الحياة الاجتماعية
عند العرب الجاهليين
أولاً- توطئة :
كان العرب قبيل الإسلام يخضعون لنظام القبيلة التي يرتبط أفرادها برابطة القرابة ( إذ إن أبناء القبيلة يعدّون أنفسهم منحدرين من جد واحد ) وأصبحت القبيلة أصل المجتمع العربي بشكل عام ، وكان أفراد القبيلة متساوين في الحقوق وأداء الواجبات ، ولا تمايز بينهم إلا بما يملكه كل فرد من أفراد القبيلة من الصفات الحميدة : كالشجاعة والكرم والوفاء ورجاحة العقل .. وكانت الأسرة العربية تقوم على أساس الزواج بعقد ومهر معين يدفعه الزوج إلى ولي الفتاة ولا بد من وجود التكافؤ بين الزوجين في النسب أو الثروة وكان هناك أنواع من أنواع الزواج الشاذة والتي نهى عنها الإسلام كزواج الشغار الذي يتم باتفاق شخصين يتزوج كل منهما قريبة الآخر- أخت بنت- وزواج المقت الزواج بزوجة الأب من قبل الابن بعد موت الأب والزواج بالأختين دون التقيد بعدد الزوجات وأفضل الزوجات عند العرب الجاهليين الولود الودود والطلاق حق للرجل والمرأة التي قد تكون العصمة بيدها ومن حق المرأة في الجاهلية أن تستثمر أموالها والإشراف على تربية أولادها وخاصة البنات وقد كان الإرث محصورا بالذكور دون الإناث .
ثانياً-مكوّنات القبيلة قبيل الإسلام :
كانت القبيلة تتألف من :
1- أبناء القبيلة من العرب : وهم الأكثرية .
2- الموالي : الغرباء الضعاف الذين التجؤوا إلى القبيلة لحمايتهم ، فأخلصوا للقبيلة وأصبحوا من مواليها .
3- الأرقاء : وهم العبيد الذين حصلت عليهم القبيلة عن طريق الأسر في الحروب أو الشراء . أدت ممارسة العرب للأعمال الاقتصادية إلى ظهور مستويات مختلفة في المأكل والملبس والمسكن ، وذلك بحسب ما يملكه الفرد من أموال ،وظهر بالتالي في المجتمع العربي طبقتان
- طبقة غنية : تملك القوة وتنعم بالمال الوفير ،
- طبقة فقيرة : تملك جهدها العضلي كوسيلة لكسب رزقها والحفاظ على حياتها وحرص العربي منذ القديم على معرفة نسبه والتفاخر به ، وبما فعله أجداده ، وما قدموه من الشجاعة والكرم والوفاء . فعملت القبيلة على زيادة عدد أفرادها للدفاع عنها ، عن طريق الزواج المبكر وتعدد الزوجات ، وقد كان الفتى يختار زوجة كريمة لنفسه وكذلك الزوجة تختار فتى كريما فارسا شجاعا . وحرصت المرأة على حسن تربية أطفالها ، وتهيئة بناتها ليصبحن ربات بيوت صالحات ؛أما الرجل فقد كان يتمتع بسلطة واسعة على أفراد أسرته يدرب أولاده الذكور على ركوب الخيل والقتال ، لأن حماية القبيلة ستقع على كاهلهم في المستقبل ، وهذا ما جعل العرب يفضلون الذكور على الإناث وكان المجتمع في الجاهلية ينقسم إلى ثلاث طبقات اجتماعية
( أ ) -طبقة القبيـــل : أو جمهور أبناء القبيلة الصرحاء ، وهم الذين يرتبطون فيما بينهم برابطة الدم ، وهم جمهور القبيلة ودعامتها ، وكانوا يهبون لتلبية نداء القبيلة والتضامن معها ظالمة كانت أم مظلومة ؟، والقبيلة نظير ذلك تسبغ عليهم حمايتها ، وتمنحهم حق التصرف كالإجارة ، ولكنها لا تبيح لهم الخروج على العرف والتقاليد، فإذا سلك الفرد سلوكاً شائناً يسيء إلى سمعة القبيلة ، ويجلب عليها العار ؛ نبذته القبيلة وأخرجته منها ، ويلجأ إلى الصحراء ويعيش على قائم سيفه وحد نصله ، ويصبح صعلوكاً من صعاليك العرب ، أو مغامراً ، ليتخلص من شقاء الفقر وذل الفاقة ، إذ كان أبيّ النفس ذا أنفة
( ب ) - طبقة الموالي : ويدخل فيها الخلعاء الذين خلعتهم قبائلهم وفصلتهم عنها وتبرأت منهم لجرائم ارتكبوها ، ثم دخلوا في قبيلة أخرى على أساس الموالاة بالجوار وكان الخلع يتم في الأسواق والمحافل ، كما يدخل فيها الصعاليك المغامرون ، ومن بين الصعاليك المشهورين ("تأبط شراً ، والسليك بن السلكة ، والشنفرى ، عروة بن الورد ) كما يدخل في طبقة الموالي أيضاً العتقاء ، وكانوا في الأصل عبيداً ثم أعتقوا وكان لهؤلاء الموالي سواء كانوا حلفاء أو عتقاء الحقوق القبيلة نفسها التي يوالونها وعليهم الواجبات نفسها ، ولكن رابطة الجوار كانت موقوتة ، فهي تبقى ببقاء الجار في كنف مجيره ، وتحل بخروجه ، وفى هذه الحالة يعلن المجير أنه في حل من حمايته . ولكن رابطة الحلف تبقى ، فهي رابطة قوية غير موقوتة ، وكانت هناك أحلاف فردية وأحلاف جماعية كأن تتحالف قبيلة مع قبيلة أخرى ، والحلف في هذه الحالة أشبه بمعاهدة . ويتم الحلف عن طريق المواثيق والعهود ، ومن أحلاف العرب (حلف المطيبين وحلف الفضول وحلف الرباب وحلف الحُمس وحلف قريش والأحابيش )؛أما العتقاء فهم موالي أيضاً ، ويرتبط المعتق بسيده برابطة الولاء
(ج ) - طبقة الرقيــق : وكانت تؤلف طبقة كبيرة في المجتمع القبلي في الجاهلية . والرقيق إما أبيض أو أسود ، ومعظمهم يشترى في الأسواق ، وبعضهم يجلب من أسرى الحروب . وكان العدد الأعظم من الرقيق عبيداً سوداً يعرفون بالأحابيش ، يستقدمون من الحبشة أو السودان ، ولكن بعضهم كان من بين الأسرى في الحروب روماً كانوا أم فرساً ، وقد كان لنبينا العربي محمد صلى الله عليه وسلم مولى روميا هو " صهيب الرومي " ، وموليان حبشيان هما " بلال بن رباح " و " وانجشة " ومولى فارسيا هو " سلمان الفارسي " ، ومولى نوبيا هو " يسار أو بشار " . وكان أبناء الإماء البيض من آباء العرب يعرفون بالهجناء ، أما أبناء الإماء السود فيطلقون عليهم أسم أغربة العرب ، ومن هؤلاء " عنترة بن شداد ، وكانت طبقة العبيد في المجتمع الجاهلي طبقة محرومة من الامتيازات، بل على العكس من ذلك كانت طبقة مثقلة بالواجبات نحو سادتها ، وكان يوكل إليهم بالأعمال التي يأنف العرب من القيام بها مثل الحدادة والحجامة والتجارة . وكان في إمكان العبد أن يعتق إذا قام بعمل خارق أو أدى خدمة عظيمة لسيده تبرر عتقه وتحريره كما فعل عنترة عندما حمى قومه سعيا للتحرر
ثالثاً-حالتهم الاجتماعية :
لقد كان للبيئة والظروف التي أحاطت بالقبائل العربية قبل الإسلام أثر كبير في حالتهم الاجتماعية، فالنظام القبلي، وعدم وجود حكومة مركزية، وجدب الصحراء وضيق الأفق كان لها دخل كبير في وجود كثير من الصفات والعادات عند العرب الجاهليين . فحب الفرد لقبيلته وتفانيه في إخلاصه لها، والعمل على رفع شأنها، وإعلاء كلمتها، وتعصبه لها وحدها، كل ذلك جعله يتجاهل غيرها، ولا يعترف بحق الحياة أو الملكية أو المتعة لأحد من سواها، كأنما لم يخلق في الوجود غيره وغير قبيلته، فدفعه هذا الاعتقاد إلى الاعتداء على حقوق الآخرين، ما دام يملك القوة أو الفرصة المواتية، فكانت الغارات والحروب التي ينجم عنها إزهاق الأرواح، ونهب الأموال وأسر الرجال، وسبي النساء، مما يشيع الرهبة في قلوب الآخرين، ويعلي من شأن المنتصرين، وينمي ثروتهم، بما غنموه من مال، أو كسبوه من فداء الأسرى والسبايا، أو احتلال أرضهم، ونزول ديارهم. وما كانوا يكفون عن الغارات والحروب إلا في الأشهر الحرم، ولكن الحمية الجاهلية كانت تشتط بهم فيقاتلون فيها غير مبالين، كما كان في حرب الفجار بين قريش وكنانة، أو يتخذون النسيء فيؤخرون الأشهر الحرم كما يشاءون. وإزهاق الأرواح، وإنزال الخسائر، وإحداث الهزائم، وما كانت لتقف عند حد، فالقبيلة المنهزمة ومن حاقت بهم الخسائر، ما كانوا ليقفوا مكتوفي الأيدي، بل لا بد أن ينتقموا لكرامتهم، ويردوا شرفهم، فكان لابد من الأخذ بالثأر، وكان الاعتقاد السائد أن روح القتيل كانت تخرج من قبره كل يوم في صورة طائر يسمونه "الهامة" وتصيح قائلة "اسقوني، اسقوني" ولا تكف عن الصياح حتى يأخذ بثأره. فكل معركة كانت تتبعها معركة بل معارك، وقد ساعد على انتشار هذه الفوضى، وشيوع الرعب وعدم الطمأنينة والأمن، عدم وجود حكومة مركزية يدين لها جميع القبائل بالولاء والطاعة، وتتولى نشر العدل بين الناس على السواء. وكان التعصب القبلي الأعمى يقوي من نيران العداوة والحروب، فالتزام الوقوف بجانب أي فرد من القبيلة في جميع الأحوال، ظالمًا أو مظلومًا بصرف النظر عن مدى الحق في موقفه، وبدون ترو أو تفكير فيما هو مقدم عليه، زاد الطين بلة، وأرث الأحقاد في القلوب وعمل على توسيع الهوة بين القبائل، فأصبحوا متفككي الأوصال لا تجمعهم وحدة، ولم يكن لديهم شعور بفكرة نحو التجمع تحت لواء واحد. وحبه لنفسه وعشيرته جعله يبالغ في فهم معنى الشرف، فالعصبية الجنسية، والأثرة الواضحة في حياتهم وحب الظهور، والمبالغة في معنى الإباء والعزة والشرف، أوجدت فيهم الحمية والجاهلية المشهورة عنهم، فكانوا يثورون لأتفه الأسباب، ويدخلون المعارك والحروب ويزهقون الأرواح في سرعة وتهور، دون أدنى تفكير لمجرد فهم قد يكون خطأ، فرب كلمة لا يريد قائلها بها شرًّا، أو نظرة عابرة غير مقصودة لإحدى فتيات العشيرة، تثير حربًا شعواء بين حيين أو أحياء كثيرة، لاعتقادهم أن شرف القبيلة قد مس أو أن كرامتهم قد أهنيت، وكانت النساء النقطة الحساسة في شرفهم، ومن ثم أحاطوها بسياج متين من القيود والحدود حتى لا يقع لهن أدنى إساءة، وقد بلغ ببعضهم الخوف على شرف نسائهم إلى أن كانوا يقدمون على وأد البنات حتى لا يحدث لهن ما يجلب عليهم العار. وربما كان من المبالغة في الأثرة والمحافظة على كرامة العرض أن يتزوج الرجل زوجة أبيه بعد وفاته. وأن يجمع بين الأختين أو يتزوج أخت صديقه على أن يزوجه أخته، ونحو ذلك من العادات التي كانت فيهم. وتنافس القبائل في السيادة والعزة والطموح جعل الفرد منهم محبًّا للزهو ميالًا إلى المباهاة وحب الظهور فدفعهم ذلك إلى ارتكاب كثير من الحماقات التي نتج عنها كثير من المصائب والويلات، ولكن من ناحية أخرى كان داعيًا لتمجيد بعض المثل العليا، فشاع لديهم إكبار الجميل وصنع المعروف ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين، أقارب أم أباعد:
أجود على الأباعد باجتداء ... ولم أحرم ذوي قربى وإصر
فأكبروا الإسراع إلي إجابة المستغيث، وحماية اللاجئ وإكرام النازل والدفاع عن الجار، وكانت المبالغة في الإسراف إلى حد الإتلاف، وشرب الخمر، ولعب الميسر، من الأمور التي كان يتباهى بها الجاهليون. وكان من أثر الحرب وانتشار الفقر والبؤس في البلاد، أن قل الغذاء، وعز الطعام، فأحسوا الجوع ينشب أنيابه بين أحشائهم، ويكاد يفتك بهم، وبخاصة إذا كانوا مسافرين أو عابري سبيل، فقدروا معنى الإنسانية الحقيقية بتقديم ما يحفظ على الإنسان حياته أو يسد رمقه، أو يروي غلته، لذلك عظموا الكرم وإطعام الطعام، ووصفوا بالكرم عظماء القوم، ومدحوا به، وكان الكرم في مقدمة الفضائل التي يحب العربي أن يتحلى بها. ومن أعظم المكرمات في تلك الصحراء المترامية الأطراف التي ليس فيها ما يرشد الضال، أو يهدي عابر السبيل، أن يوقدوا نارًا يهتدى بها الضيفان فيعرفون بها منازل القوم، فيفدون إليهم حيث يجدون بينهم النزل السهل، والترحيب الجميل، والمقام الكريم، كأنهم بين العشيرة والأهل. وفي جنبات الصحراء الواسعة، وبين مرتفعاتها وأوديتها، تجري الحيوانات وتمرح، بين المروج، والأعشاب، فتبدو عليها النضارة والنعمة، مما يسيل لعاب القوم للحومها، فأغراهم ذلك على مطاردتها وقنصها، فكان هناك الصيد والصيادون واشتهر أفراد كثيرون بالصيد. واقتنوا الجوارح من الحيوانات والطيور كالكلاب والصقور، ودربوها على الطرد والقنص، وقد تردد هذا في الشعر الجاهلي كثيرًا من ذلك قول امرئ القيس:
فًصبَّحه عند الشروق غُديَّةً ... كلابُ ابن مُرٍّ أو كلابُ ابن سِنْبِسِ
مُغَرَّثَةً، زُرْقًا، كأن عيونها ... من الذَّمرِ والإيحاءِ ثُوارُ عِضْرِسِ
وابن مروان وابن سنبس صائدان من طيئ معروفان بالصيد . وكان من أثر العصبية القبلية أن وجدت الحرية الشخصية، ولم يكن للحرية الاجتماعية وجود، فشاعت الفوضى، وكانت الغلبة للقوة والبطش، والسيادة للظلم والطغيان. فالضعيف مأكول ومهان، والقوى ظالم ومهاب:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي صولة المستأسد الحامي
ولم تكن القوة في حد ذاتها كافية، بل كان لا بد من ممارستها، حتى تملأ القلوب رهبة، وتمنع كيد الطامعين:
ومن لم يَذدْ عن حَوضِهِ بِسلاحه ... يُهدم، ومن لا يَظلمِ الناسَ يُظْلَمِ
وكان من أثر الحياة القاسية التي كان يحياها الجاهليون، وعدم استعمال العقل والحكمة في كثير من مظاهر الحياة، أن كانوا لا يحسنون ربط الأسباب بمسبباتها، فوجدت لديهم عادات واعتقادات عجيبة بعيدة عن مجال العقل والمنطق الصحيح، من ذلك .
رابعاً-حياتهم ومعيشتهم :
هذه القبائل العربية بفرعيها العظيمين الجنوبي والشمالي، كانت موزعة في شبه الجزيرة العربية بين ربوع صحاريها الواسعة، ومدنها وقراها التي سبق أن أشرنا إلى بعضها. فمن كان يسكن المدن والقرى كانوا يسمون "الحضر" ومن كان ينزل في البادية كانوا يسمون "البدو" وكان لكل من هذين النوعين أسلوب خاص في الحياة المعيشية. أوجدته ظروف البيئة التي كانت تحيط به. فالحضر، وهم سكان المدن، والقرى كانوا يعيشون على موارد ثابتة من الرزق كالزراعة والتجارة، والأولى تزدهر حيث الأرض الخصبة والمياه الغزيرة اللازمة للإنبات والزرع والسقي والاستثمار، وهذه توجد في الجهات التي تسقط فيها الأمطار بكثرة، أو تفيض فيها العيون والآبار بوفرة، وهذه الأماكن توجد في الجنوب والشرق وواحات الحجاز مثل يثرب والطائف ووادي القرى ودومة الجندل وتبوك وخيبر وتيماء. وقد كانت اليمن جنة وارفة الظلال حتى أجمع المؤرخون على امتداح غنى اليمن، وسموها بالأرض السعيدة1. يدل على هذا قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [ ] . فكان اليمن على وجه العموم أهل حضر، وكانت لهم مدن وقصور وأثاث ورياش، ولبسوا الخز، وافترشوا الحرير، واقتنوا آنية الذهب والفضة، وغرسوا الحدائق والبساتين، ويحكي المؤرخون عن حضارتهم وأبهتهم ما يفوق الخيال. ويعزى رقي تلك الربوع الجنوبية السعيدة إلى عوامل عديدة، منها نصيبها الوافر من الأمطار وقربها من البحر، ومركزها الجغرافي الخطير على خط الاتصال بالهند، وكان من حاصلاتها الطيوب والمر وسواهما من طرائف العطور والأفاويه التي تستعمل توابل للطعام، أو تحرق في حفلات البلاط والمراسيم الدينية، وأجدرها بالذكر البخور، وهو أثمن البضائع التي تداولتها التجارة القديمة. وإلى هذه البلاد ترد الحاصلات الغالية والمرغوبة، فكان يرد اللؤلؤ من خليج العجم والأنسجة والسيوف من الهند، والحرير من الصين والأرقاء والقرود والعاج وريش النعام والذهب من الحبشة، وكانت جميعها تجد طريقها إلى أسواق بلاد العرب. فحيثما وجدت الزراعة كان الخير الكثير، والحياة المستقرة، فأقام الناس بين مزارعهم، وجعلوا مساكنهم ثابتة في وسطها، فنشأت هناك القرى والمدن . أما التجارة، فكان هناك من السكان من اشتغل بها، وقد مر ذكر هذه الطرق التي كانت تسلكها القوافل التجارية من أطراب شبه الجزيرة العربية وعبرها، "وكان الجزء الجنوبي من بلاد العرب بلد اللبان والطيب والبهار، وكان سكانه همزة الوصل بينهم وبين أسواق الهند وبلاد الصومال" وقد تهيأت للمملكة أسباب سياسية ودينية واقتصادية جعلتها مركزًا هامًّا للتجارة في الجاهلية، فكان يوجد في شبه الجزيرة العربية طريقان عظيمان للتجارة بين الشام والمحيط الهندي، إحداهما تسير شمالًا من حضرموت إلى البحرين على الخليج العربي، ومن ثم إلى صور والثانية تبدأ من حضرموت أيضًا، وتسير محاذية للبحر الأحمر، متجنبة صحراء نجد وهجيرها ومبتعدة عن هضاب الشاطئ ووعورتها، وعلى هذه الطريق الأخيرة تقع مكة في المنتصف تقريبًا بين اليمن وبطرة. وكان اليمنيون ينقلون غلات حضرموت وظفار، وواردات الهند إلى الشام ومصر، وبعد أن انحط اليمنيون حل محلهم عرب الحجاز حوالي القرن السادس الميلادي، فكان الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين والحبشيين ويبيعونها على حسابهم في أسواق الشام ومصر. وكانت مكة قاعدة لعرب الحجاز، وعندما اشتدت العداوة بين الروم والفرس اعتمد الرومانيون إلى حد كبير على تجارة مكة. وكانت السلع التي تتاجر فيها قريش: الأدم والزبيب والصمغ والطيب والتبر والحرير والبرد اليمانية والثياب العدنية والأسلحة ومصنوعات الحديد، والذهب من معدن بني سليم، والسلع المستوردة من إفريقية والهند والشام وحوض البحر المتوسط، ومن المنسوجات النفيسة الغالية التي استوردها التجار لبلاد العرب: الديباج والإستبرق والسندس4 التي كان يتنافس الأغنياء وذوو الثراء والجاه في اقتنائها. وكان في مكة البيت الحرام الذي يقدسه جميع العرب، وكانت قريش سدنة هذا البيت، يقومون بالعناية به والمحافظة عليه، فأكسبهم ذلك احترامًا عظيمًا فكانت لهم منزلة سامية في نفوس العرب جميعًا، ومما كان له أثر كبير في تحسين مركزهم التجاري العظيم، كما أن زمزم كانت تفيض بالقرب من مكة ماءً سلسبيلًا، مما جعلها مركزًا هامًّا للقوافل التجارية، فكانت القوافل تستقي منها، وتأخذ حاجتها من الماء، فنشطت التجارة في مكة نشاطًا عظيمًا، واشتهرت قريش بها، وأثرت بسببها ثراء عظيمًا، حتى إن صاحب لسان العرب قال: إنها سميت بهذا الاسم، لأنهم كانوا أهل تجارة، من قولهم "فلان يتقرش المال" أي يجمعه، وامتن الله عليهم بهذا الثراء وما كانوا فيه من أمن بقوله تعالى: { لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ }[ ] . فكان لهم رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشام، ولم تكن قريش تستورد التجارة لتخزنها في مكة وحدها، فمكة وحدها بلد صغير، لا تستوعب أسواقها هذه التجارات، بل كانت تستوردها من الشمال والجنوب لتصرف ما يمكن بيعه في أسواق مكة وهو القليل، ولتصدر -وهى الغالب- ما استوردته من الجنوب إلى الشام، ولتصدر ما استوردته من الشام إلى اليمن، ومنها إلى بقية العربية الجنوبية والسواحل الإفريقية المقابلة، فتستفيد من هذه الصفقات ربحًا حسنًا ، فحيثما كانت توجد موارد الرزق الثابتة من الزراعة أو التجارة عاش القوم على ما ينتج لهم من ذلك، واستقروا فأقاموا القرى والمدن . أما الصناعة فكانت قليلة وعلى شيء يسير، ولكن حيثما وجدت كانت تقام البيوت الثابتة وتنشأ القرى، كما يحكى الهمداني عن صعدة مثلًا، فيقول: "قال بعض علماء العراق: وما كان البدوي يفكر في الاشتغال بمورد ثابت يربطه بمكان لا يبرحه طول حياته، وتستره حيطانه عن نور الفضاء، واتساعه الفسيح الأرجاء، ومن ثم أنف من الاشتغال بالزراعة، أو الصناعة فتركوا ذلك لغيرهم ممن كانوا يعتبرونهم أقل من البدو، أنفة وكبرياء، وكان مبدأ العربي: "الذل بالحراث، والمهانة بالبقر. والعز بالإبل، والشجاعة بالخيل. ولهذا تمسكوا بالصحراء، وعاشوا بين جنباتها الواسعة، تحت سقوف خيامهم، وبين حيواناتهم، يتنفسون من هوائها العذب، ونسيمها العليل، يحمل بين هبوبه وحركاته، الحرية والسيادة المطلقة، فكان يغذي روحهم المتعشقة للانطلاق، والمطبوعة على الأنفة من الحدود والقيود. ولكن بسبب الجدب الضارب أطنابه لم يكن هناك من الموارد ما يكفي لإنعاش هؤلاء البدو، وتوفير عيشة هنيئة لهم جميعًا، لذلك انتشر الفقر والبؤس فيهم، ولم يكن فيهم من الأغنياء إلا قلة، خصوصًا في متاهات هذه الصحراء الواسعة وبين مرتفعاتها ومنحدراتها ومنحنياتها، حيث تضل الطريق وتعمى السبل حتى على كثير ممن لديهم خبرة بطرقاتها ودروبها. ومن ثم وجدت جماعة الصعاليك وانتشر قطاع الطرق، وكثرت الغارات، وكان الأمن معدومًا، والقوة فقط هي صاحبة السيادة والسلطان. ومما كان له أثر كبير في موارد الرزق ومعيشة العرب جميعًا، الحضر منهم والبدو، تبادل السلع، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولذلك كانت لهم أسواق كثيرة، منها ما كانت ثابتة مع أيام السنة، ومنها ما كانت موسمية تعقد في مواسم معينة فإذا انتهى الموسم انفضت، وهذه جعلوها في أماكن متفرقة في أنحاء شبه الجزيرة، حتى تنال كل بقعة نصيبها منها، ولا يحرم بعض السكان من وجود هذه الأسواق في ديارهم، كما جعلوا لكل منها وقتًا خاصًّا، بحيث لا يتعارض بعضها مع بعض، ليستطيع كل من شاء أن يحضر جميع هذه الأسواق دون أن تفوته واحدة منها. وقد ذكر الألوسي كثيرًا من هذه الأسواق ومواقيتها، فمما ذكره من هذه الأسواق:
1- دومة الجندل : كانوا ينزلونها أول يوم من ربيع الأول، وكانت تستمر نصف شهر أو شهرًا، ورؤساؤها غسان أو كلب، أي الحيين غلب قام. ويقال إن المبايعة فيها كانت ببيع الحصاة .
2- سوق هجر: "بالبحرين" كانون ينتقلون إليها في شهر ربيع الآخر.
3- سوق عمان : كانوا يرتحلون من سوق هجر إليها، فتقوم بها سوقهم إلى أواخر جمادى الأولى.
4- سوق المشقر : "وهو حصن بالبحرين" تقوم من أول يوم من جمادى الآخرة. ورؤساؤها بنو تيم رهط المنذر بن ساوي.
5- سوق سحار : تقوم لعشرين يمضين من رجب لمدة خمسة أيام، وكانت لا يحتاج فيها إلى خفارة.
6- سوق الشحر : تقوم في النصف من شعبان، وكانت مهرة تقوم بها.
7- سوق عدن أبين : تقوم إلى أيام من رمضان، ومنها كان يحمل الطيب إلى سائر الآفاق.
8- سوق صنعاء : تقوم في النصف الثاني من رمضان.
9- سوق ذي المجاز : كانت بناحية عرفة إلى جانبها.
10- سوق مجنة : موضع قرب مكة، تقوم سوقها قرب أيام الحج، ويحضرها كثير من قبائل العرب.
11- سوق عكاظ : كانت من أعظم أسواقهم، وعكاظ واد بين نخلة والطائف وهو أقرب إلى الطائف. وكانت تقام أيام موسم الحج، وتحضرها كل القبائل، وبها كانت مفاخرة العرب، وحالاتهم، ومهادنتهم. ولا شك أن هذه الأسواق كان لها أثر كبير من الناحية الاقتصادية فكانت بطبيعة الحال ذات تأثير فعال في حياة القوم ومعيشتهم، كما كان لها تأثير في النواحي العامة الأخرى للعرب، فإذا كانت القبائل تفد إليها للبيع والشراء، فلا يستبعد بالطبع ورود تجار أجانب من غير العرب إليها، فقد كان الروم مثلًا يتوغلون في هذه الأرضين إلى مسافات بعيدة للبيع والشراء، كما كان يقصدها أناس من أماكن بعيدة بحثًا عن طلب أو ترويجًا لرأي. قد استعمل أهل العربية الجنوبية النقود في معاملاتهم فاستعملوا نقودًا سكت من الذهب ونقودًا سكت من الفضة، وأخرى سكت من النحاس ومن معادن أخرى، وقد عثر على نماذج من كل نوع من هذه الأنواع، كما استعملوا نقودًا أجنبية أيضًا، وصلت إليهم بتعاملهم مع الأسواق الأجنبية. وقد عثر على بعض منها في مواضع من جزيرة العرب أكثرها يوناني أو روماني. أما أهل الحجاز فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية، تعاملوا بالدراهم، وتعاملوا بالدنانير ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل اليمن كذلك، وبنقود أهل الحبشة، فقد كان أهل مكة تجارًا، يتاجرون مع اليمن، ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام، وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود، خاصة أنهم كانوا في مكان فقير لا يساعد على ضرب النقد فيه.. وقد ذكر أهل الأخبار أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالدراهم عند مقدم الرسول، ويتعاملون بالعدد، فأرشدهم إلى الوزن كما يفعل أهل مكة، ودرهم أهل مكة ستة دوانيق، وعدلت بعد الإسلام، فكانت تعرف بالدراهم المعدلة، وهي بوزن سبعة مثاقيل لكل عشرة دراهم.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)