الأغراض الشعرية
في عصر صدر الإسلام
نظرا لتغيير القيم الاجتماعية والإنسانية التي جاء بها القرآن الكريم في عصر صدر الإسلام عمّا كانت عليه في العصر الجاهلي ، ونظرا لاستمرار قسم من هذه القيم فقد استمر الشعراء في الحديث عن أغراض متنوعة: منها ما هو تقليدي ، ومنها ما هو مستحدث تبعا لمدى التأثر الذي طرأ على شخصية الشاعر ، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من الشعراء ما قيل في جميع الأغراض ومما لا يتنافى مع الأدب والذوق الرفيع بعيداً عن الكذب والتهتك والتجني والرذيلة وإثارة النزوات والإحن والضغائن والأحقاد . سواء أكانت الأغراض الشعرية فخراً أو مدحاً أو غزلاً أو هجاءً أو رثاءً .
1-الفخر : استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعراء من الصحابة يفخرون بما يقولون حقاً كما حدث مع أبي دجانة عندما أخذ السيف من رسول الله يوم أحد وأخذ يتبختر مرتجزاً :
إني امرؤ عاهدني خليلي إذ نحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقيم الدهر في الكبول أضرب بسيف الله والرسول
وكما حدث مع سعد بن أبي وقاص حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى (رابغ) مع سرية من الجيش وحمى سعد المسلمين من المشركين قائلاً :
ألا هل أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي
وما يعتد رامٍ في عدوٍ بسهم يا رسول الله قبلي
وفي قصة السرية التي بعثها النبي إلى بني تميم بقيادة عيينه الفزاري وما حدث بعدها من تفاخر بين شاب طلب منه الأقرع أن يذكر فضائل قومه يقال إنه الزبرقان وبين حسان بن ثابت رضي الله عنه
قال الزبرقان :
نحن الكرام فلا حَيٌّ يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا من الشواء إذا لم يؤنس القزع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه فيرجع القوم لا أخبار تستمع
فأجابه حسان :
إن الذوائب من مُهر وإخوتهم قد بينوا سنة للناس تتَّبعُ
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم إذا تفاوتت الأهواء و الشيع
2-المديح :
جاء الإسلام لينفي وليبعد صفة التكسب عن الشعراء من خلال قول الرسول عليه الصلاة والسلام ( احثوا في وجوه المادحين التراب ) . ولكن المدح توجــه بفضل القيم الجديدة باتجـــاه الطريق الأسلم فكان مدحا دون تكسب ولا يعدو صفات الممدوح ، وأثنى الشعراء على النبي محمد صلى الله عليه وسلم واستمع الرسول لهم في مسجده دون رياء أو تملق لتحصيل مال أو جاه ملتزمين وجه الصدق قولاً وعاطفةً وقصة كعب وبجير حين عاتب بجير كعباً على إسلامه معروفه ، فقد دخل بجير على الرسول وعرض عليه الإسلام فأسلم فبلغ ذلك كعباً فقال :
ألا أبلغا عني بجيراً رسالة على أي شيء ويبَ غيرك ولّكا
سقاك أبو بكر بكأس رويةٍ وأنهلك المأمور منها وعلّكا
فأهدر رسول الله دمه فجاء إلى المسجد النبوي وأعلن أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إسلامه وأنشده قصيدته البردة :
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل
وكذلك ما صنعه الأعشى الذي اتجه إلى المدينة ليمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاعترضته قريش وأغرته بمئة ناقة , والذي عكف راجعاً دون أن يعلن إسلامه فروي عنه في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم :
أجدّك لم تسمع وصاة محمدٍ نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا
نبيّ يرى مالا ترون و ذكره أغار لعمري في البلاد و أنجدا
فالمدح فن عريق من فنون الشعر العربي، وأكثرها تناولا عند شعراء العربية، منذ عرف الشعر العربي على صورته المعروفة، فيه تبارى الشعراء وتفاضلوا، وفيه كان معاشهم ؛ فالرسول صلّى الله عليه وسلّم سمع الشعراء، وأجازهم على مدحهم، فكانت الخنساء تقدم على رسول الله و «كان يستنشدها، ويعجبه شعرها، وكانت تنشده، وهو يقول: هيه يا خناس، ويومئ بيده صلّى الله عليه وسلّم» ، فالنبي الأمين لم يكن يكره الشعر، ولم يكن يحارب المدح، لكنه كان يحارب فيه الكذب والتزيّد كما أوضح ذلك الأبهيشي في قوله: «أما قوله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا رأيتم المادحين، فاحثوا في وجوههم التراب) . فقد قال العتبي محمد بن عبد الله بن عمرو الأموي، هو المدح الباطل والكذب، وأما مدح الرجل بما فيه، فلا بأس به، وقد مدح أبو طالب والعباس وحسان وكعب وغيرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولما يبلغنا أنه حثا في وجه مادح ترابا وقد مدح هو صلّى الله عليه وسلّم المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم» ( الأبهيشي: المستطرف 1/ 299 وصحيح مسلم، كتاب الشعر: 4/ 1766 ) ، وحين بعث النبي الهادي واجه مقاومة شديدة من المشركين، الذين كفروا برسالته السمحة وخافوا على مكانتهم، ونمط معيشتهم، التي دعا الإسلام إلى تغييرها وإلى مساواة جميع الخلق تحت رايته، فتصدوا له منذ البداية، وخاضوا مع المسلمين صراعا طويلا استخدموا فيه جميع أسلحتهم إلى أن فلّت، وإلى أن كتب الله للإسلام النصر المبين. وكان الشعر من أمضى أسلحتهم، لما له من فاعلية وتأثير في مجتمعهم.. وقد أظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الصبر والمصابرة ومن الجلد والأخلاق الكريمة ما جعله محط أنظار العرب جميعا، الذين آمنوا برسالته، والذين لم يؤمنوا، ومنحه الله تعالى من مواهبه ما بهر نفوس القوم وأخذ بعقولهم، فلم يختلف اثنان على تقدمته والإشادة بشخصه الكريم، واتجهت إليه قرائح الشعراء، مادحة مثنية، ولم يتح لشعراء المشركين الانتقاص من أخلاقه وقدره، وكل ما فعلوه هو مهاجمة دعوته من منطلق الخوف على الامتيازات والمكانة، والتعصب الأعمى لباطلهم الموروث. والأعشى يقول في قصيدته:
نبيّ يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغبّ ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدّك لم تسمع وصاة محمّد ... نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أنّ لا تكون كمثله ... وإنّك لم ترصد لما كان أرصدا
ومن أمثلة ذلك أيضا ما قيل عن شعر أبي طالب، ومدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد نصّ ابن سلام ( ابن سلام: محمد بن عبد الله الجمحي، إمام أهل البصرة في الأدب، من مؤلفاته: طبقات فحول الشعراء. الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 18/ 204.) على أن أبا طالب كان: «شاعرا جيد الكلام، أبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم ... وقد زيد فيها وطوّلت.. وسألني الأصمعي عنها، فقلت صحيحة جيدة، قال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا» ( ابن سلام: طبقات الفحول الشعراء ص 244. والقصيدة هي:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلّاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
وأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصّر عنها سورة المتطاول
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إليها ليس عنه بغافل
لاحظ الأصمعي في القصيدة متسعا للتّزيّد والإضافة، فالقصيدة تدعو إلى التساؤل، وخاصة حول دواعي هذا المدح، وأبو طالب حينذاك سيد قومه، ولم يكن صلّى الله عليه وسلّم قد عرف قدره حق المعرفة بين الناس، ولذلك فسر ابن أبي الحديد هذا الأمر بقوله: «وإن سرا اختص به محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى أقام أبا طالب- وحاله مع حاله- مقام المادح له، لسرّ عظيم وخاصيّة شريفة.. وهذا في باب المعجزات عند المنصف، أعظم من انشقاق القمر وانقلاب العصا» ( ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 11/ 116. ) ، ومن ذلك قصة سواد بن قارب ورئيّه الذي جاءه في النوم ثلاث مرات، يدعوه إلى الإسلام، ومما قاله له في المرّة الأولى:
فارحل إلى الصّفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها
وفي المرة الثانية:
فارحل إلى الصّفوة من هاشم ... فليس قداماها كأذنابها
وفي المرة الثالثة:
فارحل إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
فلما وصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر إليه وقال: هات يا سواد بن قارب ، فقال:
أتاني رئيّي بعد هدء ورقدة ... ولم أك فيما قد بلوت بكاذب
وأشهد أنّ الله لا ربّ غيره ... وأنّك مأمون على كلّ غائب
وأنّك أعلى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فرحا شديدا ، ولم ينقطع الجن عن إخبار العرب عن أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد بعثته، ولم يقف عند دعوتهم إلى الإيمان به، بل ظل يعلمهم بأحواله أولا بأول، إلى أن توفاه الله تعالى، فإذا الهواتف تنعي إليهم الرسول الكريم، كما حدّث أبو ذؤيب ، فقال: «بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليل، فاستشعرت حزنا، وبتّ بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها، حتى إذا قرب السحر أغفيت، فهتف بي هاتف، وهو يقول:
خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النّخيل ومعقد الآطام
قبض النّبيّ محمّد فعيوننا ... تذري الدّموع عليه بالتّسجام
فقصيدة من أشهر قصائد المديح النبوي وأوثقها، هي بردة كعب بن زهير، داخلها التزيد ، والملاحظ على الشعر الذي مدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غلبة القيم التقليدية عليه، وقد يكون ذلك راجعا إلى أن الشعراء لم يفقهوا الدين الجديد، ولم تدخل في روعهم مفاهيمه، لذلك لم يظهر في شعرهم التأثر القوي به، وكانت النّبوة جديدة عليهم، لا يعرفون كيف يخاطبون صاحبها، فكان مديحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مديحا تقليديا، وبالقيم الاجتماعية التي كانت سائدة في عصرهم، والتي يتمتع بها السيد في قومه، مثل الإشادة بالكرم في قول أحدهم:
حباها رسول الله إذ نزلت به ... فأمكنها من نائل غير مفقد
فأضحت بروض الخضر وهي حثيثة ... وقد أنجحت حاجاتها من محمّد
فهذا الشاعر وأمثاله كانوا يمدحون النبي الكريم بالقيم التي كانت موضع فخر في الجاهلية، وكأنهم يمدحون ملكا أو سيدا، وليس نبيا مرسلا . فمدّاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، كانوا في مديحهم يتبعون تقاليدهم الفنية الجاهلية، فظلوا يعبرون، بالطريقة التي ألفوها، والتي نتجت عن طبيعة مجتمعهم، وتكوينهم الفكري والخلقي والفني، ولذلك نجد أثر الدين ضئيلا، لكنه أخذ بالازدياد مع تقدم الوقت، فإذا بالشعراء يمدحون النبي الأمين بمعان دينية إسلامية إلى جانب القيم الاجتماعية التقليدية، ولم يكتفوا بذكر اسمه أو صفته فقط، مثل قول أبي عزّة الجمحي :
ألا أبلغا عنّي النّبيّ محمّدا ... ........بأنّك حقّ والمليك حميد
وأنت امرؤ تدعو إلى الرّشد والتّقى ... عليك من الله الكريم شهيد
وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة ... لها درجات سهلة وصعود
فإنّك من حاربته لمحارب ... شقي ومن سالمته لسعيد
فالقيم الإسلامية أخذت تظهر في مخاطبة الرسول الكريم ومدحه، وخاصة عند الشعراء من الصحابة، الذين لم يقتصروا على ذكر صفاته الجليلة وأخلاقه العظيمة، بل تحدثوا عن هدايته، وأوردوا المعاني الدينية في مدحه، مثل قول عبد الله بن رواحة :
خلّوا بني الكفّار عن سبيله ... خلّوا فكلّ الخير في رسوله
قد أنزل الرّحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله
بأنّ خير القتل في سبيله ... يا ربّ إنّي مؤمن بقيله
أعرف حقّ الله في قبوله
حتى إذا تحدث عن الرسول الهادي مادحا، مزج القيم التقليدية بالقيم الدينية الجديدة في قوله:
تحمله النّاقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلّى ليلة الظّلم
وفي عطا فيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم
ويتقدم عبد الله بن رواحة في مدحه للرسول الكريم، فيفصّل في المعاني الدينية، ويتحدث عن يوم القيامة وعن الشفاعة، ويذكر غيره من الأنبياء، في قوله:
إنّي تفرّست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النّبيّ ومن يحرم شفاعته ... يوم الحساب فقد أزرى به القدر
فثبّت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
إن مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته جاء ما بين الإشادة بخصاله الكريمة، على عادة شعراء المدح آنذاك وبين الإشادة بهدايته ونبوّته، وكل شاعر مدحه حسب موقفه من الإسلام، فالشعراء الذين قصدوا الرسول الكريم مثل شعراء الرفود، ولم يكونوا يعرفون الكثير عن الإسلام والنبوة، ولكن تناهى إلى أسماعهم صفاته العظيمة وأعماله الميمونة، توجهوا إليه بالمدح على طريقتهم التي اعتادوها في مخاطبة ساداتهم، أما الشعراء المسلمون الذين صاحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتملّك الإيمان قلوبهم، وعرفوا مكانة الرسول الدينية، فإنهم مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما عرفوا عنه في دينهم السامي، ولذلك نجد من مدحه بالقيم الاجتماعية التقليدية فقط، ونجد من مدحه بالقيم الدينية فقط، ونجد من مزج بينها، فشاعر مثل مالك بن عوف اليربوعي سمع عن الرسول الكريم ومكانته وصفاته وأعماله، فمدحه بذلك وبكرمه، وذكر مقدرة الرسول العظيمة على التنبّؤ بالغيب، بدهشة وبساطة، وهذا يظهر أنه حين قال هذا الشعر لم يكن على دراية بالإسلام وموقع الرسول فيه:
ما إن رأيت ولا سمعت بواحد ... في النّاس كلّهم بمثل محمّد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... وإذا يشأ يخبرك عمّا في غد
ومنهم من وجد في النبي الكريم ما تحدثت عنه أخبار الأوائل والرسل السابقين عليهم السلام، وهذه أمور دينية محضة، مثل كليب بن أسد الحضرمي الذي قال:
أنت النّبيّ الذي كنّا نخبّره ... وبشّرتنا به الأخبار والرّسل
ووصل الشعراء إلى الحديث الديني الخالص في مدحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخل إلى شعرهم أصول الدين ومفاهيمه، كما في قول الطّفيل بن عمرو بن طريف الدّوسي :
ألا أبلغ لديك بني لؤيّ ... على الشّنان والعضب المردّ
بأنّ الله ربّ النّاس فرد ... تعالى جدّه عن كلّ ندّ
وأنّ محمّدا عبد رسول ... دليل هدى وموضح كلّ رشد
وأنّ الله جلّله بهاء ... وأعلى جدّه في كلّ جدّ
وتحدث الشعراء أيضا عن فضل النبي على الناس، إذ حمل إليهم الهداية والنور والرحمة وأنقذهم مما كانوا فيه من ضلالة وجهالة، فقال جهيش بن أويس النخعي:
ألا يا رسول الله أنت مصدّق ... فبوركت مهديّا وبوركت هاديا
شرعت لنا دين الحنيفيّة بعد ما ... عبدنا كأمثال الحمير طواغيا
ومضى الصحابة الكرام، الذين آمنوا بربهم وبرسولهم، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، ونصروا النبي الهادي بكل ما يملكون، في تسجيل ما يرونه في الرسول- النبي والإنسان-، فتحدثوا عن مكانته الدينية، ومنزلته عند الله تعالى، وقد سمعوا القرآن الكريم يمدحه ويشيد به. ومن ذلك قول العباس بن مرداس:
نبيّ أتانا بعد عيسى بناطق ... من الحقّ فيه الفصل منه كذلكا
أمين على الفرقان أوّل شافع ... وآخر مبعوث يجيب الملائكا
ووصل الأمر في التوجّه الديني عند مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديث عن الغيبيات، وعن كيفيّة خلق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأوّلية خلقه، وهو تصريح بالحقيقة المحمدية التي انتشرت عند مادحي الرسول الأعظم، وقد نسب هذا المدح إلى العباس- رضي الله عنه- عمّ النبي الكريم، وهو ينحو فيه منحى رمزيا، لا نعهده عند شعراء تلك المرحلة، ولا المرحلة التي أعقبتها، فقد قيل: (كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عمه العباس: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفضض الله فاك، فأنشأ يقول:
من قبلها طبت في الظّلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثمّ هبطت البلاد لا بشر ... ........أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السّفين وقد ... .....ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقّل من صالب إلى رحم ... ........إذا مضى عالم بدا طبق
حتّى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النّطق
إن هذه القطعة على جانب كبير من الأهمية، وتكون قد سبقت زمنها، لأن مثل هذه الأفكار التي اعتقد بها المتصوفة وروّجوها، والتي شغلت المسلمين بفرقهم كافة، ظهرت إلى النور في وقت متأخر، بعد أن كثرت الفرق الدينية، وتلقحت أفكارها بأفكار غريبة عن الفكر العربي الإسلامي. فالمعاني الدينية في مدح النبي الأمين اقتضتها صفة الممدوح، ومن غير المعقول أن يظل ما مدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالصا للمعاني التقليدية، وألا تشوبه القيم الدينية، وقد ظهر من الأمثلة السابقة أن تأثر الشعراء بالإسلام، وخاصة في مدح النبي الكريم، كان كبيرا جدا، وليس كما صوّره الباحثون وحتى الشعراء الذين هاجموا المسلمين أثناء الصراع بين المسلمين والمشركين، وأسلموا بعد فتح مكة، ومدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكفيرا عما فرط منهم، واعتذارا عما سبقت إليه ألسنتهم، ظهر في شعرهم التأثر بالإسلام لأن المدة كانت كافية ليعرف المسلمون وغيرهم الكثير عن الإسلام ونبيّه الكريم ومن ذلك قول عبد الله بن الزبعرى :
يا رسول المليك إنّ لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
آمن اللّحم والعظام لربّي ... ثمّ قلبي الشّهيد أنت النّذير
إنّ ما جئتنا به حقّ صدق ... ساطع نوره مضيء منير
أذهب الله ضلّة الجهل عنّا ... وأتانا الرّخاء والميسور
وهذا الأمر يظهر لدى الشعراء الذين اشتهروا في الجاهلية، وتكاملت عندهم التقاليد الفنية، وعرفوا القيم التي يمدحون بها أسياد قومهم، فإنهم مدحوا الرسول الكريم، وأشادوا بخصاله وفعاله على طريقتهم المعروفة، لكن ذلك لم يمنعهم من أن يكون مدحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم متميزا عن مدح غيره وخاصة في النبوة فكان لا بد من أن يذكر هؤلاء الشعراء ما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكانة سامية لا تدانيها مكانة، وكان لا بد من أن يظهر تأثرهم بالإسلام، وأن تجري المعاني الدينية في شعرهم الموجه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ومن هؤلاء الشعراء كعب بن زهير، الذي أخذ عن أبيه أشهر شعراء الجاهلية فن الشعر، وكان قد قاله قبل البعثة، وبرع فيه، حتى إذا بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تردّد في تصديقه، ثم جاءه معتذرا مادحا، فقال فيه:
أنبئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
إنّ الرّسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول
أما حسان بن ثابت، فهو شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نذر نفسه للدفاع عن الإسلام وعن النبي الأمين بشعره وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشجعه على ذلك. وشعره في الرسول المصطفى حافل بالمعاني الدينية، فهو قريب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي خضم الدعوة وتطوراتها، فكان لا بد أن يتأثر بالإسلام في شعره على الرغم من أنه قضى شطرا كبيرا من عمره في الجاهلية، وكان شاعرا مشهورا فيها، فإذا ما مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جنح في شعره نحو التقاليد الشعرية الثابتة في نفسه، والمترسبة في وعيه، انسياقا وراء ما جرت عليه العادة في المدح من ناحية، وليلائم بين ما كان يهاجم به المسلمون من شعر وبين ردّه عليه فلم يكن يغيظ المشركين ما يتمتع به الرسول الكريم من مكانه دينية- وهم ينكرونها- ولكن يوثر فيهم أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أكمل ما يكون عليه السيد في قومه من خلق وعمل، ولذلك ظل مدحه للرسول صلّى الله عليه وسلّم على هيئته الأولى، لكنه حفل بالمعاني الدينية وخاصة حين نعلم أن وراء مدحه للرسول صلّى الله عليه وسلّم دافعا دينيا جعله يضفي على الرسول صلّى الله عليه وسلّم صفات تسمو به عن مستوى سائر الناس، ولم تكن غايته من المديح إلا إرضاء شعوره الديني، والتعبير عن إعجابه بشخص النبي العظيم صلّى الله عليه وسلّم لذلك نجد في شعره كثيرا من المعاني الدينية الإسلامية، التي تبرز الرسول صلّى الله عليه وسلّم على صورته الحقيقية، صورة النبي الكريم الذي أرسل لهداية النّاس، فاقتبس من صفاته ما يؤكد ذلك، وقال:
أعني الرّسول فإنّ الله فضّله ... على البريّة بالتّقوى وبالجود
مبارك كضياء البدر صورته ... ما قال كان قضاء غير مردود
وإذا كان حسان قد مزج في شعره هذا بين القيم التقليدية التي عرفها مجتمعه، وأقرها الإسلام وهذّبها، وبين المعاني الدينية الجديدة التي جاء بها الإسلام، فإنه في شعر آخر، خلص في مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمفاهيم الدينية، وفصّل فيها، فذكر مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم الدينية، وصفاته وأثره في الناس، وتوجه إلى الله تعالى بالمناجاة والدعاء فقال:
أغرّ عليه للنّبوّة خاتم ... ........من الله مشهود يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد
وشقّ له من اسمه ليجلّه ... .......فذو العرّش محمود وهذا محمّد
فأمسى سراجا مستنيرا وهاديا ... يلوح كما لاح الصّقيل المهنّد
وأنذرنا نارا وبشّر جنّة ... ......وعلّمنا الإسلام فالله نحمد
إن هذا الشعر لا يمكن أن يوصف إلا بأنه شعر إسلامي خالص، فحسان يظهر أكثر من غيره تمثله للمفاهيم الإسلامية، إنه يظهر تأثره بالقرآن والتعبير القرآني، ويظهر أن مديحه للنبي الأمين كان من أجل فكر آمن به، وعقيدة التزم بمبادئها، لذلك جاء شعره هذا متأثرا- بقدر كبير- فيما جاء به الإسلام عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيما يختلف به عن غيره من البشر. إن المديح النبوي على عهد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم تنوع وتباينت دوافعه ومنطلقاته، فشعراء مدحوا الرسول الكريم، ولم يكونوا قد التقوه من قبل، ولم يعرفوا الكثير عن الإسلام، فمدحوه على طريقتهم المعروفة بينهم مدح سيد عظيم، ولم يتطرقوا إلى صفته الأولى، وهي الصفة الدينية والنبوة، ومثل هؤلاء الشعراء الذين سمعوا عنه صلّى الله عليه وسلّم فجاؤوا إليه يطلبون رفده، أو شعراء المسلمين الذين اتبعوا طريقتهم التقليدية في مدح العظماء، ليتلاءم مدحهم مع الشعر الذي يهاجم المسلمين والإسلام، ومع البيئة التي يودّون أن ينتشر شعرهم فيها، وهي الجزيرة العربية كلها، فلم يكونوا يريدون لشعرهم أن يبقى حبيسا في المدينة المنوّرة، ولا يتوجه لأهلها فقط، وإلّا لكان لمدحهم طابع آخر، هو الطابع الديني الإسلامي الذي برز عند الشعراء المسلمين، والذي اقتضته مكانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدينية، وصفاته وسلوكه وأعماله، فظهر في شعرهم الذي مدحوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تأثرهم بالإسلام ومفاهيمه، يمزجون بين المفاهيم الجديدة، وبين ما كانوا عليه من فن المديح، حتى إذا تشربت نفوسهم بتعاليم الإسلام الحنيف، واستقر في روعهم الإيمان به، وجدنا عندهم مديحا للنبي الكريم خالصا في توجهه الديني، وفي تأثره بالمعاني الدينية والتعبير القرآني. وهذا التردد في الاستجابة للمفاهيم الدينية وإظهارها في الشعر الذي مدح به النبي الأمين أمر طبيعي، فكل غرض فني، وكل طريقة أداء أدبية جديدة، تحتاج إلى وقت مناسب لتنضج وتستقر وتظهر في صورة ثابتة معروفة، لأن الإبداع الفني يمر في ثلاث مراحل هي الانفعال النفسي بالتجربة الجديدة، ثم استبطان هذا الانفعال داخل النفس، وتفاعله مع مكوّناتها، وبعد ذلك ترتد هذه التجربة إلى خارج النفس على هيئة إبداع فني. ولم تكن مدة البعثة كافية تماما لتتم هذه العملية في نفوس الشعراء جميعا. وقد وصل إلينا من مديح النبي الكريم على عهده، ما يثبت أن الشعراء قد تأثروا بشخصية الرسول العظيمة، كل واحد من موقعه، فظهر صلّى الله عليه وسلّم في شعرهم إنسانا كاملا، ونبيا كريما، ولم يكن يخطر ببالهم أنهم يرسون فنا جديدا من فنون الشعر العربي، سيكون له فيما بعد شأن أي شأن، ينشغل به النّاس، ويتبارون في إجادته. ومع ذلك فإنهم قدموا لمن جاء بعدهم طريقة مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإمكانية ذلك وكثيرا من المعاني والتعابير التي استخدمها الشعراء إلى يومنا هذا، وأصبحت بعض القصائد مثالا يحتذى في نظم المدح النبوي، كلامية كعب بن زهير وهمزية حسان بن ثابت.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)