[SIZE="5"][align=justify]
- الشكل الشعري في الثناء النبوي:
أ-ضروب النظم في الثناء النبوي:
ولم تكن القصيدة التقليدية بتلوناتها المختلفة والأرجوزة والمقطوعة الشعرية، هي الأشكال التي وضعت فيها المدائح النبوية في العصر المملوكي، فإلى جانبها أشكال عدة، عرفت في ذاك العصر وقبيله، جاءت عن طريق الاشتغال بالقصائد المعروفة والإضافة إليها، كأن يأخذ الشاعر قصيدة قديمة، فيأتي إلى كل بيت من أبياتها، يطرح منه أحد شطريه، ويبقي الآخر، ويتمه، فيصرف معناه من المعنى الأصلي الذي وضع له إلى معنى جديد، هو المديح النبوي، أو ما يماثله، كقول الشهاب محمود في إحدى مدائحه:
دع الصّبّ يدمي الدّمع منه الماقيا ... قد ظن كلّ الظّنّ ألاتلاقيا
وقد حظي امرؤ القيس بعناية شعراء المدائح النبوية، فكانوا يعارضون قصائده، ليكتسبوا المران على نظم الشعر الأصيل، واتكأ بعضهم علي قصائده، فشطروها، صارفين معناها إلى المديح النبوي، ومن ذلك قصيدة حازم القرطاجني التي شطّر فيها معلقة امرئ القيس باذلا جهدا كبيرا في صرف معناها إلى المديح النبوي، على بعد ما بين موضوعها وبين المديح النبوي، وكأنه يريد الإفادة من شهرة القصيدة ومن وزنها وقافيتها، أو أنه يريد أن يبرهن على مقدرته الشعرية، وعلى اتقانه لصنعة كانت مدار التفاضل والتفاخر بين الشعراء، ولذلك شطّر قصيدة أخرى لامرئ القيس، بدأها بقوله:
أقول لعزمي أو لصالح أعمالي ... ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي
ألا ليت شعري هل تقول عزائمي ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
فأنزل دارا للرّسول نزيلها ... قليل هموم ما يبيت بأوجال
جوار رسول الله مجد موثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي
وإلى جانب تشطير القصائد القديمة، وصرف معناها إلى المديح النبوي، نجد ما يقارب هذا في مدائح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشهورة، ونجد كذلك التخميس والتسديس والتسبيع والتعشير، وغير ذلك مما فعله بعض مدّاح النبي الكريم في قصائد المدح النبوي، وأكثر القصائد التي نالت من هذه التغييرات الشعرية، هي بردة البوصيري، إذ جذبت شهرتها جهود هواة هذا النوع من التشكيل الشعري في مختلف الأقطار العربية الإسلامية، فأشبعوها تغييرا وإضافات، إلى أن أضحت القاسم المشترك لمثل هذا النشاط الشعري. فالتخميس هو نوع من المعارضة والتضمين في الوقت نفسه، هو معارضة لأن التخميس يأخذ الوزن والقافية، وتضمين لأن المخمس يضمّن القصيدة المعارضة كلها في قصيدته، فخمسا قصيدته من القصيدة المعارضة، وهكذا تكون الأشكال الآخرى مثل التسديس والتسبيع والتعشير.
وممّن خمّسوا بردة البوصيري شاعر اسمه (عبد الله الطويلي) ، أتمّ ثلاثة تخاميس لها في سنة (855 هـ) ووضع التخاميس الثلاثة متساوقة في مخطوط واحد، إذ يضع بيت البوصيري، ويضع إلى جانبه تخاميسه، وقد بدأ التخميس الأول قائلا:
الله يعلم ما في القلب من ألم
ومن غرام بأحشاء ومن سقم
على فراق فريق حلّ في الحرم
أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وتحدث في هذا التخميس عن تخاميسه، فقال:
الله يسّره أولى وثانية
معا وثالثة وزنا وقافية
والله أسأله عفوا وعافية
فالحمد لله حمدا صاب سارية ... ولم يزل حمده مستوكف الدّيم
ذيّلتها بقواف زدتهنّ لها
وبالزّيادة قلب المستهام لها
أكرم بها بردة ما جاء أجملها
بها تغنّى الأبوصيري وفصّلها ... في مدح خير الورى المبعوث للأمم
مخمّسوها كثير ما لهم عدد
كلّ بفرد من التّخميس منفرد
إلّا أنا لي ثلاث حفّني مدد
من ذي العلا فهو ربّ دايم صمد ... سبحانه من قديم مالك القدم
فالشاعر هنا تحدث عن تخاميسه التي تفرّد بها عن غيره، وزاد فيها قوافي البردة، وأشار إلى أن مخمّسي البردة ليس لهم عدد، وهذه من الحقائق الثابتة، فلا يعلم على وجه اليقين عدد من زاد البردة تخميسا أو غيره إلا الله تعالى. ودعا الله تعالى في التخميس الثالث أن يغفر له ولمنشديها وكاتبيها ومغنيها، وهذه إشارات واضحة إلى ما كانت تلقاه المدائح النبوية من إقبال الناس وانشغالهم بها، فهناك منشدون لها، وهناك مغنون وكاتبون، وبالتأكيد سامعون كثر، وأشار هذا التخميس إلى أنه أنشأ تخاميسه بناء على طلب من رجل يدعى البياضي، فكان ذوو الشأن يطلبون من الشعراء نظم المدائح النبوية أو تخميسها، قال في دعائه:
يا ربّ واغفر لمنشيها ومنشدها
مجموعة مع أخرى أو بمفردها
وكاتبها ومغنّيها ومسعدها
وقد أرى مطلب الإحسان في يدها ... والمسلمين فمن عرب ومن عجم
والغريب أن نجد شاعرا ينظم معشرات نبوية، ثم يعود فيخمسها جميعها، والمعشرات قصائد مرتبة على حروف الهجاء حسب القافية، وكل قصيدة مؤلفة من عشرة أبيات، ( فابن الجيّاب الأندلسي علي بن محمد بن سليمان الأنصاري) له معشرات في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعد أن أتم نظمها، عاد وخمسها، ومن تخاميسه التخميس الذي وضعه على قصيدة حرف الذال، وقال في مطلعه:
أقول عسى سهم النّصيحة ينفذ ... وليس لنصح في فؤادك مأخذ
فؤاد بأمراس الهوى عنك يجبذ ... ذروا عاجلا يفنى وفي آجل خذوا
فقد غصّ من بالمنقضى يتلذّذ
وفعل الشاعر هذا الفعل في جميع معشراته، وكأنه شعر بجمود معشراته وتقصيرها عن الإحاطة بمعاني المديح النبوي التي يريدها، فلجأ إلى التخميس ليضيف ما يريد من معان، وليحرك الشكل الشعري ويخلّصه من القيود التي فرضها عليه. ولم تكن التخاميس كلها موضوعة على قصائد سابقة، بل إن شعراء المديح النبوي نظموا مدائحهم على شكل التخميس بدا دون أن تكون تخاميسهم صدى لقصائد أخرى، فهي تخاميس أصيلة، أعجبت الشعراء لذيوعها، وللإمكانات الإيقاعية التي تمنحها للشعر، وتجعلها ملائمة للإنشاد، ومن هذه التخاميس تخميس للبرعي، كأنه رباعيات فصلت عن بعضها بلازمة ثابتة، افتتحه بقوله:
بمحمّد خطر المحامد يعظم ... وعقود تيجان القبول تنظّم
وله الشّفاعة والمقام الأعظ ... يوم القلوب لدى الحناجر كظمّ
فبحقّه صلّوا عليه وسلّموا
ومن التخاميس الحافلة بالإيقاع الملائم للإنشاد، وذات الأسلوب الخفيف الجميل، تخميس لبعض الوّعاظ المشارقة كما وصفه صاحب نفح الطيب، يقول فيه:
جلّ الذي بعث الرّسول رحيما
ليردّ عنّا في المعاد جحيما
وبه نرجّي جنّة ونعيما
أضحى على الباري الكريم كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما
ويظهر أن هذه اللازمة (صلوا عليه وسلموا تسليما) ، التي يكثر تردادها في الموالد النبوية قد انتقلت إلى التخاميس، والتي توضع على هذا الشكل لتنشد في مثل هذه المناسبات، ولذلك نجد عددا من التخاميس تنتهي بهذه اللازمة، وكأن الشاعر في التخميس يخاطب جمعا أمامه، أو أنه يستحضر جمع السامعين في ذهنه عند نظمه لتخميسه. فالتخميس انتشر في الأقطار العربية الإسلامية، لطاقاته الإيقاعية العالية وتنوع القوافي فيها، ولملاءمته للإنشاد في مجالس الذكر والاحتفالات الدينية. لكن المشارقة لم يهتموا بالتخميس اهتمام المغاربة به، الذين برعوا في إنشائه براعتهم في إنشاء الموشحات يبدعون في إيقاعه وفي صياغته، وينظمون به الأحاديث والروايات ويخضعونها لإيقاع التخميس. أما التسديس، فهو لون من ألوان التصرف بالقصيدة، يعمد فيه الناظم إلى وضع بيتين، كل شطر منهما ينتهي بالقافية نفسها، ثم يتبعهما ببيت، كل شطر فيه ينتهي بقافية مغايرة، وتظل هذه القافية ثابتة في التسديس كله، في حين تتغير القافية الأولى، فقوام التسديس وحدات، تتألف كل منها من ثلاثة أبيات أو ستة أشطر، أربعة منها على قافية، واثنان على قافية أخرى، مثل تسديس ابن العطار الذي يقول فيه:
نور النّبيّ المصطفى المختار ... أربت محاسنه على الأنوار
مرآه يخجل بهجة الأقمار ... نور ينجّي من عذاب النّار
قد زان ذاك النّور اسماعيلا ... صلّوا عليه بكرة وأصيلا
ولا يغادر الشاعر اللازمة، وهي الشطر الثاني من البيت الثالث في أجزاء التسديس، وكأن هذه الأشكال الشعرية وضعت للإنشاد فقط، أو كما قال الطويلي في تخميسه للإنشاد والغناء في مجالس الذكر والاحتفالات الدينية.
ويلاحظ أيضا في شكل التخميس والتسديس أنها قريبة من الرباعيات أو الدوبيت، فإذا نزعنا الشطر الخامس ذا القافية المختلفة في التخميس، والبيت الثالث ذا القافية المختلفة في التسديس، لكانت هذه الأشكال رباعيات أو غير ذلك من التسميات. إلا أننا نجد مثالا على ذلك دون أن يكون مخمسا أو تسديسا، بل وضع بدا على شكل قريب من التربيع أو الدوبيت، فللبرعي مدحة نبوية جاءت على النحو التالي:
قف بذات السّفح من إضم ... وانشد السّارين في الظّلم
هل رووا علما عن العلم ... أم رأوا سلمى بذي سلم
ليت شعري بعد ما رحلوا ... أي أكناف الحمى نزلوا
أبذات البان أم عدلوا ... ينشدون القلب في الخيم
وعلى هذا النمط تأتي الأشكال الشعرية الآخرى من تسبيع وتعشير وغير ذلك من النظم الذي تتغير فيه القافية في كل مقطع من مقاطع القصيدة، فتريح الناظم من ناحية، وتشيع في القصيدة إيقاعا خاصا حسب عدد الأشطر المتفقة في القافية الواحدة من ناحية ثانية، وهذا ما يجعل القصيدة ملائمة للإنشاد، وربما الغناء بمصاحبة الآلات الموسيقية أو الإيقاعية.
فمن التسبيع على البردة، قول البيضاوي عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي :
الله يعلم ما بالقلب من ضرم ... ومن غرام بأحشاء ومن سقم
على فراق فريق حلّ في حرم ... فقلت لمّا همى دمعي بمنسجم
على العقيق عقيقا غير منسجم ... أمن تذكّر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
ومن التعشير ما أجراه ناظم يدعى محمد بن عبد العزيز على البردة، وقال فيه:
أمن تذكّر جيران بذي سلم ... أم من تباريح ما أخفيت من ألم
أم من هوى من سمت أوصاف حسنهم ... أم من تفانيك في إفراط حبّهم
هجرت طيف الكرى ليلا فلم تنم ... أم حين أطربك الحادي بوصفهم
أم بالمغاني ونجد ثم سلعهم ... أم همت شوقا ووجدا نحو أرضهم
أو من وقوفك في أطلال ربعهم ... مزجت دمعا جرى من نحو مقلة بدم
ولا ننسى في حديثنا عن هذه الأشكال الشعرية والتغييرات التي أجراها الشعراء على قصائد المديح المشهورة، الإشارة إلى التشطير، الذي يأخذ فيه الشاعر شطر كل بيت من القصيدة، ويتمه من نظمه، مثل تشطير شاعر اسمه (محمد بن عبد القادر المقاطعي) لبردة البوصيري، ومنه قوله:
أمن تذكّر جيران بذي سلم ... لبست بردا من الأحزان والسّقم
أم من فراق ربوع كنت تعهدها ... مزجت دمعا من مقلة بدم
ولم يتوقف الشكل الشعري للمدحة النبوية عند المظاهر السابقة، والتي تعني الرصانة والجزالة، وهو ما يليق بالمدح النبوي، إلا أن انتشار المدح النبوي انتشارا عظيما، جعله يملأ مجالس الشعراء والأدباء الرصينة، ويفيض إلى مجالس الذكر والمجالس الشعبية، ليضحي فنا شعبيا يلائم كل ذوق، ويتفق مع كل درجات الثقافة، فالنبي الكريم هو نبي المسلمين جميعا، وحبيب المؤمنين كلهم، ولهم جميعا أن يشاركوا في مديحه، كل على طريقته ووفق مقدرته وثقافته، ومن هنا نشأت المذاهب المختلفة في مدح النبي، ومن هنا جاءت الأشكال الشعرية المتباينة في مدحه. وقد شهد العصر المملوكي اتساع دائرة النظم، فلم تعد مقتصرة على الشكل الشعري الذي عرف إلى ذلك الحين، وإنما شملت فنونا جديدة، معظمها ملحون. ويلاحظ أن فنون النظم الملحونة قد تساوت عندهم مع فنون النظم المعربة، وهذا يدل على شيوع النظم بلهجتهم الدارجة، وعلى انفعال الناس به، واقترابه من أذواقهم وأفهامهم، وإن كان ذلك مما أفسد أذواق الناس، وقعد بهم عن التطلع إلى الفصحى والتمتع بجمالها، ولا بد أنهم نظموا في هذه الألوان الملحونة المواضيع الدينية، ومنها المديح النبوي، ومن الفنون المعربة التي شاعت آنذاك، وكانت معروفة من قبل الموشح، ذلك التلوين الجميل للشعر العربي بإيقاعاته التي تلائم الموسيقا والغناء، والذي لامس العامية في خرجته، والذي عرف بأنه فن الغزل والخمر والزهر، إلا أنه استخدم للتعبير عن الموضوعات الشعرية المعروفة في الأدب العربي، أو كما قال ابن سناء الملك: «الموشحات يعمل فيها ما يعمل في أنواع الشعر من الغزل والمدح والرثاء والهجو والمجون والزهد، وما كان منها في الزهد، يقال له المكفّر، والرسم في المكفّر خاصة أن لا يعمل إلا على وزن موشح معروف وقوافي أقفاله، ويختتم بخرجة ذلك الموشح، ليدل على أنه مكفّره ومستقيل ربه عن شاعره ومستغفره» ( ابن سناء الملك: دار الطراز ص 51.) . والموشح ملائم للإنشاد والغناء في مجالس الذكر، وفي الاحتفالات، فلماذا لا يفيد منه شعراء المديح النبوي، ويضعون بعض مدائحهم في قالبه؟
هذا ما فعله مدّاح النبي صلّى الله عليه وسلّم، وخاصة في الأندلس والمغرب العربي، فوضعوا موشحات كثيرة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن هؤلاء الششتري علي بن عبد الله النميري ، الذي جاء من الأندلس، وطاف أقطار المشرق، داعيا إلى طريقته الصوفية عن طريق نظم الموشحات والأزجال العامية التي انتشرت بين الناس، مما دعا الفقهاء إلى محاربة شعره الذي يميل في معظمه إلى الترخص في اللغة، ويقترب من العامية، وقلّما يسلم له موشح من اللحن، لأن العامية غلبت عليه، ومن موشحاته قوله:
لا تعشق يا قلبي ... سوى المصطفى
نور الله الممجّد ... وبحر الوفا
من حاز الحسن طرا ... وحاز الوفا
أنت البدر المكمّل ... وسرّك عجيب
آه جدّد عليّ ... وصال الحبيب
آه يا سيد الرسل ... مالي سواك
آه يا نور عيني ... قتلني هواك
آه اعطف عليّ ... وجد برضاك
أنت البدر المكمل ... وسرك عجيب
آه جدد علي ... وصال الحبيب
وهذا أقرب موشحاته إلى الصورة التي نعرفها للموشح، وهو يخلط دائما بين
الموشح والزجل الملحون الذي يشكّل معظم ديوانه، وقد نظم به عددا من المدائح النبوية، ونجد أيضا زجلا في المدح النبوي عند ابن زقاعة في ديوانه، لا يختلف في مضمونه عمّا يرد في المدائح النبوية التي نعرفها . وبذلك يكون المدح النبوي قد أضحى أحد موضوعات الفنون الشعرية الشعبية المستحدثة في ذلك العصر. ومن الموشحات التي مدح فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتقرب من المكفّرات، موشح لابن الملحمي الواعظ ، بدأه بوصف الطبيعة، وإظهار مشاعره، ثم انتقل إلى الوعظ والدعوة لترك الغواية وحياة اللهو والتكفير عنها، واختتمه بالمديح النبوي، فقال:
أرتجي ربّي ويكفيني الرّجا ... فهو الغفّار
والنّبيّ المصطفى بدر الدّجا ... أحمد المختار
من على سنّته سار نجا ... من لهيب النّار
مرشد الخلق إلى سبل النّجاح ... طاهر الأعراق
ذا النّدى بحر العطايا والسماح ... طيّب الأخلاق
والملاحظ في الموشحات أن ناظميها أطالوا في الوعظ والتذكير، وهذا مناسب للإنشاد والغناء في المجالس والاحتفالات. ولم يتطرق شعراء المديح النبوي في الموشحات إلى نظم السيرة والمعجزات والروايات الغيبية، لأن شاعرية الموشح وإيقاعه لا تسمح للناظم أن ينقاد إلى النظم المجرد.وبذلك يظهر لنا أن المديح النبوي في العصر المملوكي قد أودع في الأشكال الشعرية جميعها، التي كانت تعرف آنذاك، لأن هذا الفن الشعري لا يحوز على اهتمام فئة دون فئة، بل يحوز على اهتمام المسلمين جميعا. وقد حفلت المدائح النبوية بتنوع كبير في الشكل الشعري، يفوق ما عرفه أي فن شعري آخر، فبالإضافة إلى كل ما سبق نجد ألوانا أخرى من الشكل الشعري، دعت إليها طبيعة المضمون، فلم تتابع شكل القصيدة العربية التقليدي في أجزائه وتركيبه.
ب-الأشكال المتميزة في الثناء النبوي :
ومن هذه الألوان مقصورة لابن جابر، مدح فيها النّبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وتحدث عن مواضيع أخرى، لكنه أطالها إطالة كبيرة، وقسّمها إلى أجزاء، ليس بينها ما هو مقدمة أو ما هو غرض، بل قدم موضوعاته في القصيدة وفق ما يوصله إليه نظمه، وما يتبادر إلى ذهنه، والأجزاء في معظمها معشرات، يتألف كل جزء من عشرة أبيات مرتبة ترتيبا أبجديا، إذ استوفي في القافية حروف الهجاء جميعها قبل حرف الألف، فلا يجمع القصيدة إلا انتهاء القافية بحرف الألف، ووجود مدح النبي منثورا في أجزائها، بدأها بقوله:
بادر قلبي للهوى وما ارتأى ... لمّا رأى من حسنها ما قد رأى
فقرّب الوجد لقلبي حبّها ... وكان قلبي قبل هذا قد نأى
ثم تغزل فقال:
يا ربّ ليل قد تعاطينا به ... حديث أنس مثل أزهار الرّبى
في روضة تعانقت أغصانها ... إذا وصلت ما بينها ريح الصّبا
ثم مدح فقال:
تالله لا أعبا بعيش قد مضى ... ولا زمان قد تعدّى وعتا
مذ علقت كفّى بالهادي الذي ... ساد الورى طفلا وكهلا وفتى
ثم تحدث عن الأخلاق فقال:
لا أسأل النّذل ولو أنّي به ... أملك ما حاز النّهار والدّجا
لكن إذا اضطرّ زمان جائر ... أمّلت من ليس يردّ من رجا
وهكذا ينتقل في مقصورته من موضوع إلى موضوع، ويدرج في أثنائها المديح النبوي، وكأنه جمع عدة قصائد في قصيدة واحدة، فجاءت متفردة في بابها، موضوعا وشكلا، على الرغم من التزامه بقيود فرضها على نفسه سلفا. ومن القصائد التي تميزت في شكلها الشعري بفضل مضمونها، القصائد التي نظمها أصحابها وسيلة يتوسلون بها رسول الله تعالى، أو القصائد التي نظمت كلها صلاة على النبي، فهذه القصائد لا تحتاج إلى مقدمة أو خاتمة، أو غير ذلك مما هو معروف في شكل القصيدة المدحية العربية، مثل قصيدة البوصيري، التي مرت معنا وسماها (القصيدة المضرية في الصلاة على خير البرية) . فالوسيلة لون من ألوان المديح النبوي أو من الأوراد والأدعية التي ينظمها المتصوفة لينشدوها في مجالسهم ومحافلهم. ومثل ذلك القصيدة المحمدية للبوصيري، وهي مدح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بدأ كل شطر من أشطرها بكلمة (محمد) ، فلا يتبين لها أجزاء ولا يتبين لها مقدمة من خاتمة، وكأنها نشيد من أناشيد مجالس الذكر، أو هي كذلك، فهي تبدأ بقوله:
محمّد أشرف الأعراب والعجم ... محمد خير من يمشي على قدم
محمد باسط المعروف جامعه ... محمد صاحب الإحسان والكرم
محمد ذكره روح لأنفسنا ... محمد شكره فرض على الأمم
وقد اشتهر البرعي بمثل هذه التوسلات والصلوات، فكان يضمّنها مدائحه النبوية، ويكثر منها، ويخصص لها قصائد خاصة، منها هذه الوسيلة التي يقول فيها:
يا صاحب القبر المنير بيثرب ... يا منتهى أملي وغاية مطلبي
يا من به في النّائبات توسّلي ... وإليه من كلّ الحوادث مهربي
يا غوث من في الخافقين وغيثهم ... وربيعهم في كلّ عام مجدب
وله كذلك قصيدة جيدة في الصلاة على النبي، أبدع في معانيها، وأحسن صياغتها، فحازت على إعجاب المنشدين على مر العصور، إذ لحنت في عصرنا الحاضر، ولا نزال نسمعها بين الحين والآخر، وهي:
يا ربّ صلّ على النّبيّ المجتبى ... ما غرّدت في الأيك ساجعة الرّبا
يا ربّ صلّ على النبي وآله ... ما أمّت الزوار نحوك يثربا
يا ربّ صلّ على النّبيّ وآله ... ما كوكب في الجوّ قابل كوكبا
صلوا على المختار فهو شفيعكم ... في يوم يبعث كلّ طفل أشيبا
ففي هذه الصلوات والتوسلات التي ينظمها الشاعر وهو في غاية الانفعال والوجد، لا يستطيع أن يقف عند الشكل، ويقلّد سابقيه، أو يحدد خطواته، فموضوعها لا يسمح بأن يكون لها مقدمة وخاتمة، وانتقال بين المواضيع التي تحويها القصيدة، لأن الوسيلة لا تحوي إلا موضوعا واحدا، لذلك جاءت موحدة الشكل متميزة عن باقي المدائح النبوية.

ج-القيود الشكلية في الثناء النبوي:
ومن المسائل الهامة في الشكل الشعري عند شعراء المدائح النبوية، مسألة القيود التي يقيد بها الشاعر نفسه قبل نظم قصيدته، كأن يتقيد بعدد الأبيات سلفا، وينظم عددا من القصائد، يرتبها حسب تسلسل حروف الهجاء، ويبدأ كل بيت من القصيدة بحرف القافية، فيضيق على نفسه، ويحملها عسرا، فتفتقد إلى الرواء والرونق والنضارة والشاعرية، وتصبح شكلا هندسيا متقنا، يحسبه الشاعر بدقة، ويحرص على ألا يعتوره أي خلل. ويتضح ذلك من تقديم الوتري لديوانه (معدن الإفاضات) ، إذ قال: «مدحوه صلّى الله عليه وسلّم بقصائد على حروف الهجاء، وعزوها إلى المعشرات والعشرينيات، ولم يتعرضوا فيها للوتر، والله وتر يحب الوتر، فعملت هذه القصائد على واحد وعشرين بيتا . فالوتري يوضح أن بعض شعراء المديح النبوي قد أولعوا بمثل هذه الأشكال الشعرية، وأنهم صنعوا قصائد على عدد حروف الهجاء، كل قصيدة تتألف من عشرة أبيات، وهي المعشرات، أو تتألف من عشرين بيتا، وهي العشرينيات، وأنه يريد أن يشارك في مثل هذا اللون من قصائد المديح النبوي، لكنه يريد زيادة بيت على القصائد العشرينيات وهو الوتر، ففعل ذلك ونظم قصائد بعدد حروف الهجاء، ورتبها الترتيب الأبجدي، وزاد على ذلك فبدأ كل بيت من قصائده بحرف القافية، فحصر نفسه بقيود شكلية لا تسمن ولا تغني، ولا تضيف شيئا بديعا إلى الشكل أو المعنى، وكل همّه وهمّ أمثاله من الشعراء، هو إثبات المقدرة على تكوين مثل هذه القصائد، التي جاءت عند الوتري على النحو التالي:
أصلّي صلاة تملأ الأرض والسّما ... على من له أعلى العلا متبوّأ
أقيم مقاما لم يقم فيه مرسل ... وأضحت له حجب الجلال توطّأ
وقال على حرف الباء:
بنور رسول الله أشرقت الدّنا ... ففي نوره كلّ يجيء ويذهب
براه جلال الحق للخلق رحمة ... فكلّ الورى في برّه يتقلّب
ويظل الشاعر ينتقل من قصيدة إلى قصيدة، يضع معانيه في قوالب دقيقة، رسمها في ذهنه مسبقا، لا يحيد عنها حتى ينهي حروف الهجاء نظما وترتيبا. ومن الطريف في هذا الباب مدحة نبوية للكندي الدشناوي ، بدأ كل بيت من أبياتها بحرف من حروف الهجاء مرتبة ترتيبا أبجديا، فقال:
أبيت سوى مدح خير الورى ... فأصبح نظمي وثيق العرا
بروحي صفات تحلّي القريض ... وتسكبه ذهبا أحمرا
تعين القريحة أنّى ونت ... وتبرز ألفاظها جوهرا
ويظل على هذا النهج في نظمه لقصيدته حتى يستنفذ حروف الهجاء، وكأنه بذلك حاز قصب السبق في الإبداع الشعري. وهذه الطريقة في النظم شاعت في المديح النبوي، وهي أحد ألوان الشكل الشعري للمدائح النبوية، ومن مظاهر الصنعة في الشكل الشعري، التي كانت تعد آنذاك ممّا يدل على مهارة الشاعر ومقدرته، وهي لم تضف جديدا إلى شكل القصيدة العربية، بل جمدته بهذه القيود التي لا مسوّغ لها في المعنى أو في الصنعة الشعرية.
د-النظم في الثناء النبوي:
ومن المظاهر البارزة في شكل المدحة النبوية الشعري، أو التي أثّرت في الشكل، النظم، فبعض شعراء المديح النبوي أرادوا في قصائدهم أن يجمعوا كل ما قيل في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاءت قصائدهم تاريخا أو سيرة أو ما شابه ذلك، فابتعدت عن الشاعرية، واقتربت من المنظومات التعليمية، لذلك اختل فيها الشكل الشعري الذي عهدناه في قصائد المدح العربية وفي معظم المدائح النبوية. والمدائح النبوية التي نحا فيها أصحابها منحى النظم كثيرة، وقلما يخلو ديوان شاعر مكثر في المديح النبوي من قصيدة استبد بها النظم، مثل القصيدة الشقراطيسية ومثل همزية البوصيري التي بدأها بقوله:
كيف ترقى رقيّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
فهو يظهر من المقدمة سعيه في قصيدته إلى إثبات فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّده فمعجزاته، فأخذ ينظم أحاديثها، والروايات الغيبية الكثيرة حولها، متعرّضا للسيرة، ناظما أبرز أحداثها، في أكثر من أربع مئة بيت، لا نتبين خلالها أي انتقال، أو أي جزء من أجزاء القصيدة، فلا مقدمات ولا انتقال، بل نظم حتى ينتهي إلى الخاتمة، التي يطلب فيها الشفاعة. وبذلك لا يتضح لنا الشكل الشعري للمدحة النبوية، ولا نجد فيها موضوعات مستقلة، بل هي منظومة تقرب من المنظومات التعليمية، التي لا يهتم فيها ناظمها بالشكل الشعري، وكل همّه أن يضع مادته في القالب الشعري لغرض في نفسه، وهو إثبات المقدرة والبراعة، أو تقرير علم من العلوم ليتمكّن الطلبة من استظهاره وحفظه. وهذا ما أبداه الصرصري أيضا في بعض مدائحه النبوية، وهو الذي عرف مثل البوصيري بشاعريته الفياضة وبمقدرته على تقليب معاني المديح النبوي، وغزارة شعره في هذا الباب. ويبدو أنه أراد ألّا يخلو ديوان مدحه النبوي من مثل هذا اللون من المدح النبوي، الذي صنعه بعض الشعراء ونالوا به شهرة واستحسانا حسب ذوق أدباء ذلك الزمان، فنظم قصيدة أربت على ثماني مئة وخمسين بيتا، وهو عدد لم نعهده في القصائد العربية من قبل. وقد حاول في هذه القصيدة أن يجمع كل ما قيل في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن يوضح مذهبه الديني، وبعض العقائد التي تباين موقف المسلمين منها، فأرّخ في هذه القصيدة وروى، وجادل ومدح، وسبّح وتوسل، دون أن يعير الشكل الشعري والتعبير الشعري الاهتمام الكافي إلا في مواضع قليلة، وكان يبدو عليه الحرص على أن ينظم الأحاديث والروايات في أوزان شعرية، ولو بدت نافرة مستعصية على الاندراج في السياق الشعري والخضوع للتعبير الشعري، فبدأها بقوله:
أصبحت أنظم مدح أكرم مرسل ... لهجا به في رايق الأوزان
حبّرت فيه قصيدة أودعتها ... من مسند الأخبار حسن معاني
في وصفه من بدء تشريفاته ... حتى الختام بحسن نظم معاني
فالصرصري أوضح في بداية قصيدته بعد التسبيح والحمد، أنه نظم مدحا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه اتخذ هذا المدح معونة له لينال ما يريده، وأنه أودع في قصيدته أخبارا مسندة تبدأ منذ وجود النبي وحتى وفاته، أي أنه نظم سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي تبدأ في نظره منذ بداية الخلق. ومضى الصرصري في سرد وقائع السيرة منذ بدء الخليقة وفق نظرية الحقيقة المحمدية، وبيّن كيف تنقل نور النبي في جباه آبائه، وكيف كان سر معجزات الأنبياء، ليصل إلى إرهاصات النبوة والمولد والنشأة والبعثة ووقائع الدعوة حتى الوفاة، معرّجا خلال ذلك على دلائل النبوة والمعجزات، متوقفا عند الدقائق والجزئيات، معتمدا على الأحاديث والروايات، وكأنه ينظم قصة أو سيرة نظما مجرّدا، لا نجد فيها ملامح الشعر إلا في مواطن قليلة، ولمحات بسيطة، وهو دائما يذكر الأحاديث والروايات بنصها بعد تقطيعها عروضيا، من مثل قوله:
ولقد أتى عنه حديث مسند ... سأسوق معناه لذي نشدان
ولم يكتف الصرصري بذلك، بل عرّج على بعض قضايا المديح النبوي، مثل موقف رسول الله من الشعر، فقال:
واستنشد الأشعار مستمعا لها ... مستحسنا من غير ما نكران
وأبى الصرصري إلّا أن يدرج في قصيدته بعض القضايا الخلافية، ويدلي بدلوه في النقاش حولها، مثل زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والسلام عليه، فقال:
من زاره وكأنّما قد زاره ... حيّا زيارة صحة وعيان
وبقبره الملك الكريم موكّل ... ليبلّغ التّسليم للبعدان
لكن إذا ما المرء قام تجاهه ... ردّ السّلام على القريب الدّاني
وهو الطري بقبره ما للبلى ... والحادثات عليه من سلطان
فهذه القصيدة منذ بدايتها وحتى نهايتها نظم للأحاديث والروايات، استقصى فيها الصرصري السيرة النبوية، والقضايا المتعلقة بالحديث النبوي، وبعض القضايا الدينية التي أثير الجدال حولها في أيامه، فلم يحتفل كعادته لمقدمتها أو خاتمتها، ولم يظهر لها أجزاء متباينة كما هو الحال في القصيدة المدحية المعروفة ولذلك بهت الشكل الشعري للقصيدة، لأن اهتمامه لم يكن منصبا على الشكل والأسلوب الشعري، وإنما على استقصاء كل ما قيل عن سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن مدحه، فظهر أثر النظم الذي جار على الشاعرية في القصيدة. ومثل ذلك لامية ابن جابر التي نظم فيها أسماء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته، وإن قدّم لها ببيتين واختتمها ببضعة أبيات، فالمنظومات التعليمية تبدأ عادة بحمد الله تعالى وتختتم بالصلاة على نبيه، فجاءت على النحو التالي:
نبيّ هدى مولى شفيع مشفّع ... رؤوف رحيم سله ما شئت يبذل
سما لمقام ليس يسمو إليه من ... سواه فقيل اقبل عطاي وأقبل
وقال له جبريل هذه نهايتي ... تقدّم فإني لا أجاوز منزلي
فهذه أمثلة لشعراء كبراء من شعراء المديح النبوي، تظهر تأثير النظم على الشكل الشعري عندهم، ولم نعرض أمثلة لشعراء آخرين، أو لعلماء نظموا صفات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومواهبه ومعجزاته وسيرته، وسنعرض لأمثلة من هذا النظم عند الحديث عن الأسلوب والصياغة، فالنظم يجعل ملامح الشكل الشعري في المدحة النبوية غامضا، يفتقر إلى الوضوح، ويبتعد عمّا هو معروف في قصائد المديح العربي وقصائد المديح النبوي.