أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 15

الموضوع: عبق الأطلال

  1. #1
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Sep 2015
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 249
    المواضيع : 13
    الردود : 249
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي عبق الأطلال

    حدثتها عن بؤس هذه المدينة ووحشتها، فحدثتني عن مجدها وأيام ازدهارها. ونحن نتجول بين أزقتها الضيقة المعتمة ونتأمل أبنيتها العتيقة الآيلة للسقوط ،في غفلة منا، تذكرت تلك الطفولة المحرومة التي عشناها والآمال التي عقدنها والخيبات التي أصبنا بها والأحلام التي انكسرت فوق صخرة واقع مرير. زاغ بصرها نحوي وذكرتني بلحظات سعيدة عشناها وتناسيتها، كيف كنا نفرح بكسرة خبز رشت بصلصة طماطم حارة نشتريها من أحد الدكاكين القريبة ببضع ريالات، ذكرتني ببهجة يوم العيد وفرحته العارمة التي كانت تجتاحنا طولا وعرضا لتستقر بدفء في قلوبنا الصغيرة.

    أخذتها إلى ساحة عامة تتوسط المدينة، كانت تقام فيها سهرات تبذر فيها أموال كثيرة في ساعات قليلة وخطب سياسية في مواسم حصاد وزرع لا طائل منها، نقف مشدوهين أمام أشباح نزعوا ربطة العنق وارتدوا ملابس مثلنا واسمعونا كلمات نحب سماعها ووعدونا بوعود نحب تصديقها، ربما من همنا وكثرة كروبنا. نصوت لهم مرارا وننتظر أن تتغير الأحوال وكأننا نستنبت الأشواك ونأمل فاكهة طرية الملمس، حلوة المذاق. تطوى الخيام وتشد الرحال إلى وجهة نجهلها، نلمحهم بعيد ذلك في سيارات تبهرنا وثياب كنا قد حسبناهم تبرؤا منها للأبد، ثم يختفون من حولنا إلى أن يبعثوا في موسم حصاد وزرع جديدين، في زيارة ميمونة مباركة وقد استحالوا في هيئتهم المبتكرة إلى كائنات أسطورية لا تدركها عقولنا.

    أخذتني إلى قصر بهيج بناه أحد الحكام الصالحين الذين مروا من هنا وتركوا أمجاد حضارة حولناها إلى مجرد أطلال نبكيها ونهرب إليها كلما اشتد بؤسنا وخابت آمالنا. تخيلنا بقاياه منتصبة وبنينا جدرانه وحجراته لبنة لبنة ولمسنا تربته بأناملنا وشممنا رائحته الزكية وعبقه الفائح من حبات لقاح تحملها نسمات رياح شرقية وسط فنائه الفسيح، قادمة من أعماق ماض سحيق. داعبنا مياهه العذبة، تتدفق من نافورة مزخرفة، زينة للزائرين. سمعتها تناجي التاريخ وهي تستند إلى أحد الأبواب القليلة المتبقية في غفلة من أيادي اللصوص : "اشهد يا تاريخ، مر من هنا رجال وعدوا فصدقوا وحكموا فأعدلوا".

    طال بنا المسير وجلسنا نستريح، فنظرت إلى حديقة المحطة التي لعبنا فوق تربتها الرملية كرة القدم وألعاب أخرى وتسلقنا أغصان أشجارها وقفزنا فوق كراسيها الخشبية، فأحزنني ما ألت إليه، القذارة في كل مكان، الجدران محطمة والشجيرات مكسرة أغصانها وفروعها، الرائحة الكريهة تزكم الأنوف... تأملت وجهي في صمت مهيب وهمست لي ملامح وجهها الساكنة المطمئنة وهي تتجول بعينيها في أرجاء المكان، همسة سافرة بي فوق بساط الزمان وذكرتني بأولئك الرجال الطيبين، رجال كانوا يسهرون على تشذيب الأشجار وإصلاح الأضرار التي كان يحدثها الصغار والكبار...

    تطلعت إلى الشجرة التي كنا نحتمي بظلالها الوافرة من أشعة الشمس الحارقة، فخالجني شعور بالتذمر والتحسر. أشرت بيدي، في انزعاج صدقته تعابر وجهي وحركات جسمي المتناقضة، إلى أغصان يابسة وجذوع عطشى لم تسلم من بؤس هذه البقعة المنسية كأبنائها المنفيين في وطن المركز والمحيط. تتبعت حركاتي حتى سكنت وانزعاجاتي حتى خمدت، تم لوحت بيدها إلى أحد الأسوار التاريخية خلفنا كما تلوح الحبيبة لحبيبها المنصرف إلى ساحة الوغى، سور تشهد عظمته وصموده عبر الزمان على حضارة عريقة وأجداد عظماء.

    ضاق صدري فقفزت قائلا بغضب وحنق: "أنت، أنت تتشدقين بالثقافة والتاريخ في كل أمر سألناك عنه أو أوحينا لك به، ما بال هذا الجزء لا ينعم ببعض ما ينعم به غيره، وما سر هذه العزلة المطبقة عليه، لولا هذا التلفاز الحقير لأصبحنا خارج التاريخ". أخدت بيدي وربتت على كتفي بنعومة وحنان وأجلستني حيت كنت ورجتني فارتشفت بعض القطرات من كأس الشاي التي تجمعنا، تم تبادلنا الابتسامة والنظرات وتجولنا بأبصارنا بين زبائن المقهى. التفتنا خلفنا التفاتة عميقة، فانطلقنا إلى الأمام وقلنا بصوت هادئ مطمئن: "ليس ذنب هذه الجغرافيا أن يكون لها شمال وجنوب".


    *القصة نشرت على صفحات "المجلة العربية"

  2. #2
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    جميلة هي قصتك سيدي احمد العكيدي


    وهي قصة وجع يسكن قلوبنا في كل مدننا العربية من الشرق إلى الغرب

    روعة التصوير ودقته جعلتني اخشى بشدة ان تكون تقصد بوصفك هذا جزء من "باب الرواح" بسوره الاحمر الذي اذهلني في زيارتي للرباط الحية في صدري

    لأن هذه المدن تظل جميلة بجمال اهلها ولو بليت المباني..

    همسة: بمراجعة بعض الهنات الإملائية

    دام الابداع والالق
    هل تكفيني كلمة أحبك وأنا أقتات على حبك!روحي تحيا بحبك،قلبي يدق به، حياتي لحبك

  3. #3
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Sep 2015
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 249
    المواضيع : 13
    الردود : 249
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    رأيك أستاذي علاء سعد حسن يهمني كثيرا ويشجعني كما يهمني رأي الأساتذة الأدباء والنقاد وجميع القراء الأعزاء. بفضل هذه الآراء القيمة والنقد البناء يسمو النص ويستمر الإبداع.

  4. #4
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    ما أشد الختلاف بين نظرته ونظرتها ..
    أبدعت في تصوير المشاعر التي ترى نفس الصورة فيرى كل من زاوية تختلف كل الأختلاف
    تذكر هو الطفولة المحرومة والآمال وخيبتها، والأحلام وإنكسارها فوق صخرة الواقع المرير
    بينما هى تتذكر لحظات الطفولة والسعادة البريئة وفرحة العيد الحقيقية..
    عبق الأطلال .. قصة تأملية هادفة بلغة طيبة واسلوب جميل
    سرد شائق بأداء ملفت وتصوير حذق الإلتقاط والتوصيف
    بوركت ـ ولك تحياتي وتقديري. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Feb 2015
    المشاركات : 1,269
    المواضيع : 38
    الردود : 1269
    المعدل اليومي : 0.38

    افتراضي

    الكل يبحث عن طوق نجاة من الشمال إلى الجنوب!!

    فمتى يكون الاصطفاف؟

    بوركت و كل التقدير

    فائق احترامي لشخصك الكريم.
    كـلُّ الـشموس تـجمّعتْ فـي فُـلْكهِ
    ويَرانِيَ الشمسَ الوَحيدةَ في سَماهْ

  6. #6

  7. #7

  8. #8
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    سرد جاذب وتصوير رائع للمشاهد
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  9. #9
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Sep 2015
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 249
    المواضيع : 13
    الردود : 249
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    شكرا لك أستاذتي،

    أود فقط أن أعود قليلا إلى مفهوم "الشمال والجنوب" الذي تم توظيفه في النص بعيدا عن مجالات استعماله المعتادة، العلوم السياسية والاقتصاد والجغرافيا السياسية...
    وظف هذا المفهوم للإشارة إلى التنمية غير المتكافئة ( أو المنعدمة) داخل نفس البلد وأحيانا داخل نفس المدينة مما يترتب عليه أحيانا الشعور بالاغتراب.. وقد ورد هذا المفهوم في خاتمة النص بصيغة تبرئ الجغرافيا من هذا المشكل وتدعو الإنسان إلى تغيير واقعه المعاش...
    هذا إضافة إلى أمور أخرى تمت الإشارة إلي بعضها من طرف الأساتذة الكرام.

  10. #10
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    بون كبير كالفرق بين الشمال والجنوب لن ينكره التاريخ يحاكي ما كانت عليه بلاد العرب وما آلت إليه
    سرد ماتع ولغة طيعة ونص هادف فشكرا لك أديبنا الفاضل
    ومرحبا بك في واحة الجمال
    تحية وتقدير
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. عبق الرسائل
    بواسطة د. سمير العمري في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 31
    آخر مشاركة: 01-07-2021, 08:22 PM
  2. من عبق البادية
    بواسطة محمد الحامدي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 17-12-2016, 07:59 PM
  3. عبق أنثى غير عادية..
    بواسطة ندى يزوغ في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 26-02-2010, 12:22 AM
  4. عبق الشهادة
    بواسطة أحمد أبو الرب في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 02-02-2010, 11:39 PM
  5. قراءة في قصيدة : " صلاة في رواق جدتي ": عبق الإيمان يعطر الجماليات النصية
    بواسطة د.مصطفى عطية جمعة في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 31-05-2007, 03:51 AM