نشــأة الشعــر الجاهلي
يعد البحث في بدايات الشعر الجاهلي من القضايا الشائكة التي لا يمكن الوصول من خلالها إلى نقطة انطلاق لهذا الشعر بسبب عدم وجود وثائق تثبت ذلك مهما كان نوعها . ولكننا سنحاول أن نجد بعض علامات فارقة تشير إلى أن هذا الشعر لم تعرض له بداية تتجاوز عام / 300/ بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام ولو أنا تجاوزنا عن تحديد المدة الزمنية الدقيقة لبدايات هذا الشعر نجد أن الشعر العربي قد وصل إلينا كامل النمو ومنذ زمن سحيق وإن كان الجاحظ قد حدد لنا عمر هذا الشعر واعتبر أنه يرجع إلى أواسط القرن الرابع الميلادي وتعد قبيلة ( هذيل ) أشعر الناس حيا كما يقول حسان بن ثابت رضي الله تعالي عنه فقد وجد فيها أكثر من مئة وسبعين شاعرا /170/ كما أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ساكن هذه القبيلة سبعة عشر عاما يتعلم بين أبنائها اللغة العربية ولعله لا يفوتنا أن نشير إلى أن هناك ديوانا مجموعة فيه شعراء قبيلة ( هذيل ) يصل عدد شعرائه إلى ثلاثين شاعرا ،وإذا كانت الروايات الشفوية قد أخفقت في نقل الكثير من شعر شعراء العرب فإن قسما كبيرا من هذا الشعر قد تناقلته الأجيال وأن بين أيدي الدارسين شعر ترقى صحته إ لى ما قبل ظهور الإسلام بأربعمئة عام تقريبا فقد وجدت نصوص شعرية لشعراء جاهليين وجدوا في القرن الرابع الميلادي من أمثال ( جذيمة الابرش ) وابن أخته ( عمرو بن عدي ) و (عمر بن عبد الجن التنوخي ) وإذا كان القرن الثالث الميلادي الذي يتخذ منطلقا لظهور الشعر الجاهلي المتكمل لفنيته هو القرن الذي شهد تأسيس دولة المناورة في الحيرة ، فإننا يجب أن نتذكر أن عاصمة هذه الدولة ( الحيرة ) شكلت وسطا ثقافيا بارزا جذب إليه أهل العلم والثقافة ومن بينهم الشعراء فقد وفد إليها كل من ( المرقش الأكبر ) وأخوه ( حرملة ) وكذلك ( المرقش الأصغر و ( عمرو بن قميئة ) و ( المتلمس ) و ( طرفة بن العبد ) و( عبيد الله بن الأبرص ) و( المثقب العبيدي) و(النابغة الذبياني)و(المنخل اليشكري ) و ( حنظلة الطائي ) و ( لبيد بن ربيعة ) و ( الربيع بن زياد العيسي ) و ( حسان بن ثابت ) و ( سلامة بن جندل ) ومع التذكير بأن الحيرة كانت تضم مجموعة كبيرة من المعاهد والمدارس العلمية والفكرية والأدبية فإنه من اللافت للانتباه أن اختراع الخط العربي كان موطنه الحيرة وهذا يعني أن مجموعة كبيرة من الشعراء ظهرت في هذا العصر وشكلت لنا هذا الرصيد الغني من الشعر ، وإذا كان الأدب يمثـل التعبيــر عــن الحياة والكـون والنفس بلغـة فنية تعتمد البيـان والتصوير والإيحاء فإنّـه يقسم إلى قسمين : ( الشعر ـ النثر) ، ولسنا في صدد التفريق بين الجنسين الأدبيين بقدر ما نريد أن نتبين الطفولة الأولى للشـعر الجاهلـي الـذي وصل إلينا بصورة مكتملـة ، إذ إنّ القـارئ لقصـائد الشـعر الجاهلـي يرى صروحاً عظيمـة مكتملــة البنــاء . فالقصيدة الجاهلية بناء متماسك ، ونهج قويم يكشف عن عبقرية أدبية لم يستطع أحد إلى يومنا هــذا أن يصـل إلـى موازاتها . وفـي بحثنا عن أوليات الشعر الجاهلي نجد أنّ أقدم نص وصل إلينا لا يتجاوز مئة وخمسـين عــاما أو مئتي عــام قبل مبعث النبــي صلــى الله عليـه وسلّم ، وإنّ أقدم هـــذه النصوص كان لامرىء القيس والمهلهـل بن ربيعـة ، وإن كانت عادة الوقـوف علـى الأطـلال أخذت مـن شـاعـر سـماه الشـعراء الجاهليـون باســم " ابن حـزام " ولكننا لا نجـد بيتا واحداً لهـذا الشاعر وقد أشـار إلــى ميلاد الشــعر ( الجاهلـــي ) الجاحــظ واعتبره ميلاداً حديثاً ، وما يزال النقاد يسـتغربون كون حـرب البسـوس هي البداية للشعر الجاهلي. ويعلل النقاد السـبب المباشر المؤثر في عدم اكتشاف طفـولـة الشعر الجاهلي هــو الرواية الشفوية للأدب الجاهلـــي حيث تعرّض قسم كبير مـن هـذا الشـــعر للنسيان والإهمـال كما أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قـد نهـى عـن رواية نوعين من الشعر:
1- الشعر الذي يحمل صفات الإقذاع .
2-الشعر الذي يحمل الفحش والإساءة الخلقية للمرأة .
كما أنّـه لا يمكن أن ننسى النكبات التي حدثت في الجزيرة المتمثلة بزحف الرمال وتفجـر البراكين التي رافقهـا تقهقـر اقتصادي تراجعت خلالـه حركة الشعر وقد زعم بعض النقاد أنّ قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدي التـي مطلعها
أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب
هــي قصيدة مضطربة الوزن وأنّها مـن أوليات الشعر إذ أنّ الشاعر بناها على وزن ( مخلّع البسيط ) (مستفعل/ فاعلن/ فعـول ).ولكن الرد على ذلك أنّ الشاعر له من القصائد ما يدلّ علـى براعته في ربط الوزن بالأبيات الشعرية ، وزعم نقاد آخرون أنّ بدايات الشــعر العربــي هـي " الأراجيز " المتناغمة مع سير الابل : (مستفعـلن/ مستفعلن/ مستفعلن ). وهو وزن شعبيّ سماه الشعراء ( حمار الشعراء ) ، وزعم نقاد آخرون أنّ بدايات الشعر الجاهلـي هي الأدعية الدينية والابتهالات للآلهة التي كان يعبدها العرب ، ولكن ذلك ليس دقيقاً ؛ كما زعم قـوم أنّ بداية الشـعر الجاهلي حديثة وليس لدينا مـن الوثائق ما يدلّ علـى ذلك ، وما نعرفه أنّ العرب نسبوا الشعر إلى الشـياطين ، وأنّ بعضهم يفخر بأن ّشيطانه ذكر وليس أنثى :
إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
وقد زعم قوم أنّ بعض أوزان الشعر العربي كوزن ( الرمل والمتقارب والخفيف ) ، قــد أخذ من الأوزان الفارسية وهو زعم غير صحيح ومع ذلك بقي سر طفولـة الشعر الجاهلي أو العربي مكتوماً. وقد علل النقاد عوامل ازدهار الشعر العربي في مئتي العام قبل الإسلام بما يلي:
1-الحروب التي دارت بين عرب الشمال وعرب الجنوب :( حرب البسوس- حرب داحس والغبراء – وقائع تغلب والمناذرة – ذي قار – حروب الأوس والخزرج ) .
2 - هجرة عرب الجنوب واختلاطهم بعرب الشمال .
3- وجود الأسواق التجارية والأدبية ، مثل:( عكاظ- ذي المجاز- ذي المجنّة) حيث كان الشعراء يتفاخرون بقبائلهم في تلك الأسواق.
4- تنافس القبائل في تقريب الشعراء والإغداق عليهم بالعطايا كما صنع الغساسنة مـع حسان بن ثابت ، والمناذرة مع النابغة الذبياني .
5-سوء توزيع الثروة الاقتصادية واحتكار سادة القبائل لها، مما جعل بعض الشعراء يتكسبون بمدح هؤلاء الزعماء . وفي الشعر الجاهلي قصائد منحولة نسبت إلى شعراء لم يقولوها من باب التنافس القبلي ، وزاد بعض الرواة أبياتا ضمن قصائد هي لشعراء غيرهم ، وقد أثار الدكتور" طه حسين" في كتابه " الأدب الجاهلي "الشك حول نسبة الكثير من الشــعر الجاهلـي إلى شعراء بعينهم وقد تصدى له بعض الباحثين يردون أخطاءه التاريخية كما صنع " ناصر الدين الأسدي " في كتابه " مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية . وليس بين أيدينا أشعار تصور أطوار الشعر الجاهلي الأولى؛ إنما بين أيدينا هذه الصورة التامة لقصائده بتقاليدها الفنية المعقدة في الوزن والقافية وفي المعاني والموضوعات وفي الأساليب والصياغات المحكمة، وحاول ابن سلام أن يرفع جانبًا من هذا الستار و تحدث فيه عن أوائل الشعراء الجاهليين، وتأثر به ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعر والشعراء، فعرض هو الآخر لهؤلاء الأوائل، وهم عندهما جميعًا أوائل الحقبة الجاهلية المكتملة الخلق والبناء في صياغة القصيدة العربية، وكأن الأوائل الذين أنشؤوا هذه القصيدة في الزمن الأقدم ونهجوا لها سننها طواهم الزمان. وفي ديوان امرئ القيس.
عُوجا على الطلل المحيل لعلنا ....... نبكي الديار كما بكى ابن خذام
ولا نعرف من أمر ابن خذام هذا شيئًا سوى تلك الإشارة التي قد تدل على أنه أول من بكى الديار ووقف في الأطلال. وتتراءى لنا مطولات الشعر الجاهلي في نظام معين من المعاني والموضوعات؛ إذ نرى أصحابها يفتتحونها غالبًا بوصف الأطلال وبكاء آثار الديار، ثم يصفون رحلاتهم في الصحراء وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيرًا ما يشبهون الناقة في سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمضون في تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدتهم مديحًا أو هجاء وفخرًا أو عتابًا واعتذارًا أو رثاء. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت في أوزانها وقوافيها؛ فهي تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات وتتحد جميع الأبيات في وزنها وقافيتها وما تنتهي به من رَوِيّ. وتلقانا هذه الصورة التامة الناضجة للقصيدة الجاهلية منذ أقدم نصوصها، وحقًّا توجد قصائد يضطرب فيها العروض ولكنها قليلة، من ذلك قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدي:
أقفر من أهله ملحوب............فالقطبيات فالذنوب
فهي من مخلع البسيط، وقلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعليه أو زيادة على نحو ما نرى في الشطر الأول من هذا المطلع، وعلى غرارها قصيدة تنسب لامرئ القيس مطلعها:
عيناك دمعهما سجال ........ كأن شأنيهما أو شال
ومثلهما في هذا الاضطراب قصيدة المرقش الأكبر:
هل بالديار أن تجيب صمم .....لو كان رسم ناطقًا كلم
فهي من وزن السريع، وخرجت شطور بعض أبياتها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت:
ما ذنبنا في أن غزا ملك....... من آل جفنة حازم مرغم
فإنه من وزن الكامل. وعلى هذه الشاكلة قصيدة عدي بن زيد العباد:
تعرف أمس من لميس الطلل ....... مثل الكتاب الدارس الأحول
فهي من وزن السريع وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذاالبيت:
أنعم صباحًا علقم بن عدي.......أثويت اليوم أم ترحل
فإنه من وزن المديد. ويماثل هذه القصيدة في اختلال الوزن قصيدته:
قد حان أن تصحو أو تقصر .............وقد أتى لما عهدت عصر
ومن هذا الباب نونية سُلميّ بن ربيعة التي أنشدها أبو تمام في الحماسة:
(إن شواء ونشوة وخبب البازل الأمون) ، فقد لاحظ التبريزي والمرزوقي أنها خارجة عن العروض التي وضعها الخليل واضطراب هذه القصائد في أوزانها مما يدل على صحتها وأن أيدي الرواة لم تعبث بها. ومعروف أن الزحافات تكثر في الشعر الجاهلي؛ بل في الشعر العربي بعامة، ومما كان يشيع بينهم الإقواء، وهو اختلاف حركة الروي في القصيدة كقول امرئ القيس في معلقته يصف جبل أبان:
كأَن أبانًا في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل
فقد ضم اللام في نهاية البيت، وهي مكسورة في المعلقة جميعها. وفي رأينا أن احتفاظ الشعر الجاهلي بهذه العيوب العروضية مما يؤكد صحته في الجملة وأن الرواة لم يصلحوه إصلاحًا واسعًا، ومهما يكن فليس بين أيدينا أشعار تصور مرحلة غير ناضجة من نظام الوزن والقافية في الجاهلية؛ فإن هؤلاء الشعراء الذين رويت عنهم تلك القصائد المضطربة في وزنها روي عنهم قصائد كثيرة مستقيمة في وزنها وقوافيها؛ مما يدل على أن ذلك كان يأتي شذوذًا وفي الندرة. والرجز أقدم أوزان الشعر العربي، وأنه تولَّد من السجع، مرتبطًا بالحداء ووقع أخفاف الإبل في أثناء سيرها وسُرَاها في الصحراء، ومنه تولدت الأوزان الأخرى؛ وإن الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعًا في الجاهلية؛ إذ كانوا يرتجلونه في كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم في السلم والحرب، والحق أنه ليس بين أيدينا شيء من وزن أو غير وزن يدل على طفولة الشعر الجاهلي وحقبه الأولى، وكيف تم له تطوره حتى انتهى إلى هذه الصورة النموذجية التي تلقانا منذ أوائل العصر الجاهلي ، أو بعبارة أخرى منذ أوائل القرن السادس الميلادي. ونحن لا نستطيع أن نحصي من جرى لسانهم بالشعر حينئذ؛ فقد كانوا كثيرين، وكانت تشركهم فيه النساء مثل الخنساء، وكان ينظمه سادتهم وصعاليكهم. ويخيل إلى الإنسان أن الشعر لم يكن يستعصي على أحد منهم، وعدَّ ابن سلام في طبقاته أربعين من فحولهم وفحول المخضرمين(من عاشوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام ) ، وقد جعلهم في عشر طبقات وجعل في كل طبقة أربعة، وأضاف إليهم نشأة الشعر الجاهلي وتفاوته في القبائل لأربعة من أصحاب المراثي كما أضاف تسعة في مكة المكرمة ، وخمسة في المدينة المنورة –يثرب-وخمسة في الطائف وثلاثة في البحرين، وعد لليهود ثمانية. ومن يرجع إلى هؤلاء الشعراء يجد بينهم البدوي والحضري كما يجد بين البدو اليمني والربعي والمضري . ومن المحقق أنه فقد كثير من الشعر الجاهلي؛ إذ عدت عليه عوادي الرواية وتلك الرحلة الطويلة التي قطعها من الجاهلية إلى عصور التدوين، ويروى عن أبي عمرو ابن العلاء أنه كان يقول: "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير". ومشكلة أولية هذا الشعر وما بعد الأولية في مشكلة شائكة. ومع أنه لا يمكن لنا أن ننكر وجود الكتابة, ولكنه ينفي أن نذهب إلى أنها كانت تستخدم في تدوين الشعر في ذلك العصر، وإن كان بعضهم قد استخدامها في كتابة شعره, وأن أولية الشعر تبعاً لنظرية عربية قديمة, هي رأي ابن سلام في أنَّ "الشعر العربي بدأ في صورة مقطوعات قصيرة أو أبيات قليلة العدد يرتجلها الشاعر في مناسبات طارئة ليعبر بها عن انطباعات سريعة مؤقتة"، مع أن الآراء الحديثة تذهب إلى أن الرجَز كان الصورة الأولى للشعر العربي في بدايته. وعلى الرغم من أن النظرية الحديثة لا يطمئن إليها بعض الباحثين, ويرون أنها مجرّد فرض، وأن شيوع الرجز لا يعني قدمه وسبقه للأوزان الأخرى, إلّا أن الدكتور خليف يرى فيها "أساسًا صالحًا لحل المشكلة, ويتخذ منها قاعدة سليمة لتصور الموقف، وتتبع للطريق الذي سلكه الشعر العربي منذ البداية، أو على الأقل للاقتراب من الحقيقة الضائعة المجهولة التي طوتها أستار الزمن البعيد"، وهو بهذا يلتقي مع بعض المستشرقين . ويرى أن العرب عرفوا الرجز منذ أن عرفوا الحداء, وهي قضية تنتهي بنا إلى نتيجة حتمية لا مفر منها، وهي أن الرجز العربي قديم موغل في القدم, ولكنه لا يملك أن يؤكد هذه الحقيقة، وكل ما يملك قوله: "لعلها الحقيقة" لعدم توفر الأدلة والنصوص اليقينية الثابتة"4.وفي رأي الدكتور خليف أن هذه المرحلة التي شهدت الأولية الناضجة للشعر الجاهلي كانت هناك عوامل متعددة هيَّأت لظهوره في هذه الصورة الناضجة حين أتاحت الفرصة لظهور لغة أدبية موحَّدة توحدت فيها لغات القبائل وذابت لهجاتها، واختفت منها الفروق اللغوية التي تعددت بسببها هذه اللهجات، فكانت صالحة لاتخاذها لغة الشعر والتسامي بها عن لهجاتهم المحلية, وكأنما عرفت الجزيرة ازدواجًا لغويًّا في هذه المرحلة، وهكذا فقد اكتملت القصيدة العربية في أواخر القرن الخامس الميلادي بعد توافر العوامل السياسية والاقتصادية والدينية التي أظهرت لغة قريش لغة أدبية موحدة, فرضت نفسها على المجتمع الجاهلي كله؛ حيث اصطلح الشعراء في الشمال والجنوب على اتخاذها لغة شعرهم، وراحت القصيدة الجاهلية تأخذ طريقها بعد ذلك نحو تطور طبيعي لم يكن بد منه, أي: إن القصيدة مرت بمرحلتين:
1- مرحلة النضج الطبيعي التي يمثلها امرؤ القيس وطرفة والمرقشان وعبيد وعلقمة.
2- مرحلة النضج الصناعي التي بدأت مع الطفيل الغنوي وأوس بن حجر, وبلغت ذروتها عند زهير, ويمثلها: زهير والنابغة الذبياني وعنترة ولبيد. ومن اليسير ملاحظة الظاهرتين التاليتين في الشعر الجاهلي:
1- ظاهرة المنهج الثابت للقصيدة الجاهلية.
2- ظاهرة العقد الفني بين الشاعر الجاهلي وقبيلته.
وفي ضوء هاتين الظاهرتين نستطيع أن نلاحظ أن "القصيدة الجاهلية تنحلّ إلى قسمين أساسيين: قسم ذاتي يتحدث فيه الشاعر عن نفسه، يصور فيه عواطفه ومشاعره وانفعالاته, ونضع فيه المقدمات ووصف الرحلة الصحراء, وقسم آخر غيري يتحدث فيه الشاعر عن قبيلته وفاءً بهذا العقد الفني بينه وبينها، أو يعرض فيه للمدح أو الاعتذار. أما المقدمات4 فهي تارة طللية وهي الغالبة، تارة غزلية، وأخرى همزية، وهناك مقدمات فروسية، وأخرى في بكاء الشباب الضائع والحسرة على أيامه الخالية. وهناك مقدمات تدور حول زيارة طيف الحبيبة البعيد لصاحبها في أحلامه على نحو ما نرى في تأبط شرًّا "القافية". ويمكن رد هذه الاتجاهات جميعًا في المقدمات إلى ثلاثة دوافع أساسية: المرأة, والخمر، والفروسية. ويعلل القسم الذاتي في القصيدة الجاهلية "المقدمة وما يتصل بها من حديث الصحراء" بمحاولة لإثبات وجود الشاعر الجاهلي أمام مشكلة الفراغ في حياته، وهي مشكلة لم يجد لها حلًّا إلّا عن طريق هذه المتع التي لم يجد مكانًا للتعبير عنها في زحمة الالتزامات القبلية إلّا في مقدمات قصائده، ومن هنا كان طبيعيًّا أن تخلو قصائد الرثاء من هذه المقدمات؛ لأن مقامها ليس مقام لهو أو متعة، ولأن الموت الذي يتحدث عنه الشاعر قد وضع حلًّا نهائيًّا لمشكلة الفراغ التي كان يحاول بوسائله المختلفة أن يجد حلًّا لها، وهي سائل لم يعد للحديث عنها مكان في هذه القصائد. ويحاول الدكتور خليف أن يدرس مقدمة الأطلال دراسة موضوعية وفنية، فيرى فيها أولًا كثرة في الظهور؛ لأنها وجدت هوى شديدًا في نفوس الشعراء الجاهليين لارتباطها ببيئتهم المادية, وطبيعة حياتهم الاجتماعية؛ إذ هي تعبير عن تلك الظاهرة الطبيعية في المجتمع البدوي، وظاهرة "الحركة" التي كانت نتيجة طبيعية للتفاعل الحتميّ بين البيئة والحياة , وقد استطاع شعراء المرحلة الفنية الأولى أن يرسوا دعائم هذه المقدمة، وأن يحققوا لها طائفة من مقوماتها وتقاليدها الفنية التي استقرت لها بعد ذلك، والتي أصبحت معالم ثابتة في طريق الشعر العربي القديم، ويهتدي بها الشعراء في سبيل تحقيق الصورة الكلاسيكية لأعمالهم الفنية, أي: إنهم حقَّقوا لها إطارها الشكلي ومضمونها الموضوعي. وتتراءى قطعان الظباء والبقر الوحشي آمنة في مسارحها وكأنها البقية الباقية من مظاهر الحياة في هذه الأطلال الموحشة الصامتة، أو كأنها تجسيم حي للحسرة التي تملأ على الشاعر أرجاء نفسه، وهو يرى هذه الأطلال وقد خلت من صاحبته التي تعيش في أعماقه رمزًا للماضي السعيد الذي ذهب إلى غير رجعة. أما أسماء المواضع والأماكن التي تقع بينها الأطلال, وتحديدها تحديدًا جغرافيًّا دقيقًا فتعلل بأنها نموذج حي للواقعية في ذلك الشعر الجاهلي، كما أنها ترتبط بنفسية الشاعر الذي يتمثل هذه المواضع قطعة من نفسه، ففيها عاش أيامه الجميلة. وتطوَّرت المقدمة مع التطور الفني الذي أصاب الشعر الجاهلي عند شعراء ( مدرسة الصنعة أو عبيد الشعر) ، وإن أروع ما وصل إلينا من المقدمات الطللية في هذه المرحلة "مدرسة الصنعة", وهي مقدمة زهير لما ضمَّنها من طاقة تعبيرية تصويرية بارعة, وزهير يرسم منظرين أساسين: الأطلال في صمتها وسكونها، ومنظر صاحبة الأطلال في رحلتها المندفعة في الصحراء. وتتميز مقدمات الشاعر لبيد بن الأعصم، بأن فيها تعبيرًا عن فتنة الشاعر بالطبيعة فتنة طاغية جعلت الطبيعة تشغله عن الأطلال وصاحبة الأطلال ، والشاعر بذلك قد "عقدًا اجتماعيًّا" بينه وقبيلته، وكان نتيجته أن قام "عقد فني" فرض عليه ألّا يتحدث عن نفسه، وإنما يتحدث عن قبيلته, وأصبح ضمير الجماعة "نحن" أداة التعبير بدلًا من ضمير الفرد "أنا", وأصبحت "صناديق أصباغه" مستعارة من قبيلته وليست صادرة عن نفسه. ولكن ذلك لم ينف وجود شعر يصور شخصيات أصحابه أو حياتهم الخاصة. أما الصوت الأقوى والأوضح, فكان صوت المجموع. وهكذا وجد ما يمكن تسميتهم بـ "أصحاب المذهب القبلي في الشعر" أو "شعراء القبائل", وفي مقابل هؤلاء وجد أيضًا "أصحاب المذهب الفردي", ومثال المجموعة الأولى: عمرو بن كلثوم وغيره كثيرون, ومثال المجموعة الثانية: امرؤ القيس وطرفة. وإلى جانب هاتين الطائفتين وجدت طائفتان أخريان من الشعراء، بالغت إحداهما في التمسُّك بالشخصية القبلية, وبالغت الأخرى في الاعتداد بالشخصية الفردية. أما الطائفة الأولى: فهي تريد من قبائلها أن تبالغ في الحرص على "العقد الاجتماعي" القائم بينها وبينهم, ولا تفرط فيه, بحيث يكون ملزمًا لها في كل الظروف، حتى لو تصرّف الفرد تصرفًا منكرًا لا تقره تقاليدها، ومثالها: شاعر الحماسة "قري بن أنيف" أحد بني العنبر الذي يقول:
لو كنت من مازن لم يستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إلخ الأبيات. وأما الطائفة الأخرى: فهم "الشعراء الصعاليك" الذين بالغوا في فهم الشخصية الفردية، وتمردوا على النظام القبلي. ويمكن تقسم الشعر في هذا العصر الجاهلي إلى :
1- عصر حرب البسوس : الذي شهد ميلاد القصيدة العربية الأولى عند المهلهل ومعاصريه من شعراء هذه الحرب , ويمتد هذا العصر ليغطي فترة ما بين حرب البسوس وحرب داحس والغبراء؛ حيث تَمَّ نضج ( مدرسة الطبع الجاهلية ) التي تكاملت على يد امرئ القيس وأضرابه, وأخذت القصيدة شكلها النهائي الذي استقرَّ لها بعد ذلك, كما ظهرت طلائع ( مدرسة الصنعة ) وروادها الأوائل، وهم الطفيل الغنوي وأوس بن حجر وأضرابهما.
2- عصر حرب داحس والغرباء : الذي شهد ازدهار( مدرسة الصنعة ) التي حوّلت مجرى الشعر الجاهلي في فترة ما بين الحربين، وسلمت أدواتها إلى شعراء هذه الحرب يعكفون عليه, وقد بلغت المدرسة الجديدة على أيديهم قمة نضجها, ومنهم: زهير وعنترة والنابغة.
3- عصر ذي قار: الذي يمثل أواخر العصر الجاهلي حتى ظهور الإسلام، وفيه ظهرت ( مدرسة التقليد ) التي استطاعت أن تتمثل تمثلًا واضحًا تقاليد المدرستين السابقتين، ومنهم: حسّان ولبيد والأعشى.، والمتصفح للقصيدة العربية الجاهلية يكتشف:
1- إن البناء الفني للقصيدة العربية القديمة يكشف لنا عن امتزاج الشخصيتين الفردية والقبلية العامة وتمثلها عبر تجارب زمنية طويلة وعريقة، في مجموعة أغراض تكشف عن وجود الذات الشاعرة وذوات القبيلة، فالمقدمة الغزلية إنما هي صورة الشخصية الفردية النابعة من إيمان العربي المطلق وحقه الفطري بحريته الشخصية، في حين يمثل المدح والفخر القبلي والهجاء القبلي والحماسة صورة من صور الشخصية القبلية.
2- إن المقدمة الغزالية برنتها الحزينة وصرخة ألمها الواضحة في مقاطعها الكثيرة تدل على أن الشاعر الجاهلي إنما يتغزّل ليرثي نفسه، ويصور بعض وجوه القلق، حيث يجد في ذلك التصوير راحة نفسية.
3- أن رنَّة الحزن والألم في القصيدة العربية في عصورها الحضارية المختلفة والمتمثلة في شعر الغزل ومطالعه الكثيرة, وفي غرض الرثاء وقصائده المتعددة, على أنها رثاء لنفس الشاعر في قلقها ومخاوفها, ومن وجودها وانتقاليتها وما تخلقه في نفس المحب من خيبة أمل
4- إن المرثاة الغزلية في الأدب العربي عندما تعبِّر عن الأسماء والندب والنواح, أو عندما تصور مشاعر الحب بين الحبيب والحبيبة إنما هي صورة واقعية من صور الشعر العربي الذي يشاركه في بعض خصائصه الإنسانية أشعار الأمم والشعوب الأخرى من غنائيته وواقعيته في التعبير عن هذه العاطفة التي لا تخلو منها نفوس البشر
5- ليس من شكٍّ في أن عنصر الحرب في العصرين الجاهلي والإسلامي قد غذَّى تلك المقطعات الغنائية بروح الرثاء وتمجيد الفروسية والبطولة والقيم الأخلاقية والمثل العليا التي تعتز بها المرأة الشاعرة . والعمل الفني في القصيدة الجاهلية يبقى مشدودًا إلى وحدة موضوعية ، والمؤشِّر الرئيس للوحدة الفنية والنفسية في القصيدة الجاهلية هو التجربة الموضوعية التي تستثير الشاعر إلى القول, وتحتل معاناته في مقطع الغرض من قصيدته مدارًا أصيلًا في بيعة الانتقاد والتوجه في مرحلتي الافتتاح والرحلة , أما الذي منح القصيدة الجاهلية قدرتها على التأثير الحاسم في الفكر الاجتماعي أنها ظلت تمثل سلطة "العرف" القادر على استقطاب الرغبة والرهبة في ظروف غياب السلطة التنفيذية المركزية التي تستند إلى قانون مثبت أو سنة مدونة. وهكذا كان "حسن الثناء" رائدًا اجتماعيًّا حاسمًا يشخصه قول السموءل بن عادياء "اللامية". وأما المنهج المؤهل لفهم القصيدة الجاهلية, فهو رهن باستلهام خصوصية الظرف الذي انبثقت عنه، واستقصاء الأرضية الفكرية والثقافية التي ظلت ترفد الأعمال الإبداعية ببعض مقوماتها، فضلًا عن دراسة آفاق الطموح التي ظلّ العمل الإبداعي مشدودًا إليها, فمن خلال هذه المنافذ وحدها نستطيع أن نطل على عالم فسيح يحدد أبعاد هذه الأنماط الخالدة من الأعمال الإبداعية الملهمة في تراثنا الفكري الأصيل.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)