علاقة الشعر بالغناء الجاهلي
ارتبط الشعر الجاهلي بالغناء، وكان الشاعر يغني أشعاره، وظهرت فيه الجوقات، ولعل ما يثبت ذلك من بعض الوجوه ما يرويه الطبري والأغاني من أن هندًا بنت عُتْبة وجماعة من نساء قريش كنَّ يضربن على الدفوف في غزوة أحد، وكانت هند تغني في أثناء هذا العزف بمقطوعات، منها قولها :
أن تُقبلوا نُعانقْ ... وَنفْرِش النَّمارقْ
أو تُدْبِرُوا نفارقْ ... فراقَ غيرِ وامقْ
ونرى مظهرًا للجوقة من بعض الوجوه؛ فشاعرة تُغني شعرها وجوقة تضرب على غنائها بالدفوف. وكما كان يحدث ذلك في حربهم كان يحدث في سلمهم؛ في أعيادهم وأعراسهم وحفلاتهم المختلفة. رَوَى الطبري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجع إلى مكة ذات يوم؛ فسمع عزفًا بالدفوف والمزامير، فسأل عنه فعرف أنه عرس، وذكر ابن رشيق أن القبيلة من العرب كانت ذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنَّأتها وصُنعت الأطعمة واجتمعت النساءُ يلعبن بالمزاهر. ودخل هذه الجوقات العربية عنصرٌ أجنبي في أواخر العصر الجاهلي، حين اتصل العرب بغيرهم من الأمم الأجنبية، نجدهن في الحيرة، وقد اشتهرت هناك بنت عَفْزر، وكذلك خليدة وهريرة وهما قينتان لبشر بن عمرو بن مرثد، -وكانتا تغنيان النصب- قدم بهما إلى اليمامة لما طلبه النعمان، ولعلهما هما اللتان يعنيهما بشر بقوله:
وتبيت داجنةٌ تجاوب مثلها ... خَوْدًا منعمَّة، وتضربُ مُعْتبا
وهريرة هي صاحبة الأعشى التي ذكرها في مطولته. وعرفت هذه القيان في بلاط الغساسنة، كما عرفن في المدينة ومكة، أما المدينة فيذكر صاحب الأغاني من أهلها أمروا إحدى القيان أن تغني النابغة بشعر له فيه إقواء، وأما مكة فقد كان بها قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس، وكانتا تغنيان الناس، وفي الأغاني: أنه لما نصح أبو سفيان لقريش أن يرجعوا في غزوة بدر قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرى بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونُسقى الخمور وتَعزِفُ علينا القيان وتسمع بنا العرب. وفي السيرة النبوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر يوم فتح مكة بقتل شخص يسمى ابن خَطل كان مسلمًا ثم ارتدَّ وفر إلى مكة وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء النبي، تسمَّى إحداهما فَرْتنى، وقد أمر النبي بقتلهما، ففرت إحداهما وقتلت الأخرى. وفي أخبار امرئ القيس أنه لما طرده أبوه: "كان يسير مع جماعة من شذاذ العرب؛ فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد قام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه، وشرب الخمر، وسقاهم، وغنته قيانه" ، وليس من شك في أن هذه الموجة الواسعة من الجوقات والقينات هي التي مهدت لأن يتعقد الغناء على هذه الصورة التي يصفها إسحاق الموصلي إذا يقول: "وغناء العرب قديمًا على ثلاثة أوجه( النصب -والسناد -والهزج )
1-فأما النصب : فغناء الركبان والفتيان وهو الذي يستعمل في المراثي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض؛
2-وأما السناد : فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات؛
3-وأما الهزج : فالخفيف الذي يرقص عليه ويُمْشَى بالدف والمزمار فَيُطرب ويستخف الحليم ؛ فالهزج الذي يذكره إسحق الموصلي يطلق على نوع من الغناء كما يطلق على نوع من الحركة الجسمية السريعة. ومثله الرَّمَل وكانوا يطلقونه على من يهز منكبيه ويسرع في حركته، كما كانوا يطلقونه على الشعر الذي يوصف باضطراب البناء والنقصان. وقد نَبَعَ الشعر العربي من منابع غنائية موسيقية، وقد بقيت فيه مظاهر الغناء والموسيقى واضحة، لعل القافية أهم تلك المظاهر؛ فإنها واضحة الصلة بضربات المغنين . إنها بقية العزف القديم وإنها لتعيد للأذن تصفيق الأيدي وقرع الطبول ونقر الدفوف كما تعيد ذلك شاراتٌ أخرى للغناء نجدها في الشعر القديم منها هذا التصريع الذي نجده في مطالع القصائد، كقول امرئ القيس في مفتتح مطولته:
قفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بين الدَّخول فَحَوْمَل
وعاد إلى التصريع مرة أخرى فقال:
أفاطمُ مهلًا بعض هذا التدللِ ... وإن كنتِ قد أزمعت صَرْمي فأجْمِلِي
ثم صرع ثالثة فقال:
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلِ ... بصُبْح وما الإصباحُ منكَ بأَمْثَلِ
وكأني بهذا التصريع كان يأتي به الشاعر حين ينتهي من غناء قطعة من قصيدته أو إنشادها، وينتقل إلى أخرى، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتهم يفزعون إليه حين ينتقلون من موضوع إلى موضوع في النموذج الفني. واقرأ هذه القطعة من معلقة لبيد:
عَفَتِ الدِّيارُ محلُّها فمُقامُها ... بمنىً تأبدَ غَولُهَا فَرِجَامُهَا
فمدافعُ الرَّيَّان عُرِّيَ رسْمُهَا ... خَلقًا كما ضمن الوُحِيَّ سِلامها
وجَلا السيُولُ عن الطلول كأنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أقلامُها
دِمَنٌ تجرَّمَ بعد عهد أنيسها ... حِجَجٌ خَلَوْنَ حلالها وحرامُها
رُزِقَت مَرابيعَ النُجومِ وَصابَها ... وَدقُ الرَواعِدِ جَودُها فَرِهامُها
مِن كُلِّ سارِيَةٍ وَغادٍ مُدجِنٍ ... وَعَشيَّةٍ مُتَجاوِبٍ إِرزامُها
فَعَلا فُروعُ الأَيهُقانِ وَأَطفَلَت ... بِالجَهلَتَينِ ظِبائُها وَنَعامُها
ونلاحظ أنه شاكل في أحوال كثيرة بين الكلمتين الأخيرتين في البيت كأنه يجعل له قافيتين "قافية داخلية" وقافية خارجية". ولم يدفعه إلى ذلك إلا أنه يريد أن يرتفع بالصوت في مقطعين متقاربين، وهو لذلك يخرجه هذا الإخراج المنظم المقطع تقطيعًا صوتيًّا دقيقًا. وكثر هذا "التقطيع الصوتي" في الشعر القديم؛ فمن ذلك قول امرئ القيس يصف فرسه في معلقته:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ
ويقول طرفة في مطولته:
بَطيء عَنِ الجُلَّى سَريعٍ إِلى الخَنا ... ذَليل بِإجماعِ الرِجالِ مُلَهَّدِ
وروى قدامة في "نقد الشعر" كثيرًا من مثل هذه الأبيات التي تنثر في الشعر القديم نثرًا، والتي لا شك في أن الغناء هو الذي دفع إلى صنعها حتى يوفروا للشعر قيمًا صوتية تساعد على تلحينه والترنم به ، وقد يكون من الغريب أن نرى أبا العلاء يذهب إلى أن جمهور أشعار الجاهلية يأتي من الطويل والبسيط، وما يليهما من الوافر والكامل . إن الأوزان القصار عرفت في العصر الجاهلي لا عند سكان المدر فقط بل عند سكان الوبر أيضًا، وبخاصة في أبواب الرثاء والغزل والحماسة والحداء، أما الرثاء فقد شاع عند العرب القدماء ؛ إذ روى صاحب الأغاني أحاديث كثيرة عن الخنساء ونُواحها على أخويها وأنها كانت تخرج إلى عكاظ تندبهما، وذكر أن هندًا بنت عتبة كانت تحتذي على مثالها وتنوح أباها واقترن هذا النواح أو هذا "التعديد" بضرب من الشعر القصير، لعل خير ما يمثله قطعة أم السُّلَيك: وهي من مشطور المديد؛ إذ تقول:
طاف يبغي نجوةً ... من هلاك فهلكْ
ليت شعري ضَلَّةً ... أيّ شيء قَتَلَكْ
أمريضٌ لم تعد ... أم عدوّ خَتَلَكْ
وتستمر القطعة على هذا النمط القصير. وأما الغزل فلعله أقرب موضوعات الشعر الجاهلي إلى الغناء ، وخير ما يمثله قطعة المنخَّل اليشكري، وهي من مرفَّل الكامل إذ يقول:
ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تَرْ ... فل في الدِّمَقْسِ وفي الحرير
وتمضي المقطوعة على هذه الشاكلة. وأما الحماسة؛ فقد عرفنا أنهم كانوا يغنون أشعارهم في الحرب ويوم الخصام، واقترن هذا الغناء بضرب من الأشعار القصيرة كقطعة الفِنْد الزِّمَّاني في حرب البسوس إن صح أنها له، وهي من الهزج، إذ يقول:
صفحنا عن بني ذُهْلٍ ... وقلنا القوم إخوانُ
عسى الأيامُ أن يرجعْـ ... ـنَ قومًا كالذي كانوا
وتستمر المقطوعة على هذا الطراز القصير.
وأما الحداء : فيظهر أنه كان غناء شعبيًّا عامًّا للعرب في العصر الجاهلي يغنون به إبلهم في مسيرهم ورحيلهم، واقترن به وزن خاص معروف هو وزن الرجز، ونحن نلاحظ أن هذا الوزن لم يكن خاصًّا بالحداء؛ بل كان يستخدم أيضًا في السَّقْي من الآبار، كما كان يستخدم في الحماسة والحروب، وجعله ذلك الاستخدام الواسع ينفصل من بقية الأوزان القديمة بضروب كثيرة من التجزئة والتعديل في صورة "رقيمه الموسيقى" لعل أهمها المشطور والمنهوك، أما المشطور فهو الذي بني على شطر واحد، وأما المنهوك فهو الذي ذهب منه أربعة أجزاء، ومن أمثلته قول دريد بن الصمة يوم هوازن:
يا ليتني فيها جذعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
ولعل هذا الجانب من التعديل في الرجز وما أصابه من كثرة "التحريف" حتى خرج كثير من أمثلته عن أن يُضْبَطَ ويعيَّن بوزن خاص هو الذي دفع الخليل إلى أن يرفضه فلا يعده من الشعر. وليس من شك في أنه شعر، وغاية ما في الأمر أنه كان يقترن بضروب كثيرة من الغناء في الحماسة والحروب والسقي من الآبار، كما كان يقترن بالْحُداء، فكثر الحذف فيه وكثرت التجزئة والاضطراب. ومهما يكن فإن الشعر الجاهلي نشأ في ظروف غنائية، وتركت هذه الظروف آثارًا مختلفة فيه، بعضها نراه في قوافيه وتقطيعاته وبعضها نراه في تلك الأوزان القصار التي أثرتْ عن العصر الجاهلي، والتي ليس من شك في أنها ظهرت تحت تأثير الغناء.





المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)