العرض الشعري
في المعلقات الجاهلية
رأينا فيما سبق أن كل معلقة كانت أثرًا لانفعال معين لدى الشاعر، سيطر عليه من أول القصيدة إلى آخرها، وكان هذا الانفعال يوجه الشاعر من البدء فيحدد له الزاوية التي يبدأ منها، وبمجرد أن ينتهي من افتتاحيته، كانت تتوالى عليه الخواطر وتتوارد الأفكار من باب تداعي المعاني، والحديث ذو شجون، فكانت الفكرة تسوقه إلى أخرى تتصل بها أو تستدعيها إلى أن ينتهي مما يريد، ومن ثم جاءت الأفكار فيها مترابطة متوالية في تسلسل شعري لطيف، فالحبكة الموضوعية فيها تامة. وأحيانًا يستطرد الشاعر فيتحدث عن أشياء قد تبدو لأول وهلة أنها خارجة عن الإطار الذي يسير فيه، ولكن بأقل تأمل سوف يتبين أنها وثيقة الصلة بالفكرة التي يعرضها، كوصف مطاردة الحمار للأتان، وفرار البقرة الوحشية الحزينة الفزعة، في معلقة لبيد، فقد أوردهما الشاعر لبيان سرعة ناقته وكالحديث عن روضة يفوح أريجها في معلقة عنترة فقد أورده لتصوير رائحة الحبيبة، وكان الشاعر يحاول أن يوضح فكرته توضيحًا تامًّا، مستعينًا في ذلك كلما تطلب الإبداع الفني بالتصوير الشعري، فزخرت المعلقات بالصور الشعرية الرائعة، منها؛ على سبيل المثال لا الحصر: قول امرئ القيس:
تصدُّ وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل
فقد صور وجهها وعينيها وذراعيها وحركتها في التفاتها إليه وعنه بحركة فيها جمال ودلال ورقة وحنان وقوله في الإعجاب بالحصان:
ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه ... متى ما ترق العين فيه تسهل
وقوله في بهجة الطيور وسرورها ونشوتها في الصباح الباكر وعقب المطر:
كان مكاكي الجواء غدية ... صبحن سلافًا من رحيق مفلفل
وقول طرفة في جمال الوجه ونضرته:
ووجه كأن الشمس حلت رداءها ... عليه نقي اللون لم يتخدد
وقوله في تصوير الخائف من ارتياد الأماكن المجهولة، إذ يتمنى أن يفدي نفسه ومن يحب فلا يضطر للسير فيها وتضطرب نفسه وترتعد فرائصه وتبلغ منه الروح الحلقوم، وتجيش نفسه خوفًا ورعبًا كما تجيش القدر وتصور له الأوهام والخيلاء هلاكًا في كل خطوة قدم:
على مثلها أمضي إذ قال صاحبي ... ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
وجاشت إليه النفس خوفًا وخاله ... مصابًا ولو أمسى على غير مرصد
وقوله في صلة الإنسان بالموت وشدة ارتباطه به متى حان ميعاده جذبه كأنه مربوط بحبل طرفه في يده:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد
متى ما يشأ يومًا يقده لحتفه ... ومن يك في حبل المنية ينقد
وقوله في وصف سيفه بأنه حادٌّ ماضٍ ضربته قاضية لا تحتاج إلى تثنيتها، وقطعه أسرع من الصوت:
فآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لعضب رقيق الشفرتين مهند
حسام إذا ما قمت منتصرًا به ... كفى العود منه البدء ليس بمعضد
أخي ثقة لا ينثني عن ضريبة ... إذا قيل مهلا قال حاجزه قد
وقول زهير في البقر والظباء وهن بين قائمات ونائمات وماشيات مقبلة ومدبرة، وصاعدة ونازلة، زرافات، ووحدانًا، وأولادهن من أماكن رقادهن:
بها العين والأرآم يمشين خلفه ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وقوله في ارتحال الظعائن في السحر إلى وادي الرس مباشرة بدون خطأ في الاتجاه إليه:
بكرن بكورًا واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد للفم
وقوله في منظرهن الوسيم الساحر:
وفيهن ملهى للَّطيف ومنظر ... أنيق لعين الناظر المتوسم
وقوله في فظاعة الحرب وما يتخلف عنها من مصائب ومحن:
فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقحْ كشافًا ثم تنتجْ فتتئم
وقوله في قوة القوم ومنعتهم:
كرام، فلا ذو الضعن يدرك تبله ... ولا الجارم الجاني عليهم بمسلم
وقوله في البطل القوي الكامل السلاح:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم
وقوله في حتمية الموت، وأن الحذر لا ينجي من القدر:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
وقوله في جهل الغريب بما حوله، وفي هوان النفس:
ومن يغترب يحسب عدوًّا صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
وقول لبيد في وصف مكان تهطل فيه أنواع الأمطار المختلفة غدوًّا وعشيًّا فطالت أعشابه وكثرت أشجاره وتكاثرت فيه الظباء والنعام:
رزقت مرابيع النجوم وصابها ... ودق الرواعد جودها فرمامها
من كل سارية وغادٍ مدجن ... وعشية متجاوب أرزامها
وقوله في تصوير بقرة وحشية شديدة البياض في ليلة حالكة الظلمة، ينهمر فيها المطر بشدة، فتتحاماه بفروع شجرة قاصية عن طريق:
تجتاف أصلًا قالصًا متنبذًا ... بعجوب أنقاء يميل هيامها
يعلو طريقة متنها متواترًا ... في ليلة كفر النجوم غمامها
وتضيء في وجه الظلام منيرة ... كجمانة البحريّ سل نظامها
وقوله في نزول الربيئة من المرقب بعد أن غربت الشمس وخيم الظلام فستر أماكن المخافة وكان في انتظار فرسه الكريمة الطويلة:
حتى إذا ألقت يدًا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة ... جرداء يحصر دونها جرامها
وقول عنترة في وصف روضة فيحاء تتعاورها الأمطار فكثر عشبها وطال نباتها وكثرت أزهارها وفاح عبيرها، وغرد ذبابها:
أو روضة أنقًا تضمن نبتها ... غيث قليل الدمن ليس بمعلم
جادت عليه كل بكر ثرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم
سحًّا وتسكابًا فكل عشية ... يجري عليها الماء لم يتصرم
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
وقوله في وصف طعنة يندفع منها الدم بغزارة وقوة، فيحدث صوتًا تهتدي به الذئاب الجائعة:
برحيبة الفرغين يهدي جرسها ... بالليل معتس الذئاب الضرم
وقوله في وصف المعركة حين جاءت الجيوش، وكل جندي يؤجج حماسة الآخر، والتحم عنترة بالأعداء والقوم يهتفون باسمه، ويعلقون عليه آمالهم، فيزداد التحامًا، وتنهال الرماح عليه وعلى حصانه من كل جانب، ويتقدم بحصانه أكثر وأكثر حتى اكتسى حصانه سربالا من الدم، فانحرف بصدره عن موقع الرماح ونظر إلى فارسه نظرة فيها رجاء واستعطاف أن يشفق به شيئًا ما، وكان ذلك بدمعة من الحصان انحدرت على خده، وصوت مكتوم جاش به صدره، ولكن صيحات الإعجاب كانت تنزل عليه بردًا وسلامًا فتزيل سقمه وتزيده نشاطًا وشجاعة.
لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إليّ بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
وقول عمر بن كلثوم في الحسناء المصون المترفة العفيفة البعيدة عن الريب:
تريك إذا دخلت على خلاء ... وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر ... تربعت الأجارع والمتونا
وثديًا مثل حق العاج رخصا ... حصانًا من أكف اللامسينا
وقوله في تصوير وجد الحزين بناقة ضل منها ولدها فرددت الحنين، وبحال امرأة قاربت سن اليأس، وفقدت أبناءها التسعة:
فما وجدت كوجدي أم سقب ... أضلته فرجعت الحنينا
ولا شمطاء لم يترك شقاها ... لها من تسعة إلا جنينا
وقوله في عنف الحرب، وسعة ميدان القتال، وكثرة الضحايا في المعركة الواحدة:
متى ننقل إلى قوم رحانا ... يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون ثقالها شرقي نجد ... ولهوتها قضاعة أجمعينا
وقوله في تصوير قدوم الأعداء وما قوبلوا به:
نزلتم منزل الأضياف منا ... فأعجلنا القرى أن تشتمونا
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
أي نزلوا عليهم نزول الأضياف، فعجلوا بإكرامهم خوفًا من أن يسبوهم، فجاءهم سريعًا قبل شروق الشمس، وكأن القرى رحى أبادتهم جميعًا. وقوله في تصوير عنادهم وإبائهم وأنفتهم وجزاء من يحاول أن يمسهم:
فإن قناتنا يا عمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا
عشوزنة إذا انقلبت أرنت ... تشق قفا المثقف والجبينا
فهم كالقناة الصلبة العنيفة إذا حاول أحد أن يدخلها الثقاف ليقوم اعوجاجها أبت أن تستقر، وقفزت بصوت مزعج في وجه المثقف فشجت جبهته ودقت عنقه.
ويقول الحارث بن حلزة في تصوير تجمع القوم وما يحدثونه من جلبة وضوضاء بسبب تداخل النداءات واختلاط القوم وصباحهم بصهيل الخيل ورغاء الإبل:
أجمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من منادٍ ومن مجيب ومن تصـ ... ـهال خيل، خلال ذاك رغاء
وقوله في قوة القوم وشدة بأسهم وثباتهم، فلا يرهبون الأخطار، ولا تنال منهم الدواهي التي لا تستمع لمن يسترحمها، حيث صورهم بطود شامخ تنشق عنه السحب ولا تنال أحداث الزمان ولا الأخطار منه شيئًا:
وكأن السنون تردى بنا أر ... عن جونًا ينجاب عنه الغماء
مكفهرًا على الحوادث ما تر ... توه للدهر مؤيد صماء
وقوله فيما حدث للأعداء:
فجبهناهم بضرب كما يخـ ... ـرج من خربة المزاد الماء
وحملناهم على حزن ثهلا ... ن شلالًا ودميّ الأنساء
وفعلنا بهم كما علم اللـ ... ـه وما إن للخائنين دماء
فالقتلى كانوا ينزفون بغزارة كما يندفع الماء من أفواه القرب، والفارون تجشموا الهرب في مسالك وعرة حتى دميت أنساؤهم، وقد فعلوا بهم أفعالًا شنيعة يعلمها الله، وذهبت دماؤهم هدرًا، فجزاؤهم ما حل بهم، فالخائن لا حق له ولا كرامة.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)