الأدباء المتألهون
في العصر الجاهلي
منذ بدء التاريخ أرسل الله تعالى الأنبياء والرسل لهداية الناس إلى طريق الحق والخير والعدل والمساواة ولكن البشرية على مر العصور كانت تتناسى هدي الأنبياء والرسل بفعل عامل الزمن والتقادم ونسيان الناس لمنهاج الحق وتحت ضغط الشهوات ووساوس النفس وقد كانت مسيرة الأنبياء ماضية. ويعد سيدنا إبراهيم عليه السلام من الأنبياء ذوي العزم الذين تركت دعوتهم أثرا كبيرا في إصلاح المسيرة البشرية ومع ذلك فقد تناست الناس مسيرة الهدى ونسيت تعاليم سيدنا إبراهيم إلا بعضا من الذين تسموا بالأحناف والذين بقوا على منهاج سيدنا إبراهيم واستمروا حتى بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عام /672/ م وقد كان بعض من الشعراء العرب ممن سبقوا مجيء هذه البعثة ما زالوا يعتقدون بدين سيدنا إبراهيم ويسيرون على منهاجه ومن هؤلاء الشعراء ( زهير بن أبي سلمى – النابغة الذبياني – أمية بن أبي الصلت ) إضافة إلى بعض الشعراء الذين عرفوا منهج الشعراء الأحناف وتجاوبوا مع بعض مفاهيمه( وحدانية الله تعالى ) ، ولم نلحظ فيما وصل إلينا من شعر الجاهليين ما يشير إلى طقوسهم الدينية أو التعصب للعبادة، ومما وصل إلينا إشارات عابرة إلى التوحيد جاءت في ثنايا قصائد بعض الشعراء الأحناف أو النصرانيين كورقة بن نوفل وعدي بن زيد. ولما ظهر الإسلام لم يرض كثير من العرب في مكة المكرمة بالرسالة المحمدية، فحاربوا محمدا صلى الله عليه وسلم بالسلاح كما حاربوه بالقول، إذ وظفوا بعض شعرائهم للطعن في رسالة الإسلام ونقد المسلمين، بدعوة الدفاع عن معتقداتهم الدينية والتي هي عبادة الأصنام. ومن الأدباء المتألهين الذين اهتموا بترجمة الكتاب العبراني للعربية وكان أديباً بليغاً ورقة بن نوفل القرشي الحجازي الذي كان حكيما متدينا موحدا، وشاعراً بليغا مجيدا، وسيدا شريفا سريا في قومه، عاش يتلمس دين التوحيد في عصر الوثنية الجاهلية، ويبشِّر بقرب ظهور نبي العرب وخاتم الرسل، ويولي وجهه شطر السماء ينشد الهداية والنور, حتى أدرك بعثة سيد الأنبياء محمد صلوات الله عليه. وكان العرب قبل البعثة المحمدية في حيرة وضلال، لا يجمعون على دين، ولا يتفقون على عبادة؛ عبد جمهورهم الأوثان والأصنام، وفريق منهم عبدوا الشمس أو القمر أو الكواكب، وآخرون دانوا بالنصرانية أو اليهودية. وجماعة منهم اعترفوا بوجود الله ووحدانيته ، وظلوا على فطرة التوحيد الخالص، وعبدوا الله على دين إبراهيم وإسماعيل؛ يعظمون الشعائر، ويؤدون المناسك، ويقدسون البيت الحرام، ويلتزمون الحج والعمرة والطواف والوقوف بعرفة ونحر الذبائح والأضاحي، وسوى ذلك من ألوان العبادات والطاعات، ومنهم: ورقة، وأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل, وكعب بن لؤي، وقصي، وعبد مناف، وهاشم، وعبد المطلب. في هذه الحيرة والضلال، ونحو عام 521 ميلادية، قبل ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- بنصف قرن، ولد في مكة ورقة القرشي ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، من بيت عرف بالسيادة وكرم المحتد ... وأي مجد ومحتد يبلغان ما بلغته منهما قريش، سادة العرب وسدنة البيت العتيق؟ وإلى قصي أيضا يرجع نسب أم ورقة هند بنت أبي عبد بن قصي. وقصي هو الأب الخامس لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهو الذي جمع شتات قريش، ووحّد كلمتهم، وصارت إليه الرياسة والسيادة على مكة كما سبق. ذلك هو نسب ورقة وحسبه. ولقد نشأ وشبّ في هذه السيادة الفاخرة، وتلك المآثر القرشية الخالدة، عاش في مكة مع قومه يعمل في التجارة كما يعملون, ويلهو كما يلهون، وشهد مواطن قريش، وشارك في مفاخرها، وأصبح بعد قليل رجل صدق وعزم إقدام ورحلة، ويصف ورقة جده ولهوه في هذه الفترة، فيقول:
ولقد ركبت على السفين ملججا ... أذر الصديق وأنتحي دار العدى
ولقد دخلت البيت يخشى أهله ... بعد الهدوء وبعدما سقط الندى
فوجدت فيه حرة قد زينت ... بالحلى تحسبه بها جمر الغضا
فنعمت بالا إذ أتيت فراشها ... وسقطت منها حين جئت على هوى
فتلك لذات الشباب قضيتها ... عني فسائل بعضهم ماذا قضى؟
وخالط ورقة في رحلاته للتجارة أهل الكتاب، واستمع إليهم، ومال إلى ما يؤمنون به من فطرة التوحيد وعبادة الله؛ فأنكر ما كانت عليه قريش من باطل وجهل، وما كانت تمعن فيه من وثنية وشرك, وأعرض عن غيها وباطلها، فاعتزل عبادة الأوثان، وامتنع عن أكل ما يذبح باسم الأصنام، وآمن أن قومه أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم وإسماعيل, فأخذ ينشد الحنيفية البيضاء، ويسأل عنها الأحبار والرهبان: يروى أنه اجتمعت يوما في عيد لهم عند صنم يعظمونه وينحرون له ويعكفون، فخلص منهم أربعة نفر نجيا، هم: ورقة بن نوفل القرشي، وابن عمه عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل بن كعب بن لؤي، وعبيد الله بن جحش الأسدي وهو ابن أميمة بنت عبد المطلب، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليتكتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل، فقال قائلهم: تعلمن والله ما قومكم على شيء, لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ، ولا ينفع، يا قوم! التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما عبد الله بن جحش، فأقام على ما هو عليه حتى بعث الرسول صلى الله عليه وسلم , فأسلم وهاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومات فيها بعد أن اعتنق المسيحية وارتد عن الإسلام. وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر, وآمن بالمسيحية، وعاش في القسطنطينية. وأما زيد فأقام على الحنيفية، يعظم شعائرها، ويقول: أعبد رب إبراهيم، وعاب على قومه ما هم عليه، وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويرفع صوته: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: والله لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه, ثم يسجد على راحلته، ويستقبل الكعبة داخل المسجد قائلا: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم، ويصيح في الناس: يا معشر قريش، والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على دين إبراهيم غيري. وكان يعيب على قريش ذبائحها, ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض نباتا، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟! وآذته قريش فخرج يطلب دين إبراهيم, ويسأل الأحبار في الشام، حتى انتهى إلى راهب من شيوخ الرهبان, فسأله عن الدين، فقال له: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها؛ فإنه مبعوث الآن, هذا زمانه, فرجع إلى مكة المكرمة . ولما اشتد إيذاء قريش له, كان يخرج إلى "حراء" يتعبد فيه، ولقيه عامر بن ربيعة في طريقه إلى حراء, فقال له زيد: يا عامر, إني فارقت قومي واتبعت ملة إبراهيم وما كان يعبد إسماعيل بعده، وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، وما أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه ... وقتل زيد قبل البعثة بخمس سنين, وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم : "يأتي زيد يوم القيامة أمة واحدة". ورثاه ورقة بن نوفل بقصيدة منها:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت في دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل الله فيها ولم تكن ... من الناس جبارا إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
أقول إذا ما زرت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر على الأعاديا
حنانيك إن الجن كنت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا
أدين لرب يستجيب ولا أرى ... أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا
أقول إذا صليت في كل سبعة ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا
هذا شأن هؤلاء الثلاثة الباحثين عن الحقيقة الكبرى. فأما ورقة فرحل إلى الشام يلتمس الدين الصحيح، ويتحدث إلى الأحبار والرهبان ويسمع منهم، حتى مال قلبه إلى دين المسيح، ورآه إنقاذا له من الحيرة، فاتبعه وعمل به، وقال لزيد: أنا أستمر على نصرانيتي إلى أن يأتي النبي الذي تبشرنا به الأحبار. وأخذ يحفظ من النصرانية ما يحفظ، ويعي من الرهبان ما شاء الله أن يعي، وعاد إلى مكة المكرمة , فأقام فيها آمنا وادعا، عاكفا على دينه ونفسه، لا يعرض لأحد ولا يحب أن يعرض له أحد. وازداد مكانة في قريش، فكان مستشارها في الأزمات ومرجعها في الخطوب، والحكيم الذي تسترشد برأيه كلما دجت الظلمات ... وقرأ ورقة الكتب السماوية, وكان يعرف العبرية، وينقل من الإنجيل إلى العربية ما شاء، ويأخذ من أهل التوراة والإنجيل ما يأخذ. فلما شاء الله أن ينقذ الإنسانية, ويهدي البشرية إلى النور والخير والتوحيد، والسلام والأمن والعدل والرحمة، ولد رسول الله محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- واستبشر بميلاده الكون، وعَمَّ الفرح والبِشْر كل مكان. وشبَّ رسول الله ونما سيدا شريفا, ونبيلا سريا، وفتى زكيا، حتى إذا كان في الثالثة عشرة من عمره، خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في تجارة، وفي بصرى قصبة حوران والبلاد العربية الخاضعة لحكم الروم رآه بحيرى الراهب. فرأى الآية الكبرى، والمعجزات الناطقات، فأخذ يحدث محمدا ويسأله. ثم قال لعمه: اذهب بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فإن له لشأنا. وتحدث من كانوا مع أبي طالب بهذا في مكة، وسمعه ورقة, فآمن بقرب ظهور النبي المرتقب، والرسول الأمي الذي يخرج من بلاد العرب لهداية الدنيا, وإنقاذ العالم من الشرك والضلال. وخرج محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تخطى العشرين عاما, إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ابنة عم ورقة، أمينا حفيظا عليها. وكانت خديجة سيدة جليلة ذات يسار وتجارة، وكان مع محمد في رحلته غلامها ميسرة، فذهبا إلى الشام وباعا وابتاعا وربحا ثم عادا إلى مكة، وأخبر "ميسرة" سيدته بما شاهد من مخايل الاصطفاء وإظلال الملائكة والغمام لمحمد، وأحاديث الأحبار عنه، فذهبت خديجة إلى ورقة تذكر ذلك له، فقال: لئن كان هذا حقا يا خديجة, فإن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا زمانه. وصار ورقة حكيم العرب وشيخها، وعالمها وقطبها، وحبرها الخبير بأحداث الدهر وتجارب الأيام، وازداد مكانة في قومه، وازداد قومه له إجلالا وتقديرا، فكانوا يصدرون عن رأيه، ويستهدون بمشورته، ويتفاءلون بنصائحه وفراسته وصدق إلهامه ... وكان في الخامسة والسبعين من عمره، ومحمد بن عبد الله -صلوات الله عليه- في الخامسة والعشرين. وكان ورقة يتفاءل بمستقبل حافل عظيم لمحمد، ويتطلع إلى ما سوف تظهره عناية الله على يديه من هدى ونور ورحمة وخير للإنسانية. واستشارته خديجة بنت خويلد، ابنة عمه، في الزواج بمحمد, فهنّأها من أعماق قلبه بهذا الجد السعيد، والزوج الكريم، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الأمين المؤتمن، والصادق الصدوق. وأخذ ورقة يبشر الناس بأن محمدا سيكون نبي العرب، والرسول المرتقب، الذي يختاره الله من بين الخلق لإبلاغ رسالته إلى الناس كافة، وجعل يتلهف أن يرى أيام بعثته, وأن يظهر نور الله، وينزل ناموسه إلى الأرض، وهو حي؛ ليؤمن به ويصدقه ويؤازره وينصره، وأخذ يستبطئ الأمر، ويقول: حتى أمر الله!! وكانت خديجة تقص عليه ما تشاهد من كرامات زوجها محمد بن عبد الله، وورقة يزداد إيمانا بأن محمدا هو النبي المدخر لهداية الناس والدنيا، ومن قوله في ذلك:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
فإن محمدا سيسود يوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
وصار ورقة يستزيد ابنة عمه خديجة من أخبار بعلها وفتاها، ويسأل عن محمد ليل نهار، ويعلن في الناس أن محمدا مدخر لأمر عظيم، ويقول:
وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح
فتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور في التجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن مع الأحمال قعص دوالح
يخبرنا عن كل حبر بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان: هود وصالح
وكان ورقة ينشد الشعر يتشوق فيه إلى إنجاز وعد الله، وكريم رحمته، وعظيم رعايته للحياة والإنسانية, بإرسال رسول من العرب إلى الناس ليهديهم سواء السبيل، وكان يمني نفسه بأن يرى بعثته ليؤمن به ويصدقه وينصره. وهكذا عاش ورقة كريما مبجلا، وسيدا شريفا سريا, وحكيما متدينا متطلعا إلى التوحيد، إلى أن بعث محمد بن عبد الله. ولما بعث رسول الله، وشاهد بحراء ما شاهد، ونزل عليه جبريل يبلغه رسالة ربه ... وعاد محمد إلى بيته، قالت له خديجة: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة, ورجعوا إليَّ. فحدثها بالذي رأى. فقالت: أبشر يا بن عم واثبت, فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها وانطلقت إلى ابن عمها ورقة، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله أنه رأى وسمع, فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده إن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله, فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله معتكفا ما قضى وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة وهو يطوف بالكعبة فقال: يابن أخي, أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله، فقال ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبَّل يافوخه، وانصرف رسول الله إلى منزله. وفي البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من حراء يرجف فؤاده، دخل على خديجة، فقال: "زملوني ... " حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم, وتحمل الكَلّ, وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيه جذعا, ليتني حيا إذا يخرجك قومك، فقال له رسول الله: " أَوَ مخرجي هم"؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي, وفتر الوحي. وهكذا شهد ورقة أن محمدا نبي هذه الأمة ... ومن شعره الذي قاله في ذلك:
وإن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إياه فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال فاعلمي ... من الله وحي يشرح الصدر منزل
فسبحان من تهوي الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السموات كلها ... وأقضاؤه في خلقه لا تبدل
وله أيضا:
جاءت خديجة تدعوني لأخبرها ... وما لنا بخفي الغيب من خبر
جاءت لتسألني عنه لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر
فقلت: على الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظري
وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقا عجبا ... يقف منه أعالي الجلد والشعر.
إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أكملت من أعظم الصور
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم ما حولي من الشجر
فقلت: ظني وما أدري أيصدقني ... أن سوف يبعث يتلو منزل السور
وشهد ورقة دعوة الرسول، وإيمان الناس برسالته وتعذيب قريش لهم. يروى أنه مر ببلال وهو يعذب برمضاء مكة، فيقول: أحد أحد، فوقف عليه، وقال: أحد أحد يا بلال, ونهاهم عنه فلم ينتهوا، فقال: والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حنانا, وقال:
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم ... فإن دعيتم فقولوا: دونه حدد
سبحان ذي العرش لا شيء يعادله ... رب البرية فرد واحد صمد
سبحانه ثم سبحانه نعوذ به ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
مسخر كل من تحت السماء له ... لا ينبغي أن يناوئ ملكه أحد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ دان الشعوب له ... والجن والإنس تجري بينها البرد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودى المال والولد
أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد؟
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا
ولقد كانت خديجة تأتي ورقة بما يخبرها به رسول الله أنه يأتيه. فيقول ورقة: لئن كان ما يقول حقا, إنه ليأتيه الناموس الأكبر، ناموس عيسى ابن مريم، ولئن نطق وأنا حي لأبلين لله بلاء حسنا. وكبرت سن ورقة، وفقد بصره من الكبر، وتوفي بعد البعثة بقليل دون أن يترك له عقبا. ولقد شهد له الرسول شهادة كريمة؛ يروى أنه قال: "لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيته في ثياب بيض". وروي عن عروة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأخي ورقة أو لابن أخيه: "شعرت أني قد رأيت لورقة جنة أو جنتين" والشك من هشام. وروى الترمذي: قال رسول الله: "رأيته في المنام وعليه ثياب بيض". وروي أنه سئل عن ورقة فقال: "رأيته في المنام وعليه ثياب بيض, فقد ظن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض, فرحمه الله ورضي عنه". وكذلك كلن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي : من المتحنفين الموحدين في الجاهلية، وكان لا يذبح للأصنام ولا يأكل الميتة والدم، ومات قبل البعثة بخمس سنين، فكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا معشر قريش, والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، وكان يقول عن نفسه: يا عامر, إني فارقت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل، وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب وما أراني أدركه, وأنا أوصي به وأصدقه وأشهد أنه نبي. وأسلم ابنه سعيد، وكان إسلام عمر عنده في بيته؛ لأنه كان زوج أخته فاطمة. وكان نفر من قريش: زيد وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش خالفوا قريشا وقالوا لهم: إنكم تعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام، ولا يأكلون ذبائحهم. واجتمع زيد بالنبي قبل البعثة وقال له: إني شاممت النصرانية واليهودية فلم أر فيهما ما أريد, فقصصت ذلك على راهب، فقال لي: إنك تريد ملة إبراهيم الحنيفية وهي لا توجد اليوم, فالحق ببلدك فإن الله تعالى باعث من قومك من يأتي بها, وهو أكرم الخلق على الله. ويروى أنه كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم.. وعبد الله بن جدعان ، وكنيته أبو زهير، من تيم، جواد كريم، مدحه الشعراء فأجزل لهم العطاء، وممن مدحوه: أمية بن أبي الصلت، وأبوه. وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وتتحدث عنه الأساطير القديمة بأنه كان فقيرا مملقا، فكشف كنزا خبأه ملوك من جرهم، فأصبح غنيا كريما، يصل عشيرته، ويطعم الناس، ويفعل المعروف، ويروى أن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- كان يحضر طعامه، وفي بيته عقد حلف الفضول بين قبائل قريش، وقد تعاهدت قريش يومئذ على ألا يظلم أحد مكة، وأن تنصف كل من وقع عليه ظلم. وعبد الله ابن عم عائشة؛ ولذلك قالت فيه عائشة لرسول الله: يا رسول الله, إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، ويفعل المعروف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا؛ إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". وفيه يقول أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرع ... لك الحسب المهذب والسناء
كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
ويقول فيه كذلك:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... بخير، وما كل العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك، كما بعض السؤال يشين
وكذلك المتلمس بن أمية الكناني الذي كان يخطب العرب بفناء الكعبة, ويقول: أطيعوني ترشدوا، قالوا: ما ذاك؟ قال: إنكم قد تفردتم بآلهة شتى وإني لأعلم ما الله راضٍ به, وأن الله تعالى رب هذه الآلهة، وأنه ليحب أن يعبد وحده، فتفرقت عنه العرب. والشاعر أمية لن أبي الصلت الذي كان يتوقع أن تكون النبوة له وله شعر كثير في توحيد الله تعالى ، ومن ذلك قوله :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا رب الحنيفة مسانا وصبحنا
.



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)