النضج الطبعي والصناعي
للشعر الجاهلي

في رأي ابن سلام أنَّ "الشعر العربي بدأ في صورة مقطوعات قصيرة أو أبيات قليلة العدد يرتجلها الشاعر في مناسبات طارئة ليعبر بها عن انطباعات سريعة مؤقتة"، كما يعرض للنظرية الحديثة التي تذهب إلى أن الرجَز كان الصورة الأولى للشعر العربي في بدايته. وعلى الرغم من أن النظرية الحديثة لا يطمئن إليها بعض الباحثين, ويرون أنها مجرّد فرض، وأن شيوع الرجز لا يعني قدمه وسبقه للأوزان الأخرى, إلّا أن الدكتور خليف يرى فيها "أساسًا صالحًا لحل المشكلة, ويتخذ منها قاعدة سليمة لتصور الموقف، وتتبع للطريق الذي سلكه الشعر العربي منذ البداية، أو على الأقل للاقتراب من الحقيقة الضائعة المجهولة التي طوتها أستار الزمن البعيد" , وهو بهذا يلتقي مع بعض المستشرقين. ويرى أن العرب عرفوا الرجز منذ أن عرفوا الحداء, وهي قضية تنتهي بنا إلى نتيجة حتمية لا مفر منها، وهي أن الرجز العربي قديم موغل في القدم, ولكنه لا يملك أن يؤكد هذه الحقيقة، وكل ما يملك قوله: "لعلها الحقيقة" لعدم توفر الأدلة والنصوص اليقينية الثابتة". وفي رأي الدكتور خليف أن هذه المرحلة التي شهدت الأولية الناضجة للشعر الجاهلي كانت هناك عوامل متعددة هيَّأت لظهوره في هذه الصورة الناضجة حين أتاحت الفرصة لظهور لغة أدبية موحَّدة توحدت فيها لغات القبائل وذابت لهجاتها، واختفت منها الفروق اللغوية التي تعددت بسببها هذه اللهجات، فكانت صالحة لاتخاذها لغة الشعر والتسامي بها عن لهجاتهم المحلية, وكأنما عرفت الجزيرة ازدواجًا لغويًّا في هذه المرحلة. وهكذا فقد اكتملت القصيدة العربية في أواخر القرن الخامس الميلادي بعد توافر العوامل السياسية والاقتصادية والدينية التي أظهرت لغة قريش لغة أدبية موحدة, فرضت نفسها على المجتمع الجاهلي كله؛ حيث اصطلح الشعراء في الشمال والجنوب على اتخاذها لغة شعرهم، وراحت القصيدة الجاهلية تأخذ طريقها بعد ذلك نحو تطور طبيعي لم يكن بد منه, أي: إن القصيدة مرت بمرحلتين:
1- مرحلة النضج الطبيعي التي يمثلها امرؤ القيس وطرفة والمرقشان وعبيد وعلقمة.
2- مرحلة النضج الصناعي التي بدأت مع الطفيل الغنوي وأوس بن حجر, وبلغت ذروتها عند زهير, ويمثلها: زهير والنابغة الذبياني وعنترة ولبيد. ومن اليسير ملاحظة الظاهرتين التاليتين في الشعر الجاهلي:
1- ظاهرة المنهج الثابت للقصيدة الجاهلية.
2- ظاهرة العقد الفني بين الشاعر الجاهلي وقبيلته.
وفي ضوء هاتين الظاهرتين نستطيع أن نلاحظ أن "القصيدة الجاهلية تنحلّ إلى قسمين أساسيين: قسم ذاتي يتحدث فيه الشاعر عن نفسه، يصور فيه عواطفه ومشاعره وانفعالاته, ونضع فيه المقدمات ووصف الرحلة الصحراء, وقسم آخر غيري يتحدث فيه الشاعر عن قبيلته وفاءً بهذا العقد الفني بينه وبينها، أو يعرض فيه للمدح أو الاعتذار. أما المقدمات4 فهي تارة طللية وهي الغالبة، تارة غزلية، وأخرى همزية، وهناك مقدمات فروسية، وأخرى في بكاء الشباب الضائع والحسرة على أيامه الخالية. وهناك مقدمات تدور حول زيارة طيف الحبيبة البعيد لصاحبها في أحلامه على نحو ما نرى في تأبط شرًّا "القافية". ويمكن رد هذه الاتجاهات جميعًا في المقدمات إلى ثلاثة دوافع أساسية: المرأة, والخمر، والفروسية. ويعلل الباحث القسم الذاتي في القصيدة الجاهلية "المقدمة وما يتصل بها من حديث الصحراء" إنما هو محاولة لإثبات وجود الشاعر الجاهلي أمام مشكلة الفراغ في حياته، وهي مشكلة لم يجد لها حلًّا إلّا عن طريق هذه المتع التي لم يجد مكانًا للتعبير عنها في زحمة الالتزامات القبلية إلّا في مقدمات قصائده، ومن هنا كان طبيعيًّا أن تخلو قصائد الرثاء من هذه المقدمات؛ لأن مقامها ليس مقام لهو أو متعة، ولأن الموت الذي يتحدث عنه الشاعر قد وضع حلًّا نهائيًّا لمشكلة الفراغ التي كان يحاول بوسائله المختلفة أن يجد حلًّا لها، وهي سائل لم يعد للحديث عنها مكان في هذه القصائد. ويحاول الدكتور خليف أن يدرس مقدمة الأطلال دراسة موضوعية وفنية، فيرى فيها أولًا كثرة في الظهور؛ لأنها وجدت هوى شديدًا في نفوس الشعراء الجاهليين لارتباطها ببيئتهم المادية, وطبيعة حياتهم الاجتماعية؛ إذ هي تعبير عن تلك الظاهرة الطبيعية في المجتمع البدوي، وظاهرة "الحركة" التي كانت نتيجة طبيعية للتفاعل الحتميّ بين البيئة والحياة, وقد استطاع شعراء المرحلة الفنية الأولى أن يرسوا دعائم هذه المقدمة، وأن يحققوا لها طائفة من مقوماتها وتقاليدها الفنية التي استقرت لها بعد ذلك، والتي أصبحت معالم ثابتة في طريق الشعر العربي القديم، ويهتدي بها الشعراء في سبيل تحقيق الصورة الكلاسيكية لأعمالهم الفنية, أي: إنهم حقَّقوا لها إطارها الشكلي ومضمونها الموضوعي. وتتراءى قطعان الظباء والبقر الوحشي آمنة في مسارحها وكأنها البقية الباقية من مظاهر الحياة في هذه الأطلال الموحشة الصامتة، أو كأنها تجسيم حي للحسرة التي تملأ على الشاعر أرجاء نفسه، وهو يرى هذه الأطلال وقد خلت من صاحبته التي تعيش في أعماقه رمزًا للماضي السعيد الذي ذهب إلى غير رجعة. أما أسماء المواضع والأماكن التي تقع بينها الأطلال, وتحديدها تحديدًا جغرافيًّا دقيقًا فتعلل بأنها نموذج حي للواقعية في ذلك الشعر الجاهلي، كما أنها ترتبط بنفسية الشاعر الذي يتمثل هذه المواضع قطعة من نفسه، ففيها عاش أيامه الجميلة. وتطوَّرت المقدمة مع التطور الفني الذي أصاب الشعر الجاهلي عند شعراء مدرسة الصنعة أو عبيد الشعر، وفي رأي الباحث أن أروع ما وصل إلينا من المقدمات الطللية في هذه المرحلة "مدرسة الصنعة", وهي مقدمة زهير لما ضمَّنها من طاقة تعبيرية تصويرية بارعة, وزهير يرسم منظرين أساسين: الأطلال في صمتها وسكونها، ومنظر صاحبة الأطلال في رحلتها المندفعة في الصحراء. وتتميز مقدمات لبيد بأن فيها تعبيرًا عن فتنة الشاعر بالطبيعة فتنة طاغية جعلت الطبيعة تشغله عن الأطلال وصاحبة الأطلال, ويتناول الباحث المقدمات الأخرى ويمثّل بأمثلة من الشعر الجاهلي. وأما القضية الرابعة "الشعر الجاهلي بين القبيلة والفردية": فخلاصة رأيه أن "عقدًا اجتماعيًّا" عقد بين الشاعر وقبيلته، وكان نتيجته أن قام "عقد فني" فرض عليه ألّا يتحدث عن نفسه، وإنما يتحدث عن قبيلته, وأصبح ضمير الجماعة "نحن" أداة التعبير بدلًا من ضمير الفرد "أنا", وأصبحت "صناديق أصباغه" مستعارة من قبيلته وليست صادرة عن نفسه. ولكن ذلك لم ينف وجود شعر يصور شخصيات أصحابه أو حياتهم الخاصة. أما الصوت الأقوى والأوضح, فكان صوت المجموع. وهكذا وجد ما يمكن تسميتهم بـ "أصحاب المذهب القبلي في الشعر" أو "شعراء القبائل", وفي مقابل هؤلاء وجد أيضًا "أصحاب المذهب الفردي", ومثال المجموعة الأولى: عمرو بن كلثوم وغيره كثيرون, ومثال المجموعة الثانية: امرؤ اليس وطرفة. وإلى جانب هاتين الطائفتين وجدت طائفتان أخريان من الشعراء، بالغت إحداهما في التمسُّك بالشخصية القبلية, وبالغت الأخرى في الاعتداد بالشخصية الفردية. أما الطائفة الأولى: فهي تريد من قبائلها أن تبالغ في الحرص على "العقد الاجتماعي" القائم بينها وبينهم, ولا تفرط فيه, بحيث يكون ملزمًا لها في كل الظروف، حتى لو تصرّف الفرد تصرفًا منكرًا لا تقره تقاليدها، ومثالها: شاعر الحماسة "قري بن أنيف" أحد بني العنبر الذي يقول:
لو كنت من مازن لم يستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إلخ الأبيات. وأما الطائفة الأخرى: فهم "الشعراء الصعاليك" الذين بالغوا في فهم الشخصية الفردية، وتمردوا على النظام القبلي. وما تبقَّى من الدراسة يفرده الباحث لطرح نظرية جديدة في تقسيم جديد للعصر الجاهلي فنيًّا. ويعترف الباحث بأنه لو توفَّر له جهود القدماء في جمعهم أشعار القبائل لفضَّل توزيعهم على أساس قبلي، ولكنها ضاعت. لذلك فهو يقترح تصنيفًا جديدًا يقسم الشعر في هذا العصر إلى ثلاثة عصور متميزة, نستطيع من خلالها متابعة حركة الشعر وتطوره الفني فيه، وهذه العصور هي:
1- عصر حرب البسوس: الذي شهد ميلاد القصيدة العربية الأولى عند المهلهل ومعاصريه من شعراء هذه الحرب, ويمتد هذا العصر ليغطي فترة ما بين حرب البسوس وحرب داحس والغبراء؛ حيث تَمَّ نضج مدرسة الطبع الجاهلية التي تكاملت على يد امرئ القيس وأضرابه, وأخذت القصيدة شكلها النهائي الذي استقرَّ لها بعد ذلك, كما ظهرت طلائع مدرسة الصنعة وروادها الأوائل، وهم الطفيل الغنوي وأوس بن حجر وأضرابهما.
2- عصر حرب داحس والغبراء: الذي شهد ازدهار مدرسة الصنعة التي حوّلت مجرى الشعر الجاهلي في فترة ما بين الحربين، وسلمت أدواتها إلى شعراء هذه الحرب يعكفون عليه, وقد بلغت المدرسة الجديدة على أيديهم قمة نضجها, ومنهم: زهير وعنترة والنابغة.
3- عصر ذي قار: الذي يمثل أواخر العصر الجاهلي حتى ظهور الإسلام، وفيه
ظهرت مدرسة التقليد التي استطاعت أن تتمثل تمثلًا واضحًا تقاليد المدرستين السابقتين، ومنهم: حسّان ولبيد والأعشى. وتناول الدكتور عناد غزوان إسماعيل "المرثاة الغزلية في الشعر العربي"1, فرأى فيها رنة حزينة باكية تبدو في بعض الأحيان مظهرًا سوداويًا يصور بعض تشاؤمية الشاعر في نظرته إلى المرأة والجمال، وهنا، كما يرى الباحث، يلعب العامل الاجتماعي والنفسي دورًا كبيرًا في خلق وتجسيد مفهوم الألم في المقدمة الغزلية. ولعل أهم ما جاء في هذه الدراسة:
1- إن البناء الفني للقصيدة العربية القديمة يكشف لنا عن امتزاج الشخصيتين الفردية والقبلية العامة وتمثلها عبر تجارب زمنية طويلة وعريقة، في مجموعة أغراض تكشف عن وجود الذات الشاعرة وذوات القبيلة، فالمقدمة الغزلية إنما هي صورة الشخصية الفردية النابعة من إيمان العربي المطلق وحقه الفطري بحريته الشخصية، في حين يمثل المدح والفخر القبلي والهجاء القبلي والحماسة صورة من صور الشخصية القبلية.
2- إن المقدمة الغزلية برنتها الحزينة وصرخة ألمها الواضحة في مقاطعها الكثيرة تدل على أن الشاعر الجاهلي إنما يتغزّل ليرثي نفسه، ويصور بعض وجوه القلق، حيث يجد في ذلك التصوير راحة نفسية.
3- إن بحثه هذا يحاول فهم رنَّة الحزن والألم في القصيدة العربية في عصورها الحضارية المختلفة والمتمثلة في شعر الغزل ومطالعه الكثيرة, وفي غرض الرثاء وقصائده المتعددة, على أنها رثاء لنفس الشاعر في قلقها ومخاوفها, ومن وجودها وانتقاليتها وما تخلقه في نفس المحب من خيبة أمل.
4- إن المرثاة الغزلية في الأدب العربي عندما تعبِّر عن الأسماء والندب والنواح, أو عندما تصور مشاعر الحب بين الحبيب والحبيبة إنما هي صورة واقعية من صور الشعر العربي الذي يشاركه في بعض خصائصه الإنسانية أشعار الأمم والشعوب الأخرى من غنائيته وواقعيته في التعبير عن هذه العاطفة التي لا تخلو منها نفوس البشر.
5- ليس من شكٍّ في أن عنصر الحرب في العصرين الجاهلي والإسلامي قد غذَّى تلك المقطعات الغنائية بروح الرثاء وتمجيد الفروسية والبطولة والقيم الأخلاقية والمثل العليا التي تعتز بها المرأة الشاعرة . أما الدكتور محمود الجادر فله في مجال دراسة الأدب الجاهلي الدراسات التالية:
"قراءة معاصرة في مقدمة القصيدة الجاهلية" و"الفن القصص في القصيدة الجاهلية" و"نحو منهج عربي في دراسة القصيدة الجاهلية" و"قراءة معاصرة في مقدمة القصيدة الجاهلية".
أما البحث الأول: فإن الباحث يقرر منذ البداية أن العمل الفني في القصيدة الجاهلية يبقى مشدودًا إلى وحدة موضوعية لعلَّها تعجز عن غير المتخصصة، فثمَّة عائقان يقفان بيننا وبين مناخ إثبات حضورٍ جادٍّ في قناعتنا المعاصرة، من خلال القراءة، والوحدة المفترضة في العمل الفني في القصيدة الجاهلية.
أولهما: عبث الأيام بالموروثات وتشويه معالمه.
والثاني: تميز موقع نظرنا المعاصر من موقع نظر الشاعر الجاهلي إلى طبيعة الوحدة الموضوعية للعمل الشعري. وإن الحقائق كلها -من وجهة نظره- تشير إلى أن محور معاناته الفكرية قام على حقيقة بسيطة، وهي الانشداد إلى الفناء المطلق في الهوية الاجتماعية المتمثلة في الرابطة القبلية، ولكن هذا الإنشداد لا يلغي الجانب الذاتي المحض في العمل، ولكن المقدمة قد تحتمل ذاتيًّا أكبر من القدر المتاح في الغرض. والمؤشِّر الرئيس للوحدة الفنية والنفسية في القصيدة الجاهلية هو التجربة الموضوعية التي تستثير الشاعر إلى القول, وتحتل معاناته في مقطع الغرض من قصيدته مدارًا أصيلًا في بيعة الانتقاد والتوجه في مرحلتي الافتتاح والرحلة. وأما رأيه في المقدمة، أو الصورة الطللية، آلت إلى شعراء مرحلة نضج القصيدة الجاهلية تراثًا تقليديًّا يمتلك القدرة على استعياب آثار الآثار النفسية الشفافة التي تنبثق في لحظات محاولة استرجاع صور الماضي المفقود, فتستنزف جهد الشاعر رغم بعدها النسبي عن طبيعة تجربته الآنية، لأنها تبدو مهيأة لاستيعاب الزخم النفسي غير المرتبط إلى أية دلالة موضوعية حاسمة في أغلب الأحيان، ولكنها تقدم مؤشرًا واضحًا إلى عمق ارتباط الشاعر بالبيئة التي ظلّت تواجه حياته, يتحدى الرحيل الأبدي وترفد صيغته الطللية بتفاصيل المعاناة، وأما ارتباط المرأة بالصيغة الطللية فإنه يبدو منبثقًا عن ارتباط منابع الحنين إلى الاستقرار ووحدتها النفسية رغم تشبعها الموضوعي, ولذا فلا طلل نجده في قصائد الرثاء والحماسة والهجاء. وخلاصة رأيه رفض التسميات التقليدية, وتقرير أن ينظر إلى الافتتاح على أنه ميدان حديث الذاكرة، وأن ينظر إلى تفاصيله من خلال فهم تكوين الشاعر النفسي والاجتماعي, فضلًا عن فهم طبيعة التجربة الآنية التي يفترض أن تنبثق من خلال وحدة موضوعية تفرض على الشاعر اختيارًا دون غيره في عمله الإبداعي. ولعل أوثق هذه الدراسات صلةً بما نحن بصدده، هو مناهج دراسة الأدب الجاهلي، وهو دراسته الموسومة بـ "نحو منهج عربي في دراسة القصيدة الجاهلية"4, ويذكر في مقدمة بحثه بعض محاولات إرساء منهج جديد, وهي محاولة كلٍّ من الدكتور محمد النهويهي والدكتور عبد الله الطيب والدكتور مصطفى ناصف، ولكنه يرى في هذه الدراسات والمحاولات أنها ظلت قائمة على متابعة الجوانب الأدائية الخالصة. ويذهب الباحث إلى التمسُّك بالقول بأن تشخيص فعالية الجهد الحضاري ينبغي أن يقوم على ملاحظة طبائع العلاقات الاجتماعية والقومية والإنسانية، وتشخيص فعالية أبعاد الضوابط والقوانين المتحكمة فيها، ومدى انشدادها إلى صيغٍ متبلورة تحدد طموحًا إنسانيًّا داعيًا إلى إقامة مجتمع يتركز فيه الجهد الإنساني على توفير فرص الحياة الكريمة للفرد وللمجموع, من خلال استخدام متطور للخبرة الموروثة المكتسبة في ميادين توظيف القدرات الإنسانية, لمواجهة حقائق الحياة وتحدياتها وقوانينها المفروضة. والشعر -من وجهة نظره- يقف على ناصية طرفين متداخلين: يتمثّل أولهما في كونه صورة من صور التواصل بين حضارة الأمة وبين فعاليتها الفكرية المحددة بالظرف التاريخي. ويتمثل ثانيهما في كونه شاخصًا من شواخص هذه الفاعلية التاريخية, وفي تميزه منها بقدرته الاستثنائية على نقل أبعاد الطموح والتفاعل الإنساني التي تعجز كل النصوص الموروثة الأخرى عن تشخيص آثارها بصورة واضحة ودقيقة. ويزعم الباحث أن "أوليات الفكر الشعري ظلّت تمتد إلى تفاصيل الطموح الذي وجد طريقه الخفي إلى قصائد المديح والرثاء, فرسم من خلالها أبعاد الشخصية الاجتماعية المثلى، وحدد متطلبات "العرف" المفترضة في هذه الشخصية، وذلك منطق ينسحب على قصائد الفخر الشخصي والجماعي التي ظل الشاعر خلالها يقدّم صور الاستشراف الواعي لملامح الطموح, مستهديًا بمقومات الريادة الفكرية للقصيدة المهيأة للانتشار في الوعي الاجتماعي في ظل سلطة "العرف" الخارقة4، وفي رأيه أن هذا الفهم لطبيعة العمل الفكري في القصيدة الجاهلية سيكون كفيلًا بتفسير ظاهرة ضعف الشعر في المرحلة المبكرة من عصر صدر الإسلام. أما لوحات الافتتاح فتفصح عن عمق معاناة الغربة في تجربة الشاعر النفسية، وبذلك يتوجَّب علنيا أن نعيد النظر في تفاصيل الدراسات التقليدية, التي منحت الافتتاح بعد المباشرة الموضوعية المحدودة, حتى بدا الشاعر الجاهلي متهالكًا في عالم المرأة التي لم تكن إلّا عنصر إذكاء لمشاعر الحنين إلى الاستقرار، وفي رأيه أن هذا هو السر في تشتت رموزها وتعددها في ديوان الشاعر الواحد، وفي القصيدة الواحدة، بل في البيت الواحد أحيانًا. ويرى الباحث أن ثَمَّة رغبة فطرية في الانفلات من عالم الواقع إلى عالم أحلام اليقظة الذي يتخذ امتداد المتميز في العمل الفني، وبهذا التفسير وحده نستطيع أن نعلل انشداد بعض النماذج الجاهلية كالصعاليك مثلًا إلى تصوير عالم السعالي والجن, وعلاقات الشاعر ببعض كائناته الأسطورية. والرحلة في القصيدة ليست ذات مدلول واحد في الدواوين الجاهلية كلها، وإنما يجب البحث عن مفاتيح منطقية لتعليل امتدادها إلى تجارب شعرية لا حصر لها من الموروث، وذلك قد يعيننا على ملاحظة طبيعة تعامل الشاعر الجاهلي مع ناقته التي تغدو وسيلة من وسائل مواجهته لمواقف الصراع أو الانتقال إلى حلم اليقظة الموعود، ومنفذًا فينا لمعالجة التجربة الشعرية في مقطع الغرض "الشريحة الثالثة". وفي الشريحة الثالثة: يرى الباحث أن علينا أن نعيد النظر في صيغ القيم المطروحة في قصائد المديح والرثاء والفخر والهجاء, للإحاطة بأبعاد الشخصية الفردية والاجتماعية التي ظلّ وعي الشاعر مشدودًا إلى محاولة تحديدها, لرسم آفاق الغد الذي ينبغي للواقع أن يعبر إليه، وتلك هي المهمة الفكرية التي لا يريد أن تعلو فتزعم أنها كانت محور العمل الشعري. وذلك ما يفسّر لنا علة اتجاه عامة قصائد المديح والرثاء والفخر إلى رسم الشخصية الإيجابية من خلال سمات الكرم والشجاعة والنجدة, والقول الفصل وحماية الجار والحرص على القبيلة "نواة الانتماء القومي". أما الذي منح القصيدة الجاهلية قدرتها على التأثير الحاسم في الفكر الاجتماعي أنها ظلت تمثل سلطة "العرف" القادر على استقطاب الرغبة والرهبة في ظروف غياب السلطة التنفيذية المركزية التي تستند إلى قانون مثبت أو سنة مدونة. وهكذا كان "حسن الثناء" رائدًا اجتماعيًّا حاسمًا يشخصه قول السموءل بن عادياء "اللامية" . وأما المنهج المؤهل لفهم القصيدة الجاهلية, فهو رهن باستلهام خصوصية الظرف الذي انبثقت عنه، واستقصاء الأرضية الفكرية والثقافية التي ظلت ترفد الأعمال الإبداعية ببعض مقوماتها، فضلًا عن دراسة آفاق الطموح التي ظلّ العمل الإبداعي مشدودًا إليها, فمن خلال هذه المنافذ وحدها نستطيع أن نطل على عالم فسيح يحدد أبعاد هذه الأنماط الخالدة من الأعمال الإبداعية الملهمة في تراثنا الفكري الأصيل.




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)