصية في الأساليب الأدبية -حسين علي الهنداوي

    أثر الشخصية في اختلاف الأساليب الأدبية

    المستشار الأدبي
    حسين علي الهنداوي
    شاعر وناقد
    مدرس في جامعة دمشق
    صاحب الموسوعة الأدبية ( المرصد الأدبي )
    حجم الموسوعة( خس عشرة ألف صفحة )
    سوريا -درعا


    وأما في هذا الفصل فالمراد بيان آثار هذه الشخصية في الأسلوب. ومعنى ذلك أننا نفرض معرفتنا شخصيات جماعة من الأدباء كتابا وشعراء وخطباء، ثم نلتمس مظاهر هذه الميزات الفردية فيما ينشئون من نصوص أدبية، ونقصر الكلام في هذا على نواح ثلاثة:
    الأولى: من حيث الألفاظ حين يختلف الأدباء في الألفاظ والجمل، والفقر والعبارات.
    الثانية: من حيث المعاني، كالمطابقة بين اللفظ والمعنى، أو ترجيح جانب اللفظ على جانب المعنى، وعكس ذلك.
    الثالثة: من حيث الصنعة حيث يعمد الأدباء إلى الأسلوب الطبعي أو المصنوع صنعة بديعية، قوامها السجع، والجناس، والمطابقة، ونحو ذلك.
    وسنحرص هنا على الإيجاز مكتفين بالإشارة إلى بعض الأمثلة ومحيلين على ما سبق ذكره في الفصول السابقة.
    الناحية الأولى:
    وتتناول الاختلاف في الألفاظ، والجمل، والفِقَر، والعبارات. والمراد بالألفاظ الكلمات المفردة التي تتألف منها الجمل، وهي أسماء، وأفعال،
    مع ذلك ذات خواص متباينة، كأن تكون دقيقة محدودة أو مبهمة مشتركة، اصطلاحية علمية. أو فينة عامة، رقيقة أو خشنة، عامية، أو فصحى، موسيقية رشيقة، أو عادية جافة، لونية أو صوتية إلى نحو ذلك.
    وتتألف الجملة من الألفاظ لتؤدي فكرة واحدة تامة، وتكون الجملة اسمية أو فعلية، خبرية أو إنشائية، طويلة أو قصيرة، جزلة أو رقيقة، تامة العناصر أو مختصرة، مثبتة أو منفية، أصلية أو فرعية؛ وغير ذلك. والفقرة عدة جمل تكون فصلا من المقالة، وهي تقوم على الصلات بين الجمل، وتنوعها، وربطها معًا، ففيها الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب والمساواة، وفيها الرابطة اللفظية والمعنوية التي تصلها بما قبلها وما بعدها. وتكون بسيطة سهلة أو معقدة مضطربة؛ وهي تختلف بحسب موقعها من الموضوع مقدمة أو نتيجة أو غرضًا.
    وأما العبارة فهي العنصر اللفظي من الأسلوب، أو هي هذا الأسلوب اللفظي الذي يقابل الأسلوب العقلي والصوري، والعبارات تقوم على هذه العناصر المذكورة قبلًا ثم تتأثر بمنهج البحث وبالموضوع وبمزاج الكاتب، وذوقه وطبيعته كلها، والأدباء يختلفون في ذلك كله تبعًا لطبائعهم وأذواقهم وثقافتهم وبيئاتهم فترى الموضوع الواحد من الفن الأدبي، يتوارد عليه أصحابه فإذا كل طراز بعينه في اختيار الكلمات، وصوغ التراكيب والعبارات التي تمثل نفسه وخلقه ودرجة انفعاله. يقول ابن الأثير( المثل السائر ص69.) : "أعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دمائة ولين أخلاق. ولطافة مزاج، ولهذا نرى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي". وهذا القانون طبعي في الخطابة والكتابة إذ كانت شخصية الأديب تتخذ من هذه العناصر اللفظية وسيلة للتعبير عن طبيعتها وعرض مزاياها.
    1- فإذا رجعت إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة "أبي تمام، والبحتري، والمتنبي" وهم يعتبون. تبين لك: رقة البحتري، وجزالة أبي تمام، وقوة المتنبي في الألفاظ المفردة، ثم سهولة البحتري وتدقيق أبي تمام وصرامة المتنبي في الجمل، والبحتري بعد ذلك سلس العبارة عذب الموسيقى له، ديباجة الحرير واطراد الماء الجاري. وأبو تمام محكم العبارة. مركب الموسيقى بطيء متئد يتقن الصنعة، ويؤلف التراكيب بحكم العقل، وأما المتنبي فعبارته كخطته في الحياة، سريعة موجزة عجلى، لا تبالي بما قد تتعثر فيه من أخطاء وتعقيد، فاضطراب العبارات عند أبي تمام نتيجة صنعته المقصودة، وهو عند المتنبي ثمرة سرعته الشديدة وهجومه العنيف أو -كما يرى بعض النقاد- مفارقات محبوبة، ومع ذلك فاقرأ هذه الأمثلة للبحتري:
    ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا ... مقصرًا من صبابةٍ أو مطيلا
    قف مشوقًا أو مسعدًا اوحزينًا ... أو معينًا أو عاذرًا أو عذولا
    إن بين الكثيب فالجـــــــــــزع فالا ... رام ربعًا لآل هند محيــــــــــلا
    لم يكن يومنا طويلا بنــــــــــــــعما ... ن ولكن كان البكاء طويلا
    تجد العبارات متدفقة متواصلة، تمر كالنسيم العليل أو الألحان العذبة، لا توقف فيها، ولا تكلف؛ لأن البحتري يستلهم طبعه السمح ونفسه الراضية وعاطفته الرقيقة الصادقة، وذوقه الفني الجميل . ولأبي تمام:
    لو حار مرتاد المنية لم يجـــــــــــد ...إلا الفراق على النفوس دليــــــــــــــلا
    قالوا: الرحيل، فما شككت بأنها ... نفسي من الدنيا تريد رحيــــــــــــــــلا
    الصبر أجمل غير أن تـــــــــــــــــلددًا ... في الحب أحرى أن يكون جميلا
    أتظنني أجد السبيل إلى الــــــــعزا؟ ... وجد الحمام إذًا إلي سبيـــــــــــــــــــــل ا
    رد الجموح الصعب أسهل مطلبا ... من رد دمع قد أصاب مسيــــــــــــــلا
    ذكرتكم الأنواء ذكرى بعضكـــــــــــم ... فبكت عليكم بكرة وأصيـــــــــــــــــــــ ـلا
    إني تأملت النوى فوجدتــــــــــــــــها ... سيفًا على أهل الهوى مسلــــــــولا
    ترى آثار عقله وصنعته وحذره وأناته وذكائه، في التنسيق المنطقي وإحكام التركيب شرطًا، وجزاء، واستثناء، وترتيبًا، واستنباطًا، فعبارته كالموسيقى المقسمة المتئدة، أو الماء الجاري بين الصخور، يتمهل ليظفر بالمنافذ والمسارب.
    وللمتنبي:
    وللسر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب
    وللخود مني ساعة ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجاب
    وما العشق إلا غرة وطماعة ... يعرض قلب نفسه فيصاب
    وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للزجاج ركاب
    وتركنا لأطراف القنا كل شهوة ... فليس لنا إلا بهن لعاب
    فهذه الشخصية العجلة العنيفة، الطامحة المتعالية3 قد جعلت الكلمات قوية متحركة، والتراكيب موجزة منوعة والعبارة منساقة بسرعة كالريح العصاف أو الموسيقى الصاخبة، أو السيل يجرف ما يصادفه لا يبالي كيف تكون النتيجة.
    فالشعر عند البحتري فن التصوير والتعبير، وعند أبي تمام فن التفكير والتصوير والتعبير، وعند المتنبي فن الحكمة والمراسيم التي تلقى قضايا حاسمة لا مرد لها.
    وتجد نحو ذلك بين جرير والفرزدق، وبين حافظ وشوقي، والعقاد والمازني ومطران والجارم؛ لكل ميزاته الشخصية فيما يقول.
    2- وهؤلاء الكتاب الذين أشرنا إلى صفاتهم الشخصية في الفصل الماضي -الجاحظ، والبديع، وابن خلدون- وأوردنا شواهد من آثارهم يفترقون في التعبير كذلك. فالجاحظ يتحرى دقة الألفاظ ليحسن الوصف، ويردد الجمل أو بعض عناصرها ليكمل معانيه ويؤكدها، ويلجأ إلى الازدواج والتقسيم الموسيقي دون التزام السجع، ويستخدم الاعتراض داعيًا أو محترسًا ويطنب ملحا وراء الأفكار والصور، ويكثر من المقابلة والتقسيم. ولكن البديع يتخير جزل الألفاظ والتراكيب، ويكثر من الصور البيانية التي هي تكرار صوري للفكرة الواحدة، يكثر من البديع طباقًا وجناسًا، يقتبس لغة الشعر ليوشي بها نثره، سجعه قصير، وعباراته جزلة إيجازية إذا قيست بعبارة الجاحظ السمحة المبسوطة، فالرجلان يمثلان مدرستين مختلفين في التفكير والتصوير والتعبير. وابن خلدون دقيق الكلمات بسيط العبارات تشيع فيها المصطلحات العلمية والفنية، رتيب الأسلوب لا ينوعه، لا يسلم من الركاكة والجفاء، لا يتراءى فيه الجمال والبراعة، معني بالمعنى أكثر من اللفظ، نزعته تقريرية، فهو من طراز آخر، وإذا كان لا بد من اختصار ذلك كله فالجاحظ في أسلوبه جميل، والبديع قوي، وابن خلدون واضح. وإذا ذهبت تتبين شواهد ذلك بين المعاصرين من الكتاب وجدت أشكالًا شتى من العبارات التي تمثل الشخصيات، فالمازني سهل جميل، والعقاد جزل عفيف، وهيكل واضح هادئ، والبشري دقيق اجتماعي، وهكذا لكل سمة عليه غالبة.
    3- أما الخطباء فليسوا أقل من زملائهم في هذه الناحية، فهذا معاوية بن أبي سفيان الداهية، الحليم، والسياسي البارع1 تقرأ خطبته فتلقى ألفاظًا سهلة وجملًا كأنها رسالة مكتوبة، وعبارات منطقية مطردة كأنها عتاب، أو خطة للحكم يعرضها رئيس الحكومة على النواب، لا إغراب، ولا عنف جعلها المنطق الإقناعي، والتحبب العاطفي الحذر أشبه بعقد مصالحة أو قصيدة عتاب، وزياد بن أبي سفيان الحكام الحازم، والقوي الصارم1 يعتمد على نوعين من التأثير: المعنوي واللفظي؛ فالكلمات جزلة قوية، والسجع والمبالغة وقوة التصوير شائعة في خطبته البتراء "أما بعد؛ فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله على النار.... أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات؟ "، جملة قصيرة عنيفة متنوعة "لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، فإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه ... فمن أغرق قومًا أغرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نقب بيتًا تقينا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه فيه حيًّا" وعبارته، على العموم حسنة التقسيم، والتنويع، قوية التأثير، سريعة الحركة، وهي -كشعر المتنبي- أوامر صارمة أو مراسيم ملكية. وأما الحجاج بن يوسف الثقفي فقد أربى على زياد، وتجاوز العنف إلى التهديد والوعيد وإلى الرغبة في الدماء؛ وتمنى المصارع والمهالك، كان الحجاج جاهليًّا، جبارًا، لا يراعي حرمة دينية ولا يؤمن إل بالقوة والتخويف، يقوم الحكم عنده على السيف، ويفترق عن زياد بطغيانه الشديد على الرعية، مع ضعفه أمام الخليفة عبد الملك، ولكن زيادًا مع عنفه في الحكم استطاع أن يعرف لنفسه كرامتها مع معاوية، وعلى أية حال فإن خطبة الحجاج حين ولي العراق2 تعد معرضًا لصفاته المذكورة. فالألفاظ ضخمة كالصخور. والجمل مقتضبة صاخبة. والتصوير يمثل الهلاك والبلاء. والعبارة أقوى من إعلان الحرب. والتأثير يعتمد فوق ذلك على اقتباس الأشعار وآيات الإنذار الإرهابية:.
    أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
    يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى. ثم قال بعد أبيات:
    قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا
    والقوس فيها وتر عـــــــــــــــــــرد ... مثل ذراع البكر أو أشد
    لابد مما ليس منه بد
    ثم يقول: "والله لأحرمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون". كان سعد زغلول خطيبًا كامل الأداة، قوي التأثير، وبارع الأسلوب يجمع بين قوة الإقناع، وبلاغ الأداء، ومصطفى النحاس تغلب عليه في خطابته النزعة التقريرية الوصفية مع صحة المنطق ووضوح العبارة، ومكرم عبيد، يعتمد في التأثير على التصوير البياني، والخيال الشعري، فإن حاول الإقناع عاد مقررًا، أو كاتبًا أديبًا.
    الناحية الثانية:
    وهناك مظهر ثان لآثار الشخصية في الأسلوب، وهو مقدار الصلة بين اللفظ والمعنى، فمن الأدباء من يطابق بين اللفظ والمعنى، ومنهم من يعنى بأحدهما أكثر من الآخر.
    1- والأصل الذي يتصل به هذا المظهر هو أن الغرض من التعبير والبيان إظهار ما في النفس من الحقائق والعواطف والأخيلة، وإيصالها إلى القراء والسامعين، ووسيلة ذلك هي الأسلوب -أو العبارات اللفظية- إذ كانت غايته الإفهام أو التأثير أو هما معًا. ومعنى هذا أن الواجب على الأسلوب تحقيق هذه الغاية تحقيقًا كاملًا، فلا بد أن يكون صادق الأداء، مساويًا للمعنى المراد، لا يزيد ولا ينقص. وقبل ذلك يكون الأديب المنشئ فاهمًا ما يريد أداءه، صادق الشعور به ( العمدة، ج1،ص28.)
    1- وعنده الوسائل اللغوية والتصويرية اللازمة، فإذا ما توافر له ذلك استطاع البليغ أن يحقق المطابقة بين اللفظ والمعنى، وأن يجعل كلا منهما كفئًا للآخر.
    وأما القاعدة النفسية أو العلمية لهذه الظاهرة فهي أن ما يتوافر في نفس الأديب من فكرة واضحة أو انفعال صادق يجذب إليه من الألفاظ، والعبارات، والصور ما يلائمه بطريقة تكاد تكون آلية لا تكلف فيها ولا صنعة، وهذا هو المثال الطبيعي للأسلوب، بل هناك هذا الرأي القائل بأنه لا توجد فكرة في الذهن دون لفظ يحددها. ولا توجد عاطفة بغير صورة تمثلها. وفي هذا المعنى يقول ابن رشيق : "اللفظ جسم وروحه المعنى وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يضعف بضعفه، ويقوى بقوته. فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصًا للشعر. وهجنة عليه كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور. وما أشبه ذلك غير أن تذهب الروح. وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظا كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح. ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب قياسًا على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتًا لا فائدة فيه. وإن كان حسن الطلاوة في السمع. كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة. وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى لأنا لا نجد روحًا في جسم ألبته". وهذا الذي ذكره ابن رشيق كما يجري في الشعر ينطبق على النثر تمامًا: "وبعضهم وأظنه ابن وكيع مثل المعنى بالصورة واللفظ بالكسوة. فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس. فقد بخست حقها وتضاءلت في عين مبصرها". ويقول ابن الأثير( المثل السائر، ص137.): "اعلم أن العرب كما كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها. وأكرم عليها. وأشرف قدرًا في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بالألفاظ لأنها لما كانت عنوان معانيها. وطريقًا إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها، وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع لها في النفس وأذهب بها في الدلالة على القصد. فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها. ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط. بل هي خدمة منهم للمعاني. ونظير ذلك إبراز الصور الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة. فإنا قد نجد من المعاني الفاهرة ما يشوه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه". والمطابقة بين اللفظ والمعنى تتحقق بالتعبير الطبيعي الذي يترك فيه الأديب نفسه على سجيتها السمحة دون أن يعمد إلى صنعة شاذة أو تكليف ممقوت.
    فيكون من ذلك المساواة وصدق الأداء وتنوع العبارة حسب الموضوع والشخصية كما سبق ذلك فلا حاجة إلى إعادته أو تمثيله. ونشير هنا إلى أن مظاهر هذه المطابقة، كما تتراءى في الألفاظ والعبارات، تظهر أيضًا في الوزن الشعري أو البحر العروضي الذي يختاره الشاعر، وفي القافية التي يؤثرها على غيرها ( الصناعتين ص133، 141.) ، وفي الصورة الخيالية التي يؤثر بها عواطفه، ليكون الأسلوب من روح المعنى وعلى مثاله من غير حاجة إلى ركوب الضرورات الشعرية ( نقد الشعر لقدامه ص56.. ) ، ومع ذلك فإن حاولت الظفر بأمثلة لذلك رأيتها عند أمثال عبد الحميد الكاتب، وزياد بن أبيه، والبحتري ممن يعدون طبيعيين في التعبير، ولم يتشبثوا بصنعه، ولم يحبسوا نفوسهم عند تعمق في المعاني، ولا تكلف في الألفاظ. فهذا البحتري يذكر قتال الأقارب معًا، وما يلابسه من عواطفه متباينة؛ إذ يصطدم الحب والبغض، والشفقة والقسوة، وتمتزج الدماء بالدموع، بأسلوب لا يصلح غيره لتصوير هذه الحالة التي كانت بين تغلب مع دقة الصنعة:
    أسيت لأخوالي ربيعة إذ عفت ... مصايفها منها، وأقوت ربوعها
    بكرهي أن باتت خلاء ديارها ... ووحشًا مغانيها، وشتى جميعها
    وأمست تساقي الموت من بعدما غدت ... شروبًا تساقي الراح رفهًا شروعها
    إذ افترقوا عن وقعة جمعتهم ... لأخرى دماء ما يطل نجيعها
    تذم الفتاة الرود شيعة بعلها ... إذا بات دون الأثر وهو ضجيعها
    حمية شغب جاهلي وعزة ... كليبة أعيا الرجال خضوعها
    تقتل من وتر أعز نفوسها ... عليها بأيد ما تكاد تطيعها
    إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
    شواجر أرماح تقطع بينها ... شواجر أرحام ملوم قطوعها
    فمن أية ناحية نظرت إلى هذا النص وجدته مطابقًا لمعناه أحسن مطابقة: جزالة تلائم مواقف الحروب، وتقسيم، ومقابلات، لتصوير الصلات المتناقضة وصور تملك ما ملك النفوس من تعاطف مكبوت وغل ثقيل بغيض وعبارة موسيقية تردد بعناصرها اللفظية ما يتردد في النفوس من تيارات عاطفة متنافرة.
    لذلك تجد أسلوب الشاعر هنا بطيئًا بعض الشيء يشبه اعتذار أبي تمام السابق وذلك لاضطراري البحتري إلى شيء من الصنعة والجزالة يحقق به حسن التصوير ودقة التعبير.
    فذلك هو الأسلوب المثالي المطبوع، وهذا النص من أروع الشعر العربي جميعه.
    2- ومع ذلك، ظهر منذ العصر الجاهلي جماعة من الشعراء5 عدلوا عن
    هذه الطبيعة الفياضة. وعمدوا إلى أسلوب الشعر يهذبونه ويصقلون لفظه بحذف غريبه أو متنافره، والحرص على انسجام موسيقاه وتحري مساواته. والتناسب بين فقره وجمله. ليكون جزلًا حسن السبك مع خلوه من التكلف الممقوت والبديع المقصود. حتى صار الأسلوب الشعري صنعة أو فنا يقصد إليه ويعنى بأحكامه وخلوه من الفضول اللفظي والغلو المعنوي. وكان زهير بن أبي سلمى أنجب تلاميذ هذه المدرسة، وكان الحطيئة أنجب تلاميذ زهير وتبعهم بعد ذلك أبو تمام -في بعض شعره- ومسلم بن الوليد. وعبد الله بن المعتز ممن أخذوا عن السابقين إحكام الأسلوب فيما بعد. واتخذوه حرفة يدوية وعبث أطفال. يقول ابن رشيق في (العمدة جزء أول ص83 و172.): "ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولا وعليه المدار، والمصنوع وإن وقع عليه الاسم فليس متكلفًا تكلف أشعار المولدين لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تعمد. ولكن بطباع القوم عفوًا فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف؛ يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفًا من التعقب بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة. وربما رصد أوقات نشاطه فتباطأ عمله لذلك. والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل فتترك لفظة للفظة أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون. ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته وبسط المعنى وإبرازه وإتقان بنية الشعر وإحكام عقد القوافي وتلاحم الكلام بعضه ببعض". ومع ذلك قول زهير يمدح هرم بن سنان:
    وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب فواضله
    أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
    تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
    فالشعر بريء من التنافر والإغراب. مع حذف الفضول. والقصد في المعنى وحسن التناسق بين الجمل وبين المعاني، حتى بدا محكمًا متقنا ملحوم الجوانب قد عمل فيه العقل والذوق بجانب العاطفة وقد مضى مثال الحطيئة من باب المديح.
    ويقول ابن رشيق: في ( العمدة جزء أول، ص84، 85.) "فأما حبيب -أبو تمام- فيذهب إلى حرونة اللفظ وما يملأ الأسماع منه مع التصنع المحكم طوعًا أو كرهًا يأتي للأشياء عن بعد ويطلبها بكلفة. ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة. وأحسن مذهبًا في الكلام. يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ. لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة وما أعلم شاعرًا أكمل ولا أعجب تصنعًا من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر وهو عندي ألطف أصحابه شعرًا وأكثر بديعًا وافتنانًا وأقرنهم قوافي وأوزانًا. ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب". ثم يقول في ( العمدة جزء أول، ص84، 85. ) : "وقال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب -المتنبي- إنما حبيب كالقاضي العدل يضع اللفظة موضعها ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر والبحث عن البينة. كالفقيه الورع يتحرى في كلامه ويتحرج خوفًا عن دينه، وأبو الطيب كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهرًا وعنوة أو كالشجاع الجرئ يهجم على ما يريده لا يبالي ما لقي ولا حيث وقع". ونحو ذلك حصل في النثر أيضًا، فلقد كان في صدر الإسلام جزلًا طبيعيًّا يرتجل في كثير من الأحيان ويكون فيضا لما في النفوس من المعاني، سواء في ذلك الأحاديث، والخطب، والرسائل، حتى جاء عبد الحميد الكاتب ( رسائل البلغاء التي نشرتها مجلة المقتبس ) ، فكانت آثاره طبيعة سهلة لا صنعة فيها ولا تكلف، وكان بجانبه عبد الله بن المقفع ( رسائل البلغاء التي نشرتها مجلة المقتبس ) يقوم في النثر بما كان يقوم به في الشعر زهير والحطيئة، وأبو تمام في خير شعره. وكان كتاب العصر العباسي الأول -كأحمد بن يوسف، وعمرو بن مسعدة وإبراهيم الصولي- ( تاريخ أدب اللغة في العباسي لأحمد الإسكندري.) يحكمون الرسائل، وينشئونها جزلة، دقيقة المعاني، عالية الأسلوب، كما كتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون في رجل يستشفع له بالزيادة في منزلته، وجعل كتابه تعريضًا لنفسه: "أما بعد فقد استشفع بي فلان يا أمير المؤمنين لتطولك علي في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فيما يرتزقون وأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعة، والسلام". فكتب إليه المأمون: "قد عرفنا تصريحك، وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما، ووقفناك عليهما". وجاء الجاحظ في القرن الثالث فكان أستاذًا لمدرسة خاصة أو كان هو هذه المدرسة الكتابية التي أشرنا إليها فيما مضى. وأما كتاب الصنعة البديعية فقد كانوا في القرن الرابع الهجري، (النثر الفني في القرن الرابع لزكي مبارك.) وهم الذين فتحوا بابًا كان فيما بعد شرًّا على الأساليب الأدبية لما دخل فيه المتكلفون العاجزون، وقد عرفت طرفًا من أساليبهم عند بديع الزمان. وعندي أن هذه الطبقات من الشعراء والكتاب تمثل طورًا طبيعيًّا من أطوار الحضارة الأدبية التي تُعنى بالأدب كما تعنى بسواه ليكون أقوم أسلوبًا، وأجمع بين قيمة المعاني وقيمة الأساليب، على أنهم كانو، وبخاصة بعد الإسلام متأثرين بألوان من الفنون، والعلوم الإسلامية والدخيلة وبفراغ وتنافس أكسبت الأدب هذا الوضع الفني الجديد، فلا لوم عليهم ولا عتاب ولا مانع أن ينضافوا إلى السابقين كما يرى ابن الأثير (المثل السائر ص137.) .
    3- وبعد ذلك تواجهنا هذه القضية الكبيرة أو المعركة العنيفة، بين أنصار اللفظ، وأنصار المعنى، فإن هذه الثقافة الواسعة التي توافرت للأدباء، منذ العصر العباسي، مع ذكاء العقل قد حملتهم على العناية بالمعاني فغذوا الأدب بأفكار فلسفية وآراء دينية، وملاحظات دقيقة عميقة، وكان أبو تمام من أسبق الشعراء وأظهرهم في ذلك، ثم ابن الرومي، والمتنبي، وأبو العلاء في ذخيرته الفلسفية -اللزوميات- وكان من ذلك، ولا سيما عند شعراء الصنعة، أن ضعفت روعة اللفظ وسلاسته، وبدت عليه الجفوة العلمية أو الكلفة البديعية، وبجانب هؤلاء بقي آخرون محتفظين بالطبع السمح والديباجة السهلة الجميلة كالبحتري، وأبي العتاهية والعباس بن الأحنف، وظهرت لهم مقطوعات بالغت في السهولة حتى عادت باردة سخيفة. فكان من ذلك، ولأسباب أخرى، أن نشطت حركة النقد، وانتصر جماعة لكل فريق، واختلف الباحثون حول هذه المسألة: أين تقع البلاغة؟ أفي اللفظ أم في المعنى أم فيهما معًا؟ وأي هذين الفريقين من الشعراء أظفر بعمود الشعر، وأجدر بالاحترام؟ وخلاصة ما يحتج به أنصار اللفظ ( مقدمة ابن خلدون؛ ص856، والصناعتين ص55.) أن المعاني معروفة للناس سهلة الإدراك، يكفي أن تكون صحيحة، ولكن البراعة البيانية إنما هي في الألفاظ وصوغ العبارات، وأما أنصار المعاني فيقولون: (دلائل الإعجاز ص40، 70، 307، 320. طبعة المنار.) إن المعنى هو المقصود بالأداء، وهو مجال الابتكار، وحسن التصور، واللفظ تابعه في ذلك فجماله من جماله، ويدور جهد عبد القاهر الجرجاني على أن البلاغة في الأسلوب تنتهي إلى نظم الكلام وفق حاجة المعنى، وبذلك تتحقق المطابقة بينهما، ويكتسب اللفظ حسنه بصدق أدائه. ولكنك عرفت أن هذه المسألة قد فصل فيها الآن، وأن البلاغة تقوم على حسن التعبير كما ترتكز على قيمة التفكير( صحيفة دار العلوم ج2 من السنة الثانية ص30 للمؤلف، وفيض الخاطر لأحمد أمين، ص301..)
    4- وعلى الرغم من ذلك فقد وجد من الأدباء من يؤثر اللفظ على المعنى، فيجعله غايته ومتجه عنايته، ويقصد إليه؛ فأما أن يجعله -في الشعر- فخمًا مجلجلًا؛ لا يتناسب مع معناه كابن هانئ الأندلسي حيث يقول:
    أصاخت فقالت: وقع أجرد شيظم
    وشامت فقالت: لمع أبيض مخذم
    وما ذعرت إلا لجرس حليها ... ولا رمقت إلا برى في مخدم
    يصف امرأة تترقبه، فتوهمت وقع حوافر فرس، ولمع سيف، وإذا بها تسمع حليها، وترى لمعها، ومن يستمع لهذا الصخب اللفظي يظن أنه حماسة أو حرب قائمة.
    وإما أن يجعله سهلًا مفرطًا، كما وقع لأبي العتاهية:
    يا إخوتي، إن الهوى قاتلي ... فسيروا الأكفان من عاجل
    ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شغل شاغل
    عيني على عتبة منهلة ... بدمعها المنسكب السائل
    يا من رأى قبلي قتيلًا بكى ... من شدة الوجد على القاتل
    فهذا الشعر كما ترى، سهل، لين، ليس بينه وبين النثر العامي فرق كبير، وللبهاء زهير نحو هذا الأسلوب الذي تسمعه، فكأنك تسمع الشعب المصري في حواره وأحاديثه، جدًّا وهزلًا، في عبثه وأفاكهه، وفي كل ما يلابس حياته الوداعة المطمئنة في هذا الوادي الخصيب. وكذلك الشأن في النثر فقد غلبت العناية اللفظية على فن المقامات، وصارت بذلك وسيلة لتعليم اللغة، وتراكيبها، وبعض عباراتها وأساليبها الجزلة، وقد أسبقنا القول في ذلك فلا نعيده هنا. وكذلك وجد من الأدباء من يؤثر المعنى على اللفظ، فيعنى بعمقه وتركزه. وجدته، وتوليد بعضه من بعض، لا يعنى بأن يلبسه كفاءة من اللفظ الكاشف الواضح، أو السلس العذب، أو القوي المتين، فيقع في التعقيد، أو الخشونة، أو الهجنة، أو التكلف الممقوت فيفسدون اللفظ ويبهمون المعنى. وقد تورط في ذلك -من الشعراء- أبو تمام والمتنبي في بعض شعرهما، وكذلك ابن الرومي، ومن الكتاب، خلدون العالم والمؤرخ المشهور.
    ونورد هنا بعض الأمثلة، من ذلك قول أبي تمام:
    يتجنب الآثام ثم يخافها ... فكأنما حسناته آثام
    ففي هذا البيت إضمار جعل معناه غامضًا على الرغم من محاولة الدلالة عليه بالشطر الثاني، وتقديره: أنه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة، ثم يخاف تلك الحسنة، فكأنما حسناته آثام، وذلك من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} . وقوله:
    وظلمت نفسك طالبًا إنصافها ... فعجبت مِن مظلومةٍ لم تُظلم
    معنى ذلك أنك أكرهت نفسك على مشاق الأمور لنيل المجد، فهي إذًا مظلومة من حيث الوسيلة التي كابدتها، ولكنها منصفة من حيث الذكر الجميل والمجد المؤثل، فكانت مظلومة لم تُظلم، وذلك من قول السموءل:
    وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
    وقول المتنبي يمدح علي بن حمد الطائي بسداد الرأي، والتفرد في ذلك:
    فتى ألف جزء رأيه في زمانه ... أقل جزيء بعضه الرأي أجمع
    نظام البيت كما يلي: هو فتى رأيه في زمانه ألف جزيء، وأقل جزيء منه، بعضه هو كل ما عند الناس من الرأي. وقال علي بن عيسى الرماني: "أسباب الإشكال ثلاثة: التغيير عن الأغلب كالتقديم والتأخير وما أشبهه، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك. وكل ذلك اجتمع في بيت الفرزدق:
    وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي، أبوه يقاربه
    فالتغيير عن الأغلب سوء الترتيب؛ لأن التقدير: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه يريد بالملك هشام بن عبد الملك، والممدوح هو إبراهيم بن هشام خال بن عبد الملك. وأما سلوك الطريق الأبعد فقوله: أبو أمه أبوه، وكان يجزئه أن يقول خاله. وأما إيقاع المشترك فقوله: حي يقاربه؛ لأنها لفظة تشترك فيها القبيلة والحي من سائر الحيوان بالحياة. قال: وإذا تفقدت أبيات المعاني رأيتها لا تخرج عن هذه الأسباب الثلاثة"( العمدة ج2 ص256. ) وكتب النقد والبلاغة ملأى بهذه النماذج، وأما ابن خلدون فقد مضى فصل من كلامه.
    5- ومما يتصل باللفظ والمعنى مسألة الإيجاز والإطناب والمساواة، وقد وردت هذه الألفاظ في كتب البلاغة أوصافًا للعبارة، وعناصرها، من حيث ما تؤدي من معانٍ، فإذا قصر اللفظ عن المعنى كان إيجازًا، وإن طال لفائدة كان إطنابًا، وإن تساويا كان مساواة أو تقديرًا، ولرجال البلاغة كلام كثير في هذه الأقسام، وفيما يدخل تحتها من فروع لا حاجة بنا إلى تكرارها هنا. ويمكن الرجوع إليها في المثل السابق لابن الأثير2 وسواه، وقد تناولتها كتب البلاغة -غالبًا- في سياق الجمل والفقر، فمن ذلك في المساواة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . وقول جرير:
    تمنى رجال من تميم منيتي ... وما ذاد عن أحسابهم ذائد مثلي
    فلو شاء قومي كان حلمي فيهم ... وكان على جهال أعدائهم جهلي
    وفي الإيجاز قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} وقول أمرئ القيس:
    فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
    والمراد لو أنها نفس تموت موتة واحدة لهان الأمر، ولكنها نفس تموت موتات، وفي الإطناب قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ففائدة ذكر الصدور هنا أنه قد علم أن العمى مكانه البصر حقيقة، واستعماله في القلب غير متعارف فلا بد من زيادة التقرير ليعرف أن العمى الحقيقي في القلب لا العين، وقول البحتري:
    تردد في خلقي سؤدد ... سماحًا مرجى وبأسًا مهيبًا
    فكالسيف إن جئته صارخًا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا
    فالبيت الثاني يدل على معنى الأول إلا أن فيه زيادة بيانية تفيد تخييلًا وتصويرًا.
    ولكننا نشير هنا إلى هذه الأوصاف من ناحيتها العامة التي تبدو في العبارة اللفظية لمقال، أو خطبة، أو رسالة، أو وصف، أو قصيدة، وفي مقدار ما يصل بينها وبين الأغراض المعاني كلها مجتمعة، فمن الكتاب من يؤثر الإيجاز حتى يصل إلى التوقيعات والإشارات، ومنهم من يسهب ويطيل كما في الخطب والمقالات الصحفية غالبًا، ومنهم من يساوي، ويغلب ذلك في الرسائل والمقالات العلمية، وقد ضرب ابن الأثير مثلًا لذلك في وصف بستان ذي فواكه متعددة، فالإيجاز هو قوله تعالى: {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَان} والإطناب قول ابن الأثير: "جنة علت أرضها أن تمسك ماء، وغنيت بينبوعها أن تستجدي سماء، وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة، وما كل تربة توصف بالنجابة، ففيها المشمس الذي يسبق بقدومه، ويقذف أيدي الجانين بنجومه. فهو يسمو بطيب الفروع والنجار، ولو نظم في جيد الحسناء لاشتبه بقلاده من نضار ... إلخ" كذلك أورد للإطناب مثلًا من الرسائل والتقاليد فلتراجع هناك. والنثر العصري لا يميل إلى الإيجاز إلا في التوقيعات الديوانية، والكلمات السائرة، ولكنه بعد ذلك أميل إلى الإطناب ثم المساواة، وحسبه حياة تخلصه التخلص النهائي من هذه الصنعة البديعية والإغراب اللغوي، إلى خير مستوى ظفر به في حياته من ثراء المعاني وروعة الأساليب.
    الناحية الثالثة:
    وهي ناحية الصنعة البديعية، والتكلف المقصود. طمعًا في زخرفة الأساليب، وتوشيتها بالسجع، والجناس، والمطابقة، والاستعارة، ونحوها من عناصر التحسين اللفظي والمعنوي، وقد كانت هذه المحسنات ترد في الشعر القديم قليلة وعفوًا دون تكلف، واستجابة لقوة المعنى وصدق تصويره كقول أبي ذؤيب الهذلي مستعيرًا:
    وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع1
    وقول حيان بن ربيعة الطائي في التجنيس:
    لقد علم القبائل أن قومي ... لهم حد إذا لبس الحديد1
    وقول زهير في المطابقة:
    ليث بعثر يصطاد الرجال، إذا ... ما الليث كذب عن أقرنه صدقا2
    "فلما أفضى الشعر إلى المحدثين، رأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة البديع، فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومقتصد ومفرط"( الوساطة، ص38 ). وقد قيل إن "أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد وابن هرمة وهو ساقة العرب، وآخر من يستشهده بشعره، ثم أتبعها مقتديًا بهما كلثوم بن عمر العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس، واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به" ( العمدة ج1 ص85.. ) ، والذي يعنينا هنا -في الشعر- أن هؤلاء الشعراء اختلفوا في مقدار عنايتهم بالصنعة البديعية، فاختلفت أساليبهم في النظم تبعًا لذلك: فأما أبو تمام فكان -في كثير من شعره- أشد الشعراء تعلقًا بالبديع، وأكثرهم تكلفًا له، ولا سيما الطباق، والجناس، والاستعارة والتقسيم، حتى شوهت شعره، وذهبت بكثير من روعته وجلاله؛ فإذا لاحظنا أنه أضاف إلى ذلك محاولته الإغراب اللفظي تقليدًا للقدماء، ثم اجتلابه المعاني الغامضة، والأغراض الخفية التي احتمل في سبيلها كل غث ثقيل، علمنا سر ما تورط فيه من اضطراب في التعبير، وتعقيد في الأسلوب، حتى صار هذا القسم من شعره إذ قرئ أجهد الفكر، وكذا الخاطر في فهم معانيه، وتصور أخيلته وأغراضه، وما كان هذا سبيل الشعر، ولا أسلوب الفن الجميل . فصار أبو تمام علامة التكلف الثقيل، والصنعة الفاسدة في قسم من شعره ليس بالقليل، ولو أنه جرى مع طبعه، وجانب التكلف، مع معانيه المبتكرة وأخيلته الجميلة، لكان سيد الشعراء غير مدافع ( الوساطة، ص24.) ؛ فإنك حين تقرأ له ما ورد أول هذا الفصل من الشعر القوي الجميل تعجب كيف يحيد عنه جريًا وراء البديع، وتعلقًا بالصنعة الممقوتة ليقع في مثل هذه الاستعارة القبيحة:
    باشرت أسباب الغنى بمدائح ... ضربت بأبواب الملوك طبولا
    ضرام الحب عشش في فؤادي ... وحضن فوقه طير البعاد
    كأنني، حين جردت الرجاء له ... عضب صببت به ماء على الزمن
    أو هذا الجناس المستكره:
    إن من عق والديه لملعو ... ن ومن عق منزلًا بالعقيق
    فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت ... سلام سلمى ومهما أورق السلم
    أو ذلك الطباق المتكلف:
    قد لان أكثر ما تريد وبعضه ... خشن وإني بالنجاح لواثق
    وإن حفرت أموال قوم أكفهم ... مِن النيل والجدوى فكفاه مقطع
    وشر من ذلك هذه المعاطلة بتداخل الكلمات، وركوب بعضها بعضًا:
    خان الصفاء أخ خان الزمان أخا ... عنه فلم يتخون جسمه الكمد2
    وقد وقع المتنبي في مثل ذلك، كما تشبث به المتأخرون فأفسدوا الشعر وذهبوا بروائه. وأما البحتري وابن المعتز فقد غلب عليهما الطبع السمح، وسهولة الأسلوب وعدم الكد وراء المعاني العميقة والألفاظ الغريبة، ويتلخص أسلوبهما في السهولة وعدم الشغف بالبديع، إلا ما جاء طبيعيًّا أو خفيًّا لا يكاد يظهر، ومعنى هذا أن قيمة شعرهما قائمة، في الغالب، على جمال الأسلوب وطبيعته، وحسن التصوير الخيالي، فكانا مدرسة أخرى تقابل مدرسة أبي تمام، وقد مضت أمثلة لشعر البحتري نعيد منها هذا البيت فقط:
    إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
    لتلحظ فيه هذا التقسيم، وحسن الترتيب، والمطابقة الملائمة بين الشطرين في المعنى، وهكذا إذا عرض له البديع، ويقول عبد الله بن المعتز يصف سحابة ماطرة:
    ومزنة جاد من أجفانها المطر ... فالروض منتظم والقطر منتثر
    ترى مواقعها في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر
    فيجمع بين الاستعارة، والمطابقة والتشبيه، ومع هذا لا نرى تكلفًا ثقيلًا ولا تعمقًا عويصًا. وبين هذين الطرفين نضع مسلم بن الوليد، فقد جمع بين الصنعة المعتدلة وتجويد الشعر والبطء في صنعته حتى سموه زهير المولدين( العمدة ج1 ص85.) ، واستطاع بذلك أن يفترق من أبي تمام بقرب المعاني من جهة، وبسلامه عبارته من الغريب، والتكلف الممقوت، ولاءم بذلك بين اللفظ والمعنى، فكان لشعره موسيقى قوية جميلة، كقوله يهجو دعبل الخزاعي:
    أما الهجاء فقد عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
    فاذهب، فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل
    فقد طابق بين المدح والهجاء وبين الدقة والجلالة، وبين العز والذلة، مع جدة المعنى، وإحكام التراكيب وحسن تقسيمها، فكان بذلك من عبيد الشعر.
    وأما في النثر فقد عرفت مما سبق أن هذه الصنعة البديعية فقد انتهت إلى غايتها المقبولة على يد كتاب القرن الرابع الهجري، أمثال بديع الزمان، والخوارزمي، والصاحب بن عباد، وابن العميد، هؤلاء الذين عرفوا بالسجع والجناس والطباق، واقتباس لغة الشعر أو تضمين معانيه، وقد استطاعوا لإحاطتهم اللغوية وقدرتهم الأدبية أن يجعلوا أساليبهم مقبولة ويحققوا آثار هذه الصناعة، إلا أن كثيرًا ممن خلفهم على هذا الفن -وبخاصة بعد سقوط بغداد وفي عصر المماليك- لم يظفروا بمكانة السابقين في اللغة والادب، ثم غلوا في البديع فأضافوا إلى ما سبق التورية والاستخدام والتلميح للحوادث الشهيرة، ثم التصحيف الذي كان مجال البراعة عند المتكلفين. وقد نشأ عن ذلك فساد الأساليب، وركاكتها، والتضحية بالمعاني في سبيل الألفاظ. ويمكن إرجاع ما كان بين كتاب الصنعة، من خلاف في الأساليب إلى أصلين:
    الأول:
    موضوعي حين انتقل بها بعضهم من الرسائل الخاصة، والديوانية، والعامة، إلى كتب العلم أو مخاطبة الملوك في الشئون الدولية، في حين أن هاتين الناحيتين مظهر عقلي أو مصلحي يلائمه الأسلوب البسيط الواضح، ومن ذلك أن
    عماد الدين الأصفهاني المتوفى سنة 597هـ كتب في التاريخ بهذا الأسلوب الذي عاد مغلقًا فألف كتابه "الفيح القسي في الفتح القدسي" وصف فيه فتح صلاح الدين لبيت المقدس بعبارة مسجوعة منها: "رحل من عسقلان للقدس طالبًا، وبالعزم غالبًا، وللنصر مصاحبًا، ولذيل العز ساحبًا، قد أصبحت ريض مناه، وأخصب روض غناه، وأصبح رائح الرجاء، سيب العزف، طيب العرف ظاهر اليد قاهر الأيد، سنا عسكره قد فاض بالفضاء فضاء، وملا الملأ فأفاض الآلاء".
    والثاني:
    شكلي حين يختلفون في مقدار حرصهم على المحسنات وما يجمعون منها في رسائلهم وفي طول السجع وقصره، ودقة الطباق، وطبعية الأسلوب وقد رأيت مثالًا للبديع يمثل السجع القصير، القصد في الجناس وملاءمة الطباق.
    ونورد هنا قسما من الرسالة( أحمد الإسكندري: تاريخ أدب اللغة العربية في الدول المتتابعة ص92.) لشهاب الدين بن فضل الله العمري -تصور لنا التعلق بالصنعة في غير موضعها ثم الإسراف فيها حتى عادت غثة غير مقبولة- كتبها بين يدي سلطانه إلى نائب الشام صحبة طيور صيد جوارح أرسلها إليه، قال بعد الديباجة: "ولا زالت مواهبنا تخصه بالمزيد، وتنفحه بما يريد، وتجعل له من الجوارح ما تعترف لها السهام بأنها بغير جناحية لا تصيب ولا تصيد. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بسلام جميل الافتتاح، وثناء يطير إليه، وكيف لا تطير قادمة بجناح؟ ونعلمه أن مكاتبته المتقدمة الورود تضمنت التذكار من الجوارح بما بقي رسمه، وجرب عادة صداقتنا الشريفة أن تحسب في قسمه، وقد جهزنا له الآن ثلاثة طيور، لا يبعد عليها مطار، ولا يوقد للقرى في غير حماليقها جذوة نار، ولا تؤم صيدًا إلا وترشى بدمه فلا يلحقها بغبار". ومثل هذه الصنعة بقيت إلى أول العصر الحديث حين تشبث بها قوم من الكتاب ظانين أنها مظهر البراعة، فلما هبت هذه النهضة، وحملت الثقافة والسرعة الناس على العناية بالمعاني والموضوعات، انهزمت هذه الصنعة ولم تستطع مجاراة هذا التيار المعنوي الدافع، فتحررت الأساليب بالتدريج وألقت عن كواهلها هذه السخافات اللفظية، وأخذت ترقى مستجيبة للرقي العقلي والذوقي حتى بلغت الآن منزلة رفيعة لعلها لم تظفر بها قبل الآن.
    التعديل الأخير تم بواسطة آمال المصري ; 06-05-2016 الساعة 08:23 PM سبب آخر: حذف بريد الكتروني

المواضيع المتشابهه

  1. بعض الأساليب القرآنيةج-2---المستشار الأدبي :حسين علي الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-05-2016, 09:56 PM
  2. بعض الأساليب القرآنيةج-1---المستشار الأدبي :حسين علي الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-05-2016, 09:53 PM
  3. العقيدة في الأساليب الخبرية والإنشائية-حسين علي الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-05-2016, 09:45 PM
  4. الأساليب القرآنية- أسلوب الخبر والإنشاءالمستشا رحسين علي الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-05-2016, 09:43 PM
  5. الشخصية الأدبية والأسلوب-حسين علي الهتداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-05-2016, 10:05 AM