1
-أبعاد المفردة القرآنية:
تعد المفردة القرآنية الوحدة الأولى التي بنيت منها الجملة القرآنية ، والتي تألف منها التركيب القرآني ، ثم الأسلوب القرآني والمفردة (الكلمةُ ) القرْآنيةُ ذات أبعاد عدة متعددة بعد صوتي تنغيمي، وبعد هيئة وصيغة. وبعد أصل لغوي تكونت منه، وبعد موقع وقعت فيه بدوائره المتعددة: دائرة الموقع في الجملة، ودائرة الموقع في الآية، ، ودائرة الموقع في السورة، ودائرة الموقع في القرآن كله ، كل دائرة في داخل التي من بعدها وأعمها دائرة السياق الكلي للقرآن الكريم ولهذه الأبعاد كلها ينحدر منها العطاء الدلالي للكلمة القرآنية ، فالنظر في الكلمة القرآنية نظر في كلمة ربانية قامت في بناء جملةٍ قامت في بناء آية قامت في بناء معقد قامت في بناء سورة قامت في بناء القرآن الكريم كلِّه، وكلُّ بناءٍ من هذه الأبنية المتصاعدة يأخذ من سابقه ويعود عليه بفيض من عطائه وهذا يجعل الناظر في المفردة القرآنية حالاً مرتحلاً، لا يحلّ في دائرة من دوائر السياق إلا ليرتحل منها إلى أخرى يجمع منها فيضًا من العطاء ، ويستعمل القرآن الكريم بُنيةَ الكلمة استعمالاً في غاية الدقة والجمال ، فمن ذلك استعمال الفعل والاسم. فمن المعلوم أن الفعل يدل على الحدوث والتجدد والاسم يدل على الثبوت ، ومن هذا الضرب قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . فهو لم يجعله بعد ولكن ذكره بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن الأمر حاصل لا محالة فكأنه تم واستقر وثبت.
2-جمالية المفردة القرآنية: المفردة القرآنية ذات جمال الصوتي أخّاذ يتجلى في :
أ - نظام القرآن الصوتي : المتمثل باتساق القرآن ، وائتلافه في حركاته وسكناته ، ومداته ونغماته ، واتصالاته وسكناته ، اتساقاً عجيباً ، وائتلافاً رائعاً يسترعي الأسماع و يستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور
ب - جمال القرآن اللغوي :
المتمثل بوصف حروفه وترتيب كلماته ، ترتيبا دونه كل ترتيب ونظاما تعاطاه الناس في كلامهم وعرفوا جماليته وذلك من خلال علمنا أن حروف الهجاء في لغة العرب موزعة بين حروف الإخفاء وحروف الإظهار والحروف المهموسة والحروف الجهرية ، وحروف المد وحروف الاستعلاء وحروف القلقة وحروف التفخيم والترقيق إلى آخر هذه التقسيمات المعروفة في فقه اللغة وفي علم التجويد .... وأن اجتماع الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات يعطي هذه الجمالية الساحرة الآخذة بالألباب .
ج-تميز المفردة القرآنية :
المفردة القرآنية هي المادة الأولية التي تتألف منها الجمل والعبارات القرآنية ؛ وهي العنصر المهم في توضيح المعنى السياقي للجمل والعبارات مع كونها العنصر الجمالي الذي يضفي على النصوص القرآنية هذا السحر الأخَّاذ ؛ تقع المفردة القرآنية في غاية من الأهمية في دراسة بلاغة القرآن الكريم ، من حيث : إنها الوحدة المكونة للآيات، وإنها عنصر فعّال في توصيل المعنى إلى المتلقّي بصورة بيانية (تشبيه – استعارة – كناية )، ومن حيث : إن الكلام الرّبّاني محكم متماسك لا غنى فيه عن مفردة، بل عن حرف. وجمال المفردة مرئيّ من حيث التصوير، وسمعي من حيث متعة الأنغام، ونفسي من حيث إمتاع الوجدان وموافقة المواقف في القرآن الكريم. والمتصفح للمفردات القرآتية يدرك أن هذه المفردات قد أسهمت في تبيين جمال الصورة البيانية، فكانت عنصراً مهما من عناصر الجمال البصري، لأنها حلقة الوصل بين المعنى وبين توصيله بصورة جمالية رفيعة ، فالمفردة القرآنية تجسّم المعاني وتحيلها إلى مشاهدات بعد أن تكون دفينة مكنونة ومشاعر ومجرّدات، ومن جوانب هذا الجمال البصري إسباغ الصّفات الآدمية على الجمادات، فالمفردة تشخّص، فترتفع بالأشياء بعد أن تلقي عليها الأحاسيس واللواعج البشرية، كما أنّها تصوّر الحركة المنشودة المناسبة للموقف وتترجم بسرعة الحركة أو بطئها المشاعر الخبيئة. وقد كان مما أسهم في تصوير الجمال البصري ذكر أسماء من الطبيعة الجامدة والحيوان، وأن ما استعير منهما كان مناسبا للمواقف، ومتميزاً بطابع الاستمرار والشّمول، والقرآن الكريم قد اقتصر على الصّفات القبيحة في الحيوان لدى الاستعانة بها في تصوير الكفار والمنافقين، كما أنّه نفى الحياة عن النبات المستعار، ليدلّل على صفة الجمود في تفكير الكفار، وإصرارهم الفارغ كالنّخل الخاوي والعصف المأكول. وأن الحسية المطلوبة في التجسيم وغيره مرحلة أوّلية، وواضحة السّبل إلى الأثر النفسي، فلا يوجد في القرآن الكريم إثارة حسّية تقصد لذاتها، بل الغاية الدائمة هي سبر أغوار النفس، وتوصيل رسالة الهداية. وكذلك اتسمت المفردة القرآنية بجمال الشكل والمضمون، فجمعت بين قوة تأثير التصوير، وبين عذوبة الصوت، من حيث (سهولة نطق مخارجها، وشهادة السّمع بسهولة أصواتها) ، وهذه العذوبة لم تنتج عن اجتماع الأصوات الرّخوة أو تباعد مخارج حروف المفردات، إذ أن العبرة بصفات الحروف لا بمخارجها العضوية. وعلم التجويد وفقه اللغة عون كبير لمعرفة صفات الحروف من حيث الشّدة والهمس والإطباق والذّلاقة والقلقلة وغير هذا، ولدى الكشف عن معطيات صفات الحروف تبيّن لنا أنّ ثمّة انسجاما ملموسا بين هذه الصّفات مما يبعد الثّقل عنها، كما أن ثمة علاقة وشيجة بين طبيعة الأصوات وتشكيلها وبين المواقف التي تذكرها. وقد كان للمفردات القرآنية جمال خاص، من حيث إن بعضها مصوّر بأصواته للحدث ، ولكي نبعد طابع الرمز المغرق، لجأنا إلى علم اللغة لمعرفة صفات الحروف، وإمكان ربطها بالتصوير ، ثمّة جانب آخر لجمال المفردة يتمثل في موافقة السّياق الكلي للمفردات من خلال كشف المعالم الفنية في اختيار المفردة، ومن خلال أسلوبها في التعبير عن المعنى. وثمة مفردات قصد فيها البيان القرآني الإيماء وعدم التصريح بالمعنى ( شفّافة تومئ إلى المعنى إيماء) ، وهذه المفردات تخصّ المرأة وعلاقتها بالرجل تدل على سموّ خطابه ورفعته. فالمفردات تختزن المعاني الكثيرة التي تدلّ على تماسك الآيات، وتبين قدرة القرآن الكريم على التوصيل بأقلّ عدد من المفردات من خلال سيطرة المضمون على الشكل في فواصل الآيات بربط المفردة بما يسبقها، واختصاصها بمعنى جديد على سائر مفردات الآية وللمفردة قدرة على استيعاب جوانب المعنى الخاصة لبعض المعاني التي يضفي عليها السّياق القرآني دلالة خاصة تبعدها عن المعنى المتعارف عليه، ومن هذا ما يسند إلى الخالق عزّ وجلّ من مفردات تثير الخيال البشري، وتؤكّد الهيبة العظمى. فالمفردة القرآنية متميزة بجمال فعّال في سبك الآيات ، فكلّ مفردة تستقلّ بمعنى لا يكون في مرادفة لها، مع أن الترادف موجود في اللغة العربية لأسباب عدّة كتعدّد الواضعين والتّصرّف بالصوتيات ووجود المجاز وغير هذا، كما أن المفردة القرآنية لم تنف جمال النّظم القرآني، بل ينضاف جمالها إلى نظرية النظم، لأنّ المفردة تعدّ من جزئيات النّظم، وهي الخطوة الأولى في بناء الجمل، ولهذا تسبق الجمال الناشئ عن العلاقات النحوية بين المفردات ، وقد دلّ القرآن الريم على جمال التشكيل الصوتي له، وقد وقع الدارس القديم على هذا الجمال، ودلّ على مواطن الحسن أحيانا، إلا أن اهتمامه كان ينصبّ في تبيين الصورة البيانية، وتوصيل المعنى. ولقد استطاع القدامى معرفة إسهام المفردة في الصورة الفنية، وبيّنوا إضاءتها للنص، وانفرادها بالجمال البياني، وكانوا يهتمون بتوصيل إقناعها للعقل وأثرها في الوجدان، وأدركوا أن الحسّية تقصد لأجل زيادة الأثر النفسي، كما قدّموا جهودا كبيرة في استيعابها للمعنى وحقّها بالمقام، وإن مالت بعض النظرات إلى الإجمال ، وأدركوا النّغم الموسيقى، وقد دلّ استقراء جهودهم على أن غاية المفسّر القديم لم تنصبّ في إبراز الجمالية الموسيقية، وأنّ مصطلحهم المجمل لا يعني- إطلاقا- عدم فهمهم وإحساسهم بتنغيم المفردات، بل كانت غايتهم تنحصر في جلاء المعنى وتوصيلة بدلا من التّكهّن في أهمية موسيقا تشكيل المفردات، فهم اكتفوا بالإشارة إلى مواطن جمال الصوت بمصطلحات مثل: ( فصاحة وعذوبة وخفّة ) ، وغير هذا، ولم يتوسعوا في توضيحها وربطها بمعايير فنية جليّة . إن الجمال وإدراكه قضية فطرية، فطر الله الخلق عليها، وخلق صفة الجمال وصفة القبح، فالجاحظ ارتبط مفهوم الجميل عنده بالنافع، والجميل عنده موضوعي، ينبغ جماله من شكله، وتركيب أعضائه وجزئياته، فقضية استيعاب الجميل تعتمد على الحسّ، ولا يكتفي بالحواس الظاهرة، إنما يعدّها سبيلا إلى مكمن المشاعر أو القلب حسب تعبيره، ولا يقتصر الجمال عنده على المحسوس المرئي أو المسموع، فهناك جمال معنوي مجرّد يتملّاه العقل أو القلب، وهذا الجمال المعنوي الأخلاقي لا يبتعد عن الشريعة الإسلامية، كالوفاء والعفّة والصدق والكرم والشجاعة ، وإذا كان الجاحظ يكتفي بالحديث عن الجميل الموضوعي والمعنوي الأخلاقي فإن أبا حيّان التوحيدي يركّز على الجمال المعنوي، ويضع العقل معيارا لفهمه، ويبسط القول على صفات الله قائلا: «وهي من الحسن في غاية لا يجوز أن يكون فيها وفي درجتها شيء من المستحسنات، لأنها هي سبب كل حسن، وهي التي تفيض بالحسن على غيرها. ( التوحيدي، أبو حيان، 1952، الهوامل والشوامل، تح: أحمد أمين وأحمد صقر ط/ 1، لجنة التأليف والنشر والترجمة»، القاهرة، ص: 43 )، فالخالق عزّ وجلّ هو الجميل المطلق، وهو خالق الجمال النسبي في الكون، فصفات الله هي أصل الحسن في المخلوقات، وأبو حيان يتحدث عن الجميل المعنوي، ويربطه بالخير، ويجعل العقل وحده معيارا في تذوقه واستيعابه، يقول: «إن العقل لا يستحسن ولا يستقبح شيئا من الأشياء إلا بقرائن وشرائط، وهكذا الحال في الأشياء التي تعرف بالخير والشر، فالفعل لا يتّصف بالجمال أو القبح، حتى يتضح أثره وفائدته، أو ضرره في المجتمع، أو دلالة الشّرع، فما يستحسنه العقل، فهو أبدى الاستحسان له، وما يستقبحه، فهو أبدى الاستقباح له، ولا يتغير ذلك بتغير الأحوال. ويفصل أبو حامد الغزالي بين الجميل والنافع، بيد أنه لا يلغي لذّة النافع، إنما يقدّر له لذّته الخاصة به، يذكر الغزالي هذا في حديثه عن المحبة، وهنا يتحدث عن حبّ الأشياء المحسوسة، ويذكر حاسّة الرؤية، ويمكننا أن نعدّ كلامه تفسير لقوله عز وجل عن الإبل: { وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ }[ سورة النحل: الآية: 6] . إذ ينص البيان القرآني على أن الأشياء ليست جميلة لذاتها بل لمنفعتها للإنسان في الوقت نفسه، وتمتع الإنسان بالصفات الجميلة يؤدي إلى تسبيح الخالق عز وجل. فالموقف الجمالي بحسب المنهج القرآني يقول بالغائية، إلا أنه يدعو إلى الترفع عن المنفعة المادية المباشرة، فلا يرتبط بالنافع مباشرة كما في فلسفة سقراط، كما نجد هذا في الحواريات التي نقلها عنه تلميذه أفلاطون . والإبل مفيدة بلحمها وركوبها، وهنالك هنيهات تأملية سامية يتجلّى للبصر حينها جمال شكل الإبل، وهذا يدعو إلى تسبيح الخالق، فالشعور بالجمال يتكون بعد إشباع الحاجة المادية، فالظمآن لا يشعر بجمال خرير النهر، كما أن الجائع لا يشعر بجمال الثمار، لأن الجميل يعني إثارة وجدانية لمشاعر راقية. وفي منظور الغزالي يتمتع الجمال الموضوعي بصفة الجمال عند ما تحضر فيه الصفات اللائقة به كما خلقها الله عز وجل، فالجمال متفاوت، لأن هناك نسبا مختلفة في حضور الصفات الجميلة، وهذا يصل بالغزالي إلى أن الكمال لله وحده، وهذا يذكّر بفيض الحسن من الخالق على المخلوقات، كما ورد عند أبي حيان التوحيدي. وبما أن المقصد من ذكر حب الجميل أخلاقي ديني عند الغزالي، فإنه لا ينسى أن يذكر الجمال المعنوي ، فالجميل عند الغزالي مطلق، وهو الخالق عزّ وجلّ، ومنه يفيض الجمال على الأشياء، وجمال موضوعي محسوس يعتمد على الحواس، وجميل معنوي يعتمد على البصيرة، كحبّ العلماء والعلم والطاعات والأخلاق الحميدة. كما نجد هذا في الجمال عند هيغل ومسألة المطلق والروح وأمثال هذه المصطلحات الغامضة، أو تعلق الجمال بالحدس كما هي الحال عند كروتشه. فالجميل الموضوعي يعتمد على جزئيات هذا الجميل ، إذ يعتمد على حاستي البصر والسمع إضافة إلى القلب، وهذا ما تتفق فيه الدراسات الجمالية كلّها. وإذا كانت المذوقات والمشمومات والملموسات أدخل في الالتذاذ الجسدي من المرئيات والسمعيات، فإن الجمال القرآني يثير هذه الأحاسيس أيضا، لأنه فن قولي يتمتّع بطابع زماني لاعتماده الكلمة والنسق الموسيقى، ومكاني بمشاهده المؤثرة في المشاعر، ولأجل الإيغال في التأثير الحسي يحرك كلّ الحواس، حتى إن سماع بعض الكلمات يشبه الإدراك المرئي، فيتخذ بعدا مكانيا. والجمال القرآني متكامل من حيث الانسجام بين الشكل والمضمون فيه، وهو لا يقدّم شكلا فارغا، بل إن ما فيه مسخّر في نهاية الأمر لرفع مستوى الوعي الجمالي، ومن ثمّ لتحقيق الهداية، ومن يقرأ آياته يدرك أن الشكل يحتوي المضمون ويتّحد به، وبحيث لا ينفصمان، وما الإعجاز البياني إلا الشكل الراقي لدعوة البشر إلى الحق. وإن الجميل في القرآن هو كلّ ما ترتاح إليه النفس بعد مروره بالحواس، وذلك في الطبيعة والحياة الاجتماعية، وفق ما يقتضي الخير والشر من مظاهر وعلاقات إنسانية، وذلك بالإضافة إلى جمال الأفكار والمشاعر الذي ينسكب في الباطن، ويحدث لذة جمالية معنوية وفق طبيعة النفس الإنسانية كما فطرها الخالق عز وجل. والجميل في القرآن الكريم هو كل ما يخاطب المشاعر، وما يتصف بمعنى المؤثّر في أرقى أشكاله، إن في تصوير ما ترتاح إليه العين والأذن، أو في ما ينفّر عنه التصوير من خلال دقّة بارعة لتصوير القبيح، كما في رسم مشاهد الكفار، وإن الغائية الأخيرة في الجمال القرآني غائية دينية، هي هداية البشر بالترغيب والترهيب، وإن هذه الغائية تعتمد على فنون اللغة بغناها، وتبثّ فيها روح السموّ، فالقرآن معجزة بيانية. ولا بدّ هنا من توضيح المقصود من كلمة، «مفردة»، فهي ذلك الكائن الذي يساهم في الفن القولي في أسلوب القرآن، ولا ترادف مصطلح الكلمة، لأن الكلمة ، ويمكن القول إن المفردة هي المجموعة الصوتية التي تدلّ على معنى، وهذه المجموعة هي وحدة كلامية تقوم مقام الجزء من الكل في الجملة، وهي الجزء الأوّلي في بناء النظم والوحدة المكوّنة له، فلا يغني أحدهما عن الآخر تمتاز بدلالة جديدة يضفيها الموضوع على حياد المعجم. وجمالية المفردة، هو الجمال الموضوعي الذي ينشأ من أجزاء الموضوع الجميل وتركيب ، والمراد القيمة الفنية للمفردة في سياق البلاغة القرآنية، واستقلالها بأهمية كبيرة في مجال التأثير الوجداني. فهو جمال حسي بصري يبين أثر الكلمة المفردة في توصيل الصورة الفنية إلى الذهن، ويشمل تجسيم المعنويات وتشخيص الأشياء، وبثّ الحركة والحيوية في الصورة. وهو جمال حسي سمعي يبيّن جوانب موسيقية في المفردة، من حيث وقع حروفها وصفات هذه الحروف، وملاءمتها للمقام، وما تمتعت به المفردة من مدود وحركات. كما أنه جمال نفسي للقلب فيه النصيب الأكبر في تلقّيه، وهذا الجمال ينشأ من علاقة المفردة بالموضوع أي علاقة الدال بالمدلول، وتفردها بالموضوع واستيعابها له، واتسامها بالغاية القصوى في التأثير من خلال صيغتها، وظلالها الخاصة في القرآن، وإيجازها للمعاني الكثيرة، ورفعتها في مخاطبة الإنسان، وهكذا نجد أن جمال المفردة القرآنية تصويري وصوتي وفكري معنوي. ويعني «الجماليّ» في دراسات علم الجمال الظواهر الجميلة والقبيحة، وما يتفرّع عنهما من قيم إنسانية، إن في الحياة، أو في الفن، من خلال تصوير القرآن له، كأشكال الكافرين وأعمالهم ومظاهر تعذيبهم. والأدب هو الحقل الفكري الذي تغرس فيه الكلمات طمعا في ثمرة التأثير الوجداني، وهو يتخذ من الكلمة الوسيلة الجمالية، لأن غايته لا تقتصر على الإفهام والتعبير المباشر، بل تتعدّى هذا إلى مستوى فاعلية في المتلقي، إذ يوجد تعامل خاص مع الكلمات يختلف عن المجالات الأخرى. فالمفردة الأدبية كائن جديد متميز من المفردة المعجمية، فهي في الأدب تلبس لبوسا فريدا مع شحنة روحية، مما يجعلها تتجاوز كونها أصوات مادة معجمية، وهي ترسم وتشخّص وتجسّم حالة شعورية، فتتسع دلالتها الإشارية الضيقة، وتحمل دلالة أخرى في حالة الاتساع. ولا تقف المفردة الأدبية في حياد المعجم، فإن غزت موضوعها واستوعبته تملّكته، فكانت آية في الجمال، وإن خسرت معركتها اقتربت من الفوضى والهذيان، وصارت إلى زوال وابتذال، وهذا هو الفرق بين الكتابة العلمية والكتابة الأدبية، فالأولى لا تهتمّ بالانتقاء، لأنها لا تعنى بالاعتبارات الوجدانية، فتقلع عن جمال النحو بعلائقه المؤثرة، كما تقلع عن جمال الصرف الذي يعطي الصيغة الفاعلية الجمالية، وتتجاهل الفروق الدقيقة بين المفردات، كل ذلك لأنها كتابة مباشرة لا تخاطب الشعور، والمفردة في مضمارها إن هي إلا وسيلة لمخاطبة العقل مباشرة. أما الكتابة الأدبية فهي بناء لغوي جميل، والأديب يرى أن المفردة كائن حي ودلالة حيوية، تقوم بوظيفة نقل المشاعر في صيغ مغايرة للاستعمال المعهود، ولا تنتهي غايته عند صياغة الفكرة فقط، بل عند بثّ الروح في حنايا الكلمات، فتغدو بدائل عنه، وهذه المعايشة بين المفردة والمبدع تحتاج إلى وقفة ذوقية لأجل عملية الانتقاء، لأن الكلمة سترسم صاحبها بملامح جسدية، وملامح ذهنية في سجلّ خيالي، وهذا ما يحوجه إلى التأمل في المفردة قبل وصولها إلى النص، فيغربل المفردات، لأنه يخشى زللها. فالكلمة تترك ساحة دلالتها اللغوية عند ما تكون في الأدب، وإذا كنا نحن إزاء دراستها في القرآن، فهل يطبّق هذا الرأي عليها؟. هنا تتجلى ميزة القرآن، فهو كتاب هداية وعلم، وليس يقصد الفن الأدبي وحده فيه، فهو موجود ليتمم الفكرة الدينية، ويوصلها في أجمل وأبهى صورة، وهو كتاب علم وعقيدة وتشريع سماوي، ومواعظ وأخبار، وعلى الرغم من هذا لم تؤثر فيه علميته في أن يبقى منها بلاغيا، ونصا أدبيا راقيا. ومن يطوّف في رحاب التفاسير اللغوية البلاغية يجد وقفات طويلة في مفردات السور المدنية التي كان طابعها التشريع، لأن التشريع قد عني أيضا بنفسية المؤمن، ومن خلال رسم السلوك البشري السّوي، وإلقاء الأوامر الإلهية، إذ برزت للدارسين جماليات في مناسبة المقام بمفردات تختزن طاقة وجدانية كبرى. ولا شكّ في أن المفردة تكتسب هذه الميزة الجديدة من الظلال الروحية التي تحيط بها داخل النص، فتتخذ لها معاني ثانوية يجود بها الموضوع المرتجى، وهذا ما أسماه أحمد الشائب بالصفات الهامشيّة، ولا ريب في أن اختلاف المواقف يتأتّى منه اختلاف الصفات الهامشية، فالكلمة رهينة تلك الحالة الشعورية، وقد كسرت قيود الدلالة اللغوية المركزية، وهذه مقولة يتفق عليها كل النقاد، فهي في عداد النواميس الأدبية. ويسعى الأديب إلى اختيار أسلوب فريد لمادته الكلامية، وذلك حفاظا على منحى الإبداع، وعدم الدّوران في فلك الآخرين، والاتكاء على تعابيرهم، فيبثّ إيحاءه الشخصي، ليجتاز إيحاءات غيره ، ولقد أثبت البيان القرآني جدارته بصفة الربط بين المتلقّي والنص بوشائج متينة، وهذا الاستحقاق يكمن في ديمومة ربط المرء بالواقع: الواقع النفسي في القدرة على إثارته على مرّ العصور، فتنبش مكوّنات أساسية في السلوك البشري، وهاهنا مخاطبة الخالق لما خلق، وكذلك الواقع المحسوس في تصوير جزئياته في الطبيعة الصامتة والمتحركة، والمشاهد المألوفة، وتقريب ما هو ليس بمألوف بإثارة الحواسّ والبصيرة، واستدامة صورته الفنية هي نتيجة ثبات الحواسّ وتأكيده على ربط الصورة بالحواسّ، وهكذا لم يرفض الواقع، بل نهض به ولوّنه. ولغة القرآن الكريم عربية استخدام المفردات العربية أحيانا في غير مجالها المعهود، ففي مجال المضمون قلّص دلالات كثيرة، وبثّ فيها المعاني المغايرة بصبغتها الدينية، والشواهد كثيرة على هذا كالمصطلحات الدينية في العقيدة والتشريع «صلاة، نفاق، صراط .. وإذا كان جمال مفرداته من مصدر إلهي، فهذا يعني بالضبط سموّ الفن القرآني في مضمار الفن الأدبي، وحجّته الأولى هي اللسان العربي الفصيح، وطبيعة الفن، وليس الدافع الديني، فنحن نلمس السرّ الإلهي في الكلام المبين من خلال الآثار الجليّة التي تدلّ على وجوب الاعتراف بالبيان لمن علّم البيان، وهذه الخاصية للمفردة القرآنية تسري في الآيات في تلاؤم تام، ولا يمكن أن نعدّها تفضّلا أو ترفا ذهنيا، كما هي الحال في كثير من الأدب، وهي- المفردة- سامية بنسبتها إلى منزلها في إطار من البيان الذي يعيه العرب خاصة، فعلى قدر ما تكون الجهة المبدعة قوية، تخرج الكلمات قوية مؤثرة، والقرآن كلام الله عز وجل، وهو أقرب من حبل الوريد، فلا عجب في أن يضاف إلى حيّز الأدب سموّ المحدّث تبارك وتعالى، قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ . وتتمتع الكلمة في المضمار الأدبي بثنائية الشكل والمضمون، وفي الأدب الراقي يتضح أن الشكل ليس زخرفة بالية، بل يساند المضمون الفكريّ، ومؤيدات هذا التلاحم، وهذا التلاؤم المنسجم بين الطرفين تنبع من النص نفسه، وتنطلق الأحكام من خلال جوّ المفردة في خضمّ المفردات، وهي تصافح حاسة السمع قبل أن تطرق باب المشاعر، أي ترجمتها في سجلّ الوعي، ذلك لأنها صوت أولا، ومعنى في الدرجة الثانية. ولقد جنح الشعر الحديث إلى الموسيقا الداخلية المتوخّاة في طيّات الكلمات، إذ استعاض بها عن الوزن والقافية، والأديب البارع من يوظّف القيمة الصوتية في رسم المعاني، ويشخصها للمتلقي، لأنّ الإيقاع يجب أن يمثّل الحالة الشعورية، ولن يبلغ الشّعر شأو القرآن الكريم. ورقة اللفظ، وحلاوة الحروف، والسّلاسة والسّهولة والعذوبة، إشارات مصيبة، ووعي كبير لأثر الكلمة في المتلقي ، والصوت والمعنى في تلازم دائم، أما أن الصوت لا يقدّم . يقول تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام: { فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً } [ ] ، ففي كلمة «رخاء» جزئيات الحركة المعنيّة، وتصوير للحدث، وذلك بعيدا عن المعنى، فالصوت هو الذي يوحي الآن، ويرسم الحركة في عملية نطق تحاكي الحدث، فإنّ الضمة على الراء تعني انضمام الشفتين على حرف ليس من حروف اللّين، واستدارة الشفتين تتطلب جهدا، وفي هذا قوّة الريح، ثم يأتي الانتقال من الضمّ إلى الفتح على حرف حلقي ليدعو إلى تصوّر بدء سهولة، وتكثر السهولة في مدّ الألف، فليس هناك انقباض ولا انكماش، بل تدرّج من الصّعب إلى السهل، مما يمثّل طواعية الريح للنبي بأمر الخالق ولا يكون هذا في كلمة سوى «رخاء». وقد بسط المحدثون القول في هذه الناحية مضيفين إلى إشارات القدامى نظرات عميقة، وتحليلا مقنعا أحيانا، مثل الرافعي، وبدوي، وحفني شرف، وغيرهم، وقد طرق القدامى هذه المسألة، وعلى وجه الخصوص قدامى علماء اللغة، كابن جني في «الخصائص» وهي محاكاة الوضع اللغوي لمظاهر الطبيعة، وفي العربية الكثير من المفردات المحاكية ، وقد استخدم القرآن مثل هذه المفردات عند ما بثّ الحركة فيها، وجسّم معانيه، وخاطب الحواسّ عند تقديم الذهنيات. وإن الاهتمام بالشكل الذي يطمس المعنى، هو تعلّق زائف لا يجدي نفعا، كما في مذهب الرمزية المغرقة في الشعر، والكلمات أصوات ومعان، ولا يمكن التفريق بينهما إلا على سبيل الافتراض عند الدراسة النقدية، والصوت والمعنى وجهان لورقة واحدة في الأدب، ولا تظهر للعيان الارتباطات الموسيقية في الكلمة إلا وهي داخل النص ، وفي القرآن الكريم مناسبة تامة بين الشكل والمضمون من خلال تصوير الحالة النفسية، وتصوير أجواء المواقف في المدود والغنّات والتنكير والسّكنات والحركات، والتشكيل الصوتي ، وكأنّ الحرف يمثّل ويرسم، والحركات تضيف الأطر اللازمة للصورة، فالهمس في مواقف اللّين والهوادة، والإطباق والشّدّة في مواقف التهديد والوعيد، ومثل هذا منثور في الآيات الكريمة،. فالمفردة القرآنية تجاوزت حدودها المعجمية، وقد تجاوزت أحيانا إيحاءاتها المعهودة، واعتمدت التأثير الحسي، وحافظت على تلازم الشكل والمضمون، وهي قد أنبأت بأسمى التنظير الفني في عصرنا. والكلمة هي اللّبنة المستخدمة في البناء اللغوي، ذلك البناء الفكري الذي يعدّ مظهرا من مظاهر وعي الإنسان، وسموّه على المخلوقات الأخرى، وقد كرّمه المولى بها، لأنها وسيلة تعايش وتآنس، وهي أداته التعبيرية في توصيل المعنى، في القول العادي، وهي الوسيلة الجمالية في صياغة النتاج الأدبي، كما كانت الألوان وسيلة الرسم، والنغمات وسيلة الموسيقا، والحجر وسيلة النحت. وهي في مجال الأدب شحنة روحية، وليست مجرّد أصوات، لأنها ستتغير وتكتسب دلائل جديدة، وتوظّف الحروف للتأثير الوجداني. فما من مفسر أثبت إسناد الجناح للرحمة أو للذل حقيقة كما في قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، والدراسات الجمالية التي ركّزت على فنية الكلمة، وهذه مبثوثة في كتب الإعجاز والتفسير بالرأي، وذلك بطرائق مختلفة نتيجة الوجه المدروس للمفردة، ومما لا شك فيه أن الجاحظ وأقرانه نظروا إلى المفردة نظرتهم إلى هيئتها المعجمية، فرأوا الجمال في تكاتفها مع غيرها في النسق القرآني، ويبدو أن بعضهم تعثّر في رأيه هذا، ولم ينتبه إلى إضفاء كلمة واحدة معاني جليلة على النص، إضافة إلى استخدام المادة الصوتية في صيغ جديدة ما عهدها العرب، كالحاقّة والصاخّة والقارعة وغير هذا. وكذلك ينتقي القرآن كلمة «ربّ» في مكان احتياج الموقف إلى الرّبوبيّة، ولا يضع غيرها من أسمائه الحسنى عزّ وجل، فقد اطّرد ذكر هذه المفردة في حال الدّعاء حيث يكون المرء في ضعف، ومثل هذه المراعاة كثير، فالمفردة في نظرهم شيء معجمي، ولم يتدبّروا مواءمتها للموضوع، وما تختصّ به من دلالة خاصة فريدة، فتتملك موضوعها تملّكا نوعيا. وما يلفت الانتباه أن الجاحظ الذي أسس هذه النظرة والذي نحا الدارسون نحوه، هو أوّل من يبدي تأمّلا عميقا فاحصا في ملاءمة المفردة لموضوعها من خلال الفروق اللغوية، واحتواء المفردة لمخزون فكري خاص يعني أن الكلمات ليست متساوية في حجم المعنى وكيفيته، وهذا ما يفصّل القول فيه في موضع لا حق من البحث، ويهمنا أن نورد رأيه الذي ورد في «البيان والتبيين» إذ قال: «وقد يستخفّ الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحقّ بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلّا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السّغب، ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث وتوثيقا لرأيه نورد بعض الآيات التي سدّد النظر إليها، وجعل منها معياره، بنظرة تشمل دقة الانتقاء القرآني وبموافقة للوضع اللغوي السليم، يقول تعالى : { وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } [ ] ، فالصيغة القرآنية اختصت المطر لا الغيث، لأنه أقوى، وأغزر تدفق مياه، فناسب عقوبة المجرمين، وقد ذكره القرآن الكريم على سبيل الاستعارة في قوله عز وجل: { فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ } [ ] . وفي كلامه على نعمته في الأرض، قال عز وجل يدل البشر على سنّته في الكون في ترعرع النبات: { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } [ ] ، لأن النبات يريد رحمته التي تتجلّى في الماء الخفيف، فينتعش، ولذلك لم يذكر المطر الذي يغرقه. ومن هذا القبيل الفرق بين الجوع والسغب، يقول عزّ شأنه: { فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ } [ ] ، فتطلّبت الإهانة والتهديد أقسى حاجة للطعام، فحقّ لهذه الكلمة أن تذكر في أصحاب النار، حيث يكون الجوع غاية الحاجة الفيزيولوجية للطعام، وفي أبشع طلب لهذه الحاجة. وليس كالسّغب الذي اختير في مكان الرحمة، وبعث همّة المؤمنين لمساعدة الآخرين المحتاجين خصوصا إذا كانوا يتامى: { أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ } [ سورة البلد، الآيتان: 14 -15 ] . ولا يبدو الجاحظ متناقضا، فهو يؤكّد طرفي الصياغة: المفردة والنظم، ويرى أن في المفردة محاسن تضاف إلى محاسن النظم، فهي الوحدة المشكّلة له. هذه النظرية الوسطية في شكل المفردة تخلّصها من الابتذال والتوعّر، وهذا ما أسهب فيه ابن الأثير وغيره من الدارسين، وهنا يقترب الجاحظ من مصطلح اللفظ- المفردة، وليس الصياغة كلها التي يترك لها مصطلح الكلام، ونظريته تنصبّ في انتقائية صوتية، معيارها الذوق السمعي. كذلك يطالعنا الخطابي في القرن الرابع بنظرات دقيقة في الفروق اللغوية عند ما دافع عن أسلوب القرآن، فقد أشار إلى فاعلية المفردة القرآنية من غير أن يدرجها في نطاق النظم، من استفهام وتقديم وتنكير وغيره، كما أراد بعده الجرجاني، وهو يختلف عن الجاحظ إذ قدم شواهد، وحلّلها عند ما نصّب نفسه للدفاع عن القرآن، وردّ تهمة اللّحن. وخلاصة جهده هذا نفيه للترادف والتطابق التام بين دلالتين، وقد استعان بأساس اللغة العربية وفنونها، وتذوقه الشخصي، وتبحّره في ظلال المفردات. وليست هذه الفروق التي يوردها مجرّد ملاحظات عابرة، فهو يحاول أن يقعّدها أحيانا بعبارة مطلقة، ومن ذلك قوله في تعليقه على الآية: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [ سورة الحشر، الآية: 9] . إن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعنى، يحسبها أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، كالعلم والمعرفة، والحمد ، وفي كلامه بعد نظر إلى ما أغفله الدارسون الذين تعاظموا مخالفة الجرجاني في مسألة النظم ؛ وإذا كان في تعليقه السابق يبيّن خروج الناس عن الجادّة المستقيمة في استعمال القرآن، فإنه في مكان آخر يوغل في كشف العامل النفسي، والبعد الإنساني لتفضيل مفردة على أخرى، فهو يقول بصدد الآية الكريمة: { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ } [ سورة المؤمنون، الآية: 4.] «وقولهم: إن المستعمل في الزكاة المعروض لها من الألفاظ الأداء والإيتاء والإعطاء، ونحوها كقولك: أدّى فلان زكاة ماله، وآتاها، وأزكى ماله، ولا يقال: فعل فلان الزكاة، ولا يعرف ذلك في كلام أحد، فالجواب أن هذه العبارات لا تستوي في مراد هذه الآية، وإنما تفيد حصول الاسم فقط، ولا تزيد على أكثر من الإخبار عن أدائها فحسب، ومعنى الكلام ومؤدّاه المبالغة في أدائها، والمواظبة عليه حتى يكون ذلك صفة لازمة لهم، فيصير أداء الزكاة فعلا لهم مضافا إليهم، يعرفون به، فهم له فاعلون» ( الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 41). فالأمر ليس مطابقة الدال للمدلول بقدر ما هو تأثير نفسي للكلمات وإيحائها بمعان سامية، وليس المقصود هنا المبالغة كما رأى، بل المقصود توصيل الشريعة الغراء للإنسان إلى أسمى المراتب، حتى تصبح المثالية الإنسانية طبعا فيه. والمسألة ليست لغوية فحسب، وإنما هي وجود لما لم يكن موجودا، وبما أن «الفعل» عام، ومظهر لوجود المرء، وشكل لفاعليته في معاشه، فكأن الزكاة طبع في المسلم، وهو بذلك أرقى من غيره، والفعل يدلّ على الحركة، فيتجاوز الأقوال، ويدلّ على الحركة والعمل، ليكفي المرء نفسه، ويعمل على مساعدة الآخرين. ومثل هذه الوقفات على الدّلالة النفسية كثيرة في «كشاف» الزمخشري، وهو الذي أدرك جودة التعبير والإيحاء الذي يخرج بالكلمة من مجال الاستعمال اللغوي المادي. لقد سبق أبو هلال العسكري الجرجاني بزمن، ووضع كتابه «الفروق في اللغة» مما ينفي الترادف، وعلى الرغم من هذا لا يعترف الجرجاني بالفروق، فكأن التفاضل مرحلة أوّلية يجتازها إلى كلية النظم، ورعايته لما اختير، وهو يرى أن قوالب النحو أهمّ ممّا في القوالب. فمثلاً «جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلة متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة، فأثر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين، فأما الآية فهي قوله تعالى: { فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } [ ] ، وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي:
تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام
وهذه اللفظة التي هي «تؤذي» إذا جاءت في الكلام، فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به. وقد أتت الكلمة عند أبي الطيب عروضا للبيت، فهنالك وقفة، وقد تحدث ابن الأثير عن هذه الميزة في فصل جمال المفردة على الرغم من تعلق كلمة تؤذي بما بعدهاّ وفي قوله تعالى : { وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي } [ سورة هود، الآية: 44] . جاء بكلمة «بعدا» دون «هلاكا» مثلا، إشارة إلى أن هؤلاء القوم الظالمين، إنما قصد إبعادهم عن الفساد ... وأحسّ في كلمة «بعدا» دلالة على الراحة النفسية التي شعر بها من في الكون بعد أن تخلّصوا من هؤلاء القوم الظالمين ، فالجرجاني يقف على «بعدا» ويرى جمالها في التنكير فقط، لأنه يدل على الكثرة والتهويل والغموض، بالإضافة للبعد النفسي ، فتصوّر الكلمة كرههم، وهم موتى كيفما كان هلاكهم، فهم في منطقة بعيدة، وهذا يريح النفس، ووجود «هلاكا» لا يخلّ بالنظم ، ففي الآية نفسها يقول محمد سعيد رمضان: «أرأيت أنه لم يقل: «جفّفي ماءك» مثلا مع أنه هو التعبير المتفق مع طبيعة الأرض وشأنها، وإنما قال: «ابلعي ماءك» ليصور لك بأن الأرض لما اتجهت إليها إرادة العزيز الخبير انقلبت مسامّها وشقوقها إلى أفواه فاغرة تبتلع بها المياه ابتلاعا: فهي لم تنفّذ الأمر بالطبيعة المألوفة لها، وإنما بالانقياد لأمر خالقها جلّ جلاله» ( البوطي، د. محمد سعيد رمضان، 1970، من روائع القرآن، ط/ 2 دار الفارابي دمشق، ص/ 269. ) وبهذا التأويل الجمالي تتحقق الغاية الدينية في صدق الصورة، وترسم الكلمة مشهد الطوفان الهائل، وما تبعه من ابتلاع، وليس التجفيف، الذي يدلّ على قلّة المياه، وهذا ما فات الجرجاني، لأن فعلي «جفّفي وابلعي» من جهة الإسناد متساويان فالمخاطب واحد، ولا إخلال بالنظرية المبنية على علم النحو. ولربما يظن بعض ممن يقتبس من كتاب ابن الأثير حول المفردة، أن الرجل قد سفّه نظرية الجرجاني، فابن الأثير، رأى أنّ الخطوة الأولى في البلاغة انتقاء المفردات، فتحدّث عن محاسنها ومعايبها


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)