أغراض الشعر الجاهلي
بقي الشعر الجاهلي أسير نزعات ورغبات وأهواء الإنسان في العصر الجاهلي ، يمثل نفسيـة هذا الإنسان وما يخالجها من عواطف وأحاسيس، ولذلك أطلق عليه مصطلح( الغنائية والوجدانية ) لأنّـه رافق المغنين والمنشدين، ولم يستقل عن الغناء إلا مع بداية الإسلام . يقول حسان بن ثابت :
تغن بالشعر إما أنت قائلـه إنّ الغناء لهذا الشعر مضمار
وقد أطلق على الشعر الجاهلي ديوان العرب ، لأنّه يمثل حياتهم ويصوّر مآثرهم أدق تصوير ، فكان الشعر بمثابة الصحافة اليوم , حيث كان الشاعر الجاهلي صحفيّ قومه ، أو وزير إعلام لقبيلته ينقل إلى الآخرين كل ما يتعلّق بمفاخر القوم ، وقد أثرت البيئة الجاهلية بمظاهرها المختلفة، في نفسية الشاعر الجاهلي، فحركت وجدانه، وألهبت عواطفه، وأثارت مشاعره، فانطلق لسانه مصورًا خلجات نفسه، ونبضات حسه في شتى المناسبات، فجاء الشعر الجاهلي حافلًا بمختلف العواطف الإنسانية، ومن دراسة هذا التراث الشعري، نجد أنهم تغنوا بطيب أعراقهم، ومكارم أخلاقهم، وأشادوا بأبطالهم وخلدوا أيامهم وأمجادهم، وتعالوا بما أحرزوه من نصر وغنائم، وغالوا في الحديث عن هزائم أعدائهم، وما نالهم من خسائر في الأرواح والأموال، وما كبلوا فيه من سلاسل وأغلال. وما سيموا به من الخزي والعار، وما سببوه لهم من هموم وأحزان بما توعدوهم به من تهديد، وذرفوا الدمع سخينًا على ضحاياهم، ذاكرين أفضالهم ومشيدين ببطولاتهم وتضحياتهم، آخذين العهد على أنفسهم بالثأر لهم في عشرات من أعدائهم، إلى أن تهدأ نفوسهم، ويطمئن بالهم، واعتذروا عما بدر مما لا يناسب الخلق الكريم، أو البطل العظيم، ومدحوا اعترافًا بالفضل، وتخليدًا للشهامة والمروءة ووصفوا كل ما وقعت عليه عيونهم من مظاهر الجمال، فأتوا في كل ذلك بروائع الصور، فامتلأ شعرهم بفنون عديدة من الشعر الغنائي، ففيه الوصف، والغزل، والفخر، والمدح، والهجاء والذم، والتهديد، والرثاء، والإنذار، والاعتذار، والنصح، والحكمة. وفي الشعر الجاهلي لا نجد الشاعر يؤلف قصيدته في غرض واحد من هذه الأغراض، فيندر أن نجد قصيدة، وبخاصة تلك الطوال، تتكون من غرض واحد، بل إن كل قصيدة كانت في معظم الأحوال تتألف من الحديث في أكثر من فن واحد من هذه الفنون، فتحتوي القصيدة الواحدة مثلًا على الغزل والوصف، والفخر والهجاء، والوعيد، وقد تشتمل على أغراض أكثر من هذه ، كل ذلك راجع لهوى الشاعر، وطواعية الشاعرية له، والمثيرات التي تهيج عاطفته، أو تحرك مشاعره. والشعر الجاهلي كله مكون من هذه العواطف والانفعالات، وقد جاءت فيه جميع الموضوعات التي يتألف منها الشعر الغنائي، وسنحاول فيما يلي أن نتحدث عن أغراض الشعر في العصر الجاهلي.
1-الشعر الحماسي:
وهو الشعر المتحدث عن تشجيع أفراد القبيلة لقتال العدو، ويمثل حقيقة الصراع القبلـي علـى أرض الجزيرة ، وما يحدث مـن وقائع بين تلك القبائل ، حيث يتطرق الشـاعر إلـى المثــل العليا المتمثلة بالشجاعة ، والبطولـة ، وخوض معامـع المــوت واستهانـة الإنسان الجاهلـي بأعدائه . والمتصفح لقصائد الجاهليين يجد أنّ معظم قصائدهم تتطرق إلـى غرض الحماسة كما عنـد الشـاعر عبد الشارق عبد العزى في وصف معركة جرت بين قبيلتي جهينة و بهثة :
ردينة لـو رأيتِ غداةَ جئنـا علـى أضماتنا وقـــد اجتوينا
فأرسـلنا أبا عمــرو ربيئاً فقال : ألا انعَموا بالقوم عيــنا
فنادوا يالبهثــة إذ رأونـا فقلنا : أحسني ضــرباً جهيـنا
فآبوا بالرماح مكسّـــراتٍ وأبنا بالســيوف قــد انحنينا
فباتوا بالصّعيد لهم أحــاحٌ ولو خفّـــت لنا الكلمى سَرَينا
ومن سمات الحماسة في الشعر الجاهلية
1-الحديث عن البطولة ـ
2-وصف ضخامة العدو ـ
3-الحديث عن الشجاعة ـ
4-الاستهانة بالموت ـ
5-الدفاع عن حُرم القبيلة .
2- شعر الفخـر:
وهو ذكر محاسن الإنسان والاعتزاز بهذه المحاسن ، والتغني بالأمجاد، ويكون عادة بادعاء أشياء للنفس أو للقبيلة ليست في متناول الجميع بيسر وسهولة،وهو نوعان .
أ-الفخر الذاتي : ويتمحور حول المفتخر بنفسه مع المبالغة فيه أحياناً كأن يصور الشاعر نفسه بأنّه بطل شجاع قوي ، يتسم بالقيم الحسنة ، يغيث الملهوف ، ويعين صاحب الحاجة ويحمي المرأة .
يقول طرفة بن العبد في معلقته :
إذا القوم قالوا من فتىً خلتُ أنـني عنيت فلـم أكســـل ولـم أتبلّدِ
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونـه خشاش كــرأس الحيـة المتوقدِ
ب-الفخر القبلي: وهو افتخار الشــاعر بصنائع قبيلته البطولية مع تعصبه لقبيلته كما صنع الأعشى في الإشادة بأبطال قبيلته بكر عندما وقفوا في وجه كسرى في معركة ذي قار :
وجند كسرى غداة الحِنو صبَحهم منّا كتائب تزجي الموت فانصرفوا
وخيل بكر فـما تنفكّ تطحنهـم حتى تولّوا وكاد اليـوم ينتصف
وبين الحماسة والفخر وشائج قربى لأنّ كلا الغرضين يبرز قيم الجاهلية وقد عبّر الصعاليك الجاهليون عن رفضهم للفقر وافتخروا بصبرهم على الجوع كما قال الشنفرى :
وأستفُّ تُرْبَ الأرض كي لا يرى له عليّ من الطول امرؤ متطوّل
ومن خير الأمثلة غبى الفخر الذاتي والقبلي: معلقة عمرو بن كلثوم ومعلقة الحارث بن حلزة وهما في الفخر القبلي، ومعلقة طرفة ومعلقة عنترة، وهما في الفخر الشخصي، والنوعان في معلقة لبيد، وقد ورد الفخر في كثير من القصائد للشعراء المذكورين من أصحاب المعلقات وغيرهم. مثل عامر بن الطفيل، وعبيد بن الأبرص، وسلامة بن جندل، والحصين بن الحمام، وفي أشعار كثير غير هؤلاء، بل إن كل شاعر جاهلي تقريبًا لا يخلو شعره من الفخر. وكان الفخر عند الجاهليين يقوم عادة على التغني بالبطولة والشهامة، وكثرة الحروب، وشن الغارات، والنصر والغلبة، والقوة، والبأس، والعدد، والخيل، والإبل، والسلاح، وإثارة الفزع في نفوس الأعداء، ومنازلة الملوك والرؤساء، وكثرة الغنائم، والأسرى والسبايا، كما كانوا يتباهون بالأصل والنسب والحسب والآباء والأجداد، وما كان لهم من مفاخر وأمجاد، وبأصالة الرأي، وسداد القول، وبعد النظر، وكمال العقل، والوقار والرزانة والحلم والأناة، والمروءة، والوفاء، وبالمحبة والصفاء بين العشيرة، وسد حاجة المحتاج منهم، وتحمل الغني أعباء القبيلة، ورعاية للفقراء منها، والصفح فيما بينهم عن هفوات بعضهم، وعدم التفاخر فيما بينهم، وتضامنهم، وعظم المجالس، واحترامهم، وبعدهم عن الفحش، والصغار، وبشرب الخمر، والتفاني في شرابها وإسقائها للآخرين، والتضحية في سبيلها بأكرم الأموال، وأغلى الممتلكات، وبالطيب، وطول الثياب، ولعب الميسر، والقمار، وعقر النوق، والتباري في عقرها، وإكرام الضيفان، واتساع النادي، وكثرة الجفان وبرعاية الجار، والمحافظة على شرفه، وأمواله، وكذلك اللاجئ وإغاثة الملهوف، وتلبية النداء في غير ما توانٍ أو تلكؤ، كما تفاخروا بالفصاحة والبيان، وجيد القول، وروائع الشعر، والغلبة في المناقشة والجدال. ومن أمثلة الفخر ما جاء في قصيدة لسويد بن أبي كاهل اليشكري، يتغنى بأمجاد قومه، إذ يقول :
من أناس ليس من أخلاقهم ... عاجل الفحش، ولا سوء الجزع
عرف للحق، ما نعيا به ... عند مر الأمر، ما فينا خرع
وإذا هبت شمالًا أطعموا ... في قدور مشبعات لم تجع
وجفان كالجوابي ملئت ... من سمينات الذرا فيها ترع
لا يخاف الغدر من جاورهم ... أبدا منهم ولا يخشى الطبع
ومساميح بها ضن به ... حاسروا الأنفس عن سوء الطمع
حسنو الأوجه بيض سادة ... ومراجيح إذا جد الفزع
وزن الأحلام إن هم وازنوا ... صادقو البأس إذا البأس نصع
وليوث تتقي عرتها ... ساكنو الريح إذا طار القزع
فيهم ينكى عدو وبهم ... يرأب الشعب إذا الشعب انصدع
عادة كانت لهم معلومة ... في قديم الدهر ليست بالبدع
ومن أحسن ما ورد في الفخر القبلي ما قاله طرفة، وقد ذكر فيه يوم التحالق، وكان لبكر على تغلب، وكان الحارث بن عباد أشار عليهم قبل بدء القتال أن يحلقوا رءوسهم ليكون ذلك علامة لهم يعرف بها بعضهم بعضا :
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسؤقها ... وتلف الخيل أعراج النعم
ونكر الخيل في أدبارها ... يوم لا يعطف إلا ذو كرم
أجدر الناس برأس صلدم ... حازم الأمر شجاع في الوغم0
كامل يجمع آلاء الفتي ... نبه سيد سادات خضم
خير حي من معد علموا ... لكفيّ ولجار وابن عم
يجبر المحروب فينا ماله ... ببناء وسوام وخدم
نقل للشحم في مشتاتنا ... نحر للنيب طراد القرم
نزع الجاهل في مجلسنا ... فترى المجلس فينا كالحرم
وتفرعنا من ابني وائل ... هامة المجد وخرطوم الكرم
من بني بكر إذا ما نسبوا ... وبني تغلب ضرابي البهم
حين يحمي الناس نحمي سربنا ... واضحي الأوجه معروفي الكرم
بحسامات تراها رسبا ... في الضريبات مترات العصم
فطرفة هنا يفتخر بانتصار قومه في معركة يوم التحالق، وكان القتال فيها عنيفًا ثم يعدد أمجاد قومه: رئيسهم عظيم معطاء، حازم شجاع واسع العقل سيد الرؤساء، وهم خير القبائل العدنانية، وأكرم الناس وأكرمهم جودًا، وأعظمهم مجدًا، وأرفعهم منزلة، مشهورون بالبطولة والشهامة وكرم المحتد، عددهم خير الأسلحة وأمضاها، وخيلهم كريمة مدربة في الحروب قوية صلبة الأجسام، تحمل أبطالًا يحسنون قيادتها في وقت الشدة حين لا يستطيع ذلك إلا كل بطل كريم. وكان الشاعر إذا تقدمت سنه وعلاه الشيب، تغنى بذكريات شبابه، وافتخر بما كان له
ولقومه من أمجاد، من ذلك ما يقوله سلامة بن جندل السعدي
أودى الشباب حميدًا ذو التعاجيب ... أودى وذلك شأو غير مطلوب
ولى حثيثا وهذا الشيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب
أودى الشباب الذي مجد عواقبه ... فيه نلذ، ولا لذات للشيب
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداد تأويب
وكرنا خيلنا أدراجها رجعًا ... كس السنابك من بدء وتعقيب
والعاديات أسابيّ الدماء بها ... كأن أعناقها أنصاب ترجيب
من كل حت إذا ما ابتل ملبده ... صافي الأديم أسيل الخد يعبوب
في كل قائمة منه إذا اندفعت ... منه أساو كفرع الدلو أثعوب
كأنه يرفئيّ نام عن غنم ... مستنفر في سواد الليل مذؤوب
يحاضر الجون مخضرًّا جحافلها ... ويسبق الألف عفوًا غير مضروب
كم من فقير بإذن الله قد جبرت ... وذي غنى بوأته دار محروب
مما تقدم في الهيجا إذا كرهت ... عند الطعان وتنجي كل مكروب
همت معد بنا هما فنهنهها ... عنا طعان وضرب غير تذبيب
بالمشرفي ومصقول أسنتها ... صم العوامل صدقات الأنابيب
يجلو أسنتها فتيان عادية ... لا مقرفين ولا سود جعابيب
سوى الثقاف قناها فهي محكمة ... قليلة الزيغ من سن وتركيب
زرقًا أسنتها حمرًا مثقفة ... أطرافهن مقيل لليعاسيب
كأنها بأكف القوم إذ لحقوا ... موانح البئر أو أشطان مطلوب
كلا الفريقين أعلاهم وأسفلهم ... يشقى بأرماحنا غير التكاذيب
إني وجدت بني سعد يفضلهم ... كل شهاب على الأعداء مشبوب
إلى تميم حماة العز نسبتهم ... وكل ذي حسب في الناس منسوب
قوم إذا صرحت كحل بيوتهم ... عز الذليل ومأوى كل قرضوب
ينجيهم من دواهي الشر إن أزمت ... صبر عليها وقبص غير محسوب
كنا نحل إذا هبت شآمية ... بكل واد حطيب الجو مجدوب
شيب المبارك مدروس مدافعه ... هابي المراغ قليل الودق موظوب
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
وشد كور على وجناء ناجية ... وشد سرج على جرداء سرحوب
ويظهر واضحا من شعر الفخر أن العربي في الجاهلية كان يحب أن يظهر نفسه بمظهر التفوق التام على الآخرين، وأن يشاع عنه أنه أعلى شأنًا من غيره في كل شيء، ويتضح من فخرهم أن الميل إلى الإعجاب الشديد بالنفس كان متسلطًا على العرب في الجاهلية لدرجة عظيمة، حتى إن الشاعر في بعض الأحيان كان يفخر بتفوق فرعه على بقية فروع قبيلته الآخرين، فيدعي أنه نال من الأمجاد والبطولة والفوز ما لم يستطع الآخرون أن يصلوا إليه، وأظهر مثل لذلك، قول عمرو بن كلثوم.
وكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولة فيمن يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
فقومه هم الأيمنون، في حين أن بقية عشيرته في غير فرعه كانوا أهل الشمال وبينما رجع هؤلاء من الحرب بالنهاب والسبايا، عاد قومه وقد أسروا ملوك الأعداء ورؤساءهم، وقد صفدوهم بالقيود والأغلال. وفي الفخر نرى أن ما قيل في الناحية القبلية يكاد يكون ثلاثة أضعاف ما قيل في الناحية الشخصية. وهذا معناه أن العصبية القومية كانت سائدة في ذلك الحين، حتى استولت على نفوس الشعراء، وسيطرت إلى حد كبير على مشاعرهم، فكان فيها معظم إنتاجهم. ولكن هذا يدلنا من ناحية أخرى على أن الشاعر -في وسط هذا الشعور الجماعي المتسلط- ما كان لينسى نفسه: كفرد قائم بذاته، وكشاعر له إحساسه الخاص، فكان يتحدث عن نفسه، ويفتخر بشخصيته، وبطولته، وقوته، في حرية تامة، وكيفما شاء.
3-الهجـاء:
وغرضه التقليل مـن قيمة المهجو ومحاولة نزع القيم الايجابيـة عنـه ويعتمد على الصفات السلبية كالبخل والجبن والغدر والتقاعس عـن طلب الثأر والخيانة والفرار مـن الحرب وكان الشاعر الجاهلي الهجّاء يحصل على ما يريد اتقاء لشره ،
يقول زهير بن أبي سلمى في هجاء قوم من الأقوام :
وما أدري وسوف إخال أدري أقـوم آل حصن أم نســاء
ويقول حسّان بن ثابت مثل ذلك:
لا بأس بالقوم من طولٍ وعرض جسم البغال وأحلام العصافير
ولم يكن الشعر الجاهلي المعتمد على الهجاء فاحشاً كما فعل المتنبي مع فاتك الأسدي حيث قال :
ما أنصف القوم ضبهْ وأمّه الطرطبهْ
أو كما قال شعراء النقائض :
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار
وقد أنكر النابغة الإفحاش في السباب والهجاء :
فإن يك عامر قد قال جهلاً فإنّ مظنة الجهـل السِّبـاب
فلا يذهبْ بلبْكَ طائشـات مـن الخيلاء ليس لهنّ بـاب
وقد يصل الهجاء بالشاعر أن يهجو نفسه أو والديه كما فعل الحطيئة ، وكان الهجاء على عكس الفخر، يعددون فيه عيوب الخصوم والأعداء، فيذكرون ما في تاريخهم من مخازٍ، وما نزل بهم من هزائم، وما حل بهم من خسائر أو عار، ويرمونهم بأقبح العادات، وذميم الصفات، وكثيرًا ما كان يتخلل هجاءهم وعيد وتهديد، وقد كان الهجاء يوجه إلى الأعداء في معرض الفخر، أو في ثنايا المدح؛ لأن في تحقير الأعداء والحطة من شأنهم رفعة للمفتخر أو للممدوح. وكان من أبرز ما هجا به الشعراء في العصر الجاهلي: الهزيمة في الحروب، والجبن، والضعف، والفرار من الميدان، والقتل، والأسر، والسبي، ودفع الفدية، والنفي من الموطن، وخسة الأصل، ولؤم الطبع، والبخل، والشح والحرص، والاعتداء على الجار واللاجئ، والهرب من الضيفان، والحمق، والغدر، وإنكار الجميل، وكفران المعروف، وأخذ الدية، والجوع، وسوء الغذاء، وما كان العدو أو الخصم ليسلم من الهجاء والسب والذم مهما علا شأنه، ولو كان ملكًا، وهجاء طرفة والمتلمس لعمرو بن هند ملك الحيرة مشهور، وقد كان عمرو من أقسى الملوك، وأعنفهم. ويذكر الرواة لهما فيه هجاء مؤلمًا عنيفًا. كذا هجاء عبد قيس بن خفاف البرجمي النعمان بن المنذر ملك الحيرة. وقد رأينا في معلقة الحارث بن حلزة هجاءً وتقريعًا في تهكم وسخرية، مما يدل على ذكاء وعبقرية. ومن أمثلة الهجاء ما يقوله أوس بن غلفاء الهجيمي التميمي، في هجاء يزيد بن الصعق الكلابي، ومنه
فأجر يزيد مذمومًا أو انزع ... على علب بأنفك كالخطام
وإن الناس قد علموك شيخًا ... تهوك بالنواكة كل عام
وإنك من هجاء بني تميم ... كمزداد الغرام إلى الغرام
هم منوا عليك فلم تثبهم ... فتيلًا غير شتم أو خصام
وهم ضربوك ذات الرأس حتى ... بدت أم الدماغ من العظام
فإنا لم يكن ضباء فينا ... ولا ثقف ولا ابن أبي عصام
ولا فضح الفضوح ولا شييم ... ولا سلماكم، صمي صمام
وكان عمرو بن هند أخو قابوس بن هند ملكًا على الحيرة. وكان عمرو شديدًا، وكان له يوم بؤس، ويوم نعمى، فيوم يركب في صيده يقتل أول من لقي، ويوم يقف الناس ببابه، فإن اشتاق حديث رجل أذن له، فهجاه طرفة فقال:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثًا حول قبتنا تخور
من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درور
يشاركنا لنا رخلان فيها ... وتعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الحكم يقصد أو يجور
لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات وما نطير
فأما يومهن فيوم نحس ... تطاردهن بالحدب الصقور
وأما يومنا فنظل ركبًا ... وقوفًا ما نحل وما نسير
وكانت الهزيمة مؤلمة أشد الألم على الفرسان، تثير الغيظ والحقد والبغضاء، فكانوا يتبعونها بوعيد وتهديد ليمحوا آثار ما حدث، ويعيدوا إلى أنفسهم مجد النصر والشرف. من ذلك مثلًا ما حدث في يوم الرقم حيث انتصرت فيه غطفان على بني عامر بن صعصعة رهط عامر بن الطفيل، فأقبل عامر منهزمًا حتى دخل بيت أسماء بن قدامة الفزارية، ثم تمكن من الفرار، فقال:
ولتسألن أسماء وهي حفية ... نصحاءها أطردت أم لم أطرد؟
قالوا لها: فلقد طردنا خيله ... قلح الكلاب، وكنت خير مطرد
فلأنعينكم الملا وعوارضًا ... ولأهبطن الخيل لابة ضرغد
بالخيل تعثر في القصيد كأنها ... حدأ تتابع في الطريق الأقصد
ولأثأرن بمالك وبمالك ... وأخي المرواة الذي لم يسند
وقتيل مرة أثأرن فإنه ... فرع وإن أخاهم لم يقصد
يا أسم أخت بني فزارة إنني ... غازٍ، وإن المرء غير مخلد
فيئي إليك فلا هوادة بيننا ... بعد الفوارس إذ ثووا بالمرصد
إلا بكل أحم نهد سابح ... وعلالة من كل أسمر مذود
وأنا ابن حرب لا أزال أشبها ... سعرًا وأوقدها إذا لم توقد
فإذا تعذرت البلاد فأمحلت ... فمجازها تيماء أو بالأثمد
فالشاعر هنا يتأجج غضبًا وثورة، ويهدد أعداءه ويتوعدهم بحرب ضروس يثأر بها لشرفه ويقتص للأبطال من قومه، ويذيق فيها الأعداء أقسى أنواع العذاب.
وقد كان التهديد بالشعر من الوسائل التي توعد بها الشعراء أعداءهم، تشهيرا بهم، ونشرا لمخازيهم وعيوبهم، بجانب الحرب والقتال، من ذلك ما يقوله النابغة الذبياني في تهديده لعدوه:
فلتأتينك قصائد وليدفعن ... جيش إليك قوادم الأكوار
ومما ورد في التهديد بالشعر، هجاء وتشهيرًا بالمخازي والعيوب قول مزرد
فدع ذا ولكن ما ترى رأي عصبة ... أتتني منهم منديات عضائل
يهزون عرضي بالمغيب ودونه ... لقرمهم مندوحة ومآكل
على حين أن جربت واشتد جانبي ... وأنبح مني رهبة من أناضل
وجاوزت رأس الأربعين فأصبحت ... قناتي لا يلفى لها الدهر عادل
فقد علموا في سالف الدهر أنني ... معن إذا جد الجراء ونابل
زعيم لمن قاذفته بأوابد ... يغني بها الساري وتحدى الرواحل
مذكرة تلقى كثيرًا رواتها ... ضواح، لها في كل أرض أزامل
تكر فلا تزداد إلّا استنارة ... إذا رازت الشعر الشفاه العوامل
فمن أرمه منها ببيت يلح به ... كشامة وجه، ليس للشام غاسل
كذاك جزائي في الهديِّ وإن أقل ... فلا البحر منزوح ولا الصوت صاحل
ويلاحظ في الهجاء أنه وإن كان مثيرًا، فإنه على العموم عفيفًا فلم يكن بصفة عامة مقذعًا، ولم ينزل إلى الحضيض أو السب الجارح. وإذ حدث من الأقارب ما يستحق المؤاخذة، فإنه يوجه اللوم أو التوبيخ، وكان أسلوبه أقل عنفًا من هجاء الأجانب، وأحيانًا كان يقال في أسلوب التلميح أو التعريض لا التصريح، كالأبيات التي تنسب إلى سعد بن مالك في حرب البسوس، وفيه دعاء عليهم أن يجازيهم الله بفعلتهم وما ارتكبوا ضد قومهم وعشيرتهم. وأشد ما يكون الهجاء عنفًا عندما يكون ردًّا على منتصر، أو هجاء سابق ، وكان الوعيد يقال بصيغة قوية ملتهبة تؤكد التصميم على تنفيذه وبخاصة إذا كان للأخذ بالثأر. وفي التهديد بالشعر بيان لقوة الشعر وعمق تأثيره في نفوسهم. وكان الشاعر يستشيط غضبًا عندما يعلم أن العدو يدبر الأمور لشن القتال ضد قومه، فيسرع الشاعر إلى تنبيه قومه، واستثارة حميتهم، لكي يعدوا العدة للقاء أعدائهم ورد كيدهم في نحورهم، وإذا كان بعيدًا عنهم أرسل إليهم سرًّا على عجل منذرًا ومستثيرًا، كما كان من لقيط بن يعمر الإيادي، فقد كان كاتبًا في ديوان كسرى، فعلم أنه مجمع على غزو إياد، فكتب إليهم شعرًا ينذرهم به، فوقع الكتاب بيد كسرى، فقطع لسان لقيط، وغزا إيادًا. فمما كتبه لقيط في ذلك قوله:
بل أيها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادًا ومنتجعا.
أبلغ إيادًا وخلل في سراتهم ... إني أرى الرأي أن لم أعص قد نصعا
يا لهف نفسي إن كانت أموركم ... شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا
إني أراكم وأرضا تعجبون بها ... مثل السفينة تغشى الوعث والطبعا
ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا
أبناء قوم تأووكم على حنق ... لا يشعرون أضر الله أم نفعا
أحرار فارس أبناء الملوك لهم ... من الجموع جموع تزدهي القلعا
فهم سراع إليكم: بين ملتقط ... شوكا، وآخر يجني الصاب والسلعا
لو أن جمعهم راموا بهدته ... شم الشماريخ من ثهلان لانصدعا
في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غافل هجعا
خرز عيونهم كأن لحظهم ... حريق غاب ترى منه السنا قطعا
لا الحرث يشغلهم، بل لا يرون لهم ... من دون بيضتكم ريًّا ولا شبعا
وأنتم تحرثون الأرض عن سفه ... في كل معتمل تبغون مزدرعا
وتلقحون حيال الشول آونة ... وتنتجون بدار القلعة الربعا
وتلبسون ثياب الأمن ضاحية ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا
وقد أظلمكم من شطر ثغركم ... هول له ظلم تغشاكم قطعا.
ما لي أراكم نياما في بلهنية ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا
فاشفوا غليلي برأي منكم حصد ... يصبح فؤادي له ريان قد نقعا
ولا تكونوا كمن قد بات مكتنعًا ... إذا يقال له افرج غمة كنعا
يسعى ويحسب أن المال مخلده ... إذا استفاد طريفًا زاده طمعا
فاقنوا جيادكم واحموا ذماركم ... واستشعروا الصبر لا تستشعروا الجزعا
ولا يدع بعضكم بعضًا لنائبة ... كما تركتم بأعلى بيشة النخعا
صونوا حيادكم واجلوا سيوفكم ... وجددوا للقسي النبل والشرعا
أذكوا العيون وراء السرح واحترسوا ... حتى ترى الخيل من تعدائها رجعا
واشروا تلادكم في حرز أنفسكم ... وحرز أهلكم لا تهلكوا هلعا
فإن غلبتم على ضن بداركم ... فقد لقيتم بأمر الحازم الفزعا
لا تلهكم إبل، ليست لكم إبل! ... إن العدو بعظم منكم قرعا
لا تثمروا المال للأعداء إنهم ... إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل ... يرجى لغابركم إن أنفكم جدعا
والله ما انفكت الأموال مذ أبد ... لأهلها إن أصيبوا مرة تبعا
يا قوم إن لكم من إرث أولكم ... مجدًا قد أشفقت أن يفنى وينقطعا.
ماذا يرد عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا
يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرًا ... على نسائكم كسرى وما جمعا
يا قوم بيضتكم لا تفجعن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا
قوموا قيامًا على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا، قد ينال الأمن من فزعا
وقلدوا أمركم، لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... هم يكاد سناه يقصم الضلعا
مسهد النوم تعنيه أموركم ... يروم منها إلى الأعداء مطلعا
ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعًا طورًا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحمًا ولا ضرعا
وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا
كمالك بن قنان أو كصاحبه ... عمرو القنا يوم لاقى الحارثين معا
إذ عابه عائب يوما فقال له ... دمث لجنبك قبل الليل مضجعا
فشاوروه فألفوه أخا علل ... في الحرب لا عاجزًا نكسًا ولا ورعا
لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقظوا، إن خير العلم ما نفعا
هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى فيه منكم ومن سمعا
وهكذا يتجلى في إنذار العشيرة بالخطر للاستعداد لملاقاته الحب والإخلاص.



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)