منزلة الناقد الأدبي
في العصر الجاهلي
إذا كانت منزلة الشاعر في العصر الجاهلي منزلة مرموقة وإن تراجعت في أواخر هذا العصر فإن منزلة الناقد ترتبط بشخصية الناقد فالنابغة الذبياني كان بمنزلة عالية لسببين أنه أولا شاعر من الطبقة الأولى وثانيا لأنه كان المحكم الأول في سوق عكاظ وحسان بن ثابت رضي الله عنه اشتهر بمنزلته الشعرية أكثر من النقدية لأنه لم يخصص للنقد العملي حيزا كبيرا من حياته الثقافية فقد بقيت نزعة الشعر هي الموجهة لموهبته أما من الملوك فقد كان النعمان بن المنذر الذي يتذوق شعر النابغة ويحكم عليه بالجودة وإن لم يدون نقده وكذلك كان الأمير الغساني جبلة بن الأيهم الذي سمى قصيدة حسان اللامية البتارة يتذوق الشعر ويحكم عليه إضافة إلى أن النقاد يحتلون في الوسط الثقافي والأدبي –الشعر- المنزلة العالية لأنهم من يقدم الشعراء للمجتمع الجاهلي على أنهم أعلام الثقافة المدافعون عن قبائلهم . وحين كثر تلاقي الشعراء عند ملوك المناذرة في الحيرة وملوك غسان في أطراف الشام، جعل بعضهم ينقد بعضاً وهذه الأحاديث والأحكام والمآخذ هي نواة النقد العربي الأول وكانت عكاظ سوقاً تجارية يأتيها العرب في مواسم معينة من كل فجّ عميق، وكانت مجتمعاً للقبائل العربية يفدون عليها للصلح بعد حروب أو للتعاهد أو التفاخر وكانت منبراً للخطباء والدعاة، و بيئة من بيئات النقد الأدبي، يلتقي الشعراء فيها كل عام، و أن النابغة الذيباني كانت تضرب له فيها قبة حمراء من أدم فيأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وذائع ستفيض أيضاً في كتب الأدب ذلك المشهد من مشاهد عكاظ ما كان بين النابغة واللأعشى وحسان بن ثابت والخنساء، حيث أنشد الأعشى مرة، ثم أنشد حسان ثم شعراء آخرون ثم أنشدته الخنساء قصيدتها في رثاء أخيها صخر جاء فيها قولها:
وإن صخراً لتأتمّ الهداة به كأنه علم في رأسه نار
فأعجب بالقصيدة ، وقال لها:
لولا أن أباً بصير "يعني الأعشى "أ نشدني قبل قليل لقلت إنك أشعر الجن والإنس، فالأعشى إذا أشعر الذين أنشدوا النابغة ثم يليه الخنساء في جودة الشعر.
وتذكر الروايات أنَّ حسان بن ثابت قد غضب من تفضيل النابغة للخنساء عليه فثار وقال للنابغة: أنا أشعر منك ومن أبيك فرد عليه النابغة: أنت لا تستطيع أن تقول كقولي
فإنك كالليل الذي هـو مدركي وإن خلت أنَّ المنتأى عنك واسع
خطاطيفُ حجنٌ في حبال متينة تشـدُّ بها أيـدٍ إليـك نـوازع
فخنس حسان ولم يحر جوابا
وفي مناسبة أخرى يذكر الرواة أن النابغة الذبياني وفي بعض الروايات ينسب الخبر للخنساء أنه سمع قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الرحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابنـي محرق فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فنقد النابغة هذين البيتين وبين عيوباً كثيرة فيهما وينسبون للنابغة أنه عاب عليه أنه قال (الجفنات) وهي جمع جفنة جمع مؤنث سالم، وجمع المؤنث السالم من جموع القلة فهو أراد أن يفتخر بكثرة جفان قومه ولكن هذه الصيغة من الجمع أفادت التقليل وكان عليه أن يستعمل (الجفان) بدل الجفنات لأن الجفان من صيغ جموع الكثرة ويقولون إ نهم عابوا عليه كملة (الغرّ) حيث نعت بها الجفان ، والغرة بقعة بياض في سوار كثير ، وكان عليه أن يستعمل (البيض) بدلا منها ثم يقولون إ نه ذكر (يلمعن) والأصح أن يقول (يشرقن) وقال (الضحى) والأصوب (الدجى) وذكر (أسياف) وهي جمع قلة والصواب أن يقول (السيوف) جمع كثرة، وقال (يقطرن) والقطرات تدل على قلة القتلى فماذا أراد أن يشعر سامعه بكثرة قتلاه في الحروب فليجعل السيوف (يجرين) بالدم ثم قالوا في نقد البيت الثاني إن الشاعر افتخر بأولاده وبأولاده إخواته فخالف بذلك سنة العرب التي تفتخر بالأجداد لا بالأحفاد إلى غير ذلك من النقد الذي نسب إليه أو إلى الخنساء وقصته تطول في بعض الروايات وتقصر في بعضها الآخر، وكل ذلك تأباه طبيعة الأشياء وكل ذلك يمكن أنْ يرفض رفضاً علمياً لأسباب كثيرة منها.
آ-إن الإنسان الجاهلي لم يكن على معرفة بجمع المؤنث السالم وجمع التكسير، وأيها من جموع القلة وأيها من جموع الكثرة ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين هذه الأشياء كما فرق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل عرف مصطلحات العلوم وعرف الفروق الدقيقة بين دلالات الألفاظ، وألمّ بشيء من المنطق، والنابغة أو الخنساء من كل ذلك بريئان.
ب-ولو أن هذه الروح النقدية الجاهلية المنطقية موجودة عند الجاهليين لوجدنا أثرها في عصر الرسول يوم تحدّى القرآن الكريم العرب وأفحمهم إفحاماً، صحيح أن القرآن وصفهم بأنهم (قوم خصمون) ولكن كل ما عملوه أنهم لجؤوا إلى الطعن في القرآن طعناً عاماً لا دقة فيه ، فقالوا: (سحر مفترى) وقالوا (أساطير الأولين) ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا هذا القرآن الكريم
ويروى أن أم جندب قضت لعلقمة على امرئ القيس حين حكمت بينهما في قصيدتيهما المعروفتين قصيدة امرىء القيس التي يقول فيها:
خليلي مرّا بي على أمّ جندب لأقضي لبانات الفؤاد المعذب
فللسوط الهوب، وللسان درة وللزجر منه وقع أهوج متعب
وقصيدة علقمة التي يقول فيها :
ذهبت من الهجران في كل مذهب ولم يلها حقاً كل هذا التجنب
فـــأدركهنّ ثانـياً من عنانه يمرّ كمرّ الرائح المتــحلب
معللة ذلك بأن امرأ القيس وصف فرسه بالبلادة وأنه كليل لم يدرك الطريقة إلا بعد أن ضرب بالسوط وأثير بساق الراكب وهيج بالزجر والصياح، أما فرس علقمة فنشيط لا يحتاج إلى إثارة ليسرع في عدوه إسراعاً، ويتعب في السير أنصباب الريح جرى خلف الطريدة ولجامه مشدود إلى الخلف مثن غير مرخي، فإن صحت هذه القصة كان لها دلالة كبيرة في النقد الأدبي تتمثل هذه الدلالة بأن أم جندب تريد مقياساً دقيقاً تعتمد عليه في الموازنة، فوجدت ذلك المقياس في وحدة الروى، ووحدة القافية، ووحدة الغرض ، وهذا يكفي لأن يكون أساساً من أسس النقد في العصر الجاهلي، وهذا يدل أيضاً على أن النقد لم يكن في بعض الأحيان – سليقة وفطرة، بل كانت له أصول يعتمد عليها. ولكن هناك من النقاد من يرفض هذه القصة جملة وتفصيلاً بدعوى أن القصيدتين متداخلتان في كتب الأدب، فبعض أبيات الأولى متداخلة في أبيات الثانية وهناك ألفاظ بأعيانها في الثانية مذكورة في القصيدة الأولى، وبدعوى أن امرأ القيس عرف بوصف الخيل والصيد، وشهر بذلك دون الجاهليين وهو في المعلقة وفي قصيدته اللاحقة الأخرى لا يجارى في هذا الغرض، وهذا هو الذي جعل عبد الله بن المعتز لا يعترف بنسبة هذه القصيدة لامرئ القيس. وحفظت لنا كتب الأدب خبراً آخر مفاده أن طرفة بن العبد سمع المتلمس ينشد بيته
وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال جملته المشهورة : "استنوق الجمل" لأنه لمح بأن المتلمس وصف جمله بأنه على عنقه الصيعرية وهي علامة توضع على عنق الناقة لا على عنق الجمل فدعاه ذلك إلى أن قال ما قال. ولو عدنا إلى النابغة الذبياني فارس ميدان النقد في عكاظ لألفينا مجموعة من كتب الأدب والأخبار تتناقل قصته مع أهل يثرب (المدينة المنورة) الذين نبهوه إلى ما وقع في شعره من الإقواء في قصيدته الدالية حيث يقول:
أمن آل مية رائح أو مفـتدى عجلان ذا زاد وغير مـزود
رغم البـوارح أن رحلتنا غدا وبذاك خبرنا الغراب الأسود
ويقال أنه عندما غنى أهل المدينة بهذين البيتين ظهر فيهما الأفواه (الأفواء هو اختلاف حركة حرف الروى وهو الحرف الأخير – الدال هنا في الكلمة القافية) من دال مكسورة في كل أبيات القصيدة إلى دال مضمومة في البيت التالي – كما اقتضتها حركة الإعراب ويقولون إنه قال بعد أن نبه إلى هذا العيب: دخلت إلى المدينة وفي شعري هنة فخرجت منها وأنا أشعر الناس ويروي الرواة أبياتاً أخرى للنابغة في هذه القصيدة اضطر فيها إلى الإقواء وذلك في قوله
سقط النصيف ولم ترد اسقاطه فتناولتـه واتقتنـا باليـد
بمخضب رخـص كأن بنانـه غنم على أطرافه لم يعقـد
فمن روى الشطر الثاني من البيت الثاني كما أثبتناه لم يجد فيه عيباً ولا إقواء ولكن بعض الناس يرونه : عنم يكاد من اللطافة يعقد وينسبون إلى النابغة أنه أقوى من هذه الرواية. ومن صور النقد في العصر الجاهلي الأحكام التي كانت تطلق على القصائد فهي على وجازتها ضرب من النقد المركز، فقد قيل : إنَّ العرب كانت تعرض على قريش أشعارها، فما قبلته قريش كان مقبولاً وما رفضته كان مرفوضاً، فقدم عليهم علقمة بن عبده ذات سنة
وأ نشدهم قصيدته التي يقول في مطلعها: (هل ما علمت وما استودعت مكتوم)
فقالوا: هذه سمط الدهر ثم عاد إليهم في العام القادم فأنشدهم
طحا بك قلب بالحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر؛ ويروى أنَّ أحد ملوك الغساسنة فضل حسان بن ثابت الأنصاري على النابغة وعلى علقمة بن عبده وكانا حاضرين معه في مجلس ذلك الملك وأثنى على لاميتة التي يقول فيها :
لله در عصابة نادمتهم يوما يجلق في الزمان الأول
ودعاها البتارة التي بترت المدائح وكذلك دعوا قصيدة سويد بن أبي كاهل التي يقول فيها
بسطت رابعة الحبل لنا فوصلنا الحبل منها ما اتسع
دعوها اليتيمة لأنه لم ينظم في فنها مثلها.
فهذه النعوت التي نعت بها بعض القصائد الجاهلية ضرب من النقد المركز، فاذا أضفنا إليها النعوت التي أطلقت على الشعراء أنفسهم كتسميتهم لـ(النمر من تولب) بالكيس ، لحسن شعره وسموا (طفيل الغنوى) طفيل الخيل لشدة وصفه إياها ومراعته فيه ، و(النابغة) لنبوغه في الشعرو( المهلهل ) لهلهلة نسح شعره فإذا اضفنا كل هذه النعوت للشعر وللشعراء أدركنا أنها ضرب من النقد أيضاً.
وبقيت عندنا صورة أخرى من صور النقد الجاهلي ذات دلالة على نوع من النقد وهي ما رواه أبو الفرج الاصفهاني في كتابه الأغاني حين قال : "(اجتمع الزبرقان بن بدر والمخبل السعدي وعبدة بن الطبيب وعمرو بن الأهتم قبل أن يسلموا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فنحروا جزوراً واشتروا ببعير وجلسوا يشوون ويأكلون، فقال بعضهم: لو أن قوماً طاروا من جودة أشعارهم لطرنا فتحاكموا إلى أول من يطلع عليهم فطلع عليهم ربيعة بن حذار الأسدي، وقد نزلوا بواد وهم جلوس ، فلما رأوه سرهم، وقالوا له: أخبرنا أينا أشعر؟ قال أخاف أن تغضبوا فامنوه من ذلك فقال: أما عمرو بن الأهتم فشعره برود يمانية تنشر وتطوى وأما أنت يازبرقان فشعرك كلحم لم ينضج فيؤكل ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من نار الله يلقيها على من يشاء وأما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة ا حكم فرزها فليس يقطر منها شيء. أرأيت إلى هذا النقد الذي أطلقه ربيعة بن حذار على الشعراء الذين اسضافوه ، فهو نقد على الرغم من عموميته فيه ضرب من الدقة ونزوع إلى توضيح المفهوم بمعطيات البيئة، إذ لا يملك النقد من وسائل تعبيرية به تصلح للتشبيه سواها .




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)