فنُّ الشــعـــر


أولاً-زمانية الشعر وآفاقه:

1-قِدَمُ فن الشعر:

يعدُّ فن الشعر من أشهر الفنون الأدبية وأكثرها انتشارًا، وربما كان ذلك لقدم عهد البشرية به؛ فالشعر هو الصورة التعبيرية الأدبية الأولى التي ظهرت في حياة الإنسان منذ العصور الأولى، وهذه الأقدمية التي للشعر ترجع إلى أنه كان في تلك العصور ضرورة حيوية بيولوجية. إنه الطريقة الوحيدة التي اهتدى إليها الإنسان -بحكم تكوينه البيولوجي والنفسي- للتعبير، والتنفيس عن انفعالاته، ومنذ ذلك الوقت تحددت لذلك الفن خصائص نتبينها في وضوح عندما نريد أن نعبر عن أفكارنا، ومن هنا ارتبطت "الانفعالات" بالشعر، "والأفكار" بالنثر. ولكن الخطأ في الفهم يأتي عادة من النظر إلى "الانفعالات" و"الأفكار" على أنها أشياء متعارضة أو متناقضة. وهذا من شأنه أن يجرّ إلى أخطاء كثيرة في فهم الشعر والنثر على السواء, وليس هناك تعارض، بل هو مجرد اختلاف.

2-الشعر جنس مميز من أجناس الأدب العربي :

ونبدأ بالكلام عن الشعر، الذي كان كله حتى العصر الحديث شعرًا غنائيًّا كما هو معروف، وكانت القصيدة في بداية أمرها ولعدة قرون تتكون من أبيات كل منها ينقسم إلى شطرين متساويين، ويختلف عدد أبيات كل قصيدة عن أخرى بدءاً من سبعة أبيات إلى بضع عشرات منها غالبًا، وإن أطال بعض الشعراء كابن الرومي قصائدهم أحيانًا إلى بضع مئات من الأبيات .كما كانت القصيدة تجري من أولها إلى آخرها على وزن واحد في شكل واحد من أشكاله وعلى قافية واحدة مهما طالت أو قصرت، ثم ظهرت الموشحات بعد بضعة قرون، وازدهرت في الأندلس ازدهارًا واسعًا، وظهرت كذلك الرُّباعيات والمزدوجات، والمخمسات وما إلى ذلك، ولكن الشعر العربي في كل ذلك كان يصب في البحور الخليلية أيًّا كان الشكل الفني الذي يصب فيه، سواء كان قصيدة أو موشحة أو رباعية. ثم عرفنا في العصر الحديث ما يسمى بـ"الشعر الجديد أو شعر التفعيلة" الذي يقوم على نظام السطور لا الأبيات، حيث يتكون كل سطر من تكرار تفعيلة بعينها تكرارًا اعتباطيًّا، فمرة يكون السطر عبارة عن تفعيلة واحدة، ومرة يكون ستًّا أو سبعًا أو ثلاثًا أو اثنتين حسبما يعنُّ للنّاظم أن يقف ويستأنف نظمه في سطر جديد. وأحيانًا ما يكون في القصيدة الواحدة أكثر من تفعيلة، وعلى ذات الشاكلة تفتقر القصيدة التفعيلية إلى نظام قفوي معروف، إذ الشاعر حر في أن يقفي متى شاء، وأن يترك التقفية متى يشاء، مثلما يمكنه التنويع في القافية على النحو الذي يشاء. ومن هنا خفت نغم القصيدة، وظل يخفت رويدًا رويدًا حتى مات في كثير من القصائد، فانتفى عنها الشعر، وأضحينا أمام جثث يزعم أصحابها، ومن يوافقونهم من النقاد على هذا العبث والإفساد المزاعم الطويلة العريضة التي تصم الآذان، إلا أنها لا تجدي فتيلًا إيذاء تلك الجثث التي خلت من الحياة والحيوية، فإذا أضفنا إلى هذا ما أصبح ملمحًا بارزًا من ملامح كثير من نصوص هذا الشعر في الفترة الأخيرة، وهو الغموض الذي يبلغ حد الاستغلاق، تبين لنا حجم التغير الذي نزل بالشعر العربي على أيدي هؤلاء المبدلين في الوقت الذي يملؤون الدنيا صياحًا، بأنهم إنما يعملون على إنقاذ الشعر العربي من المأزق الذي وقع فيه، على حين أنهم هم أنفسهم مأزق هذا الشعر ومصيبته وبلواه. إذ صار الشعر على أيديهم فاقد للمعنى واقترب في حالات كثيرة من الهلوسات والبهلوانيات، فإذا اعترضت بأنّ هذا ليس بشعر، أجابوك بأن الشعر لم يخلق ليقول شيئًا، بل يلعب الشعر بالكلمات وحسب، ومع هذا تراهم مغرمين غرام عجيبًا بإذاعة شعرهم، كما تراهم يتهافتون أشد التهافت على النقاد؛ ليكتبوا عنه وعنهم، وكثيرًا ما نرى أولئك النقاد الذين يزعمون أن لغة الشعر ليست للتوصيل ولا للتواصل، وهم يزحرون ويتصببون عرقًا في تفسير ما يقصده الشعر من معنى، وهذا أكبر دليل على عظم التدليس الذي ينتهجه الفريقان كلاهما في حديثهم عن فن الشعر. أما في نُصوص هذا الصنف من الشعراء التي ما زالت تقول شيئًا مفهومًا، فقد انحدرت في كثير من الأحيان إلى العدوان على قيمنا الخلقية والدينية، التي نعتز بها كل الاعتزاز، نعم قد انتهى الشعر العربي -أو كاد أن ينتهي- في أيدي هؤلاء الشعراء إلى طريق مسدود، بعد أن قضوا على كل ما هو نضر فيه، فلم يعد له في معظم ما يكتبون معنى ولا نغم، ولا فيه شعور، وأضحى كنشارة الخشب على القارئ أن يمضغها ويتجرعها ويعمل المستحيل كي يسيغها، وهيهات ثم هيهات. وبالنسبة لموضوعات القصيدة كان هناك المديح والهجاء والرثاء ، والحماسة، والغزل ... إلخ. ولم تكن كل هذه الموضوعات موجودة منذ البداية، فالمديح مثلًا لم يظهر إلا في أواخر العصر الجاهلي، كذلك فقد جد في العصور العباسية المتأخرة شعر التصوف والمدائح النبوية، وهو ما لم يكن يعرفه الشعر العربي قبل ذلك تقريبًا. ولم تعرف القصيدة العربية الاقتصار على الغزل إلا في العصر الأموي، كما غَلب على القصيدة العربية في نصوصها المبكرة تعدد الموضوعات، أما بعد ذلك فما أكثر أن وجدنا القصيدة تنفرد بموضوعها لا يشرك فيها موضوع آخر، لكن ذلك لم يضح ملمحًا ثابتًا للقصيدة العربية إلا في العصر الحديث. ومن ناحية تمييز القصائد بعضها عن بعض، لم يكن هناك عناوين للأشعار على خلاف النثر من كتب ورسائل وقصص، وكانوا إذا أرادوا أن يشيروا إلى قصيدة من القصائد المشهورة، قالوا: بائية أبي تمام، وسينية البحتري، ونونية ابن زيدون، وميمية المتنبي، على رغم أنه قد يكون للشاعر أكثر من قصيدة على هذا الحرف، ذلك أن شهرتها تدفع الذهن إلى ناحيتها دفعًا، فيعرف السامع أو القارئ أن المقصود بها هو تلك القصيدة لا غيرها من القصائد التي على نفس رويها. أما في القصائد الأخرى؛ فكان يقدم لها عادةً بعبارة: "وقال يمدح أو يهجو أو يرثي فلانًا" وهذا كل ما هنالك، ولكن الأمر اختلف في العصر الحديث بتأثير الشعر الغربي الذي كانت قصائده تعرف العناوين من قبل اتصالنا بهم، فعرفت قصائدنا عناوين هي أيضًا، وبخاصة أنها أمست لا تدور حول أكثر من موضوع واحد. كذلك دخل شعرنا ما يُسَمّى بـ"القصائد والأناشيد الوطنية"، وهو موضوع لم يعرفه الشعر العربي إذ لم يكن المسلمون ينظرون لأنفسهم بوصفهم شعوبًا وأوطانًا متميزة، بل على أنهم جميعًا يمثلون أمة واحدة رغم اختلاف الديار والحكام أحيانًا. وبالمثل استجد شعر التأملات الفكرية والاستبطانات النفسية، والتهاوين الذهنية، وكذلك الاستعانة بالأساطير الوثنية الشرقية والإغريقية، مما لم يكن الشعراء العرب يفكرون فيه. وفي ميدان الغزل كان هناك الغزل العفيف، والغزل المفحش، والغزل المعتاد الذي يتغنى بالمرأة وبجمالها، وما يفعل هذا الجمال بالقلوب واصفًا كل شيء في جسدها دون إفحاش رغم ذلك، وكان هناك كذلك الغزل وتصوير صدود الحبيب عنه، والعذاب الذي يقاسيه جراء ذلك، غير متحرج في تلك الأثناء من وصف جماله، ووجه الفتنة فيه. وقد يمضي أبعد من هذا كما فعل أبو نواس فيصل إلى حد الفحش ، ومثله الهجاء إذ كان من الهجاء بالأحساب وبالعيوب النفسية والخلقية كما كان الحال في الجاهلية، ومنه الهجاء بالعيوب الجسدية، ومنه الهجاء السياسي، وقد بدأ في العصر الأموي، ومنه الهجاء بالكلام البذيء وهو ما عرفه الشعر العربي في العصر العباسي ، وفي ميدان المديح كان هناك الشعراء المعتدلون كما كان هناك المغالون الذين قد يخرجون بممدوحهم من نطاق البشرية؛ فيخلعون عليهم بعض الصفات الإلهية كما هو الحال في "مدائح بن هانئ الأندلسي للمعز لدين الله الفاطمي التي كان الشاعر ، وإن لم ينتشر هذا اللون الجامح السخيف من المدائح. لكن الغالب في كل ذلك هو التمسك حقيقة أو إدعاء، صراحة أو ضمنًا بقيم الإسلام ومبادئه، حتى إننا لا نجد شيئًا من الشعر يعلن فيه الشاعر كفره أو ينال من الإسلام وتاريخه، فضلًا عن أن يصدر منه في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابة أية إساءة. وهذا في الإسلام، أما في الجاهلية فقد كانت القيم عربية جاهلية بما فيها من خير وشر، وعقل وحمق، كان الناس يتفاخرون مثلًا بالكرم والمنعة، وحماية الجار والقدرة على ظلم الآخرين دون أن يستطيع أولئك الآخرون ردًّا على هذا الظلم بظلم مثله، وكانوا يرون شرب الخمر ولعب الميسر مكرمة يتغنون بها، لما يرتبط به من نشوة تبعث الأريحية والسخاء. كما كانت العصبية القبلية على أشدها حتى لتجر وراءها من الكوارث ما لا يخطر على بالنا الآن، كاشتعال حرب طحون بسبب تافه تستمر سنوات وسنوات دون أن يهدأ لها أوار، ولكن بالنسبة إلى الدين لم يظهر الاعتقاد في الأوثان، والتعبد لها والقيام بشعائرها في شعر تلك الفترة مثلما لم يتحدث الشعراء عن النصرانية إلا في أضيق نطاق ممكن، اللهم إلا إذا قيل إن هذا وذاك كان موجودًا على نحو كاف، لكن المسلمين حذفوه وهو ما لا أظنه صحيحًا رغم ما يردد في هذا الصدد فريق من الباحثين. على أن الشاعر في هذا كله كان حريصًا على أن يكون واضحًا مفهومًا، فلا استغلاق في شعره ولا إلغاز، اللهم إلا في العصور المتأخرة حين يتعمد بعضهم النظم في لغز تعمدًا، أما في العصر الحديث، فكما سبق القول أصبح الغموض عند فريق من الأدباء غرضًا يقصد قصدًا كأنه قيمة في ذاته، وذلك بتأثير بعض المذاهب الأدبية التي أفرزها تاريخ الآداب الغربية وتأثرنا نحن بها، تلك المذاهب التي ترجع إلى طبيعة البلاد الغربية ذات الجبال والغيوم والعواصف، والليل البهيم المرتبط بالأساطير الرمزية، على عكس طبيعة بلاد العرب التي ينتشر فيها النور، والشمس، والضوء وينكشف فيها الأفق تمامًا. ومن ثم عجزت الأساطير، والرمزيات، وأدب الظلال أن تجد لها مكاناً عندها. ومن المضحك أن بعض الشعراء والأدباء العرب يزعمون تقليدًا منهم لما يقرؤونه في النقد الغربي، أن الشعر الواضح لا يمكن أن يكون شعرًا حقيقيًّا، إذ لا بد من المعاناة في قراءة الشعر وفهمه، بل قد يقولون : إن الشعر لا يكتب؛ ليفهم بل ليشعر به ليس إلا، وليت شعري كيف يستطيع الإنسان أن يتمتع بشعر لا يمكن فهمه! إن مثل تلك المزاعم العجيبة تناقض طبيعة العقل البشري الذي يقول: إنه في مجال الأدب لا يمكن أن يتذوق القارئ والسامع أي إبداع ما لم يفهمه أولًا ولو على نحو مقارب، أما مع غموضه واستغلاقه، فهذا ما لا يمكن أن يكون. وقامت طوال التاريخ الأدبي العربي حركة نقدية ناشطة حول الشعر؛ فكان عندنا كتب تصنف الشعراء، وتجعلهم طبقات، وكان عندنا كتب الموازنة، وكان عندنا كتب النقد التطبيقي والتفسيري، وكان عندنا الكتب التي تتناول التصوير البياني، وتحاول أن تفض أسراره، وكان عندنا نقاد كـ" عبد القاهر الجرجاني " صاحب "نظرية النظم".

3-نشأة الشعر العربي:

ليس شعر الجاهلية مطلق الكلام الموزون، ولكنه مع وزنه ينبغي أن يكون ممتازًا في تركيبه وتأليف ألفاظه، فإذا عارضته بالمنثور من كلامهم رجح برونق العبارة والاختصار في الدلالة واستجماع الغرض من الكلام، حتى يصح أن يقال فيه إنه إحساس ناطق. وهذه الأمة من أمم الفطرة، فليس لديها من أسباب التعلم والأخذ عن الأمم الأخرى شيء، فلا بد أن يكون شعرها كمالًا في اللغة، فلم ينطقوا به حتى هذبت وصفيت وصارت إلى المطاوعة في تصوير الإحساس وتأديته على وجهه الأتم؛ وهذا شأن لا يكون في لغة من اللغات إلا بعد أن تستقل طريقة تصريفها واشتقاقها ثم يتناولها التنقيح، ثم يجمع عليها في الاستعمال؛ وقد جرت على ذلك لغة العرب العدنانية؛ فإنها انفصلت عن اللغة السامية التي تفرعت منها، ثم استقلت طريقتها بالوضع والارتجال، ثم أخذوا في تهذيبها وتصفيتها حتى خرجت منها لغة مضر؛ ومن هذه اللغة خرج الشعر، ولا يتجاوز ذلك مائتي سنة قبل الهجرة على التحقيق. وقد اعتبر ذلك بما قاله أبو عبيدة من أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد؛ لأن ألفاظهما ليست بنجدية، فلا بد أن يكون أساس الشعر عندهم على صميم العربية من لسان مضر، وما عدا ذلك فهو مما تبعث عليه فطرة صاحبه، ولكن العرب لا يبالون به ولا يرونه، وعلى هذا مشى المتأخرون في الاحتجاج بالشعر العربي، فالعلماء لا يرون شعر عدي بن زيد حجة "الطبقات"؛ لأنه كان يسكن بالحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه؛ وهذا الاعتبار يحدد لنا منشأ الشعر، فإن عرب الجنوب وعرب الشمال كانوا يرتضخون لكنة حميرية أو آرامية أو نبطية أو عربية مشوبة بإحداها، وإن أكثر قبائل مضر هي التي نزلت نجدًا وما حوله إلى تهامة والحجاز، فهي صميم العربية. ومن الأدلة على حداثة الشعر ما رووه من أن كل قبيلة ادعت لشاعرها أنه الأول، ولم يدعوا ذلك لقائل البيتين والثلاثة؛ لأنهم لا يسمون ذلك شعرًا، فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد "(ص238 ج 2: المزهر") ، وأقدم هؤلاء في القرن الرابع للميلاد، وليس يدل ذلك على أنهم تنازعوا في أول من قال الشعر، ولكن في أول من أطاله وتصرف فيه، ولولا أن مبدأه قريب من هؤلاء لوقع إليهم من الشعر المروي ما يحسم مادة النزاع. ودليل آخر، وهو أن لعبيد بن الأبرص قصيدته التي مطلعها: (أقفر من أهله ملحوب) ،وهي مما لا يستقيم على وزن معروف من أوزانهم، ولا يطرد الموزون منها على وزنه، وهم مع ذلك يروونها وتغدو من مفردات قائلها، وقد أسقطوا غيرها كثيرًا، فلولا أن أوزان الشعر كانت يومئذ لم يمر عليها جيل بحيث لم تكن ألفتها الطبائع بعد، لأنكروا قصيدة عبيد، ولالتوت دونها ألسنتهم؛ ولم يبلغنا من ذلك شيء على كثرة اهتمام الرواة بالتجريح والتعديل.

4-عمر الشعر العربي :

يقول الجاحظ في كتابه (الحيوان): "وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق إليه "امرؤ القيس بن الحجر" و"مهلهل بن ربيعة"، فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام". لكن الجاحظ لم يقدم دليلًا على هذا الذي قال، إذ كيف يمكننا الاقتناع بأن الذي مهد السبيل للشعر هو امرؤ القيس والمهلهل بما يعني أنهما أول من قالا الشعر من العرب، وأن شعرهما من ثم يتسم بما يتسم به أول كل شيء، من البدائية وقلة الفن والسذاجة بالنسبة لما جاء بعده، على حين أن ما خلفه لنا "الملك الضليل" من شعر سواء من ناحية المقدار أو من ناحية القيمة الفنية، حتى لقد جعلوه أميرًا للشعراء الجاهليين، يكذب ذلك تكذيبًا شديدًا. وعلى أية حال فهناك أشعار تروى على أزمان أبعد كثيرًا من هذه المدة التي حددها الجاحظ، كتلك التي تُنسب لعاد وثمود مثلًا، صحيح أن ابن سلام في مقدمة كتابه (طبقات الشعراء) قد نفى أن تكون مثل تلك الأشعار حقيقية، إلا أنّ الحُجّة التي استند إليها في ذلك النفي ليست بالحاسمة، ذلك أنه اعتمد فيها على ما جاء في القرآن الكريم عن أولئك القوم من أنهم لم تبق منهم باقية، وهو ما أدى به إلى التساؤل قائلًا: إذا كانت عاد وثمود قد استؤصلتا كما جاء في القرآن، فمن الذي أدى لنا تلك الأشعار يا ترى؟. لكن فاته أن القرآن الكريم لم يقل إنهم جميعًا استؤصلوا، بل الذين استؤصلوا منهم هم الكافرون فقط، كما جاء في الآيات من (50 - 68) من سورة هود، كذلك من الممكن جدًّا أن يكون غيرهم من العرب ممن كانوا يحفظون تلك الأشعار هم الذين أدوها لنا، ولست أقصد بذلك أن هذه الأشعار وأشباهها صحيحة بالضرورة؛ فليس ذلك همي هنا، بل كل ما أريد أن أوضحه هو أن الحجة التي ساقها "ابن سلام" لا تستطيع أن تحسم المسألة، وبخاصة أنه ليس هناك ما يمنع أن يكون عاد وثمود قد قالوا شعرًا، ولا أن يكون ذلك الشعر قد بقي تلك المدة التي تفصل بينهم وبين الإسلام، إذ هي ليست بالمدة الطويلة، فها نحن أولاء ما زلنا نهمتم بأشعار الجاهلية التي يقر بها الباحثون، ونقرؤها وندرسها، ونحفظ كثيرًا من نصوصها رغم انصرام كل هاتيك القرون التي تبلغ ال 1600 من السنين. وكان "ابن سلام" يظن أن عادًا وثمود كانتا قبل زمنه بآلاف السنين، وأنه لم يبق منهما شيء، لكن ثمود لم يكن يفصل بينها وبين الإسلام في الواقع أكثر من ألف سنة أو أقل، إذ يعود تاريخ الثموديين إلى المسافة الزمنية الممتدة من قبل الميلاد بعدة قرون إلى ما بعده بفترة، وكانوا يسكنون مدائن صالح، وما حولها، وجاء في القرآن الكريم أنهم قد أخذتهم الرجفة، إلا أنهم رغم هذا قد خلفوا لنا كثيرًا من النقوش في بلادهم وخارج بلادهم، مما يدل على أن فهم ابن سلام للآية الكريمة الخاصة باستئصالهم لم يكن فهمًا دقيقًا، كذلك اللغة التي كتبوا بها نقوشهم لا تختلف عن العربية الفصحى كما نعرفها اللهم إلا فيما لا يقدم، ولا يؤخر. وبالإضافة إلى ذلك فقد تنبه الباحثون إلى أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا يمكن أن يكون أول ما نظمته العرب من أشعار بل لا بد أن تكون قد سبقته أشعار أخرى على مدى زمني طويل، حتى استوى الفن الشعري على سوقه. أما إلى أي مدى يمتد هذا الزمن في الماضي بالضبط، فعلمه عند الله، إذ لم يستطع حتى الآن أي باحث الإتيان بما يشفي ويكفي في هذا السبيل. وهناك من الباحثين من يرجع الشعر العربي إلى ما قبل الإسلام بزمن كبير، إذ يتحدث أحد المستشرق الفرنسيين عما كتبه "سوزومين" المؤرخ الإغريقي الكنسي من أهل القرن الخامس الميلادي، من أن إحدى ملكات العرب في القرن الرابع قد انتصرت على القوات الرومانية الموجودة في فلسطين وفينيقيا، فأخذت الرعية تحتفل بهذا الانتصار مرددة الأغاني الشعبية، وإن لم يصلنا من ذلك شيء ولو عن طريق الترجمة، ومعنى هذا لديه أن هناك شعرًا عربيًّا يعود إلى القرن الرابع الميلادي، أي: أن الشعر الجاهلي لا يعود إلى ما قبل الإسلام بقرن أو قرن ونصف فقط كما كنا نردد، بل لا بد أنه امتد إلى ما وراء القرن الرابع نفسه؛ لأنه لا يعقل أن يكون العرب قد وصلوا إلى نظم مثل تلك الأغاني إلا بعد أن كان فن الشارع قد نضج عندهم تمامًا. وعند الدكتور "عمر فروخ" أن الشعر الذي وصل إلينا من الجاهلية يمثل دورًا راقيًا لا يمكن أن يكون الشعر قد بلغ إليه في أقل من ألفي سنة على أقل، غير أنه لم يصل إلينا من ذلك الشعر الأول شيء، وهذا موجود في كتابه (تاريخ الأدب العربي) في الجزء الأول.


5-الباعث على إبداع الشعر:

الشعر قديم في فطرة العرب ، ولكنا إنما نبحث في هذا الكلام المقفى الموزون، فهو بهذا القيد لا يكون شعرًا حتى يكون قد استوفى صفة اللفظ، ولا يستوفيها حتى تكون الألفاظ قد مرت بها اللغة في أدوار كثيرة كما أشرنا إلى ذلك، وقد بقي أن نعرف كيف نطقوا بهذا الكلام، وما الذي نبههم إليه وأجراه على ألسنتهم، وهو معلوم أن ذلك لا يمكن أن يكون احتذاء لشعر أمة أخرى، فإن السريانيين والعبرانيين لا يشترطون في شعرهم التقفية، والعبرانيون قد يشترطون القافية دون الوزن، فيكون الشعر شبيهًا بالسجع عند العرب؛ فضلًا عن أن هذه الأوزان العربية ليست لأمة من الأمم؛ قال ابن رشيق في ذلك: كان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبنائها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعرًا؛ لأنهم قد شعروا به، أي: فطنوا له. وهو كلام يعطيك من ظاهره ما شئت أن تتأول ولا باطن له؛ ولكن الذي عندنا من ذلك أن الوزن نفسه مر في العرب على أدوار، فكانوا يحدون الإبل من أقدم أزمانهم بكلام وأصوات تشبه التوقيع؛ لأنه من المعلوم بالضرورة أنه لا ينفس من التعب ولا يبعث على النشاط غير الأصوات الموقعة على وزن ما؛ وقد نقل ابن رشيق في "العمدة" أن أصل الحداء عندهم من النصب، وهو غناء الركبان والفتيان، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فسمي لذلك: الغناء الجنابي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض, وهو لا يريد إلا الحداء المنظم الموزون الذي جروا عليه أخيرًا صنعة لا فطرة فيها, وقال في موضع آخر: ويقال إن أول من أخذ في ترجيع الحداء، مضر بن نزار؛ فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول، وايداه! وايداه! وكان أحسن خلق الله جرمًا وصوتًا، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالًا لقوله "ها يدا ها يدا" يحدون به الإبل. وقالوا في أصل الحداء غير ذلك ("ص241 ج2: العمدة" ) ، ولكنهم لم يرجعوه إلى ما قبل زمن مضر، وهي أقوال لا دليل عليها، وإنما جاءوا بها تأويلًا للفظ الحداء عند العرب ؛ ثم خرجوا عن هذا الوزن في الحداء إلى وزن الأصوات في الحروب، إذ كانوا في ذلك لا يجرون على نظام كنظام الأمم المتحضرة، ومن أجل ذلك كان طبيعيا أن تكون تلك الأصوات القوية مما تشد به القلوب على القلوب، وهم لا يمدحون شيئًا كجهارة الصوت وسعة الجرم، وهلم في ذلك أخبار عريضة ذكر الجاحظ منها طرفًا في كتابه "البيان"؛ ثم إنهم كانوا يخرجون تلك الأصوات في مواقفهم للضرب والطعن والصراع والجلاد، وتارة مقاطيع من الحروف تكون صيحات، وتارة كلمات، كقولهم مثلًا عند الطعن: خذها وأنا فلان! ونحو ذلك، وهو مما تبعث عليه فطرتهم وأحوالهم من الأخلاق والاجتماع، فلا بد أن يكون ذلك منشأ انتباههم إلى الوزن؛ إذ لا يبعد أن يكون قد صاح بعضهم بكلمات قذفها القلب غضبًا وحدة، فجاءت كما يجيء قسيم بيت، ثم خرجت على أثرها كلمات أخرى وكانت أشد من تلك، فانتهت بحركة مفزعة هي حركة القافية، ثم انتبه الصائح إلى تتابع هذه الحركات، ووافق ذلك رفيف قلبه واهتزاز نفسه وتحريك الحمية والإعجاب، فقفى على البيت بآخر؛ وكان هذا سبب الانتباه إليه والشعور به، ثم شاع بينهم بعد ذلك وقصدوا إليه قصدًا في أغراضهم التي مثلت لهم بعد ذلك، من المقارضة والمماتنة والمفاتنة حين بعثهم على ذلك طبيعة التفرق وأحوال الاجتماع البدوي، بعد أن طارت بهم الفتن ومزقتهم الحروب على ما نعرفه من التاريخ؛ فتبعوا الوزن وبنوا عليه ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها وتهش النفوس إليها، ثم خصوه بعد ذلك بما ينصرف إليه القول من وجوه التفاصح، فكان ذلك سببًا في إطالته وإحكامه. وإذا تدبرت حركات الأبحر التي شاع فيها نظم العرب، رأيتها من الحركات الحماسية، ولذلك بني أكثر شعرهم على الحماسة، خصوصًا ما وقع إلينا من الشعر القديم، فإن لم تكن تفاعيل الوزن من الحركات الحماسية كانت موسيقية مما تتحرك به العواطف؛ من أجل ذلك قلت في شعرهم القوافي الضعيفة إلى حد الندرة؛ لأن القافية قرار المعنى، وهي الصوت الطبيعي الذي ينزل من الشعر منزلة الإشارة التي تصحب كلام المتكلم؛ وتلك العناية منهم بها مما يرجح عندنا أن أصل الاهتداء إلى الوزن إنما كان بالقافية وما فيها من الرنين وما وافق من ناحية حمية الجاهلية كما سلفت الإشارة إليه. وعلى هذا كان لا بد في الأوزان التي نظموا بها من موافقة المعنى في حركاته النفسية، للوزن في حركاته اللفظية، حتى يكون هذا قالب ذاك؛ وإذا أنت اعترضت شعر الجاهلية فإنك ترى كل بحر من البحور مخصوصًا بنوع من المعاني، فالطويل وهو أكثر الأوزان شيوعًا بينهم، إنما اتسع لتفرغ فيه العواطف جملة، فهو يتناول الغزل الممزوج بالحسرة، والحماسة التي يخالطها شيء من الإنسانية، والرثاء الذي يتوسع فيه بقص الأعمال مبالغة في الأسف والحزن؛ ويتصل بذلك سائر ما يدل على التأمل المستخرج من أعماق النفس، كالتشبيهات والأوصاف ونحوها؛ وبالجملة فإن حركات هذا الوزن إنما تجري على نغمة واحدة في سائر المعاني، وهذه النغمة تشبه أن تكون حركة الوقار في نفس الإنسان، بخلاف الكامل؛ فإن كل ما يحمل من المعاني لا يدل إلا على حركة من حركات النزق في هذه النفوس، فإن كان حماسة كان شديدًا، وإن كان غزلًا كان أدخل في باب العتاب والارتفاع إلى الشكوى، وإن كان رثاء كان أقرب إلى التذمر والسخط، وإن كان وصفًا كان نظرًا سريعًا لا سكون فيه ولا إبطاء؛ وقس على ذلك سائر الأوزان، وهذه الأسرار الدقيقة هي التي امتاز بها الشعر العربي على كل ما سواه من أشعار الأمم، وهي هي التي يتفاضل بها الشعراء على مقدار رعايتها وعلى حساب ما يلهمون منها فيما ينظمون الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهاشم هذا هو الجد الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك قبل الهجرة بمائة سنة على الأكثر، وهو العهد الذي نبغ فيه عدي بن ربيعة التغلبي الملقب بالمهلهل، خال امرئ القيس، وقال الأصمعي: إنه أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر، تقول: ولعل هذه الكلمة هي التي قام بها على قبر أخيه كليب ومطلعها: (أهاج قذاة عيني الادِّكار) ،وإذا كان الشعر العربي طبيعيا كما أسلفنا، فإن العوامل في نموه لا بد أن تكون طبيعية، وعلى ذلك فنحن نرجح ما قالوه من أن عديا هذا هو أول من قصد القصائد وذكر الوقائع في شعره؛ لأنه كان غزلًا على همته، زير نساء على شجاعته، وكان أخوه كليب بن وائل الفارس المشهور أحد الثلاثة الذين اجتمعت عليهم معد، وهم عامر بن الظرب، وربيعة بن الحارث وكليب هذا ("ص237ج1: ابن الأثير") ، فلما قتل في الخبر المعروف، وكان قتله سبب الأيام بين بكر وتغلب، سير فيه عدي قصائد عدة، أرق بها الشعر وهلهله؛ وبهذا السبب لزمه لقب المهلهل، فكان طبيعيا بعد أن كان أخوه يعيره بأنه زير نساء، أن يعلن همته في القيام بثأره وحميته لذلك، وأن يشير بهذه الفجيعة ليعرف العرب منزلته من أخيه في الهمة، ومنزلة أخيه من نفسه في الحمية والجاهلية ، فكان الشعر قبل مهلهل رجزًا وقطعًا، فقصده مهلهل، ثم جاء امرؤ القيس فافتن به، وظل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء، حتى كان الأغلب العجلي وهو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فطوله شيئًا يسيرًا وجعله كالقصيد، وجاء بعده العجاج وهو وابنه رؤبة أشهر أهل الرجز، ففعل به ما فعل امرؤ القيس بالشعر بعد المهلهل.

6-الشعر في القبائل:

كان الشعر إلى مائة سنة قبل الهجرة في أول عهده بالافتتان والتصرف، ولم يكن تم تهذيب اللغة على نحو ما صارت إليه لعهد القرآن الكريم ، فكان طبيعيا أن لا ينصرف العرب إلى المباهاة به والمفاخرة بقائله منهم؛ ولكن لما جعل الشعراء يحتفلون ويتصرفون في اللغة ويتناولون أعذب ألفاظهم ثم يأتون مكة المكرمة في موسم الحج فيعرضون أشعارهم على أندية قريش، فما استحسنوه منها روي وكان فخرًا لقائله في القبائل كلها؛ إذ يحضرون الموسم جميعًا؛ لأن كل قبيلة كان لها صنم في الكعبة تأتي لزيارته حتى زادت عدة الأصنام فيها على ثلاثمائة صنم, أصبح العرب بعد ذلك يفاخرون بشعرائهم، وصار الشاعر أيضًا يباهي بقبيلته ويغض من غيرها، فذلك دينه السياسي وديدنه، حتى لا يصدق الرواة أن شاعرًا يمدح قبيلة بينها وبين حيه عداوة، وكان أبو عبيدة إذا أنشدوه أبيات العرندس وهو أحد بني بكر بن كلاب التي يقال إنه مدح بها بني بدر الغنويين، ومنها البيت المشهور:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
يقول: هذا والله محال، كلابي يمدح غنويا؟ يعني عداوة الحيين ("ص296: شرح العيون" ) كان من ذلك أن انصرفوا إلى المنافرات وهي تزيد مادة الحرص في الطبائع، وتمكن غريزة الفخر في النفوس، فصاروا من حاجتهم للشعراء إلى حال كانوا إذا نبغ الشاعر في قبيلة أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة, واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس وتتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم وذب عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة لذكرهم؛ وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتح. ولا عجب أن يكون الشعر عصبية في القبائل، ومن ذلك ما يقولون إن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، فكان منهم مهلهل والمرقشان، والأكبر منهما عم الأصغر، والأصغر عم طرفة بن العبد، واسم الأكبر عوف بن سعد، واسم الأصغر عمرو بن حرملة، وقيل ربيعة بن سفيان؛ ثم كان منهم أيضا سعد بن مالك، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، وخاله المسيب بن علس، ثم تحول الشعر إلى قيس، فمنهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ وأخوه مزرد، وخداش بن زهير؛ ثم استقر الشعر في تميم، ومنهم كان أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية، لم يتقدمه أحد منهم حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه وبقي شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع. وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء لسانًا وأعذبهم، أهل السروات، وهن ثلاث -وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن- فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة؛ ثم بجيلة السراة الوسطى وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها؛ ثم سراة الأزد أزد شنوءة، وهم بنو الحارث كعب بن الحارث بن نضر بن الأزد، وقوم يرون تقدمه الشعر لليمن في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه وفي المولدين بالحسن بن هانئ وأصحابه: مسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ودعبل، وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين حبيب والبحتري "(ص55 ج1: العمدة" ) على أنه ليس من الممكن أن يحاط بالشعراء المعروفين في قبائلهم وعشائرهم في الجاهلية والإسلام، ولم يقع لأحد من العلماء أنه استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته منها شاعر إلا عرفه، وأشهر من يعرفون أكثر شعرائهم قبائل هذيل، فقد رووا منها لأربعين شاعرًا في الجاهلية والإسلام، وجمع بعض شعرهم في ديوان شرحه العسكري "وطبع الجزء الأول منه في أوروبا"؛ وقد ترجم منهم ابن قتيبة في طبقاته طائفة قليلة، وكان منهم بنو مرة، وهم عشرة رهط كلهم دهاة شعراء، وهم أبو خراش وأبو جندب والأبح والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجناد وسفيان وعروة. ومرة أبوهم هو أحد بني قرد بن معاوية بن تميم بن سعد بن هذيل. وأمهم أم سفيان لبني وهي امرأة من بني حنيفة. وذلك لم يتفق في العرب لغير هذيل, ومن شعراء هذه القبيلة، جنوب المشهورة أخت عمرو ذي الكلب وأختها عمرة، وأول من عرف من شعرائها خويلد بن وائلة بن مطحل من بني سهم بن معاوية وهو أبو معقل بن خويلد الشاعر المعدود -وكان معقل زمن أبي يكسوم ملك الحبشة صاحب الفيل- ولكن أشهرهم جميعًا وأشعرهم أبو ذؤيب الذي كان في زمن عبد الله بن الزبير وخرج معه في مغزى نحو المغرب فمات. ومن عجيب أمر الشعر في القبائل ما ذكره الجاحظ أن عبد القيس بعد محاربة إياد، تفرقوا فرقتين؛ ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر قبيلة في العرب، قال: ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية، وفي معدن الفصاحة "( ج1: البيان" ) ، وهذا يصح دليلًا على أن الشعر لم ينشأ في العرب حين كانوا قبائل مجتمعين، وإنما نشأ بعد تفرقهم وتمزيق الحروب لهم، إذ مثلت لهم أغراضه واتفقت البواعث عليه. وقال يونس بن حبيب الضبي : ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر أو قائف أو زاجر أو كاهن أو فارس، وليس في هذيل إلا شاعر أو رام أو شديد العدو ("ج1: البيان")، وقد يظن بعضهم أنه لم تخل قبيلة من قبائل العرب بعد الإسلام أن ينبغ فيها شاعر أو شعراء، ولكن ذلك غير مطرد، فقد ذكر صاحب "الأغاني" أن قبيلة قيس لم يكن بها في الإسلام شعر قبل أشجع السلمي وهو من شعراء الرشيد، وإنما كان الشعر في ربيعة واليمن، فلما نجم أشجع وقال الشعر انتهضت به قيس وافتخرت على العرب "(ص360 ج17: الأغاني".) وقد كثر الشعر في بيوتات العرب وكثر المعرقون فيه جاهلية وإسلامًا: وقد عدوا من ذلك أشياء، لقرب بعضها من الإسلام ولظهور بعضها معه وبعده، ولكنهم لم يذكروها في المفاخرات كما ذكروا بيوتات المجد الغلابة في عرب الجاهلية، وهم بيت تميم بنو عبد الله بن دارم ومركزه بنو زرارة، وبيت قيس بنو فزارة ومركزه بنو بدر، وبيت بكر بن وائل بنو شيبان ومركزه بنو ذي الجدين "(ص35 ج1: الكامل للمبرد") . ومن بيوتات الشعر في الجاهلية بيت أبي سلمى.... إلخ ("ص235 ج2: العمدة".)

7-لباس وهيئة الشعراء:

لا بد لكل متميز من شكل ومنظر يلقي في الأنفس عنوان حقيقته؛ ومرجع التميز في الأشكال من اللباس والحلية وهيئة الحالة ونحوها إنما يكون إلى مطابقة إحساس الشخص أو موافقة إحساس المجتمع الذي هو مناط العادات ومبنى الصفة القومية، فليس زي الشاعر في بيته وهيئته فيما ينشد لنفسه كزيه في يوم الحفل وبين السماطين، ولا كهيئته فيما ينشد للناس يومئذ. وقد اصطلح أهل الأدب والمناصب العلمية وغيرها من رتب الملك في الاجتماع الإسلامي على أزياء يرون فيها أنفسهم أجزل اعتبارًا وأكمل وقارًا وأفخم أقدارًا، وكذلك تحشو هذه الآلات صدور الناس من إفراط التعظيم، وتملأ قلوبهم من سكون المهابة؛ وقد شاع ذلك في الحضارة الإسلامية منذ أمر أبو جعفر المنصور رجاله سنة -153هـ -أن يتخذوا القلانس الفارسية الطويلة تدعم بعيدان من داخلها، بدل العمائم التي كانت إلى ذلك العهد من مميزات العرب، وأن يعلقوا السيوف في أوساطهم وأن يكون شعارهم السواد كما كان البياض شعار الأمويين؛ ثم تنوعت الأزياء، فكان للقضاة زي ولأصحابهم زي وللشرط زي، وللكتاب زي، ولكتاب الخبر زي؛ وأصحاب السلطان ومن دخل داره على مراتب، فمنهم من يلبس المبطنة، ومنهم من يلبس الدراعة، ومنهم من يلبس القباء، وهكذا مما لا محل لاستيفائه وتفصيله هنا. وفي علم الفراسة نوع من قيافة الآثار النفسية يمتاز به الناس، وربما وجدت من الشعراء مثلًا من يكون منظر وجهه وحالة تركيبه أشعر عند التأمل من شعره؛ وكان العرب يعرفون هذه القيافة ولكنهم يستعملونها في تحقيق الأنساب وتميز القبائل، وفي الحديث: أن قومًا يزعمون أنهم من قريش أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قائفًا ليثبتهم في قريش. فقال: اخرجوا بنا إلى البقيع، فنظر في أكفهم ثم قال: اطرحوا العطف "جمع عطاف" ثم أمرهم فأقبلوا وأدبروا، ثم أقبل عليهم فقال: ليست بأكف قريش ولا شمائلها، فأعطاهم فيمن هم منه ("ص13 ج2: الكامل للمبرد") . ولسنا بسبيل ما يكون من هذه القيافة في الشعراء، ولكنا نذكر ما وقفنا عليه من تمييز الهيئة دلالة السيما بعد مطاولة التعب في البحث والتنقيب. ذكر المرتضى في أماليه في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر وكانوا ثلاثين رجلًا فيهم لبيد بن ربيعة وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدوا وجه النعمان عنهم فأرادوا تقديم لبيد ليرجز بالربيع بن زياد رجزًا مؤلمًا ممضًا، وكان هو الذي صرف الملك بالطعن فيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم فدخلوا على النعمان، فقام وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلًا واحدة، قال: وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء ("ص135 ج1-أمالي المرتضى"). وكانت لشعراء الأعراب هيئة في الإنشاد إلى ما بعد الإسلام، فقد دخل العماني الراجز على الرشيد ينشده شعرًا وعليه قلنسوة طويلة على الزي العباسي وخف ساذج، فقال له الرشيد: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور "الطي" وخفان دمالقان فبكر عليه من الغد وقد تزيّا بزي الأعراب فأنشده.... ("ج1: البيان") وكان الشاعر العربي ينشد في يوم الحفل وقد أخذ المخصرة بيده أو اتكأ على سية قوسه؛ وإذا فاخر جاثى خصمه والناس حولهما. وكان زي حسان بن ثابت في خضابه، فكان يلوث شاربيه وعنفقته بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو لأول وهلة كأنه أسد والغ في الدم ("ص3 ج4: الأغاني" )، ومن أزياء الجاهلية وإن كانت في غير ما نحن بسبيله، أن فرسان العرب كانوا في أيام المواسم والجموع وأسواق العرب كعكاظ وذي المجاز وما أشبه ذلك، يتقنعون، وذلك زيهم، إلا ما كان من أبي سليط طريف بن تميم أحد بني عمرو بن جندب، فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن يثبت عينه جميع فرسان العرب، وكانوا يكرهون أن يعرفوا، وربما أعلم الفارس نفسه بسيما، كريشة نعامة أو عمامة مصبغة ("ج2: البيان"). وكان من زي الكاهن أن لا يلبس المصبغ، والعراف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر ("ج2: البيان"). وكان الشعراء في أوائل الدولة العباسية يلبسون الوشي والمقطعات والأردية السود وكل الثوب مشهر، قال الجاحظ: وكان عندنا منذ نحو خمسين سنة شاعرًا يتزيا بزي الماضين وكان له برد أسود يلبسه في الصيف والشتاء ("ج2: البيان" ) وهذا يدل على أن ذلك الزي بطل في زمنه. وقد اخترعوا في تلك الدولة أثواب المنادمة وهي خاصة بالشعراء والأدباء ولا تقييد لها بشكل خاص إلا ما يكون من الأصباغ والخلوق ونحو ذلك مما يستعان به على زيادة التبسط والانشراح، ولا يزال مثل ذلك في جهات العراق إلى اليوم؛ ومن هذه الثياب رداء يسمونه رداء الشرب، ويظهر أنه كان خاصًا بالشعراء في منادمة الملوك والأمراء، وقد وصفه ابن الحجاج من شعراء المهلبي بقوله:
أبيض الغزل فيه خط سواد ... مثل خط الرئيس في القرطاس
("ص237 ج2: اليتيمة") أما البحتري، فإنه كان إذا أنشد اهتز ونظر في عطفيه وطرب طربًا بينًا، وربما أقبل على جلسائه فقال: ما لكم لا تعجبون؟ وكان مثل هذا وأكثر منه في جملة من الشعراء، إلا أننا لم نقف على أن الإنشاد كان تمثيلًا صحيحًا وإن خالطه الزهو والعجب الثقيل، إلا فيما ذكره الصاحب بن عباد -في كتابه المعروف بالروزنامجة- في وصف إنشاد أبي الحسن علي بن هارون بن المنجم، قال يخاطب أستاذه ابن العميد: "دعاني الأستاذ أبو محمد فحضرت وابنا المنجم في مجلسه وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعهما من النشيد لأحضره فأنشدا قعودًا وجودا بعد تشبيب طويل وحديث كثير، فإن لأبي الحسن رسمًا أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته.... يبتدئ فيقول ببحة عجيبة بعد إرسال دموعه وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه من جؤذر غلامه منديل عبراته: والله، والله ... إلخ ("ص284 ج2: يتيمة الدهر"). ولعل فعل أبي الحسن هذا على بساطته أول ما عرف من صنعة التمثيل في الإسلام،

8-ألقاب الشعراء:

كان العرب ربما أخذوا الكلمة يصيبونها في بيت من الشعر فيطلقونها لقبًا على قائله بحيث تغلب على اسمه وكنيته فلا يعرف إلا بها، كشأس بن نهار العبدي؛ وفي "البيان" للجاحظ: سالم؛ لقب بالممزق لقوله.
فإن كنت مأكولًا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
والممزق هذا بالفتح، قال الآمدي: وهو جاهلي، وأما الممزق الحضرمي فبكسر الزاي متأخر وابنه عباد ولقبه "الممزق" وهو القائل:
إني الممزق أعراض الكرام كما ... كان الممزق أعراض اللئام أبي
وقد نقل السيوطي في "المزهر" عن الوشاح لابن دريد وغيره، وأورد الجاحظ في الجزء الأول من "البيان"، وابن رشيق في كتابه "العمدة" زهاء ستين لقبًا لشعراء من الجاهلية والإسلام. قال ابن رشيق في سبب هذه التسمية: وإنما هذا لمكان الشعر من قلوب العرب وسرعة ولوجه في آذانهم وتعلقه بأنفسهم. وليس ذلك بشيء وإلا لزم أن يطرد ذلك في مشاهير الشعراء، ولم يقل به أحد، والذي عندنا أنه لا يصح كل ما نقلوه من ذلك، وأن بعضه من وضع الرواة والنقلة، وإلا فما وجه تسمية منبه بن سعد بأعصر لقوله:
أعمير إن أباك غير لونه ... مر الليالي واختلاف الأعصر
إلا أن تكون الكلمة قد ارتجلها منبه هذا ولم تكن معروفة قبله في لغات العرب بحيث تستغرب منه فيكون السبب في التسمية وجه الغرابة، وهو ما لا سبيل إلى تحقيقه وتصديقه. والذي تغلب عليه الصحة من ذلك ما يكون سبب التسمية به صفة يحكيها الشاعر عن نفسه, ويمكن أن يكون في إطلاقها عليه نوع من الغرابة كالمرقش الذي لقب بذلك لقوله:
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم
فهذه صفة غريبة من شاعر أمي يمكن أن ينبز بها تهكمًا أو مزحًا، كما يمكن أن تطلق عليه تحببًا أو مدحًا أو تكون الصفة المسمى بها من الصفات التي تدل على عمل يصح أن ينعت به، كالجواب الذي سمي بذلك لقوله:
لا تسقني بيديك إن لم تأتني ... رقص المطية، إنني جواب
أو تكون الكلمة التي تطلق على الشاعر مما يصح أن تشق منه صفة ذلك سبيلها، كجابر الكلبي المسمى المرني لقوله:
إذا ما مشى يتبعنه عند خطوه ... عيونًا مراضًا طرفهن روانيا
ولا بد من هذا القياس؛ لأن الألقاب إنما تشعر بمدح أو ذم، والأسماء لم توضع إلا للامتياز في التعريف، فأما أن تجيء الكلمة لا هي مما يمتاز بمثله عادة، وليست موضع مدح أو ذم ولو من طريق العتب، ثم يقال إنها اسم أو لقب فهذا ما لا يصدق. ولو أجزنا ذلك لاستغرق جميع الشعراء إلى اليوم، وذلك شيء لم يكن، وقد ذكر الجاحظ أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة -وكان خطيبًا من وجوه قريش ورجالهم سمي القباع- قال: وإنما سمي القباع؛ لأنه أتى بمكتل لأهل المدينة فقال: إن هذا المكتل لقباع، فسمي به. والقباع الواسع الرأس القصير( "ج1: البيان" ) ، فهذا سبب يدلك على أنهم لم يكونوا يجازفون بالتلقيب والتسمية، ولا بد من معنى لذلك، وهو أمر شائع في كل زمن؛ ومن هذا القبيل -وإن كنا نورده استجمامًا وفكاهة- ما ذكره الجاحظ أيضًا في سبب تسمية علي بن إسحاق بن يحيى المجنون المسمى بمقوم الأعضاء، أنه جلس مع بعض متعاقلي فتيان العسكر وجاءهم النخاس بجوار، فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان، إنما نحن في تقويم الأعضاء، ثمن أنف هذه خمسة وعشرون دينارًا، وثمن أذنيها ثمانية عشر، وثمن عينيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسها مائة دينار. فقال صاحبه المتعاقل : ههنا باب فهو أدخل في الحكمة من هذا؛ كان ينبغي لقدم هذه أن تكون لساق تلك، وأصابع تلك أن تكون لقدم هذه؛ وكان ينبغي لشفتي تيك أن تكونا لفك تيك، وأن يكون حاجبا تيك لجبين هذه؛ فسمي مقوم الأعضاء ( "ج2: البيان" ) ، والشرط في التلقيب بالكلمات أن تسير الكلمة؛ فإذا قرنت بالاسم زادته معنى، وإذا كانت مفردة أغنت؛ وهذا ما لا يتفق إلا بمثل الأسباب التي ذكرنا، فتنبه له.