ح-شعر المديح:
المديح إحساس الكبرياء ، والناس يحيون المدح ولو كان كاذباً ، وقد كان مديح العرب فخرًا كله؛ لأنه أساس الطبيعة البدوية فضيلة الاعتماد على النفس، وهي التي تحدث الكبرياء الصحيحة، فلا تكاد تجد في شعر المهلهل أو امرئ القيس وطبقتهما مدحًا مبنيا على الملق والمداهنة وتصنع الأخلاق، وإن وجد شيء من ذلك قبل النابغة وزهير فهو مصنوع لا شك في صنعته وتوليده؛ وقد زعم الأصمعي "ص188 ج2: الكامل" أن هذا البيت الذي يروى لمهلهل مصنوع محدث، وهو قوله:
أنبضوا معجس القسي وأبرقنا ... كما ترعد الفحول الفحولا
لأن فيه غلطًا لغويا، إذ لا يقال إلا رعد وبرق إذا أوعد وتهدد، وأرعدنا نحن وأبرقنا إذا دخلنا في الرعد والبرق، وليس الخطأ اللغوي وحده وهو الذي يدل على الصنعة والتوليد، ولكن الخطأ الأخلاقي أمكن منه في باب الدلالة. ولما وهنت أعصاب البداوة في بعض الشعراء بما وجدوا من مس الترف والنعيم، جعلوا يبتغون بالشعر الكسب، وقد بقي مديح زهير طبيعيا ففضله عمر بن الخطاب لأنه كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه؛ ولكن الذي سلم من أمر زهير لم يسلم من أمر النابغة؛ لأن زهيرًا كان لا يقول على الرغبة والطمع، وكان يمدح رجلًا من الأشراف بصفات مثله الصحيحة، والنابغة كان يتكسب من المناذرة والغساسنة، وهم ملوك، فكان يرى النابغة أن مديحهم لا بد أن يكون طبقة في الشعر تساوي طبقتهم في الناس، ولما هرب من النعمان وجعل يعتذر إليه باعتذاراته المشهورة، عمد إلى تجويد المديح وزخرفته ينفخ به كبرياءه فيصغر في جنبها ما أتاه ويتجاوز عنه. وقد جاء بعدهما الأعشى، فلم تكن له همة إلا في المدح والهجاء، وكان رجلًا مجدودًا في الشعر؛ ما مدح أحدًا إلا رفعه ولا هجا أحدًا إلا وضعه، والأمور يومئذ تطير للشعر طيرانًا؛ فكان الأعشى على التحقيق أول من احترف المديح وابتذله في طبقات الناس؛ ولذلك اضطر أن ينفخ معانيه بالمبالغة والإغراق، وإن تجاوز موضع الحقيقة إلى ما يقع وراءها من نواحي التصور البعيدة؛ وقد عرف العرب ذلك منه وألفوه؛ لأن حظ هذا النوع من الشعر أن يسير وإن كان كذبًا، فإن ركد في لسان الشاعر لم يبالوا به وإن كان حقيقة؛ ولذلك لما نزل الأعشى بمكة وأضافه المحلق -وهو رجل فقير خامل الذكر ذو بنات قد كسدن عليه، وأراد الأعشى إنفاقهن وأن يكفيه أمرهن- أصبح بعكاظ ينشد قصيدة وقد اجتمع الناس ("25 ج1: العمدة"). يقول فيها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جريًا يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف. وافتنان هذا الشاعر في صنعة المديح وقصده فيه إلى تصوير الكبرياء الكاذبة، هو الذي طوع له أن يكذب في التاريخ حين نظم قصائده التي ذكر فيها منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة، وقد كانا تنافرا إلى هرم بن قطبة. فأقاما عنده سنة لا يقضي لأحدهما على الآخر، حتى قدم الأعشى، وكانت لعامر عنده يد؛ فقال شعره في ذلك فرواه الناس، وافترقوا وقد نفر عامر على علقمة بحكم الأعشى، والقصة مشهورة "(العمدة: ج1 ص28)؛ و(سرح العيون ص106" ) وفيها أقوال ولكن الرواة مجمعون على حكم هذا الأعشى. وكذلك كذب الحطيئة على التاريخ في مديح قومه، وكانوا من القائمين في أهل الردة، فقال:
فدى لبني نصر طريفي وتالدي ... عشية ذادوا بالرماح أبا بكر
قال المبرد: قوله ذادوا بالرماح أبا بكر، كذب؛ إنما خرجوا على الإبل فقعقعوا لها بالشنان فنفرت وفرت ("ج1 ص232: الكامل" ) والمعاني تخضع الحقائق وتصرفها فيما شاءت ولكنها لا تخضع التاريخ؛ لأنه في نفسه حقيقة خالدة لا تمسخ ولا تموت، فإذا حاول الشاعر أن يكذب فيه فلا يكون ذلك إلا إذا اعتاد تحويل الحقائق فيمدح كذبًا، ويهجو كذبًا، وذلك من ضرورة الصنعة والاحتراف، فلا يفعله إلا وقد ابتذل الشعر واتخذه حرفة، وذلك ما ذهبنا إليه في أمر الأعشى. وقد نقلت في فصل "الشعر في القبائل" قول الجاحظ إنه لم تمدح قبيلة في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم، ولم يتهيأ من الشاهد والمثل لمادح في أحد من العرب ما تهيأ في بني بدر. ولما دجا الإسلام وتحضرت الدولة واستأصلت الفتن أهل الطبع الشعري من العرب، انفرد بالشعر جماعة هم الذين اتصلوا بدولة الذهب "الأمويين" فاستقلت طريقة المديح من يومئذ وأطاله الشعراء، وقد أجمعوا على أن كثيّرًا أول من فعل ذلك ("ص62 ج1: العمدة" ) كما أن جريرًا هو أول من استن إطالة الهجاء وتقصير الممادحة، قال: فإنه ينسى أولها ولا يحفظ آخرها ("ص103 ج2: العمدة"). وقد نصوا على أن أمدح الناس في طبقة الجاهلية والإسلاميين زهير والأعشى ثم الأخطل وكثير "(ص104 ج2: العمدة" ) ؛ أما المحدثون فقل منهم من لا يحترف المديح ويجعله عمود شعره وموضع كده وإجادته، وقد جرأهم على ذلك جود الخلفاء والأمراء ورغبتهم في اصطناعهم وتسنية الجوائز لهم من أجل ذلك، ولا أعجب من أن يدخل الحيص بيص الشاعر المتوفى سنة( 574هـ ) على خالد القسري أحد أمراء الدولة الأموية فيقول له: إني مدحتك ببيتين قيمتهما عشرة آلاف درهم فأحضرها حتى أنشدهما، فيحضر خالد الدراهم ثم ينشد الحيص بيص قوله:
قد كان آدم قبل حين وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء!
فيدفع إليه خالد الدراهم ويأمر أن يضرب أسواطًا وينادى عليه: هذا جزاء من لا يعرف قيمة شعره، ثم يقول له: إن قيمتها مائة ألف ("ص204 سرح العيون"،) وخالد هذا هو الذي كان يجلس للشعراء في يوم معين ويجيزهم فيه، وهو أول من فعل ذلك، وقد حذا حذوه الخليفة المهدي العباسي، ولكنه لم يقصر اتخاذ الأيام على الشعراء، بل اتخذ أيامًا لأرباب الصناعات والغايات؛ وكان الوليد بن يزيد بن خلفاء بني أمية أول من تخرق في البذل للشعراء، فعد أبيات الشعر وأعطى على كل بيت ألف درهم "(ص148 ج17: الأغاني") فلما جاء المهدي من خلفاء العباسيين وصل مروان بن أبي حفصة بمائة ألف درهم على قصيدته التي مطلعها:
( طرقتك زائرة فحي خيالها ) يعارض بها قصيدة للأعشى؛ وكذلك كان يعطيه الرشيد؛ وقد كثر الشعراء في أيامه فكان ببابه منهم من لم يجتمع لأحد قبله ، وضاقت بهم بغداد فاضطروا إلى تقديرهم بالاختبار وترتيبهم في الجوائز؛ فعهد يحيى بن خالد بذلك إلى شاعره أبان اللاحقي ("ص73 ج20: الأغاني") ؛ وكان ذلك عهد البرامكة وهم من هم؛ فقد نال شاعرهم أبان اللاحقي على قصيدة واحدة فيهم مثل ما ناله مروان من الرشيد كل عمره ("ص73 ج20: الأغاني") ؛ وأعطى المتوكل حسين بن الضحاك ألف دينار عن كل بيت من إحدى قصائده؛ وهو أول من أعطى ذلك "(ص194 ج6: الأغاني" ) ، ولم يساو هؤلاء في ذلك غير الأندلسيين ؛ ولو ذهبنا نتتبع تاريخ الجوائز ونستقصي مقاديرها للزمتنا لذلك مئونة في التأليف وكلفة في الجمع؛ لأنها مع تاريخ الشعر في كل عصر؛ وقد كان من الشعراء من يتراجع طبعه وتنضب مادته بعد ممدوحه الذي اختص به، كأبي الحسن السلامي توفي سنة (394هـ ) شاعر عضد الدولة؛ وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد نزل من الفلك إلي ووقف بين يدي! فلما توفي تراجع طبعه ورقت حاله ولم ينتفع بنفسه ("ص163 ج2: يتيمة الدهر" ) ومثله كثيرون. ويحسب الناس أن من نقائشعراء المتأخرين أنهم ينقلون المديح من رجل إلى رجل؛ فيلقون بالقصيدة الواحدة جماعة من الناس، ولكن ابن رشيق يقول إن ذلك كان دأب البحتري؛ وفعله أبو تمام في قصائد معدودة؛ منها: (قدك اتئد أربيت في الغلواء) نقلها عن يحيى بن ثابت إلى محمد بن حسان "(ص114 ج2: العمدة" ) وإن كان وجه ذلك في المتأخرين العجز عن الشعر فلا نرى له وجهًا في المتقدمين إلا أن يكون إخلاف الأمل في المثوبة والإجازة بالحرمان؛ فيقول قائلهم: هي بنياتي أنكحهن من أشاء!


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)