مع الأيّام لاحظ أنّها مُتطلّبة كثيرا , وأحسّ أنّها تعيش بانتقام , من شخص ما أو من المجتمع , أو من الحياة كلّها . تطلب ولا تتوقّف عن الطّلب , ولا تُشفق لحاله أبدا , والغريب أنّه أحسّ أنّها تطلب عواطفه أيضا , تطلب الشّفقة باستمرار , والحب أيضا , رغم أنّه سخي ماديّا وروحيّا , ويُعبّر باستمرار, وبصدق وأريحيّة . قال لها مرّة : أنا أحبّك , ولا يُمكن أن تتوسّلي الحب . ثم صارت تتدخّل في شغله وفنّه , وطّدت علاقتها بالشّاب المُتدرّب عنده , وصارت تمكث طويلا في مرسمه , وأكملت له مرّة لوحة كان قد بدأ رسمها وتركها .
ثم بدأت تبيع اللوحات , وتقبض الأموال , وتعقد الصّفقات أيضا . ينشط في مرسمه على مدار العام , ويحظى باقبال طيّب , وبنجاح فنّي وجماهيري ,أمّا المعارض المهمّة فيستغرق الإعداد لها زمنا مُعيّنا , يصل الى السّنتين , وتأخذ منه جهدا فكريّا وبدنيّا , وتعبا وسهرا . معرضه الأخير قامت بكل أموره التظيمية , وكانت تمسك بكل الأوراق والوثائق , وتتصرّف في الأموال وتسييرها , وتقضي معظم أوقاتها مع الشّاب قيد التّدريب . ولم يعبء الفنّان بشيء ولم يهتم , غير ملاحظاته البسيطة . لا شيء كان يشغله عن لوحاته ومعرضه , وزاد من سخائه لها أنّه منحها لوحة كاملة لترسمها بمفردها , وقال لها : هذه مساحتك , افعلي ما تشائين فيها , واعبثي بالخطوط والألوان كما تُريدين , كانت لوحة بشعة , لكن علّقتها في واجهة العرض , تستقبلك عند الدّخول .
قبضت كل أموال المعرض , عبثت بالأوراق المهمّة , كتبت المرسم والبيت باسمها , غيّرت أقفال ومفاتيح البيت وأجّرته لشخص ما . ثمّ طارت مع الشّاب المُتدرّب الى الخارج , ووعدته بأن المعرض القادم سيكون له . وبدأ التحضير له فعلا , واشترى كل مقتنياته ولوازمه من الخارج , وعقدوا صفقات مهمّة أيضا مع فنانين ودور متخصّصة بالمقتنيات الفنيّة . بعد سنتين أو ثلاثة فقط , كانت تجلس في سيّارتها في المقعد الخلفي , قالت للسّائق : اذهب وامنح قطعة نقديّة لذلك المتسوّل , ثم لاحظت شيئا ما , ولمع بريق في عينيها , وقالت له : انتظر , هذا المتسوّل يخصّني أنا , خرجت تجرّ فستانها , ووقفت تقابله , التقت النّظرات , عرفته وعرفها طبعا , هذا المسكين الّذي أعطاها كل شيء فسلبته كل شيء . رمت قطعة نقديّة كبيرة على كفّه الممدودة , ابتسمت بفرحة غامرة , واستدارت باتّجاه سيّارتها ودنياها الرّغدة السّعيدة .
ربّما ستدور الأيّام من جديد وتعود المتسوّلة الى مكانها , ويكون البطل هذه المرّة الشّاب الفنّان قيد التّدريب .