تأثير المقامات العربية في الأدب الفارسي :
في الأدب الفارسي مثلًا: ألف القاضي حميد الدين أبو بكر بن عمر البلخي ثلاثة وعشرين مقامة على نسق مقامات الحريري، وأتمها سنة خمسمائة وإحدى وخمسين للهجرة وكذلك عرفت في الأوساط اليهودية، والمسيحية الشرقية؛ فترجموها، وصاغوها على مثالها باللغتين العبرية والسريانية. أما في أوربا فقد عني المستشرقون بمقامات الحريري؛ فترجمت إلى اللاتينية، والألمانية، والإنجليزية، إلا أنه يؤكد أن تأثيرها كان محدودًا وبخاصة إذا قارنا بينها وبين ألف ليلة وليلة في هذا المجال، ذَلك أنّ المقامات -كما يقول- ليست القصة عمادها، بل عمادها الأسلوب، وما يحمل من زخارف السجع والبديع. ثم يقول: إننا مع ذلك يمكن أن نرى أثرها في بعض القصص الإسباني، الذي يصف لنا حياة المشردين والشحاذين، وإن لهذا القصص عندهم بطل يُسمى "بيكارون" يشبه من بعض الوجوه أبا الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان، وأبا زيد السروجي في مقامات الحريري. وفيما يَخُصّ تقليد القاضي المذكور لمقامات الحريري ثمة كتاب للدكتور بديع محمد جمعة عنوانه (دراسات في الأدب المقارن) تناول في فصل منه هذا المسألة بشيء من التفصيل، وهو يبدأ بتعريف فن المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب. والمقامة في بداياتها الأولى فن أدبي يقوم عادة على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء، ذات بطل واحد ينتقل من مكان لمكان، ومن موقف إلى آخر؛ مغيرًا هيئته في كل مرة متخذًا الكدية وسيلة لكسب ما يقيم حياته، إلى أن تنتهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله، وافتضاح أساليب مكره وخداعه، التي يلجأ إليها لتحصيل مطعمه ومشربه، كل ذلك في لغة بديعية مفعمة بالفكاهة، والتهكم والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي، وكثرة التسجيع، والجناس، والتوازن والتوريات، وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم، مع حلاوة التصوير، وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل، ثم إخراجه منها بذكاء ولوذعية. ثم تطور ذلك الفن، ودخله التحوير في الموضوعات والأهداف؛ فاتسع لكل شيء؛ حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية ... إلى آخره. وبلغ من اتساع انتشار المقامات، واهتمام الكتاب بها، أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تأليفها؛ فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلفًا بدءًا من بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وانتهاءً بنصيف اليازجي في القرن التاسع عشر الميلادي. أما في الأدب الفارسي؛ فلم يمارسها إلا أديب واحد هو القاضي حميد الدين، من أهل القرن السادس الهجري، الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذًا من تلامذة بديع الزمان؛ فكفى الباحثين مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وأدبها، وإن كان الدكتور جمعة قد استأنس رغم هذا بما قاله كل من براون المستشرق الإنجليزي، وكريم شاورذي الباحث الإيراني. وإذا كان البطل في كل من المقامات الهمذانية، والمقامات الحريرية شخصًا واحدًا لا يتغير، هو أبو الفتح الإسكندري عند بديع الزمان، وأبو زيد السروجي عند الحريري، وكذلك راوية كل منهما شخصًا واحدًا أيضًا، هو عيسى بن هشام في الأولى، والحارث بن همام في الثانية؛ فإن البطل لدى القاضي حميد الدين يتغير في كل مقامة، أما الموضوع، فيبقى ثابتًا دون تغيير، كما هو الحال عند الهمذاني، والحريري حيث الكدية هي المحور في معظم مقامات الأول، وكل مقامات الثاني. وكما قامت المقامات في الأدب العربي ضمن ما قامت على المحسنات البديعية، والإغراق فيها، والاستعانة بالألغاز، والحرص على إبراز سعة المعجم اللغوي، وبخاصة ما يكثر في لغة العرب من غريب الألفاظ؛ فكذلك حاول القاضي حميد الدين أيضًا الجري في نفس المضمار، وإن لم يكن للفارسية ذات الثراء الذي تتمتع به لغة القرآن، حسبما ذكر المؤلف. ومن مظاهر التأثر الحميدي بمقامات بديع الزمان كذلك كثرة استخدامه للألفاظ العربية؛ فضلًا عن الجمل، والعبارات الكامنة المنقولة من لغة الضاد، حتى في المواضع التي لا يكون ثمة داع لذلك من ضرب مثل، أو سوق شاهد في أصله العربي. بل لقد قلد الحميدي تركيب الجملة العربية في كثير من الأحيان؛ فكان يأتي بالفعل في أول الكلام على عكس ما تقتضيه اللغة الفارسية، التي يقع فعلها في آخر الجملة لا في بدايتها، فضلًا عن إيراده كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والأشعار، والأمثال العربية كما هي، إضافة إلى بعض الأشعار التي نظمها هو بلغة القرآن، ليس ذلك فقط بل إنه قد اقتصر في عدد من الحالات على إيراد بعض المقامات الهمذانية كما هي، بعد ترجمتها إلى الفارسية مع زيادة بعض الإضافات بغية إظهار تفوقه وبراعته، مثلما هو الحال في المقامة السكباجية؛ التي تقوم على المقامة المضيرية لدى الحريري. كذلك تتشابه المقامات هنا وهناك في العدد إذ تبلغ كل منهما أربعًا وعشرين مقامة. هذه نقاط الاتفاق، أما الاختلافات؛ فتَكْمُن في أن بطل مقامات الحريري يختلفُ من مقامة إلى مقامة، كما أنّ رَاويها هو نفسه كاتبها، على حين أن بطل المقامات لدى الهمذاني واحد دائمًا؛ عِلاوةً على أنّ راويها شخص غيره، كذلك ففي الوقت الذي نجد فيه البديعي يسمي معظم مقاماته بأسماء البلدان؛ فإن الحميدي لا يصنع شيئًا من هذا، بل يطلقها على كل مقامة اسمًا مشتقًّا من الفكرة التي تعالجها. وإلى جانب ذلك؛ فإن في مقامات الأديب الفارسي كثيرًا من المناظرات كتلك التي قامت بين السني والملحد، والأخرى التي دارت بين الشيب والشباب؛ ثُمّ إنه بِسبب انتشار التصوف في إيران، في الفترة التي عاش فيها القاضي حميد الدين، وجدنا الكاتب الفارسي يخلع على كثير من مقاماته خلعة صوفية بتعبير المؤلف، كما في المقامة "السكباجية" التي تجري في إثر المقامة المضيرية للهمذاني، إذ يوجد فيها شيخ ومريدون. وأخيرًا فقد أذكر أن الدكتور زكي مبارك كتب قائلًا: "إن فن المقامة قد انتقل أيضًا إلى الأدبين السرياني والعبري، وهو ما أشار إليه الدكتور شوقي ضيف كما رأينا منذ قليل، ولعل الله يقيض لمسألة انتقال هذا الفن من العربية إلى السريانية والعبرية من يدرسها هي كذلك. وفي القرن السادس عشر والسابع عشر ظهر في أوربا -كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال- جنس جديد من القصص، خطا بالقصة خطوات نحو الواقع، وهو ما نطلق عليه قصص الشطار، ووجد أول ما وجد في إسبانيا، وهو قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، وتُسَمّى في الإسبانية "بكاريسكا" وتختص بأن المغامرات فيها يحكيها المؤلف على لسانه؛ كأنّها حدثت له. وهي ذات صبغة هجائية للمجتمع ومن فيه، ويُسافر فيها البطل المؤلف على غير منهج في سفره، وحياته فقيرة بائسة يحياها على هامش المجتمع، ويظل يتنقل بين طبقاته ليكسب قوته، ويحكم على المجتمع من وجهة نظره هو حكم تظهر فيه الأثرة والانطواء على النفس، وقصر النظر في اعتبار الأشياء من الناحية الغريزية النفعية، فكل من يعارضه فهو خبيث؛ ومن يمنحه الإحسان خير. وأول قصة من هذا الجنس القصصي في الأدب الإسباني هي قصة عنوانها: "حياة لسابيو دوتورموس وحظوظه ومحنه" وهي قصة تنبع من واقع الحياة في الطبقات الدنيا، وتصفها كما يمليها منطق الغرائز الصريح، وهي معارضة تامة لقصص الرعاة، وتسير على نقيضها؛ لأنها تصف واقع لا مثالية فيه ولا أمل.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)