[SIZE="5"][align=justify]9-
معنى الشعر الغنائي وماهيته:

يقول الدكتور "محمد مندور": إن كلمة " أن هذا اللون من الشعر كان يتغنى به منذ فجر الإنسانية، سواء عند الأوربيين أو عند العرب، أي: منذ خلق الله البشر على سطح الأرض، كذلك يفهم مما قال؛ أن كل شعر من هذا النوع كان يتم التغني به في ذلك الزمن، بل كان الشاعر الملحمي لينشد الملحمة كلها بهذه الطريقة، بخلاف الحال في القصائد التي لا يغني المغني من أي من دواوينها إلا بعض النصوص ليس إلا، إن حدث أن غُني شيء منها أصلًا، وعلى هذا فقد يكون وفي دائرة المعارف البريطانية الموجزة أن الشعر الغنائي هو الشعر الذي يمكن غناؤه أو يفترض أنه يمكن غناؤه، على آلة موسيقية كانت في الماضي البعيد -هي الهارب الصغير عادة- أو هو الشعر الذي يعبر عن العواطف الشخصية المكثفة على نحو يوحي بأننا إيذاء أغنية. فالشعر الغنائي نوع من القصائد يتميز عن شعر الملاحم والمسرحيات، ويتسم بالقصر حتى إن القصيدة منه لا تزيد طولًا عن بضع عشرات من الأبيات، وغالبًا ما تعبر عن مشاعر فرد ما أو أفكاره على نحو شخصي وذاتي، وهذا اللون من الشعر يستغرق معظم الشعر الموجود في أي أدب. وهو تعبيرٌ عن الوجدان الفردي والجماعي على السواء، وإن صح أن الشعر الجاهلي كان كله شعر محاكاة، وتصوير حسي للبيئة الطبيعية والبشرية على السواء، وهو شعر لا يكاد يظهر فيه وجدان الشاعر إلا في القليل، بحيث لا نستطيع أن نقول عنه: إنه تعبير عن الوجدان ذاته، فالشعراء قد وصفوا في دقة حسية بالغة الناقة، والحصان، وحمار الوحش، والذئب، كما وصفوا الأطلال والدمنة، والأثافي وبعض الآرام والهضاب والدروب، وأعشاب الصحراء. وبالمثل وصفوا المرأة وصفًا حسيًا دقيقًا، وانحصر غزلهم فيها في هذا الوصف، ولم يعرفوا الغزل العاطفي، ولواعج الغرام إلا بعد ظهور الإسلام، وفي بيئة الحجاز المترفة في العصر الأموي، حيث ظهر الغزل العذري عند المجنون، وقيس بن ذريح، وجميل بن معمر، وابن قيس وسيد عزة حسب كلامه نصًّا. والواقع أنّ الشعر الغنائي يمكن أن يكون شعرًا تعبيريًّا أو شعر محاكاة أو مزيج من هذا وذاك، ويُمكن أن يكون شعرًا واضحًا أو شعرًا رمزيًّا يبرز فيه دور الموسيقى والإيحاء لا التعبير المباشر، ويُمكِنُ أن يكونَ شعرًا فرديًّا أو شعرًا يُعَبّر فيه صاحبه عن مشاعر الجماعة وآمالها وآلامها وقيمها، ومخاوفها ومفاخرها، ويمكن أن يكون وجدانيًّا أو واقعيًّا، ويمكن أن يكون واقعيًّا متشائمًا أو واقعيًّا متفائلًا، ويمكن أن يكون هامسًا أو مجلل النبرة، ويمكن أن يكون تأمليًا أو وصفيًا، ويمكن أن يكون سلطانيًّا أو قصصيًّا، ويمكن أن يكون موضوعيًّا أو ذاتيًّا. ولا تناقض في شيء من هذا الكلام، فالحياة لا تعرف هذه الحواجز المصطنعة ، وشعرنا الجاهلي كان معظمه شعر محاكاة، إذ فيه وجدان كثير، وهذا الوجدان ليس وجدانًا غراميًّا فحسب؛ لأن الكلام عن الحروب وصف الحال مثلًا يدخل فيه الوجدان كما يدخل في النسيب للمرأة، ذلك أن العواطف والانفعالات الإنسانية ليست مقصورة على ميدان الحب وحده، بل هي أوسع من ذلك مدىً وأكثر تنوعًا.

10-المقلون والمكثرون من الشعراء:

من الشعراء شاعر نفسه الذي يقول على مؤاتاة السجية والطبع دون أن يستكره على الشعر أو يرهق بالأغراض المتنوعة، وهذا إنما جهده أن يصيب حظ نفسه أقل أو أكثر؛ ولكن منهم شاعر الناس الذي يحرث حياته الأرضية على أقفيتهم، فهم إن تركوه أو تركهم مات، ومثل هذا لا يصيب حظ روحه من القول إلا بعد أن يصيب حظ جسمه منه، فهو مكثر أبدًا من الشعر، يقلبه على أغراض الناس ليأخذ به مكانًا على الأفواه ينزل فيه بضاعته من سوق الكلام، ولا يعرف المقل من المكثر في شعراء الجاهلية إلا بهذا التقسيم؛ لأنهم قد استووا في ضياع كثير من شعرهم وسقوطه من أيدي الرواة المصححين، بحيث لو اعتبرت شهرة أحدهم بقيمة ما يصح له من الشعر لنبا به موضعه حيث وضع من الشهرة والتقدم. فقد عدوا من المقلين طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة الفحل، وعدي بن زيد، وسلامة بن جندل، وحصين بن الحمام المري، والمتلمس، والمسيب بن علس، وهؤلاء الثلاثة فيما رووا عن أبي عبيدة أشهر المقلين في الجاهلية باتفاق، وعدوا منهم عنترة، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن معد يكرب، والأشعر بن حمران الجعفي، وسهيل بن أبي كاهل، والأسود بن يعفر، ومن أولئك من يعرف بالقصيدة الواحدة كطرفة، ومنهم من يعرف بثلاث قصائد كعلقمة، ومنهم من يعرف بالأربع كعدي بن زيد، ومنهم من يعرف بالأبيات المتفرقة ولا عبرة بما ينسب إليهم عند غير المصححين وأهل التحقيق، فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير، وهو يتفاوت في هذه الكثرة بحسب صنعة الشاعر المحمول عليه وتلاحم كلماته وامتلاء أعطافها، ولذلك قالوا: إن عدي بن زيد لقربه من الريف وسكناه الحيرة في جيرة النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، وقد ذكر ابن رشيق بعض مطالع القصائد المشهورة في أيدي الناس التي صحت نسبتها لبعض هؤلاء المقلين( "ص66 ج1: العمدة".) ولا يبعد أن يشتهر الشاعر الجاهلي بالقصيدة الواحدة، بل بالأبيات القليلة، بل بالبيت المفرد؛ لأنهم يزنون الكلمة بمقدار ما تحرك من ميزاتها الطبيعي الذي هو القلب، وكانوا يسمون البيت الواحد يتيمًا، فإذا بلغ البيتين والثلاثة، فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحسن أن يسمى قصيدًا؛ قال ثعلب: وذلك مأخوذ من المخ القصيد، وهو المتراكم بعضه على بعض، وهو ضد الراد، ومثله الرئيد ("ص119: إعجاز القرآن") ؛ وهذا أصح مما ذهب إليه المتأخرون من أن أدنى حد القصيدة سبعة أبيات؛ لأنه لا يلتئم مع وجه الاشتقاق الذي رواه ثعلب كما ترى. وكانوا يستحبون الإطالة عند الإعذار والإنذار والترهيب والترغيب والإصلاح بين القبائل، كما فعل زهير والحارث بن حلزة وغيرهما، والقطع أطير في بعض المواضع كالمحاضرات والمنازعات والتمثيل والملح وغيرها مما ليس من المواقف المشهورات. وكان العرب يعرفون للإكثار من الشعر صفة طبيعية، وهي قرع روثة الأنف بطرف اللسان، كأن اللسان إذا طال كان ذلك أدعى إلى رقته ولينه ومؤاتاته على التغليب فيبعث من الصغر على الارتياض للكلام والحمل في شعابه وفنونه؛ ولا نعرف أصل هذه الصفة ولا تاريخها فيهم، ولكن ذكر الجاحظ في البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: "ما بقي من لسانك"؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أنفه، ثم قال: "والله إني لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه، وما يسرني به مقول من معد"! فهذا يدل على أن الصفة كانت معروفة فيهم، وإلا فلا أسقط من هذا الكلام. قال الجاحظ: وأبو الصمت مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة وأبوه وابنه في نسق واحد: يقرعون بأطرف ألسنتهم أطراف أنوفهم ("ج1: البيان" ) . والعجيب في أمر الإقلال والإكثار أنك تجد شعراء من المطبوعين لا يقدر على جمع شعرهم لكثرته ( "شرح العيون ص320" ) ، وقد عدوا من هؤلاء بشار العقيلي، والسيد الحميري، وأبا العتاهية، وابن أبي عيينة ؛ وكان بشار يقول إن له اثني عشر ألف قصيدة؛ قال الجاحظ: وقد ذكر الناس في هذا الباب يحيى بن نوفل، وسلما الخاسر، وخلف بن خليفة، قال: وأبان بن عبد الحميد اللاحقي أولى بالطبع من هؤلاء، وبشار أطبعهم كلهم ( "ج1: البيان" ) . وتجد شعراء آخرين لا يزيدون في شعرهم الجيد عن البيتين والثلاثة إلى القطع الصغيرة، وقد يتعمدون ذلك في أغراض معلومة، كعقيل بن علفة الذي كان يقصر هجاءه ويقول في الاحتجاج لذلك: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق، وأبي المهوس أيضًا وكان يقول محتجا: لم أجد المثل النادر إلا بيتًا واحدًا، ولم أجد الشعر السائر إلا بيتًا واحدًا ("ج1: البيان".) ، وكان ابن الزهري يقصر أشعاره ويقول: إن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل، ويكفيك من الشعر غرة لائحة، وسبة فاضحة، وقد يكون الإقلال في بعض أولئك عاما في جميع الجيد من شعرهم كالجماز وقال له بعض المحدثين وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة! وهو القائل:
أقول بيتًا واحدًا أكتفي ... بذكره من دون أبيات
وكابن لنكك البصري "من شعراء القرن الرابع" قال الثعالبي في ("اليتيمة") : وما أشبه شعره في الملاحة وقلة مجاوزة البيتين والثلاثة إلا بشعر كنية أبي الحسن بن فارس، وأقدر أنه في الجبال كهو في العراق؛ وكان يقال في منصور الفقيه: إذا رمح بزوجيه قتل ، وفي المعدة: كانوا يقولون: إياكم ومنصورًا إذا رمح بالزوج، وكان ربما هجا بالبيت الواحد. وفي بعض النسخ: إذا رمى، وهو خطأ. قصائد الفرزدق، فإنك لم تر شاعرًا قط يجمع التجويد في القصار والطوال غيره، وقد قيل: للكميت: الناس يزعمون أنك لا تقدر على القصار، قال: من قدر على الطوال فهو على القصار أقدر. وهذا الكلام يخرج في ظاهر الرأي والظن، ولم نجد ذلك عند التحصيل على ما قال "(ص31 ج3: الحيوان".) ! وكذلك ابن لنكك: إذا قال البيت والبيتين والثلاثة أغرب بما جلب وأبدع فيما صنع، فأما إذا قصد القصيد فقلما يفلح ("117 جزء2: اليتيمة".) واشتهر بجودة القطع من المولدين قبل هؤلاء، بشار بن برد، وعباس بن الأحنف، والحسين بن الضحاك، وأبو نواس، وأبو علي البصير، وعلي بن الجهم، وابن المدل، وابن المعتز، وإن كان بعضهم يحسن في الإطالة، كبشار وأبي نواس وابن الجهم؛ ومن الإسلاميين قبلهم الفرزدق، حتى قال الجاحظ: إن أحببت أن تروي من قصار القصائد شعرًا لم يسمع بمثله فالتمس ذلك في قصار ؛ أما المعروفون بالإطالة فهم كثير، وأشهرهم ابن الرومي، وهو على إطالته محسن، وربما تجاوز حتى يسرف.
11-الارتجال والبديهة والروية:
قد يكون لفظ الارتجال مأخوذًا من الانصباب والسهولة، ومنه قيل: شعر رجل إذا كان سبطًا مسترسلًا غير جعد، أو من ارتجال البئر، وذلك أن ينزلها الرجل برجليه من غير حبل؛ لأن الشعر لا يسمى مرتجلًا إلا إذا كان انهمارًا واندفاقًا لا تعمل فيه ولا تروئة، وكانت هذه سنة العرب في جاهليتهم، إذ هم لم يحتذوا الشعر على مثال، بل كان ذلك نوعًا من كلامهم متى بعث أحدهم عليه انبعث، ولما كانت أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى جملة النفس، كان هذا الكلام كامنًا فيها، لا يهيجه إلا اضطرابها فكان من أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى جملة النفس، كان هذا الكلام كامنًا فيها، لا يهيجه إلا اضطرابها فكان من أسباب ذلك ما تجد النفس في لذة المغالبة والمدافعة، كالمماتنة والمقارضة ونحوها، وما يرفه عليها ويحسم عنها كالحداء وما في حكمه مما ينشدونه على أفواه القلب وعند الانكفاء من الغارات وأمثال ذلك، ومما يغمر النفس فتكون فيه طافية راسبة، ومن هذا النوع شعر العواطف، كالغزل والرثاء والاستغاثة والتحريض وما إليها، ومن أجل ذلك ابتدأ الشعر عند العرب بالبيتين والأبيات يقولها الرجل في حاجته، حتى وجد فيهم من جعل تلك الأسباب همه وهو الشاعر، فتركوا ذلك له وصار من عدا الشعراء منهم كما كان العرب في أوليتهم: لا يكاد الرجل يجد سبب الأبيات حتى ينتزعها من نفسه وينبعث بها طبعه، ثم فعلت الوراثة في ذلك فعلها الشعر وصار في الارتجال شيء من الصنعة يكفي له تقليب العين وخطرة الوهم، فيجيء الشاعر بالقصيدة فيها من بديع التشبيه وبارع الاستعارة وكرم الديباجة وحسن الرونق، لا يتعاون عليها إلا طبعه ومادته من الأسباب التي قدمناها، فإذا اعترض النفس ما يصرفها عن تلك الأسباب، تبلد الطبع ونضبت المادة، فربما استحالت البديهة بعد الارتجال، وربما استحالت الروية بعد البديهة، كما وقع لعبيد بن الأبرص وهو من أقدم شعراء الجاهلية وأقواهم غريزة، إذ يقول له النعمان في يوم بؤسه: أنشدني، فقال: حال الجريض دون القريض! قال: أنشدني قولك:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب!
فقال: لا، ولكن:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد!
فبلغت به حال الجزع إلى مثل هذا القول بعد روية ومراجعة. وقد عدوا نفرًا من الشعراء في عصور مختلفة كانوا في هذه الحال كما يكونون في غيرها من أحوال الأمن والدعة، وذلك لقدرتهم وسكون جأشهم وقوة غريزتهم، كهدبة بن الخشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي، وعبد يغوث بن صلاءة، وتميم بن جميل، وعلي بن الجهم وغيرهم. قال الجاحظ: وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إحالة فكرة ، ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا ( "ج2: البيان والتبيين"). واستمر ذلك شأنهم حتى نشأ الذين تكسبوا بالشعر والتمسوا به الصلات والجوائز، وجعلوه للسماطين وأيام الحفل، كالنابغة وزهير والأعشى وغيرهم فلم يجدوا من السبب ما وجد الذين قبلهم؛ لأن الشاعر إذا مدح اليد وأشاد بالصنيعة لم يكن له بد من التكلف والاستكراه، إذ يعلم أنه لا يقبل منه عفو الكلام؛ ولأن ذلك المقام لا تجدي فيه غير المبالغة التي تكون من استعراض الصفات وتخير المعاني والتغلغل والإغراق وأشباهها، فكان من ذلك القيام على الشعر ومعاودة النظر فيه وتتبع الشاعر على نفسه حتى يخرج شعره مستويًا في الجودة؛ لأن الطبع في مثل تلك المعاني يندفع ويتبلد، ويضعف ويتجلد، فإذا لم تجتذب الألفاظ ولم تجتلب المعاني جاء الشعر جديدًا مرقعًا أو لبيسًا ممزقًا، فلا يصلح أن تكون حلة الفخر التي لا تبلى على الدهر؛ وقد يكون من أسباب ذلك أيضًا أن الشعر لما فشا فيهم بعد نبوغ امرئ القيس ومن في طبقته، وكان الشعراء يستعينون عليه بالروية استجماعًا لمحاسنه خشي آخرهم أن يقصر عن أولهم إذا هو لم يجار سنة النمو والارتقاء، فكان يبيت المعاني يلتمس لها وجوه الصنعة، ويدع القصيدة تمكث عنده زمنًا طويلًا يردد فيه نظره ويقلب رأيه ويرصد أوقات نشاطه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره؛ وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلًا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا، وقال الجاحظ في كتابه ( "البيان ج1") كنت أظن قولهم "محكك" كلمة مولدة، حتى سمعت قول الصعب بن علي الكناني:
أبلغ فزارة أن الذئب آكلها ... وجائع سغب شر من الذيب
أزل أطلس ذو نفس محككة ... قد كان طار زمانًا في اليعاسيب
"(ج1: البيان".) وأول من ذهب لذلك منهم طفيل الغنوي؛ وكان يسمى محبرًا لحسن شعره ("العمدة") وكلا السببين قد اجتمعا في زهير؛ لأنه كان يروي شعر ثلاثة من الفحول منهم طفيل، وكان مذهب شعره المديح كما ستراه في الكلام عنه؛ ولذلك كان أول من اشتهر بالثبات المحكك من الشعر، وهو الذي كان يسمي كبار قصائده الحوليات؛ لأنه ينظم القصيدة منها في شهر ثم لا يزال ينقحها ويهذبها حتى يمر عليها الحول؛ غير أن مثل زهير من أهل السيادة والورع لا يمدح لرغبة ولا يكذب في مديح، فكان بديهيا أن يكون من بعض بواعثه على الرواية مغالبة الأنفة ومدافعة الطبع والتماس عذر النفس الأبية في صدق المديح، وهذا كله مما لا يغني فيه الارتجال شيئًا. وما ظهرت الصنعة والتجويد في الشعر حتى اتقته العرب اتقاء شديدًا؛ لأنها رأت الشاعر في ترويته إنما يسم كلماته فلا يرمي بها إلا قاتلًا، ولا جرم كان ذلك أيضًا سببًا من الأسباب في ضعف الارتجال؛ لأن شاعر الجاهلية الآخرة ميزان الأحساب، لا يصلح إلا لأن يرفع ويضع، غير أن سبيل هؤلاء [الصنعيين] في غير تلك الطرائق سبيل غيرهم من أهل الطبع، فهم يرتجلون في الحماسة والهجاء وغيرهما. قال الجاحظ في كتابه( "البيان ج1" ) : كنت أظن قولهم "محكك" كلمة مولدة، حتى سمعت قول الصعب بن علي الكناني:
أبلغ فزارة أن الذئب آكلها ... وجائع سغب شر من الذيب
أزل أطلس ذو نفس محككة ... قد كان طار زمانًا في اليعاسيب
ثم جاء الإسلام فكانت أسباب الشعر في أوله على ما كانت في أولية العرب؛ إذ كان مثل حسان ينصب له منبر في مؤخر المسجد لينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك مر المخضرمون برونق الطبع ووشي الغريزة، حتى نبغ الحطيئة وهو من هو في الضراعة والجشع وسقوط الهمة، وكان راوية زهير وابنه، فاستعبده الشعر، واستفرغ مجهوده، وكان الأصمعي يسميه هو وزهيرًا وأشباههما "عبيد الشعر" لذلك. ثم ضعف شأن الارتجال إلا في بعض الماتنات، وفي الأبيات القليلة من غيرها تخرج على الطبع وتنبعث بها المادة؛ واستحال الارتجال إلى البديهة وهي الإطراق القليل التفكير غير الطويل، وما قصر عنها فهو الروية. وامتاز بالبديهة شعراء الدولة الأموية، وقليل من شعراء العباسيين، وأشهر هؤلاء في ذلك أبو نواس، فقد كان قوي البديهة والارتجال، لا ينقطع ولا يروي إلا فلتة، وقالوا إنه بهما غلب على مسلم بن الوليد. غير أن ذلك لم يكن منه إلا في الأبيات المعدودة، أما الطوال كقصائد السماطين وغيرها فلم نعثر على رواية في ارتجالها بعد المخضرمين إلا ما رواه ابن خلدون عند ذكر استقبال عبد الرحمن الناصر من أمراء الدولة الأموية بالأندلس لرسل الملوك الوافدين من رومة والقسطنطينية وغيرهما؛ قال بعد أن وصف من جلال مجلس الخلافة ما قال: وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل.... وكان من خطباء هذا المجلس منذر بن سعيد ("توفي سنة 355هـ ) وهو فقيه شاعر كاتب خطيب جريء على ذلك كله، وقد أورد الجلسة صاحب "نفح الطيب" وفصل أبهة ذلك المجلس، وحالة الخطباء فراجعه هناك "(ص171 ج1: نفح الطيب"). ولا يبعد أن يكون في كل عصر من يرتجل مثل ذلك حتى في المتأخرين إلا أنه لا يجيء بالجيد ولا يباري أهل الروية، ومن عجائب ذلك في المتأخرين ما ذكره صاحب "خلاصة الأثر" في ترجمة أبي السماع البصير المصري أنه كان أعجوبة الزمان وأحد الأفراد في البديهة وارتجال الشعر؛ قال: وكانت طريقته إذا أراد الارتجال أن يبدأ بإنشاد قصيدة من كلام أحد الشعراء المتقدمين بصوت شجي، وفي أثناء إنشاده يبتدر على وزن تلك القصيدة في أي باب كان من أبواب الشعر مدحًا كان أو غزلًا أو غيرهما.( "ص139 ج1") ، ولم نقف على نظير لهذه الرواية إلى عصرنا، ولكن هناك عجيبة أخرى في ارتجال الرسائل ذكرها الثعالبي في ("اليتيمة" "ص31 ج4"). أما البديهة فهي عند سببها في كل عصر وزمن، وقد جمع علي بن ظافر كتابًا حسنًا في ذلك سماه "بدائع البدائه" وهو مشهور. ومن البديهة سريع يقارب الارتجال، وهو الذين تجوز المتأخرون في تسميته بالارتجال، وفي كتب الأدباء أشياء كثيرة منه "كالذخيرة" لابن بسام و"القلائد" وغيرهما. وكان عمود الارتجال القافية, وربما حدا بعضهم بالرجز حتى إذا شردت عليه القافية تركه وسجع بغيره]. ومن أسباب ضعف الارتجال غلبة اللحن ومعاشرة اللحانين، حتى صار الشاعر يحتاج إلى الإطراق.
12-التمايز عند الشعراء:
كان النبوغ عند العرب لقبًا خاصا بالشعراء الذين يقولون الشعر ويجيدونه ولم يكونوا في إرث الشعر، ومن أجل ذلك لم يلقبوا بالنابغة إلا ثمانية من الشعراء ذكرهم بأسمائهم جميعًا الزبيدي في "تاج العروس" في شرح مادة -نبغ- وهم: زياد بن معاوية الذبياني، وقيس بن عبد الله الجعدي، وعبد الله بن المخارق الشيباني، ويزيد بن أبان الحارثي المعروف بنابغة بني الديان، والنابغة ابن لأي الغنوي، والحارث بن كعب اليربوعي، والحارث بن عدوان التغلبي، والنابغة العدواني ولم يسموه. وعلى السبب في تلقيب هؤلاء بالنوابغ بنى اللغويون تعريف النبوغ في الشعر كما مر، فيظهر من ذلك أنه تعريف خاص مقيد بسبب معروف فلا يطلق إلا مجازًا، أما الألقاب العامة عند العرب فقد ذكرها الجاحظ في "البيان"، قال: والشعراء عندهم أربع طبقات: فأوليهم الفحل الخنذيذ، والخنذيذ هو التام، ودون الفحل الخنذيذ، الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور ("البيان والتبيين، ج1" ) ، فالخنذيذ هو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره, وسئل رؤبة عن الفحولة قال: هم الرواة، والمفلئق الذي لا راوية له إلا أنه مجود كالأول في شعره ، وقالوا في سبب هذه التسمية إنه يأتي في شعره بالفلق وهو العجب، وقيل الفلق الداهية" والشاعر فقط الذي يكون فوق الرديء بدرجة، أما الشعرور فهو لا شيء. قال الجاحظ: وسمعت بعض العلماء يقول: طبقات الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر؛ وشعرور. وأول من سمي بالشويعر امرؤ القيس؛ سمي به محمد بن حمران بن أبي حمران، وقد سمي بعده بذلك نفر، منهم المفوف شاعر بني حميس، وصفوان بن عبد ياليل من بني سعد إلا أنهم إنما ينبذون بذلك في الهجاء وعلى وجه النقيصة؛ وقبل هذه الألقاب كان عندهم لقب بسيط لا يدل على أكثر من هيئة النظم، وبهذه البساطة استدللنا على أنه أقدم من الألقاب المذكورة آنفًا؛ ذكر صاحب "المخصص (" "ج2 ص115") قال أبو زيد: العرب تقول: خطيب مصقع وشاعر مرقع، فالمصقع: الذي يأخذ في كل صقع من الكلام أي: ناحية منه؛ والمرقع: الذي يصل الكلام بعضه ببعض يرقع ما انخرق منه، وبهذا قيل: للشعر نظام، لاتصاله واتساقه، فكأن هذا اللقب نشأ عندهم في أوائل العهد بإطالة الشعر ومجاوزة البيتين والثلاثة؛ لأن مد البيتين مثلًا إلى أن يبلغا أبياتًا هو حقيقة ذلك الوصل الذي وضعوا هذه الكلمة لتعريفه.
وبعد أن أخذ شعراء العرب في التروية والتنقيح وتحكيك الشعر نشأ عندهم لقب المطبوع واستعملوه فيمن يجري على طبعه العربي ولا يتصنع ولا يتكلف ما يلزم التروية من التبييت ومعاودة النظر ونحو ذلك، فهذه جملة ألقاب الشعراء عندهم.
13-لاختراع والاتباع عند الشعراء:
لم يغفل علماء الأدب العربي عن معنى الجهبذة والنبوغ العبقري، وهم يسمون ذلك بقسميه الاختراع والإبداع، والفرق بينهما عندهم أن الاختراع خلق المعاني التي لم يسبق إليها والإتيان بما لم يكن منها قط، والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف والذي لم تجر العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع، فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ، قالوا: فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمر وحاز قصب السبق ("ج1 ص177: العمدة")، وإنما ذلك معنى شخصية الكلام التي تميزه وتجعله خلقًا وابتكارًا فيكون عملًا ذاتيا يدل على صفة شعرية متخصصة، وليس يصح لقب الشاعر لغير هذه الصفة وإلا فهو منتحل أو مغتصب. واشتقاق الاختراع من التليين، يقال: بيت خرع إذا كان لينًا، والخروع منه، فكأن الشاعر سهل طريقة هذا المعنى أو لينه حتى أبرزه، وأما البديع فهو الجديد، وأصله في الحبال، وذلك أن يفتل الحبل جديدًا، ليس من قوى حبل نقضته ثم فتلته فتلًا آخر. والاختراع في شعر العرب مما يظلمون به عند المحدثين والمولدين؛ لأن أولئك أهل البادية وتربية العراء وشعراء الفطرة، وهؤلاء أهل الحضارة التي تفتق القرائح بما تنوعه من المآخذ المختلفة؛ ولذلك كانت المعاني قليلة في شعر الجاهلية تكاد تحصر لو حاول ذلك محاول، وإنما نريد المعاني التي لا يشتركون فيها بطبيعة الاجتماع، والتي لو اختلطت جميع أشعارهم لتزايلت وانفصل بعضها عن بعض، فكأن كل معنى قلب فيه سر حياة القصيدة أو القطعة، كقول امرئ القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فهذا المعنى الذي لا تصوره إلا الحواس الدقيقة، قد سلمته له الشعراء جميعًا فلم ينازعه فيه أحد، وقد مكن مزية الاختراع فيه أنه وصف طبيعي ثابت لا يطاوع في التوليد والتشقيق إلا بالعنت والاستكراه، ومن أجل ذلك لم يأخذه أحد إلا فضحه؛ وسنلم به في ترجمة امرئ القيس . وقد جاء المخضرمون ولا مزية لهم على شعراء الجاهلية في الاختراع، ثم جاء بعدهم شعراء الصدر الأول من الإسلاميين فزادوا في ذلك بعض الزيادة بما مكنتهم منه الحالة الدينية، ثم كانت طبقة جرير والفرزدق والأخطل وأصحابهم فذهبوا في التوليد والإبداع والاختراع مذهبا واضحًا، وطرقوا لذلك طريقًا سابلة، ثم أتى أبو المحدثين بشار بن برد وأصحابه فنظروا إلى مغارس الفطن ومعادن الحقيقة ولطائف التشبيهات فأحكموا سبرها وساروا إليها بالفكر الجيد والغريزة القوية، وقد التقى إليهم طرفا العربية في منطقة البداوة الزائلة ومفتتح الحضارة الثابتة، فأصبح شعرهم خلقًا جديدًا، ووقف شعر من قبلهم عند الاستشهاد بألفاظه، حتى لتجر اللفظة الواحدة قصيدة بطولها, وكان من افتتان هؤلاء المحدثين أن نصبوا لأنفسهم منزلة تضارع المنزلة التي وقف عندها الشعر القديم، فصار يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ، وعلماء الأدب مجمعون على أن أكثر الشعراء المولدين اختراعًا وتوليدًا، أبو تمام وابن الرومي. وهذا الأخير كان ضنينًا بالمعاني حريصا عليها: يأخذ المعنى الواحد ويولده فلا يزال يقلبه ظهرًا لبطن، ويصرفه في كل وجه وفي كل ناحية، حتى يميته ويعلم أنه لا مطمع فيه لأحد يتخصص به ويزيد بذلك مادة النبوغ العبقري في شعره؛ وقد تجد من يجيء بعده ممن لا يعد في طبقته قد أخذ هذا المعنى بعينه فولد فيه زيادة ووجهه جهة حسنة تدل البصير بالصناعة على أن ابن الرومي مع شرهه لم يتركها عن قدرة. وذكر ابن رشيق في موضع من كتابه "العمدة" عزمه على تأليف كتاب يحصي فيه معاني الجاهلية ويذكر ما انفرد به المحدثون وما شركهم فيه المتقدمون، كصفات النجوم ومواقعها، والسحب وما فيها من البروق والرعود، والغيث وما ينبت عنه، وبكاء الحمام، وكثير مما لم يتسع له كتاب العمدة، وشرط على نفسه في ذلك إحصاء المخترعات للمحدثين وإقامة البرهان منها على أن ابن الرومي أكثر الشعراء اختراعًا. وابن رشيق أهل لهذا التأليف، ولكنا لم نعرف عنه خبرًا غير ما ذكره هو. والمعاني بما فيها من صفة الحياة وفسحة الروح خاضعة كالأحياء لناموس الانتخاب الطبيعي الذي يقضي بتنازع البقاء، ولولا ذلك لأقفل باب الاختراع والتوليد؛ لأنه إذا اقتصر الناس على طبقة واحدة من الشعر ولم يكن في طباعهم ما يساعد معنى من الكلام على إماتة معنى آخر أو إسقاطه والحلول محله لم يبق من الكلام ما يتفتح للتوليد، ولم يبق من القرائح ما يتمخض للولادة؛ ولو تتبعت معاني الشعر السائرة ورتبتها ترتيبًا تاريخيا على العصور التي قيلت فيها، لأمكنك أن تضع من ذلك تاريخًا لهذه الوفيات المعنوية، ومن أمثلة ذلك ما قاله الجاحظ أن الناس كانوا يستحسنون قول الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
فلما قال الحطيئة:
متى تأته تعشوا إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
سقط بيت الأعشى ("ج1: البيان والتبيين" ) مع أن بيت الحطيئة مولد من قول الأعشى، والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه أو يزيد فيه زيادة، وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضًا سرقة إذا كان الشاعر ليس آخذًا على وجهه. فالتوليد اتباع، ولكن هذا الاتباع على نوعين: اتباع في طريق المعنى، واتباع للمعنى نفسه؛ والأول يكون إلمامًا وملاحظة واسترواحًا، والثاني لا يكون إلا غصبًا وسرقة واستكراهًا، وذلك دليل البلادة وسقوط الهمة وضعف القدرة والعجز؛ وقد ذكروا للاتباع في الشعر أنواعًا سموها بأسماء خاصة، وهي ألقاب محدثة وضعوا أكثرها في القرن الرابع, وذكرها الحاتمي في حلية المحاضرة، وتبسط فيها ابن رشيق ("ص16 ج2: العمدة") وأورد مثالًا لكل من هذه الألقاب فارجع إليها إن شئت. ولا غنى للشاعر -جاهليا أو إسلاميا- عن اتباع غيره من الشعراء، وأول ذلك الرواية، وقد كانت شائعة إلى أن انتشر الخط وكثرت الدواوين فصار الشعراء يتلقون عنها، وقد وقفنا على أسماء بعض الشعراء الذين رووا لغيرهم وتخصصوا بهذه الرواية لهم مبعثرة في بطون الأوراق فجمعناها، وهي على قلتها كافية في الدلالة، فمنهم امرؤ القيس، كان راوية أبي دؤاد الإيادي ("ص61 ج1: العمدة" ) ، وكان زهير راوية أوس بن حجر، وهو زوج أمه، وطفيل الغنوي ("ص132 و155 ج1: العمدة" ) وكان الحطيئة راوية زهير وابنه ("ص78 ج7: الأغاني" ) ولم يقتصر على الرواية لهما بل كان يروي شعر الحجازيين أيضًا وكان منقطعًا لهم "ص34: الطبقات" وكان هدبة بن الخشرم راوية الحطيئة، وجميل راوية هدبة، وكثير راوية جميل ("ص8 ج7: الأغاني" ) وبلغ من اعتباره إياه أنه كان إذا استنشد لنفسه بدأ فأنشد لجميل ( "ص132 ج1: العمدة" ) وكان أبو ذؤيب الهذلي راوية ساعدة بن جوبة الهذلي ( "ص154: الطبقات") ولا نظن استغراق هذا الباب ممكنًا إلا أن يكون قد كتب فيه أحد المتقدمين من أئمة الأدب.

14-شياطين الشعراء:
لم يكن الشعر في فحول أهله من العرب لفظ لسان يطير ويقع، ولكنه كان حسبًا ونسبًا، وكان الشعراء هم أهل التاريخ، فإذا لم يستطع الشاعر أن يرفع ويضع، وأن يبعث لسانه مع الموت إلى الموتى بحيث يكون كما وصفوا الجني بأن فمه يتأجج نارًا، فذلك الساقط المغمور؛ من أجل هذا كان يجنح الشعراء إلى اعتقاد أن شعرهم أحرف نارية تلقي بها الجن على ألسنتهم، وأنهم إنما يتناولون من الغيب، فهم فوق أن يعدوا من الناس ودون أن يحسبوا من الجن؛ فإذا جاء أحدهم بالقصيدة البارعة، ورمى بالكلمة النافذة، ضرب قلبه أنها من هناك، وأنه إنما يؤديها عن لسان قائلها، فيكون ذلك مدعاة إلى توكيد الثقة والاعتداد، وإلى الذهاب بالنفس ونفرة الأنف، ونحو ذلك مما هو من كبر القرائح وترفع العقول. والعرب فيما حكاه أبو عبيدة يعرفون الجني بأسماء، فإذا كفر وظلم وتعدى وأفسد قيل شيطان. إلخ، وقد يسمون الغضب شيطانًا، ومن ذاك قول أبي الوجيه العكلي في أمر: كان ذلك حين ركبني شيطاني! قيل: وأي الشياطين تعني؟ قال: الغضبّ كما يسمون به الكبر، ومنه قول عمر: لأنزعن شيطانه من تغرته؛ وكذلك يريدون بالشيطان في بعض معانيه الفطنة وشدة العارضة( "ج1: الحيوان") فيكون ما جاء في الشعر من ذكر شياطين الشعراء على وجه المثل؛ لأن كل الصفات التي سبقت إنما هي خصيصة بالشاعر قبل الشيطان؛ وعندنا أنهم أخذوا هذا الاعتقاد من الكهانة وهي أقدم فيهم من الشعر، وكان لكل كاهن نجي يسمونه الرئي والتابع، فذهب الشعراء هذا المذهب وسموا شياطينهم أو سماها لهم الرواة ... كما ستعرف. وقد درج شعراء الأمم على استعانة القوى الغيبية من قديم؛ لأن البيان وحي؛ ولأن الشعر يكاد يكون تفاعلًا روحيا من امتزاج روح الشاعر بروح أخرى، إذ هو كالحالة الطارئة على النفس, تشعر بها وقتًا دون وقت، وفي موضع دون موضع؛ والذي اخترعه الأعشى؛ أنه احترف الشعر وجعله تجارة؛ إذ هو لم يكن مكفي المؤنة ولا سري التكسب كالنابغة؛ وقد ذكر صاحب "القاموس" أن جهنام تابعة الأعشى -أي: شيطانه- وهو نفس لقب عمرو بن قطن من بني سعد بن قيس بن ثعلبة، وكان يهاجي الأعشى، فكأنه شيطانه؛ لأنه لا يزال يهيجه ويبعثه على الشر، ولعل هذا هو الأصل. ثم اتخذ الأعشى بعد ذلك مسحلًا؛ أما ما نسب من ذلك إلى أوائل الشعراء كامرئ القيس، وما زعموا من أن له قصائد ومطارحات مع عمرو الجني وأن شيطانه لافظ من لاحظ، فهو من تخرصات الرواة وما يجيئون به استيفاء لهذا البحث الخرافي وتكثرًا من النظائر والأشباه في الروايات، ولهم في ذلك أخبار ذكر بعضها صاحب "جمهرة أشعار العرب" وصاحب كتاب "آكام المرجان" وغيرهما. ومن أسماء شياطين الشعراء : إن لافظ بن لاحظة هو صاحب امرئ القيس، وهبيد صاحب عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم، وهاذر بن ماهر صاحب زياد الذبياني، وهو الذي استنبغه وهو أشعر الجن وأضنهم بشعره؛ فالعجب منه كيف سلسل لذبيان به؟( "ص19: الجمهرة")، ومسحل بن أثاثة صاحب الأعشى، وجهنام صاحب عمرو بن قطن، وعمرو صاحب المخبل السعدي وصاحب حسان بن ثابت من بني الشيصبان، ومدرك بن واغم صاحب الكميت؛ قالوا: وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن، وسنقناق صاحب بشار؛ وذكر جرير أنه يلقي عليه الشعر مكتهل من الشياطين؛ والفرزدق يقول إن لسانه لسان أشعر خلق الله شيطانًا، ولكنهما لم يسميا هاجسيهما. وقالوا: إن رجلًا أتى الفرزدق فقال: إني قلت شعرًا فانظره، قال أنشد، فقال:
وفيهم عمر المحمود نائله ... كأنما رأسه طين الخواتيم
فضحك الفرزدق ثم قال: يا بن أخي إن للشعر شياطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، وإنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت ("ص24: الجمهرة"). وكانوا يسمون الشعراء كلاب الحي، وأول من لقبهم بذلك عمرو بن كلثوم في مقوله:
وقد هرت كلاب الحي منا ... وشذبنا قتادة من يلينا
والرواية التي أتت كلاب الجن خطأ؛ لأن المراد بكلاب الجن شعراؤهم وهم الذين ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم كما ذكر الجاحظ ("ج1: الحيوان" ) ، وقد تابعه الشعراء على هذه التسمية؛ لأن كل هجاء منهم يفخر بأنه عقور. ولم يلتفت المحدثون من الشعراء بعد بشار بن برد لأمر هؤلاء الشياطين إلا ما يجيء لهم من سبيل الفكاهة والبادرة، ولكنهم لم يدعوا الاستعانة بأسماء الله في رأس القصيدة، فيكتبون اسم الفتاح أو العليم أو المعين، أو يبتدئون بالبسملة، وقد درجوا على ذلك إلى اليوم، وبخاصة في العراق.
15-مراتب الشعراء:
يقسم النقاد ومؤرخو الأدب القدماء الشعراء باعتبار عصورهم إلى أربع طبقات: (جاهلي قديم, ومخضرم، وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام، وإسلامي، ومحدث ) . قال ابن رشيق: ثم صار المحدثون طبقات: أولى، وثانية مع التدريج؛ وهكذا في الهبوط؛ ويسمى المحدثون بالمولدين أيضًا، وبعضهم يطلق هذا اللقب على الإسلاميين ويخصه بهم. وأصل المخضرم عندهم من أدرك الجاهلية والإسلام، ثم أطلقوه على هذه الطبقة، فقالوا شاعر مخضرم، قال ابن بري: أكثر أهل اللغة على أنه مخضرم -بكسر الراء- لأن الجاهلية لما دخلوا في الإسلام خضرموا آذان إبلهم: قطعوا أطرافها، "وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فلما جاء الإسلام أمروا أن يخضرموا من غير الموضع الذي يخضرم فيه أهل الجاهلية" لتكون علامة لإسلامهم إن أغير عليها أو حوربوا؛ وأما من قال: مخضرم -بفتح الراء- فتأويله عنده أنه قطع عن الكفر إلى الإسلام "(تاج العروس ج7 ص28"). وأشهر المخضرمين من لبيد، وحسان، والحطيئة، والنابغة الجعدي، والخنساء، ثم شعراء الجاهلية عند بعض العلماء ثلاث طبقات، يعدون في الأولى: أصحاب السبع الطوال على المشهور، والنابغة وأعشى قيس، والمهلهل، وعدي بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت؛ وفي الطبقة الثانية: الشنفري، وأبو دؤاد، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرا، والسموأل بن عادياء، وعلقمة الفحل، والحارث بن عباد، وخداش بن زهير، وعروة بن الورد، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي، وأوس بن حجر، ودريد بن الصمة، والخنساء؛ ولا يعدون من الطبقة الثالثة غير لقيط بن زرارة. وهذا التحديد يسقط كثيرًا من شعراء الجاهلية وشواعرهم. وهم إنما قسموهم على رتبهم في الإجادة كما يقولون؛ ثم إن من يقف على مجازفتهم في التفصيل بالقطعة والبيت، بل وبنصف بيت، لا يرى في هذا التقسيم إلا أنه رأى مرسل كما اتفق، لا كما تجري به الأدلة وتسيره البراهين؛ ولهم بعد كلام كثير فيمن هو أشعر العرب، تجده مبثوثًا في سطور الكتب، وهو مما لا يؤخذ به؛ لأن سبيله سبيل ذلك الرأي؛ وعندنا أن قولهم فلان أشعر العرب لبيت كذا أو لقصيدة كذا، محمول على المبالغة في الاستحسان، كما يقولون أشعر الإنس والجن ونحو هذا؛ فكأنهم يمدحون الشاعر بكلام على مذهب الشعر. وشعراء الجاهلية معروف أكثرهم، والمخضرمون معروفون جميعًا، ولكن الإسلاميين لا يعرف منهم إلا عدد قليل، وذلك راجع للفتن الإسلامية التي صرفت قرائحهم واستأصلت أكثر أهل الاستعداد منهم، كما سنبينه في موضعه. أما المحدثون فلم يسقط من مشاهيرهم أحد، وقد وضعت لهم كتب التراجم في عصورهم المختلفة إلى اليوم .