الفاصلة القرآنية
أ-تعريفها:
فالفاصلة القرآنية :
1-الفاصلة لغة: هي ما يفصل بين شيئين، وهي في علامات الترقيم في الكتابة العلامة التي توضع بين الجمل التي يتركب منها كلام تامّ الفائدة، وبين الكلمات المفردة المتصلة بكلمات أخرى تجعلها شبيهة بالجملة في طولها .
2-أما الفاصلة اصطلاحا: فهي كلمة آخر الآية، كقافية الشعر، وقرينة السجع، وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب، لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام. وتسمّى فواصل، لأنه ينفصل عندها الكلامان ، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها، ولم يسمّوها أسجاعا، فأما مناسبة فواصل، فلقوله تعالى: { كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ } [ سورة فصّلت، الآية: 3.] ؛ وأما تجنّب أسجاع، فلأنّ أصله من سجع الطير . فالفاصلة في القرآن كلمة تختم بها الآية وغالبا ما تضمنت الواو والنون، أو الياء والنون، وذلك لأهمية التّطريب، ففاصلة الآية الكريمة: { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } [ سورة الماعون، الآية: 5.] هي كلمة «ساهون» لأنها تفصل بين آيتين. هي الكلمة التي تختم بها الآية من القرآن ، ولعلها مأخوذة من قوله تعالى : ( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعملون ) و بها يتم بيان المعنى ، ويزداد وضوحه جلاء وقوة ، وهذا لأن التفصيل فيه توضيح وجلاء وبيان ، قال تعالى : { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته.... } [ ] ، وتنزل الفاصلة من آيتها ، فتكمل من معناها ، ويتم بها النغم الموقع للآية فنراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم وحروف المد ، وتلك هي الحروف الطبيعية في التنغيم نفسه: والعرب إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون .
ب- كيف تأتي الفاصلة في القرآن الكريم :
تأتي الفاصلة في القرآن مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها ، غير نافرة ولا قلقلة يتعلق معناها بمعنى الآية كلها تعلقا تاما ، بحيث لو طرحت لاختل المعنى واضطرب الفهم ، فهي تؤدي في مكانها جزءاً من معنى الآية ،. فالآية القرآنية بناء قد أحكمت لبناته، ونسقت أتم تنسيق ، لا تحس فيها بكلمة تضيق بمكانها ، أو تنبو عن موضعها ،
ج- دور الفاصلة القرآنية:
ودور الفاصلة يسهم في هذا البناء ، قال تعالى في وصف القرآن : { وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } [ ].... جاءت فاصلة الآية الأولى كلمة " تؤمنون " وفاصلة الآية الثانية " تذكرون " ، فتم بهذا التلوين التنغيم للآية وختم الآية الأولى بـ: (تؤمنون). ومنه( رد العجز على الصدر) – ومثلوا له بقوله تعالى : { أنزله بعلمه ، والملائكة يشهدون ، وكفى بالله شهيدا } وقوله تعالى : { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } وقوله تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } [ ] ، وفي ذلك و شبهه ما يدل على التحام الفاصلة بالآية التحاما تاما ولكن ربما ظن في بعض الأحيان أن الآية تهيّئ لفاصلة بعينها ، ولكن القرآن يأتي بغيرها ، لا في سبيل مراعاة سائر الفواصل السابقة واللاحقة في السورة – لتتم للنص نغميته الخاصة ، هذه الفواصل لها قيمتها في إتمام المعنى وإحكام بناء الآية ، ولها أثرها التنغيمي في نظم الكلام ، وأسلوب القرآن فيه هذه التنغيمية المؤثرة ، . وقد يشتد التقارب التنغيمي في الفواصل ، حتى تتحد الفاصلتان في الوزن والقافية ، كما في قوله تعالى : { فيها سرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة } [ ] ، وقوله : { إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم } [ ] ، فقد ترى أنه مرة يقدم كلمة ومرة يؤخرها انسجاماً مع فواصل الآيات، فمثلاً يقول مرة: { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [الشعراء: 47-48] بتقديم موسى على هارون، فيجعل لكمة (هارون) نهاية الفاصلة انسجاماً مع الفواصل السابقة واللاحقة، ومرة يقول: { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه: 70 ] بتقديم هارون وجعل (موسى) نهاية الفاصلة لأن الألف فيها هي التي تناسب فواصل الآي في سورة طه. وقد ترى أنه يحذف شيئاً من الكلم لتنسجم مع فواصل الآي، إذ لو أبقى المحذوف لم ينسجم، وذلك نحو قوله تعالى: { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } [الشعراء: 72-73] إذ الأصل: (أو يضرونكم) مقابل: (ينفعونكم) فيجعل في نهاية كل آية ما ينسجم موسيقياً مع أخواتها وذلك نحو قوله تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم: 34] وقوله: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل: 18] فأنت ترى أن الآيتين متشابهتان إلا في خواتم الآي، وقد ترى أنه يضع كلمة في مكان ويضع غيرها في مكان آخر يبدو شبيهاً بالموضع الأول تجنباً للتكرار، وذلك نحو قوله تعالى: { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } [النساء: 48] وقوله في مكان آخر من السورة نفسها: { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء: 116] . مراعاة للانسجام النغمي . لقد تبين أن القرآن الكريم لا يعني بالفاصلة على حساب المعنى ولا على حساب مقتضى الحال والسياق ، فهو يختار الفاصلة مراعياً فيها المعنى والسياق والجرس ومراعيا فيها خواتم الآي وجو السورة ومراعيا فيها كل الأمور التعبيرية والفنية الأخرى، بل مراعيا فيها عموم التعبير القرآني وفواصله، بحيث تدرك أنه اختار هذه الفاصلة في هذه السورة لسبب ما، واختار غيرها أو شبيهاً بها في سورة أخرى لسبب دعا إليه. وجمع بين كل ذلك ونَسَّقه بطريقة فنية في غاية الروعة والجمال حتى كأنك تحس أنها جاءت بصورة طبيعية غير مقصودة، مع أنها في أعلى درجات الف
د-رأي العلماء السابقين والمحدثين بالفاصلة :
تقوم الفاصلة القرآنية بدور الإحكام، فتربط بالمعنى الكلي الذي يسبقها في الآية ذلك إضافة إلى ترنيمها الموسيقى الواضح، فهذا الإحكام يتّسم بوظيفتين في الشكل والمضمون. والحديث عن الفاصلة قديم قدم الدراسات الأدبية للقرآن، فقد أكّد الرماني في تعريفه الأدبي للفاصلة سموّها واختلافها عن الأسجاع، وقال: «الفواصل حروف متشابكة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، ذلك لأن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها» (الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 89. ) . والرماني يرى أن التعلق الشكلي المتعيّن في مماثلة الأصوات في الرّويّ يدعو إلى التكلّف المستهجن، وهذا مستفاد من أصل تسمية الأسجاع، فسجع الحمام يعني ترديد الصوت نفسه، وكذلك السّجع في فنّ النثر، وكأنّ الرماني يلمّح إلى وجود فواصل متقاربة الروي في القرآن، فبناء الفواصل ينطوي غالبا على المغايرة والتنويع، مراعاة للمعاني، وهذه الفضيلة تبعد السّجع عن أسلوب القرآن. ومن الذين تحمّسوا قديما لقضية نفي السجع أبو بكر الباقلاني، وهو يقوم بهذا الردّ جاهدا في ربط المفردة الأخيرة من الآية بسياق المعنى الكلي، يقول: «ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز، وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجّة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النّبوّات، وليس كذلك الشعر» ( الباقلّاني، أبو بكر، محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، ص/ 86. ) . فهو بعد هذا الرد المنطقي يذكر شواهد من مثل تقديم موسى على هارون في موضع، وهارون على موسى في موضع آخر. ونقف عند نقطتين في عبارة الباقلاني، الأولى: أن كلامه يوحي بأن جميع القرآن متّهم بالسجع، وإذا كان السجع مماثلة في الرويّ، فقد وقع في القليل منه، وإذ استقلّت الفواصل المتماثلة بإحدى عشرة من السّور القصار وهي: القمر والقدر والعصر والكوثر والأعلى، والليل والشمس والمنافقون والفيل والإخلاص والنّاس. أما مقارنة البيان القرآني بالشعر فهي بعيدة عن التحقيق، لأن قيود القافية والوزن أبعد ما تكون عن نظم القرآن. والنقطة الثانية: خروج القرآن عن أساليب كلام العرب، وقد دأب دارسو الإعجاز يعلّلون الصور والمجازات بقولهم: كانت العرب تقول كذا، وربما كان هذا زائدا عن حدّه أحيانا.
ولقد توسّم ابن سنان غاية الفصاحة في وجود بعض المماثلة في الكلام، فلا يكون كلّه مسجوعا، يقول: « إن القرآن أنزل بلغة العرب، وعلى عرفهم وعادتهم، وكان الفصيح منهم لا يكون كلامه كلّه مسجوعا، لما في ذلك من أمارات التكلّف والاستكراه والتصنّع، ولا سيّما فيما يطول من الكلام» ( ابن سنان الخفاجي، عبد الله بن محمد، سرّ الفصاحة، ص/ 205.) ، ويستفاد هنا من كلام ابن سنان أن المواضيع القرآنية هي التي تتحكم في وجود السجع أو قرب السجعة أو بعدها، وهذا جليّ في أسلوب القرآن، فالسور المدينة تحتاج أفكارها إلى التفصيل، مثل آية الدّين، وآية الحجاب، وآيات التّوريث، فهذا يحتاج إلى دقّة تشريعية، وكذلك الأمر في العتاب والأخلاق وأمور الفقه كافة، وهذا يختلف عن أسلوب السور المكية القصار التي شملت مواضيعها الترهيب والترغيب وقضايا التوحيد، ووصف الجنة والنار، وكانت نبرة الغضب والزجر لا تتطلب النّفس الطويل، فتأتي الفاصلة بسرعة ، كما أنّ القصص يختلف أسلوب سردها بين السّور المكية وبين السّور المدنية، وعلى الرغم من هذا لم تتماثل الفواصل تمام التماثل غالبا، وذلك لأغراض فنية عميقة. ومن خلال هؤلاء الأعلام نستنتج تواتر التحرّج من مسّ القرآن باصطلاح «السّجع»، لأصله اللغوي في صوت الحمام، ولعيوبه الكثيرة التي لمسوها عند الخطباء المتقعّرين، وبعض المؤلفين في العصر العباسي، وانزاحت هذه الصورة من أذهانهم مع تقدم الزمن، لذلك رأينا السماحة في قبول مصطلح السجع، على أن سجع القرآن سجع محمود لا تكلّف فيه. وتكمن مشكلة التسمية إذن في رغبتهم في تنزيه القرآن، وإلى هذا توصّل السيوطي فقال: «وأظنّ أن الذي دعاهم إلى تسمية جلّ ما في القرآن فواصل، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعا رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المرويّ عن الكهنة، وهذا غرض في التسمية قريب» ( السيوطي، جلال الدين، الإتقان: 2/ 213) . والمشكلة ليست في الاسم، بل في تبعيّة الشكل للمضمون في الفاصلة، وقد ذهب الفراء في تفسيره «معاني القرآن» إلى القول بسجع القرآن، ورأى أن ليس من المعيب الحرص على الرنّة الموسيقية، ودعم رأيه بشواهد من السّور القصار، فرأى أن الغاية الموسيقية هي التي تتحكم في صيغة الفاصلة، فلا بأس أن يوجد الحذف، أو إفراد المثنّى، أو جمع المفرد، وغيرها من الأحكام. فقد رأى في سورة الضحى أن السجع هو علّة الحذف في قوله تعالى: { ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى } [ سورة الضّحى، الآية: 3 ] ، فأصل الكلام عنده: « ما ودّعك ربّك وما قلاك» فهو يقول: «يريد ما قلاك، فألقيت الكاف، كما تقول أعطيك وأحسنت، فهو يقول: «يريد ما قلاك، فألقيت الكاف، كما تقول أعطيك وأحسنت، ومعناه أحسنت إليك، فتكتفي بالكاف من إعادة الأخرى، ولأن رءوس الآيات بالياء، فاجتمع فيه ذلك» . فالسبب الأول هو أن البلاغة الرفيعة على هذا المنوال، والسبب الثاني مراعاة رويّ الفواصل الأخرى، فلا يكتفي بناحية الشكل ؛ ومن شواهده على أنّ المضمون مسخّر لأجل الشكل قوله تعالى: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى } [ سورة الضّحى، الآية: 6.]، يقول: «يراد به فأغناك وآواك فجرى على طرح الكاف، لمشاكلة رءوس الآيات، ولأن المعنى معروف» (الفراء، يحيى بن زياد، معاني القرآن: 3/ 274.] . وهو لا يوضّح هنا تعاضد الشكل والمضمون، كما أنه لا يشير إلى جمال هذا التنغيم الذي هو علّة الحذف، ولا يعطيه حقّه من التّبيان والتعليل، وكأنه يريد أن يرجّح العلة الشكلية فحسب. ،ولم يكن الفراء وحده آخذا بهذا الرأي، وجاهدا في الدفاع عن سبب الشكل في الحذف في مثل هذه الكلمات، فهناك النيسابوري، والفخر الرازي ( عبد الرحمن، د. عائشة، الاعجاز البياني للقرآن، ص/ 249.). وقال السيوطي: «ألّف الشيخ شمس الدين بن الصّائغ الحنفي كتابا سماه «إحكام الرأي في أحكام الآي» قال فيه: اعلم أن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يرتكب لها أمور من مخالفة الأصول» ( السيوطي، جلال الدين، الاتقان: 2/ 214 ) ، ومن هذه الأحكام صرف ما لا ينصرف، وحذف المفعول، وغير هذا. ويرى أحمد حسن الزيات أن « وجود الازدواج والسجع في القرآن الكريم في حالة تجوز لبعض الصيغ والألفاظ، ما يقطع بلزومه في البيان العربي، فأعجاز النخل مرة «خاوية»، ومرة «منقعر» ( الزيات، أحمد حسن، دفاع عن البلاغة، ص/ 47) . عن مجرّد المناسبة اللفظية. وقد كانت حجّة الزيات أن الله عزّ وجلّ يقول في سورة القمر: { كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [ سورة القمر، الآية: 20.] ، وفي سورة الحاقة يقول : { كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ } [ سورة الحاقّة، الآية: 7.]، والمقصود بهذا التشبيه واحد، يقول المبرّد في مخطوطة المذكر والمؤنث: «ليس في إحدى الآيتين رعاية للفاصلة، وما أغنى القرآن عن رعايتها لو أدخلت على المعنى، وإنما قصد جنس النخل في التذكير، وأريدت جماعته في التأنيث، وبكلتا الصيغتين نطقت العرب، وعلى كلتيهما بنت تصرّفها في الكلام» ( الصالح، د. صبحي، دراسات في فقه اللغة، ص/ 87.) . هذا من جهة التذكير والتأنيث أما اختلاف نعت أعجاز النخل مرة خاوية ومرة «منقعر» فإننا نجد أن كلمة «خاوية» معناها ساقطة، وقد ناسبت هذه الفاصلة ما قبلها دون «منقعر» في هذا المقام، لأن القوم صرعى ألقت بهم الريح العاتية على الأرض، كما ألقت بأركان بيوت القرية في قوله تعالى: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها } [ سورة البقرة، الآية: 259]، فهنا يقصد مجرد السقوط، وعند ما قصد البيان الإلهي خفّتهم أمام قوة الريح ذكر كلمة «منقعر»، وفي هذا يتضح التمكن في أقصى غاياته. ونحسّ في تفصيلات الزمخشري دفع تهمة السجع، وذلك من خلال نظرية النظم، وهو يصرح بهذا قائلا: «لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلّا مع بقاء المعنى على سردها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه .. وبني على ذلك أن التقديم في { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ سورة البقرة، الآية: 4.]، ليس لمجرد الفاصلة، بل لرعاية الاختصاص» ( الزمخشري، محمود بن عمر الكشاف: 1/ 137.) . فهو يثبت أن التقديم كان لأهمية ما يوقن به المرء في الدرجة الأولى، ويأتي ترنيم الواو والنون في الدرجة الثانية. والمحدثون لم يميلوا إلى جانب سيطرة الشكل على المضمون، فهم يعترفون برنة الفاصلة من حيث هي قرار موح، وترجيع رائع، ولكن هذا مرتبط أشدّ الارتباط بالمعنى، فأحمد بدوي يقول: «فإنك لتجد أن الفاصلة القرآنية كالقافية الشعرية، وتزيد الفاصلة على نظيرتها بشحنة المعنى، ووفرة النّغم، والسعة في الحركة» ( بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 89.). وقد حاولت عائشة عبد الرحمن جاهدة الردّ على الفراء الذي قال بعلّة السجع في وجود الفاصلة، وكان اختيارها لتفسير قصار السور مناسبا، لأن الفراء فسّر مقولته بشواهد من السّور القصار. ومعيارها الاستخدام الصحيح للغة، والأسلوب الخاص للبيان القرآني من خلال اطّراد صيغ ما، فلا يوجد إسقاط نفسي يدعو إلى الأخذ به، أو إلى رفضه، بل اللغة الصحيحة التي تعلّمنا الفروق الدقيقة هي المتحكم، وفي كل وقفة لها نقع على احتراز من توهم المراعاة الشكلية للفواصل. وتقول في الآية الكريمة: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } [ سورة العلق، الآية: 3.] : «لم يعدل فيها عن الكريم إلى الأكرم لمجرد رعاية الفاصلة، ولا قصد بها المفاضلة بين أكرم وكريم، على ما تأوّله المفسّرون، فالغاية من صيغة أفعل هي أبعد ما يكون من التصوير». وهذا ما تراه أيضا في اسم الأعلى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [ سورة الأعلى، الآية: 1.] ، تقول: «وإنّما القصد المضيّ بالعلوّ إلى نهايته القصوى بغير حدود ولا قيود»( عبد الرحمن، د. عائشة، البيان في الإعجاز، ص/ 253. ) . وهي تنظر في صيغة الفاصلة، وتبحث عن نظائرها محافظة على أسلوبها الشمولي، ففي الآية: { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى } [ سورة الليل، الآية: 7.] تقول: «واستعمال العسرى كاستعمال اليسرى ليس ملحوظا فيه المصدرية كالعسر واليسر، وإنما الملحوظ فيها بصيغة فعلى أقصى اليسر، وأشدّ العسر، أو هما اليسر الذي لا يسر مثله، والعسر الذي ما بعده عسر، ونظيرهما في القرآن الكريم من غير المادة: «البطشة الكبرى والنّار الكبرى» ( عبد الرحمن، د. عائشة، التفسير البياني: 2/ 111.) . فقرين هذا في الآية الكريمة: { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى } [ سورة الأعلى، الآيتان: 11 - 12. ] وقوله عزّ وجلّ: { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى } [ سورة الدخان، الآية: 16.]. والجدير بالذكر أن صيغة الكبرى لم ترد إلا مسندة إلى آيات الله، وفي وصف القيامة، وهذا يحقق غاية الفاعلية، ليظلّ التفكير يحوم حول مدى قدرة الله المطلقة. وفي تفسيره سورة الهمزة تذكّر بالاستعمال الصحيح الذي تعدّه سلاحا في رفض القول بالسجع، قال تعالى: { نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } [ سورة الهمزة، الآيتان 6 - 7.] . وهي لا ترى في الأفئدة معنى عضويا إذ تقول: «إذن يكون إيثار الأفئدة هنا لا لنسق الفاصلة فحسب، ولكنه كذلك لتخليص الأفئدة من حسّ العضويّة التي تدخل على دلالة لفظ القلوب فيما ألف العرب من لغتهم، ولا نزال نستعمل القلب بمعناه العضويّ، ولا نستعمل الفؤاد بهذا المعنى قطّ» ( عبد الرحمن، د. عائشة، التفسير البياني: 2/ 181. ) . وهي قلّما تسهب في بسط الجوانب النفسية، إذ تكتفي غالبا بذكر التمكن اللغوي، إلا أن أسلوبها يوحي بمجاوزة البعد اللغوي، لأجل تبيين المقدرة التصويرية من خلال الفروق، فهي لا تعلّق مثلا على أهمية الأفئدة لا القلوب بشكل واضح، مما يفسّر العذاب الذي ينال النّفس. وبعد هذا لا بدّ من الإشارة إلى أن الدراسين لم ينكروا مراعاة الفواصل ونظير هذا ما ورد عند تملّي الزمخشري جمال آيات سورة الأنعام، فهو يقول عند الآية: { قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ سورة الأنعام، الآية: 97.]، وعند الآية التي تتلوها { قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } [ سورة الأنعام، الآية: 98 ]: «فإن قلت: لم قيل: «يعملون» مع ذكر النجوم، و «يفقهون» مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدقّ صنعة وتدبيرا، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له» ( الزمخشري، محمود بن عمر، الكشّاف: 2/ 39 ، وانظر تفسير أبي المسعود: 3/ 166. ) . ومن هذا جاءت تسمية تفاصيل التشريع الإسلامي فقها، لأنه يعتمد الفهم لدقائق الأمور، مما يحتاج إلى دقّة وفهم واسع، كذلك فقه اللغة، والزمخشري لا يتعرض هنا للجانب الموسيقى، فكلا الفاصلتين على الواو والنون، وهو الأكثر في القرآن. ويضع ابن أبي الإصبع أمثال هذه الشواهد تحت عناوين متعددة هي التوشيح، أي دلالة أول الكلام على آخره، والتصدير الذي هو في الشعر ائتلاف القافية مع سائر كلمات البيت، والإيغال الذي هو تتميم المعنى، وما قد ذكره الزمخشري نجده تحت عنوان «التخيّر» فالتذييل ينتهي بقوله تعالى : { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ سورة الروم، الآية: 24] . وهو يقول: «إن نفس الإنسان وتدبّر خلق الحيوان أقرب إليه من الأول، وتفكّره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول، وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح تقتضي رجاحة العقل ورصانته»(ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 528) . وقد امتاز الخطيب الإسكافي والزمخشري بصفاء الذّهن والترفّع عن التعلّق بالمصطلحات والتفريعات، كما صنع ابن أبي الإصبع، إذ كان يردّد الشواهد نفسها تحت عنوان آخر، على الرغم من إدراكه جمالية تماسك آيات القرآن. وهو يستشهد للتّصدير ببعض الآيات، ومن شواهده قوله تعالى: { قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ سورة هود، الآية: 87] ... ويعلق على هذا التذليل قائلا: «إنّ هذه الآية الكريمة لما تقدم فيها ذكر العبادة والتصرف في الأموال، كان ذلك تمهيدا تاما لذكر الحلم والرّشد، لأن الحلم: العقل الذي يصحّ به التكليف، الرّشد حسن التصرف في الأموال» ( ابن أبي الإصبع، تحرير الحبير، ص/ 224 ) . إنه يستعين بما يعرف في الشرع عن التكليف، وحقّ التصرف في الأموال، ويمكن أن يضاف هنا بعد التهكّم في الكلمتين. ويستشهد للتّوشيح بقوله تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ } [ سورة يس، الآية : 37 ] ويعرّفه قائلا: «سمّي هذا الباب توشيحا، لكون أوّل الكلام يدلّ على لفظ آخره، فيتنزّل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزّل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح» ( ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 228) . ويتبع السيوطي خطا ابن أبي الإصبع، وينقل رأيه قائلا: لا تخرج فواصل القرآن عن أحد أربعة أشياء: التمكين والتصدير والتوشيح والإيغال»( السيوطي، جلال الدين، معترك الأقران: 1/ 23). ثم ينقل شواهده مع اختصار التّعليق الفني، وعد هذا يذكر ما يحصل تقديم وتأخير وغيره لمراعاة الفاصلة، وينقل أحكام ابن الصّائغ من كتابه «إحكام الرأي في أحكام الآي» (السيوطي، جلال الدين، الاتقان: 2/ 214) ، ( وانظر السيوطي، معترك الأقران : 1/ 32. ) ، وكأنّ الأصل ليس على ما جاءت عليه الفواصل، إنما خولفت الأصول التي يريدها ابن الصائغ لأجل مراعاة لفظية. وعند أبي السعود نجد تعدّدا لا يدل على تناقض، فهو يضيف إلى أهمية النظم- كما رأيناها عند الزمخشري تتخذ الأولوية- مراعاة الفواصل، ومن هذا ما جاء في تفسيره للآية الكريمة : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ سورة الأنعام، الآية: 1] ، فهو يقول: والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد، والمحافظة على الفواصل» . والمحدثون لم يخصّصوا فصلا في أسفارهم لتمكّن الفاصلة، واحتوائها لمعناها صنيع القدامى، فذلك نجده منثورا في صفحات جمال اللفظة القرآنية بشكل كلي. ولهذا يلفت الدارس نظرنا إلى جمال المفردة، فنجد أن هذا الجمال يشمل فصولا متعدّدة من بحثنا، ولا ريب في أنّ المفردة القرآنية تتّسم بتعدّد جوانب جمالها، فهناك الصوت الموسيقى، وهناك الإيجاز والتهذيب، ومناسبة المقام وإحكام الصورة، وغير هذا. وقد خصصت عائشة عبد الرحمن جانبا لتمكّن الفاصلة، كما وجدنا سابقا، وكذلك في الفصل الأول، وسائر الدارسين المحدثين لم يبخلوا بعطائهم في إثبات تمكّنها وجمالها، لكنّهم ينظرون إليها على أنها مفردة، ولذلك مرّت بنا فواصل كثيرة في فقرات سابقة. ونورد هنا ما قاله حفني محمد شرف الذي سار على نهج القدامى، فقد جاء في كتابه: «ومن دقّة اختيار ألفاظ القرآن، والتمييز بين معانيها ما نجده في التفرقة في الاستعمال بين لفظ «يعلمون» و «يشعرون»، وقد كثر دورانهما في القرآن، فنجد أنه في الأمور التي يرجع إلى العقل وحده في الفصل فيها يستعمل كلمة «يعلمون»، لأنها صاحبة الحق في التعبير عنها، وأما الأمور التي يكون للحواس مدخل في شأنها فيستعمل كلمة «يشعرون» (شرف، د. حفني محمد، الإعجاز البياني بين النظرية والتطبيق، ص/ 224. ) ، وإذا تلمسنا ورود كلمة «يشعرون» مثلا نجد أنها أعلق بحاستي السمع والبصر، كقوله عزّ وجلّ: { فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ }« [ سورة الزّمر، الآية : 25] ، ولا شكّ أن التتبّع الدقيق والتفسير القويم يوصلانا إلى نتيجة تطابق ما ذكره شرف. وهذه النظرة تتكئ على ما ذكره القدامى، بيد أنّ الباحث ينظر إلى القرآن كلّه، وقد ظلّ الزمخشري مثلا يقتصر على الآية التي يفسرها، ولا يصل بنا إلى النظام القرآني الكلي، إلا أنه لا جديد إزاء ما بذل القدامى من جهد في هذا الشّأن. وثمّة فواصل تحسبها النظرة السطحية زائدة عن المعنى، وأنّها أضيفت لأجل النّسق الموسيقى، وقد لفت بعض المحدثين الأنظار إلى مثل هذه الفواصل، وما تضيئه في النص، وحجم فاعليتها في التأثير، ولم تكن هذه السّمة بعيدة عن تذوّق القدامى، فقد سمّاها ابن أبي الإصبع إيغالا، ومن شواهده قوله تعالى: { وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } [ سورة النّمل، الآية: 80 ]، وقد قال: «فإن قيل: فما معنى «مدبرين»؟ وقد أغنى عنها قوله: «إِذا وَلَّوْا» قلت: لا يغني عنها قوله: «ولّوا»، فإن التولّي قد يكون بجانب دون جانب، وبدليل قوله تعالى: { أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ } [ سورة الإسراء، الآية: 83.]، أراد تتميم المعنى بذكر تولّيهم في حال الخطاب، لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة، فإن الأصمّ يفهم بالإشارة ما يفهمه السّميع بالعبارة، ثم اعلم أن التولّي قد يكون بجانب من المتولّي، فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتولّ به» (ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 234 ) .. وكأن عنوان هذا الفن يوحي بأن البيان القرآني يوغل في المعنى، وفي رسم المشاهد حتى يكون التصوير واضحا للعيان، ومؤثّرا بشكل أقوى. والشواهد التي قدّمها ابن أبي الإصبع تميل إلى المعيار اللغوي دائما، ولهذا لم يكن منه تخيّل للإيحاءات النفسية التي تضيفها الفاصلة الموغلة، وهذا نستشفّه في تفسير أبي السّعود الذي سار على خطا الزمخشري، ففي تفسيره للآية: { يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } [ سورة الحجّ، الآية: 20 ] . و يقول: «والجلود عطف على «ما» وتأخيره عنه إما لمراعاة الفواصل، أو للإشعار بغاية شدّة الحرارة، بإيهام أنّ تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها على العكس» ( أبو السّعود العماديّ، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 6/ 101) . فهو لا يسمّي هذا الفنّ، ولا يذكر شواهد شعرية شأن ابن أبي الإصبع، وهذه طبيعة كتب التفسير البياني المختلفة عن طبيعة كتب الإعجاز والبلاغة، ولكن يؤخذ عليه هنا تعدّد في الرأي، فرأيه بين مراعاة الفواصل، وأهمية معنى الجلود. ولا شك أن كلمة الجلود هنا تنمّ على الإحساس بالنار التي تصهر، وهي كذلك توحي بالفروج، وما يتصل بها من زنى وقبائح، وأنّ الوقوف عليها يبعث في روع المرء رهبة، وقد تبيّن في العلم الحديث أنّ الجلد مستقل بمراكز إحساس، ولا يتلقّى الإحساس من الباطن. لقد وردت في القرآن فواصل يظنّ أنها زائدة، وفائدتها تكمن في إحكام الصورة الفنية، وهذا ليس ببعيد عن معنى الإيغال الذي ذكره لنا ابن أبي الإصبع. وهذه الفاصلة تقع من جهة الإعراب صفة للكلمة التي تكون قبلها، فتعطيها إيغالا، وزيادة تأثير، ومن هذا قوله تعالى: { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } [ سورة المدّثّر، الآية: 50.] ، فإنّ هذه الفاصلة أضافت إلى غباء الحمر ضعفها، فهي تهرب من اللّيث، وهذا يصوّر مقدار إنكار الكفار وتهربهم من الرسالة السماوية. وكذلك قوله تعالى: { فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى } [ سورة الليل، الآية: 14.] ، فالفاصلة توحي باستدامة هذه النار، والفاعلية تضاف إلى الماهيّة، ويمكن أن نقول هذا في قوله تعالى: { فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } [ سورة الهمزة، الآية: 9 ]، وكذلك قوله: { فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ } [ سورة الحاقّة، الآية: 22.] ، فهاتان الكلمتان تكملان الصورة أمام البصر ولا تدعان للنّقص مكانا، إضافة إلى جمال المحافظة على الرّنّة الموسيقية. نستنتج مما سبق أنّ جمالية تمكّن الفاصلة لم تكن وليدة عصرنا، فقد أفاض القدامى في بيان مضمون الفاصلة، وحقّه من الوجود، وبعدها عن التكلّف والقلق في مكانها، وردّوا تهمة السّجع، بيد أنهم لا ينفون قصد القرآن إلى الترنيم بالفواصل، وذلك بتقديم معنى الفاصلة وأهميّته في الآية على المراعاة اللفظية. وكان لكلّ دارس أسلوبه في إبراز تمكّن الفاصلة، وقد أثبتت وقفات رائعة لهم، وبيّنّ المعيار الذي يعتمده كلّ منهم، فهناك المعيار اللغوي، ودقّة الاستعمال والفروق، وهناك معيار النظر إلى أوّل الآية، ولم تخل نظراتهم من تمحيص وكشف لظلال الفاصلة، وقد وجدوا جمالها يتوزّع بين مناسبتها لما قبلها، وإضاءتها للنص بمعنى جديد، وقد تبيّن لنا أن القدامى بذلوا جهدا كبيرا في هذا المضمار، لم يزد عليه المحدثون كثير والجدير بالذكر أن هناك تعريفا للفاصلة انفرد به أبو عمرو الدّاني إذ يرى أنّ الفاصلة هي كلمة آخر الجملة، وليس آخر الآية، كما هو متعارف عليه، وقد نقل الزركشي رأيه هذا، إذ يقول أبو عمرو: «أمّا الفاصلة فهي الكلام المنفصل مما بعده، والكلام المنفصل، قد يكون رأس آية، وغير رأس، وكذلك الفواصل يكنّ رءوس آي وغيرها، وكلّ رأس آية فاصلة، وليس كلّ فاصلة رأس آية، فالفاصلة تعمّ النّوعين، وتجمع الضربين، ولأجل كون معنى الفاصلة هذا ذكر سيبويه في تمثيل القوافي { يَوْمَ يَأْتِ } [ سورة هود، الآية: 105] ، و{ ما كُنَّا نَبْغِ } [ سورة الكهف، الآية: 64.]، وهما غير رأس آيتين بإجماع- مع { وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ } [ سورة الفجر، الآية: 4.] ، وهو رأس آية باتّفاق . وإذا كانت الفاصلة القرآنية قرينة السّجعة والقافية، فإنّ هذه الفواصل الداخلية تختلف برويّها عن الفاصلة في رأس الآية، ومما يفاد من نظرة أبي عمرو الدّاني أنّ الوقوف على رأس الجملة لتحديد الفاصلة يعدّ مظهرا آخر لتمكّن الكلمات من أماكنها. ومما يفاد أيضا أنّ الوقوف الجائز على رأس الجملة لا يفقد القارئ شيئا من الترنيم الذي يكون في فاصلة رأس الآية، ويبدو مما اقتبسناه أنّ سيبويه ذكر هذا فقرن «يأت» مع «يسر». ولم يناقش الزركشي هذا الرأي، وكأنّه ذكره لأجل استيفاء الآراء في تعريف الفاصلة، ونودّ أن نقف عند قوله تعالى: { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ سورة هود، الآية: 105.] في الحديث عن يوم القيامة، فإنّ الوقوف على كلمة «يأت» لا يخلو من نغم، وكذلك يعني الوقوف هنا استحضار الذّهن لتلقّي النتيجة حيث الشّقاء والسّعادة. وكذلك في قوله عزّ وجلّ عن موسى عليه الصلاة والسلام وفتاه عند ما نسيا الحوت: { قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً } [ سورة الكهف، الآية: 64.] ، فإنّ الوقوف على كلمة «نبغ» يعني استحضار تأمّل النبي الكريم موسى، وصمته وفهمه لحكمة ربّه، ومن ثمّ يأتي الحديث عنهما، بعد كلام النبي. وقد بينّا في الفصل الأول كيف حضّت الأحاديث النبوية الشريفة على القراءة المتأنّية للقرآن، وقد ذكر السيوطي أن الوقوف على كل كلمة جائز. ويمكن أن نطبّق رأي أبي عمرو الدّاني في الفاصلة في آية الكرسي، وهي من الآيات الطوال، يقول عز وجل: { اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ، مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ سورة البقرة، الآية: 255، ] ............لا يؤده: لا يثقله، ولا يشقّ عليه: ماضيه آد أودا . فنحن في هذه الآية إزاء تسع فواصل: «القيّوم، نوم، الأرض، بإذنه، خلقهم، شاء، الأرض، حفظهما، العظيم»، فالمدّ الجميل ذو الحركات السّتّ في كلمة القيّوم، ويتبعه جمال الوقوف عند «نوم»، مع إطالة الإحساس بالواو قبل التّركيز على الميم، وكذلك كلمة «الأرض»، ثم يأتي الوقوف عند «بإذنه»، حيث تشبع كسرة الهاء، فتحدث في الأذن تطريبا، وكذلك «خلفهم» ثم المدّ الجميل يكون في شاء، لينسجم مع سكون الميم الشّفوية، وكذلك المدّ في «حفظهما» ينسجم مع الوقوف على الضّاد «الأرض»، ثم يأتي مسك الختام في المدّ الذي يسبق الميم «العظيم»، وهي الفاصلة التي تعارف عليها الدارسون . ونلتمس من رأي الداني جمالا في الشكل بحيث أكّدت لنا التلاوة جمال الوقوف على أواخر الجمل: اسمية أو فعلية، وهذا ما يدفع شبهة السّجع بقوّة، لأجل تنوّع رويّ هذه الفواصل بشكل واضح، كما يؤكّد مفهوم الفاصلة في رأس الجملة مناسبة كلّ كلمة قرآنية للمقام، هذا من جهة المضمون، أما الشكل فقد دلّتنا نظرة الدّاني على جمال موسيقي في تركيب الجمل ومشاركتها للفواصل بالأنغام الداخلية.





المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)