(التشبيه) في القرآن الكريم
1-تعريف التشبيه : التشبيه لمح صلة بين أمرين من حيث وقعها النفسي ، وبه يوضح الأديب شعوره نحو شيء ما ، حتى يصبح واضحاً وضوحاً وجدانياً ، وحتى يحس السامع بما أحس المتكلم به ، فهو ليس دلالة مجردة ، ولكنه دلالة فنية هذه الدلالة تدل على مشاركة أمر لأمر في معنى من خلال إخراج الأغمض إلى الأظهر ، وإلحاق شيء بذي وصف في وصفه بحيث تثبت للمشبه حكماً من أحكام المشبه به ؛ التشبيه نوع من أشرف أنواع البلاغة وأعلاها. ولو قال قائل: هو أكثر كلام العرب لم يبعد. وهو الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى، وقيل: هو إخراج الأغمض إلى الأظهر، وقيل: هو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه. وقيل: هو أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به.
2-والغرض منه تأنيس النفس بإخراجها من خفى إلى جلىّ، وإدانائه البعيد من القريب ليفيد بيانا، وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار.
3-وأدواته حروف وأسماء وأفعال.
أ-فالحروف: الكاف، وكأنه.
ب-والاسماء : مثل، وشبه، ونحوهما مما يشتق من المماثلة والمشابهة، ولا تستعمل (مثل) إلا في حال أو صفة لها شأن، وفيها غرابة.
ج-والأفعال : نحو: { يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً }[ ] و { ويُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} [ ] . وربما يذكر فعل ينبىء عن التشبيه فيؤتى في التشبيه القريب بنحو: (علمت زيدا أسدا ) ، الدالّ على التحقيق. وفى البعيد بنحو: ( حسب زيدا أسدا ) ، الدالّ على الظن وعدم التحقيق.
وينقسم التشبيه باعتبارات:
الأول، باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما إما حسيان، أو عقليان، أو المشبه به حسى والمشبه عقلي ، أو عكسه.
مثال الأول: { وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.} [ ]
ومثال الثاني : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }[ ]
ومثال الثالث: { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } [ ] .
ومثال الرابع : لم يقع في القرآن، لأن العقل مستفاد من الحسّ، فالمحسوس أصل للمعقول، وتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعا والفرع أصلا، وهو غير جائز.
الثاني: ينقسم باعتبار وجهه إلى مفرد ومركب.
والمركب أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله تعالى : { كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً } [ ] ، فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه.
الثالث ينقسم باعتبار آخر إلى أقسام:
أحدها: تشبيه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع اعتمادا على معرفة النقيض والضد، فإن إدراكهما أبلغ من إدراك الحاسة كقوله تعالى : { طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ } [ ] شبه بما لا يشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين وإن لم ترها عيانا.
الثاني: عكسه، وهو تشبيه ما لا تقع عليه الحاسة بما تقع عليه، كقوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ } [ ] الآية. أخرج ما لا يحس وهو الإيمان، إلى ما يحس، وهو السراب، والمعنى الجامع بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة.
الثالث: إخراج ما لم تجر العادة به إلى ما جرت، كقوله تعالى: { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } [ ] ، والجامع بينهما الارتفاع في الصورة.
الرابع: إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها، كقوله تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ } [ ] ، والجامع العظم، وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة وإفراط السعة.
الخامس: إخراج ما لا قوّة له في الصفة إلى ما له قوة فيها، كقوله تعالى: { وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ } [ ] ، والجامع فيهما العظم، والفائدة إبانة القدرة على تسخير الأجسام العظام في ألطف ما يكون من الماء، وما في ذلك من انتفاع الخلق بحمل الأثقال وقطعها الأقطار البعيدة في المسافة القريبة، وما يلازم ذلك من تسخير الرياح للإنسان، فتضمن الكلام بناء من الفخر وتعداد النعم. على هذه الأوجه الخمسة تجرى تشبيهات القرآن الكريم.
السادس: ينقسم لاعتبار آخر إلى:
1-مؤكد، وهو ما حذفت فيه الأداة، نحو: { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ } ، أي مثل مرّ السحاب.
2-ومرسل، وهو ما لم تحذف. والمحذوفة الأداة أبلغ، لأنه نزل فيه الثاني منزلة الأول تجوزا. والأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به، وقد تدخل على المشبه، إما لقصد المبالغة، فتقلب التشبيه وتجعل المشبه هو الأصل، نحو: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا كان الأصل أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع، لأن الكلام في الربا لا في البيع، فعدلوا عن ذلك وجعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز، وأنه الخليق بالحل. والقاعدة في المدح تشبيه الأدنى بالأعلى، وفى الذم تشبيه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى، والأعلى طارىء عليه، فيقال في المدح: الحصى كالياقوت، وفى الذم: (ياقوت كالزجاج ). وكذا في السلب، ومنه: { يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ } [ ] ، أي في النزول لا في العلوّ.
زوج المجاز بالتشبيه فتولد بينهما الاستعارة، فهي مجاز علاقته المشابهة، وهى اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصل. والأصح أنها مجاز لغوى، لأنها موضوعة للمشبه به لا للمشبه، ولا الأعم منهما، ف «أسد» في قولك: ( رأيت أسدا يرمى ) ، موضوع للسبع لا للشجاع، ولا لمعنى أعم منهما كالحيوان الجريء مثلا ليكون إطلاقه عليهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما. وقيل: مجاز عقلي، بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوى، لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به، فكان استعمالها فيما وضعت له، فيكون حقيقة لغوية ليس فيها غير نقل الاسم وحده. وليس نقل الاسم المجرد استعارة، لأنه لا بلاغة فيه، بدليل الأعلام المنقولة، فلم يبق إلا أن يكون مجازا عقليا.
2-الغرض منه : الوضوح والتأثير و تأنيس النفس بإخراجها من خفي إلى جلي وإدنائه البعيد من القريب ليفيد بياناً وقيل الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار
3-أدواته : حروف وأسماء وأفعال فالحروف الكاف نحو كرماد وكأن نحو { كأنه رؤوس الشياطين } [ ] ، والأسماء مثل وشبه ونحوهما مما يشتق من المماثلة والمشابهة ، ولا تستعمل مثل إلا في حال أو صفة لها شأن وفيها غرابة نحو { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر} [ ] والأفعال نحو : { يحسبه الظمآن ماء } [ ] ، و { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } [ ] ، وربما يذكر فعل ينبئ عن التشبيه فيؤتى في التشبيه القريب بنحو ( علمت زيداً أسداً ) الدال على التحقيق وفي البعيد بنحو ( حسبت زيداً أسداً ) الدال على الظن وعدم التحقيق فقالوا في كون هذه الأفعال تنبئ عن التشبيه نوع خفاء والأظهر أن الفعل ينبئ عن حال التشبيه في القرب والبعد وأن الأداة محذوفة مقدرة لعدم استقامة المعنى بدونه
4-استخدامه في القرآن الكريم: وإذا كان التشبيه هو أكثر كلام العرب وأهم عناصر البلاغة العربية فإن القرآن الكريم قد أكثر من استخدامه؛ وإذا كان النقاد العرب قد قسموا الشعر إلى ثلاثة أقسام : ( المثل السائر ، والاستعارة الغريبة ، والتشبيه النادر). وما وراء ذلك " كلام وسط ودون ، لا طائل فيه ولا فائدة معه فقد حكموا بأن أجل هذه التقسيمات الشعرية وأصعبها على صانعها هو التشبيه . والقرآن الكريم قد أكثر من هذه التشبيهات والتي كان أكثرها على نوعين : ( تشبيه الأشخاص ، وتشبيه الأفعال) .
أ-تشبيه الأشخاص : ومثل النوع الأول تشبيه القرآن الكريم القمر بالعرجون قال تعالى : { والأقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } [ ] .
ب- وتشبيه الأفعال : ومثل النوع الثاني تشبيهه أعمال الكفار بالسراب ... { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ووجد الله عنده } [ ] ، ولتشبيهات القرآن الكريم وما تمتاز به من الدقة وإيجاز العبارة ، وإحكام المعنى ، ما يدل على إعجاز القرآن وأنه تنزيل من حكيم حميد . ويمكن أن نميز بين أن القرآن الكريم نزل على مقتضى كلام العرب ولغتها ، وعلى عادتهم في التشبيه والاستعارة وضروب البيان ، ومن هنا جاء استشهاده بكثير من شعر الجاهلية بخاصة . ومدى تأثر العرب بالقرآن ، ومحاولتهم محاكاته في هذا النوع من البلاغة ، على ما في محاولاتهم من القصور عنه . قال في قوله تعالى : { خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر } [ الآية 7 من سورة القمر 53 ] فقد شبه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر ، كما شبههم بالفراش المبثوث في قوله تعالى : { القارعة ما القارعة ، وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ، وتكون الجبال كالعهن المنفوش } [ ] لأنهم يومئذ يموج بعضهم في بعض . وأما قوله في سورة القارعة { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } [ ] ، فالفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار . وهذا التشبيه كالأول . وقد اعتمد القدماء في عقد التشبيه على العقل " يجعلونه رابطا بين أمرين أو مفرقا بينهما " مغفلين وقع الشيء على النفس ، وشعورهم به سروراً أو ألماً . كما اعتمدوا في عقد التشبيه أيضا على الحواس .. وأدوات التشبيه منها " الكاف " وكأن " و " مثل " و " كذلك " – في بعض الأحيان – وربما استغني عن هذه الأدوات بالمصدر ، نحو : خرج خروج الأسد ، وطلع طلوع النجم ، ومرق مرور السهم وربما جاءت " الكاف " لهذا التشبيه الفني الخالص – علما بأنها من أكثر أدوات التشبيه دورانا – بل لإيقاع التساوي بين أمرين ، كقول تعالى : { وعد الله المنافقين والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ، ولعنهم الله ، ولهم عذاب مقيم ، كالذين من قبلكم ، كانوا أشد منكم قوة ، وأكثرا مالاً وأولاداً ، فاستمتعوا بخلاقهم ، فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } [ ] وقوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه ، أخذ وبيلا } [ ] ، فهو يعقد موازنة بينهم وبين من سبقهم ، ويبين لهم الوجوه التي يتفقون فيها معهم ، ولا ينسى أن يذكر ما أصاب سابقيهم وإلى هنا يقف تاركا لهم أن يرقبوا بأنفسهم إلى ما ينتظرهم من العواقب ،وربما جاءت هذه الكاف أيضا للإيضاح ، كقوله تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } [ ] ، وقوله : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني } [ ]
ج-تشبيه المحسوس بالمحسوس :
وتشبيه المعقول بالمحسوس في القرآن الكريم:
وفي الوقت الذي نجد أن القرآن ليس فيه سوى هذين اللونين التشبيه : (المحسوس بالمحسوس وتشبيه المعقول بالمحسوس ) إلا أن الذي يجمع بين المشبه والمشبه به ليس هو الحس وحده ولكنه الحس والنفس جميعا ، بل إن للنفس النصيب الأكبر والحظ الأولى ، وهذا بالإضافة إلى رسم الصورة كما تحس بها النفس ، فيؤدي التشبيه بكل ذلك غرضه في الوضوح والتأثير على أحسن وجوه الأداء. انظر إلى قوله تعالى يصف سفينة نوح : { وهي تجري بهم في موج كالجبال } [ ].. ألا ترى الجبال تصور للعين هذه الأمواج الضخمة ، وتصور في الوقت نفسه ما كان يحس به ركاب هذه السفينة ، وهم يشاهدون ، هذه الأمواج من رهبة وجلال معاً ، كما يحس بها من يقف أمام شامخ الجبال وفي قوله تعالى : { وتكون الجبال كالعهن المنفوش }[ ] يمكن أن نضيف أن الصوف المنفوش هو الذي صور لنا منظر هذه الجبال وقد صارت هشة لا تتماسك أجزاؤها وقد يوضح لنا القرآن الكريم الأمور المعنوية بالصور المرئية المحسوسة ،عن طريق التشبيه – وشواهد هذا الموضوع في القرآن كثيرة – قال تعالى : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ـ وإن أوهن البيوت لبيت لعنكبوت لو كانوا يعملون } [ ] ، فهؤلاء المشركون يعهدون ويبذلون جهداً يظنونه مثمراً وهو لا يجدي ... هذا الأمر المعنوي ... وهو زوال أعمالهم وأنها لا تنفعهم – سببه بذلك الحيوان الذي يتعب نفسه في البناء ، ويبذل جهده في التنظيم ليخرج بيتاً متهافتاً ضعيفاً و مثل ذلك في قوله تعالى : { مثل الذين كفروا : أعمالهم كرماد أشدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ، ذلك هو الضلال البعيد } [ ] ؛ وربما جاء المشبه به خياليا – غير محسوس – إذا كانت صورته كالمحسوس لرسوخها وقوة فعـلها في النفس ، كما قال تعالى : { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين} [ ] لما استقر في النفس من بشاعة رؤوس الشياطين . حتى لكأن صورة هذه الرؤوس محسوسة ترى بالعين وتلمس باليد " فلما كانت هذه الصورة من القوة إلى هذا الحد ساغ وضعها في موضع التصوير والإيضاح . ولا نستطيع أن ننكر ما لهذه الصورة من تأثير بالغ في النفس . ويستمد التشبيه في القرآن عناصره من الطبيعة ، وذلك سر خلوده – فهو باق ما بقيت الطبيعة – وسر عمومة للناس جمعيا يؤثر فيهم لأنهم يدركون عناصرها ويرونها قريبة منهم ، وبين أيديهم . وقد اتخذ القرآن من الطبيعية ميدانا يقتبس منها صورة تشبيهاته ، من نباتها ، وحيوانها ، وجمادها . فما اتخذ منها مشبها به من نبات الأرض ( العرجون ، وأعجاز النخل ، والعصف المأكول ، والشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة ، ، وهشيم المحتظر ، والزرع الذي أخرج شطأه وغير ذلك . ومما اتخذ مشبها به من حيوانها وحشراتها: ، (العنكبوت والحمار والكلب ، والفراش ، والجراد ،والجمال ، والأنعام) . ومما اتخذ مشبها به من جمادها : (العهن المنفوش ، والصخر ، والجمال ، والحجارة ، والرماد ، والياقوت ، والخشب .....) الخ . وهذا يذكرنا بالغرض الأساسي من التشبيه الذي سبقت الإشارة إليه – وهو الوضوح والتأثير - ويذكرنا أيضا بأن" نفاسة " المشبه به ليست محل عناية القرآن الكريم ، لأنها ليست مما يزيد المعنى ، وضوحا ، والصورة أثرا وتأثيرا ..... وما أجمل هذه الصورة التي تعبر عن الإحساس البصري والشعور النفسي معا حينما تحدث القرآن عن الهلال ، فقال : { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } [ ] ، فهذا العرجون القديم الدقيق النحيل المحدودب الذي لا تكاد العين تنتبه إليه بعد أن كان قمراً منيراً يبدد ظلمة الليل ، ويملأ النفس حبوراً وأنساً ... هذا العرجون يصور لعينك هيئة الهلال في آخر الشهر ، ويحمل إلى نفسك ضالة أمره معا لتصل أخيرا إلى أن حياة الإنسان نفسه ستؤول إلى ذلك. وتستمد تشبيهات القرآن عناصرها من الطبيعة وهذا سر خلودها ومن تلك التشبيهات تشبيه أعمال أكفار ، من حيث لا تنفعهم وهم يظنون ذلك ، بهذين التشبيهين : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه ، والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها . ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ ] دع عنك هذا التصوير المبدع للبحر اللجي الذي يغشاه موج ... الخ ، والذي صورته الحروف بأوضح وأدق مما ترسمه لك ريشة ذات أصباغ وألوان ... ولأنها أضافت إليه أيضاً عنصر الحركة في الصورة وانظر إلى التشبيه الذي استمد عنصره من الطبيعة التي تنقسم إلى بر و بحر ، وكيف شبهت أعمال الكافرين بتشبيهين مستمدين من هذين الشطرين ... ليتأملهما ويتعظ بهما أبناء البر والبحر على حـــد سواء . وانظر كيف يجد القرآن الكريم في أعجاز النخل المنقعر المقتلع عن مغرسه ، وفي الهشيم الضعيف الذاوي صورة قريبة من صورة هؤلاء الصرعى ؟ ، قد أرسلت عليهم ريح صرصر تنزعهم من أماكنهم ، فألقوا على الأرض مصرعين هنا وهناك فيقول : { إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر ، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر } [ ] ، ويقول { إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر } [ ] .
5-خصائص التشبيه القرآني :
أ - أن له مكانه الأساسي في نقل الفكرة وتصويرها : فهو ليس عنصرا إضافيا في الجملة ، ولكنه جزء أساسي " لا يتم " المعنى دونه ، فكأنه ليس مقصودا لذاته ، بمقدار ما هو ضروري لإيضاح وتجليته أتم جلاء انظر إلى شدة الفزع والرهبة التي ألمت بهؤلاء الذين دعوا إلى الجهاد ، فلم يدفعهم إيمانهم إليه في رضا وتسليم ، بل ملأ الخوف نفوسهم من أن يكون الموت في انتظارهم مع داعي الجهاد . قال تعالى : { يجادلونك في الحق بعدما تبين ، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } [ ] ، ويدرك القارئ اضطراب المرأة وقلقها ، وعدم استقرارها على حل لتصبح حياتها مليئة بالتعب والعناء ، من قوله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ، ولو حرصتم ،ـ فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } [ ] ، وقلّ أن يأتي التشبيه في القرآن بعد أن تتضح الفكرة نوع وضوح ، كما في قوله تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } [ ] ، وأنت إذا تأملت أسلوب الآية الكريمة وجدت هذا التعبير أقوى من أن يقال : إذ صار الجبل كأنه ظلة ، لما في كلمة " نتق" من تصوير انتزاع الجهل من الأرض تصويرا يوحي إلى النفس بالرهبة والفزع ولما في كلمة " فوقهم " من زيادة هذا القصور المفزع وتأكيده في النفس ، وذلك كله يمهد للتشبيه خير تمهيد ، حتى إذا جاء مكن للصورة في النفس ، ووطد من أركانها . ومع ذلك كله فليس التشبيه في الآية عملاً إضافياً ، بل فيه إتمام المعنى وإكماله ، فهو يوحي بالإحاطة بهم ، وشمولهم ، والقرب منهم قرب الظلة من المستظل بها ، وفي ذلك ما يوحي بخوف سقوطه عليهم
ب - الدقة التامة والإحاطة والإحكام : حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة ، قال تعالى في شان المعرضين عن الهداية والتذكر بالقرآن : { فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة } [ ] ، فلم يكتف في تصوير إعراضهم بقوله : إنهم كالحمير ، بل صور نفرتهم ، وحركتهم الهوجاء التي لا تعقل في الابتعاد عنها ، بقوله تعالى : { كأنهم حمر مستنفرة } [ ] تحمل نفسها على الهرب ، وتحثها عليه ، ثم أضاف إلى ذلك أن الذي يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجري خلفها ، فهي تخرق في كل مكان ، وتجري غير مهتدية في جريها وهي جادة لا تلوى على شيء ... ولم يكتف القرآن في تشويه الناس وهم يبعثون يوم القيامة بأنهم كالجراد بل وصف هذا الجراد " بالمنتشر " فقال تعالى : { يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [ ] حتى يكون دقيقا في تصوير هذه الجموع الحاشدة ، خارجة من أجداثها منتشرة في كل مكان تملأ الأفق ، ولا يتم هذا التصوير إلا بهذا الوصف الكاشف ولعل من أهم ما يساعد على هذه الدقة والكمال في التشبيه القرآني اختيار الفاصلة الدقيقة المصورة الموحية
ج - الاختيار الدقيق للألفاظ : تجد ذلك في كل تشبيه قرآني : "و نجد القرآن الكريم قد شبه السفن الضخمة بالجبال في موضعين ، فقال : { وهي تجري بهم في موج كالجبال } [ ] ، وقال تعالى : { ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام } [ ] ، ولكنك تراه قد آثر كلمة " الجبال " عند الموج ، لما أنها توحي بالضخامة والجلال معا ، أما عند وصف السفن – الجواري جمع جارية وهي الصفيقة – فقد آثر كلمة " الأعلام " جمع عَلَم بمعنى جبل ، وسر إيثارها هو أن للكلمة المشتركة بين عدة معان تتداعى هذه المعاني عند ذكر هذه الكلمة ، ولما كان من معاني العلم : الراية التي تستخدم للزينة والتجميل ، كان ذكر الأعلام محضرا إلى النفس هذا المعنى ، إلى جانب إحضارها صورة الجبال ، وعند ذكر السفن الجارية فوق البحر ، تزين سطحه ، أريد الإشارة إلى جلالها وجمالها معا ، وفي كلمة " الأعلام " وفاء " بتأدية هذا المعنى أدق وفاء " وشبه القرآن الموج بالجبال في موضعين ، فقال تعالى في سفينة نوح : { وهي تجري بهم في موج كإجلال كالجبال } [ ] ، وقال تعالى : { وإذا غشهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين } [ ] . وسر هذا التنوع أن الهدف في الآية الأولى يرمي إلى تصوير الموج عالياً ضخماً حتى أن الفرق شمل كل شيء إلا هذه السفينة – وكلمة " الجبال " تستطيع أن توحي به إلى النفس ، أما الآية الثانية فتصف قوما يذكرون الله عند الشدة وينسونه عند الرخاء ، ويصف موقفا من مواقفهم كانوا فيه خائفين مرتاعين ، يركبون سفينة تتقاذفها الأمواج ألا ترى أن الموج يكون أشد إرهابا وأقوى تخويفا إذا هو ارتفع حتى ظلل الرؤوس ؟ هنالك يملأ الخوف القلوب ، وتذهل الرهبة النفوس وتبلغ القلوب الحناجر ، وفي تلك اللحظة يدعون الله مخلصين له الدين ، فلما كان المقام مقام رهبة وخوف ، كان وصف الموج بأنه كالظلل أدق في تصوير هذا المقام وأصدق



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)