فقد كان السياق العام مقصدهم وشاغلهم، يقول تعالى: { حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها، وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً } [ سورة يونس، الآية: 24 ]. ولا بأس أن نوازن هنا بين تعليق الشريف الرضي وبين صبحي الصالح، يقول الشريف الرضي: «أي لبست زينتها بألوان الأزهار، وأصابيغ الرّياض، كما يقال: أخذت المرأة قناعها إذا لبسته» . فلا يقف هنا على المفردة المشخّصة، بل يشغل بالسياق العام خلافا لما يذكره صبحي الصالح، إذ قال: «أما الأرض فشخّصت مرتين، وقامت بحركتين، إذ أخذت بنفسها زخرفها، كما تفعل العروس في يوم جلوتها، وتطلّبت الزينة تطلّبا، وسعت إليها سعيا، فلم تزيّن، ولكنها ازّينت» . لقد نوّر صبحي الصالح في كتابه جمالية التشخيص، وركز على أهمية المفردة، وهنا يستمد إيحاءها من خلال صيغتها التي توحي بالإرادة، لأن الفعل لازم مما أفاد بثّ الروح في هذه الأرض. ويؤخذ على المعاصرين ضالة حجم اهتمامهم بالتشخيص في بحوثهم، وكذلك اختلافهم في تسمية الفن، وإن كان مأخذا شكليا، لأن اختلاف التسمية لم يقف عائقا عن التعمق في كشف الإيحاء، فأحمد بدوي يقول حول الآية السابقة من سورة الأعراف: «وقد يجسّم القرآن المعنى، ويهب للجماد العقل والحياة، زيادة في تصوير المعنى، وتمثيله بالنفس، وذلك بعض ما يعبّر عنه البلاغيون بالاستعارة المكنية» .وهو يريد حذف المشبه به من الكلام، والاكتفاء بشيء يذكّر به، كالدّمغ والشّهيق والغيظ من الإنسان، ونفهم من كلامه أن «سكت» تجسّم، ونرى أن التشخيص أخصّ من التجسيم، لأن التجسيم يعني تصوير المعاني بمحسوسات، أي نقل المجرد إلى الحسي، وربما لا يتخذ حركة أو شعورا بشريا، لتبيين المعنى، لذلك يظلّ صبحي الصالح صاحب الفضل في التركيز على مصطلح التشخيص، فلا يقتصر الأمر على جعل المعنوي مرئيا ملموسا، بل تضاف إليه الصّفات الآدمية، أما التصوير فهو شامل لهما أي: التجسيم والتشخيص. إن الفن يشارك الفكر في جلاء الفكرة في البيان القرآني، ولا ينفصم أحدهما عن الآخر، وذلك لأن غاية التأثير لا يمكن أن تكون زائدة على المعنى، والتشخيص من أسمى مظاهر التأثير. وفي جمال الحركة في مفردات القرآن الكريم فقد أشار ابن قتيبة إلى قوة الانزلاق في قوله تعالى: { وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } [ سورة القلم، الآية: 51 ] . فلا شك أن الانزلاق هو الذي لفت نظره وجعله يقف على هذه الآية قائلا: «يريد أنهم ينظرون إليك بالعداوة نظرا شديدا يكاد يزلقك من شدّته أي يسقطك» .ولكنه لا يبسط هذا الانزلاق الحسّي، ولا يربطه بحركة العيون كما يريد البيان القرآني، وقد ظلّ مفسّرا للمعنى، ولم يظهر أبعاده الفنية، ولعلّهم يمرّون بالحركة القوة غير آبهين بقدرتها التصويرية، ففي قوله تعالى: { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ } [ سورة آل عمران، الآية: 196 ] نلمس سرعة التجار الكفار، ونشاطهم بين المدن والقوافل، وكأن البلاد الواسعة أطراف فراش يتقلّب بينها التاجر، وهذا يعني عمق تأثير الموقف لدى الرسول الكريم، ولا يكون هذا بكلمة «تجارة» أو «ذهاب» إنه تقلب. وفي هذه الآية يقول أبو السّعود: «وإنما جعل التقلّب مبالغة أي لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة، ووفور الحظ، ولا تغترّ بمظاهر ما ترى من التبسّط والمكاسب أو المتاجرة أو المزارع» . وقول مثل هذا يدلّ على إجمال التذوق الذي يلجأ مباشرة إلى مصطلح المبالغة، ولا ينير الناحية الفنية في تجسيم الحركة، وقد ذكرت معاني التقلب والانقلاب في القرآن خمسا وثلاثين مرة، وهي دالة على قوة الحركة وسرعتها، يقول تعالى: { فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً }[ سورة آل عمران، الآية: 144] ، وتعني الآية انتشار خبر موت الرسول الكريم في غزوة أحد، وتأنيب الخالق للمؤمنين، ويقول سيد قطب: «وفي التعبير تصوير حي للارتداد، فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة، وكأنه منظر مشهود، والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة، ولكن حركة الارتداد النفسية» ( قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج 1: 4/ 486.).. ومما يضاف هنا إلى قوة الحركة توالي القافات في المفردات الآتية: «قتل، انقلبتم، أعقابكم، ينقلب، عقبيه» ولعل هذا يدلّ على خشونة الطّبع، وشدّة التّوبيخ. وفي قوله تعالى: قالُوا: { لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ } [ سورة الشّعراء، الآية: 50 ] نستشف أقصى غايات التغيّر، فالتعبير بالانقلاب يدل على أسرع حركة تجسّم تغيّر رأي السّحرة بفرعون، والتماسهم حبل ربّهم. كما نجد هذه القسوة والسرعة في الآية الكريمة: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [ سورة الشّعراء، الآية: 227] { وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ } [ سورة الحجّ، الآية: 11 ] ، وكذلك في تصوير صلاته عليه الصلاة والسلام، ( الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (سورة الشعراء، الآيتان: 218 - 219.)، فالتقلّب هنا يعبّر عن الحركة الرشيقة التي كان دافعها الإيمان القوي الراسخ. ويظهر جليّا أن القرآن يميل إلى بث الحركة في الكائنات والمشاعر، وانتقاؤه يدل على مناسبة المواقف، وإقناع العقل وإمتاع الوجدان بجوانب الحركة المبثوثة، فتغدو المشاهد موّارة تثير الخيال، وحين أراد البيان القرآني التعبير عن ضعف المسلمين وحماية الخالق لهم نقرأ قوله تعالى: { تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } [ سورة الأنفال، الآية: 26 ] ، ففي الخطف قوة المعتدي، وضآلة المعتدى عليه، وهنا تبرز أهمية العناية السماوية، وكأن المسلمين في مكة حينذاك دمى يلتقطها بقوة فرسان أهل الأرض، كما دل التعبير بـــ «الناس» على هذا. ونقرأ عن انقلاب سحرة فرعون بعد رؤية البرهان الإلهي في المعجزة: { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ } [ سورة الأعراف، الآية: 120 ] ، وهذا يصوّر الشعور القوي الذي ترسّخ في أعماقهم، فنفضوا غبار الكفر، وسجدوا للقوة العليا، وكأن الشعور الجديد قد ألقى بهم على الأرض ساجدين، ومما يضاف هنا أن الفعل مبني للمجهول لتصوير القوة الخفية الحقيقة بالعبادة، والإنابة إليها، وهنا يثار الخيال لتصوّر شيء يضغط على الجسوم فتجسّد مستسلمة. ومن المفردات الكثيرة ما جاء في قوله تعالى: { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ } [ سورة الحديد، الآية: 12 ] ، إنه السّعي الذي يكون أسرع من المشي. وكذلك سعي الرجل المؤمن في قوله تعالى :{ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى } [ سورة يس، الآية: 20 ] ليدافع عن موسى عليه الصلاة السلام، فالسّرعة مطلوبة في هذا الموقف لانسجامها مع الدافع الشعوري القوي. وفي قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى } [ سورة عبس، الآية: 8 ] عن ابن أم مكتوم الرجل الأعمى، إذ يصوّر لهفة هذا الأعمى إلى تعلّم الدّين، فليس وجود «يسعى» هنا إلا لغاية جمالية، فهي ترسم مشاعر من لا يعهد به إلا المشي المتعثّر، لأنه أعمى الباصرة وقد أشرق الإيمان في حنايا صدره، وليس الأمر كما نرى موافقة لرويّ الفواصل. ومما يوحي بقوة الحركة ما جاء في قوله تعالى: { لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها } [ سورة القصص، الآية: 10 ] ، فالربط يدل على القوة، كما يدل الختم على القلوب على قوة الحركة المحكمة في قوله تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ } [ سورة البقرة، الآية: 7 ] . ولا شك أن القوة مقصودة في حركة الربط بعد أن فرغ قلب هذه الأم الرؤوم لدى فراق ولدها، وكأن الربط يحميها من التلاشي أو السقوط، كما أن القوة مقصودة في الختم الذي يعني استمرار الكفار في عنادهم، وإن «ختم» لتثير الذهن ليحاول الإحاطة بالختم على المشاعر والآذان والعيون، وقوة الختم تؤكد معرفة الخالق باستحالة رضوخهم للحق، وبعدم إيمانهم. ويمكن أن تعبّر الصيغة عن حجم قوة الحركة، فنحن نقرأ مثلا قوله تعالى: { وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ } [ سورة يوسف، الآية: 23 ] ، وصيغة الفعل المضعّف المفارقة ل «أغلقت» تعني شدّة الإحكام والتأكد الشديد من إغلاق الأبواب، وتعني ارتفاع الهمّة، وهذا يبعث في الذهن صورة الدّفع القوي للأبواب. وللخطّابي لمحة جيدة من خلال إحالتنا إلى الفروق اللغوية عند ما يذكر قوله تعالى حكاية عن المشركين: { أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ } { سورة ص، الآية: 6 ] إذ يقول متملّيا جمال لفظ المشي وموافقته للموقف: «بل المشي في هذا المحلّ أولى، وأشبه بالمعنى، وذلك لأنه إنما قصد به الاستمرار على العادة الجارية، ولزوم السّجيّة المعهودة في غير انزعاج منهم، ولا انتقال عن الأمر الأول، وذلك لأن المشي أشبه بالثّبات والصبر المأمور به، وفي قوله: امضوا وانطلقوا زيادة انزعاج ليس في قوله «امشوا» والقوم لم يقصدوا ذلك» وكأن الخطابي يريد أن يقول: إن المشي أكثر من العدو والسعي، وهو لذلك ألصق بالطبع، بالثابت، ويعبر في بطئه ونمطه المعهود عن عدم مبالاة المشركين بما سمعوا، وعن إصرارهم على الكفر. وإنها للحركة الدالة على ارتياح، فهي توافق الدافع الشعوري، وتترجمه إلى واقع حسي، وهذه سمة رفيعة امتاز بها القرآن الكريم الذي يحيل السّرد إلى مشاهد منظورة قاصدا غاية التأثير. وهاهنا لمسنا أن الحركة البطيئة تصوّر الحالة الشعورية، وقد صوّر القرآن الكريم حالة المنافقين، فاختار لقلقهم وفزعهم «مشوا» في قوله عزّ وجلّ : { كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } [ سورة البقرة، الآية: 20] ، وهنا تختلف الحالة النفسية، ومع هذا فالمشي مناسب، لأن هؤلاء يطلبون الخلاص مما يفزعهم فيقعدهم البرق والرّعد، ويضع حدّا لسرعتهم، أما المشي في الآية السابقة فهو دليل اطمئنان وارتياح نتيجة عناد، وهنا المشي مشوب بالخوف من ثورة الطبيعة المسخّرة، حيث شدّة الظلام وكثافة المطر والبرق الذي يخطف الأبصار، وفي هذا يقول أبو السّعود: «خطوات يسيرة مع خوف أن يخطف أبصارهم، وإيثار المشي على ما فوقه من السّعي والغدوّ للإشعار بعدم استطاعتهم لهما» ،ومن مفردات تصوير البطء والانسياب ما جاء في الآية الكريمة: { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ} [ سورة الرّعد، الآية: 10 ] ، وقد تأمل البوطي جمال الحركة في «سارب» من خلال اللجوء إلى الأصل اللغوي، ف «سارب» تعبّر عن الوضوح والمسير الهادئ المناسب، وهو يقول: سارب بالنهار كلمة تصوّر لك الشيء إذ يسرب على وجه الأرض بارزا، فأنت تقول: سرب الماء، أي جرى في سجيّته على وجه الأرض بارزا متشعّبا يبرق ويلمع، والكلمة زيادة على ما فيها من جمال التعبير تصوّر لك شدة وضوح هذا الإنسان وظهوره مقابل شدة اختفاء ذلك الآخر واستتاره» . وهناك تلمّس لجمالية البطء في التشكيلة الصوتية للمفردة نفسها، أي توالي الفتحات والضمات ومواقع الشّدّات، وطبيعة الأصوات، وهذا المنهج يميّز تفسير قطب، ومن هذا ما جاء في تأمل الآية : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } [ سورة النّساء، الآية: 72 ] ، يرى قطب أن الصورة الصوتية رسمت الحركة المعنية،: «وإنك لمدرك أنّ صورة التبطئة أدّتها الكلمة «ليبطّئنّ» بجرسها إضافة إلى ما أدّته النونات في الكلمتين السابقتين من تأكيد لهذا الجرس الخاص» من هذا القبيل كلمة «يترقّب» من قوله تعالى: { فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ } [ سورة القصص، الآية: 18 ] ، فإذا قرأنا تعليقهم لمسنا فيه شطحة خيال، وشيئا من التعتيم، لأن هذه النظرة لا تقوم على منهج علمي، إنما تظل غامضة وعالقة بذوق مبهم، أو انبهار كبير، يقول سيّد قطب: «هناك مفردات قرآنية من نوع آخر، يرسم صورة الموضوع لا بجرسه الموسيقى، بلّ بظلّه الذي يلقيه في الخيال، فمفردة «يترقّب» ترسم هيئة الحذر المتلفّت في المدينة التي يشيع فيها الأمن والاطمئنان في العادة» ، ولا تحدّد هذه النظرة الفردية كيفية الرّسم، إنه توقّع إشعاعي خاص، ولكي يبتعد الدارس عن هذا المنهج يعود إلى جزئيات المفردة. ويمكننا أن نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام يمشي بتمهّل، إلا أن هناك تلفّتا منه بين الفينة والفينة خوف العدوّ، فيتقاسم حركته المشي والوقوف الحذر في خفية وحذر، ولعلّ هذا يستمدّ من توالي الفتحات الذي يتبعه وقوف الشّدّة، ثم تجيء حركة الضّم على الباء. وعلى هذا المنوال نستطيع أن نفسّر علاقة الصوت بالصورة في كلمة «يتمطّى» كلمة من قوله تعالى: { ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } [ سورة القيامة، الآية: 33 ] ، لأن الشّفاه ترتاح في حركة الفتح، ونستطيع أن نتلمس تطاول الأعضاء بعد شدّ العضلات من الوقوف في الشّدّة الذي تتبعه الألف المقصورة ذات المدّ الطويل، وهذا المدّ يمثل انفراج الأعضاء، وتعالي الرجل في مباهاة وخيلاء، وتلك مشية ذميمة اسمها المطيطاء، وفي لسان العرب لابن منظور: «المطيطاء والمطيطى بالمدّ والقصر التّبختر ومدّ اليدين في المشي» . ومن النظرات الموفّقة التي استطاعت أن تقدّم شيئا من التفسير ما جاء لدى قطب في قوله تعالى عن المؤمنين الذين لم يذهبوا إلى الجهاد : { ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } [ سورة التّوبة، الآية: 38 ] ، يقول قطب: «لو أنّك حذفت الشدة من الكلمة، فقلت: تثاقلتم، لخفّ الجرس، وضاع الأثر المنشود، ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها اللفظ واستقلّ برسمها» . وذلك لأنه قد لفت نظرنا إلى التشكيلة الصوتية، فحرف الثاء لثويّ، ووجود الشّدّة عليه يجعل اللسان عالقا بأطراف الأسنان بشكل قويّ، وهذا يمثّل حبّهم للقعود، وعدم التحرك، ولا شك في أن فرضية تبديل المفردة ب «تثاقلتم» توحي بهذه العملية في جهاز النطق، لكن هذا من حيث النّغم فحسب، إذ تدلّ صيغة «اثاقلتم» على المبالغة في حين تدلّ «تثاقل» على التكلف. لم تخل نظرات قطب أحيانا من جنوح إلى التوهّم، وتحميل المفردة طاقة من ذاته، فهو يعدّ مفردة ما مجسمة للحركة بجرسها، والقارئ لا يرى الحركة إلا في مضمون المفردة التوصيلي، إذ يقول جلّ وعلا عن آدم وحواء : { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها، فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ } [ سورة البقرة، الآية: 36 ] ، فهو يرى أن لفظة «أزلهما» تصور الحركة على أنها تعني الحركة فقط، ولا حاجة لاستنباط ما لا يوجد فقد جاء في تفسيره: «إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبّر عنها، وإنك لتكاد تلمح الشيطان، وهو يزحزحهما عن الجنة، ويدفع بأقدامهما فتزلّ وتهوي» ، وهذا يختلف عن إثارة الخيال لتصوّر الحركة المعينة، وقد استشفّت عائشة عبد الرحمن قوة الحركة في فعل «أخرجت» من قوله تعالى: { وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها } [ سورة الزّلزلة، الآية: 2 ] ، إذ تقول في تفسيرها: «يلفتنا في إخراج الأثقال هنا ما توحي به من اندفاع للتخلص من الثقل الباهظ، فالمثقل يتلهّف على التخفّف من حمله، ويندفع فيلقيه حين يتاح له ذلك، والأرض إذ تخرج أثقالها تفعل ذلك كالمدفوعة برغبة التخفّف من هذا الذي يثقلها عند ما حان الأوان» . نفسه، وقد صوّره من ناحيته الصوتية الفمويّة، هي الشيء بعد أن أصبح نغما» . إذن ففي إمكاننا أن نشمّ رائحة المعنى ومعالم الصورة من الصوت، وبهذا تبعد الكلمة عن كونها إشارة اعتباطية فقط. ويطيب لنا أن نورد كلام الزمخشري ما دمنا في صدد جمال الحركة في الصوت، وذلك في الآية: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ } [ سورة آل عمران، الآية: 185] ، فقد أشار إلى تجسيم الحركة المتكررة تبعا لتكرر الحروف، وهو يقرر هنا ما جاء به فقهاء اللغة، إذ يقول: «الزّحزحة التّنحية والإبعاد تكرير الزحّ، وهو الجذب بعجلة». ولكنه لا يذكر شيئا إزاء الآية: { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } [ سورة يوسف، الآية: 51 ] ، فالأمر لا يطّرد في كل مفردة تكررت حروفها، وفي الآية: { فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ } [ سورة الشعراء، الآية: 94 ] ، يقول ذاكراً سبب تكرير الحركة: «الكبكبة تكرير الكب، وجعل التكرير في الفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه: إذا ألقي في جهنم ينكبّ مرة بعد مرة حتى يستقرّ في قعرها» ، وانضمام الشفتين ثلاث مرات في هذه المفردة، مرة على الكاف لوجود الضم، ومرتين على الباء، لأنه حرف شفويّ شديد، وهذا الانضمام يصور حركة تكوير الكافر، وهو يتدحرج حتى يصل إلى القعر، ويتجمع جسده كالكرة، وكما تتجمع الشفاه في لفظ هذه المفردة. أما المحدثون فقد تكلّموا على الرسم بالحرف والحركة ورسم الحركة البطيئة والقوية والمتكررة. ويقول سيد قطب عن «زحزح»: «إنّما هو القرآن يدع الألفاظ تلقي ظلالا معينة، فيرسم في الضمير مشهد مخيف، جهد الزحزحة، وهي الحركة البطيئة العنيفة ... و «زحزح» نفسها ترسم صورة لمعناها» فقد تخلى عن المعيارية التي قدّمها فقهاء اللغة مشيرين إلى وجود كلمات تحاكي الطبيعة بأصواتها، وقد انتقل إلى تصوير نفسية المتزحزح ، ومشقّة البعد عن النار، وقوله «صورة لمعناها» يطّرد في كتبه، وهو ما يرتضي به في تفسير علاقة الصوت بالمعنى أو الحركة. ولعل عنف الحركة يمثّل في نطق الحاء في الحلق، فالحاء الساكنة فيما يبدو تخرج من الحلق باحتكاك بجدرانه، وهذا يمثّل حركة الزحزحة العنيفة اللصيقة بالأرض. ففقهاء اللغة أقرّوا أن ما كان على وزن (فعلان) يدلّ على الاضطراب والنشاط، مثل: الرّجحان والخفقان والغليان والفوران، وضياء الدين عتر يذكر قوله عزّ وجلّ: { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ } [ ] ، ويدلي برأيه الذي يؤكد بثّ الحركة المقصودة في مفردات القرآن، وهذا مما يمكّن الفاصلة، وهي أبعد ما تكون عن اللجوء إلى الألف والنون، ويقول: «الحيوان في اللغة مصدر حيّ، وقد سمّي به كلّ ذي حياة، وهو أبلغ من الحياة، لأنّ في صيغة فعلان معنى الحركة والنشاط الملازم فالمعنى الأول تقرير الخلود والاستمرارية ويكون في لفظة حياة، أما المعنى الثاني الذي تدلّ صيغته على معنى النشاط، وطرد الملل عن الذهن، فلا يكون إلا في «الحيوان» التي تنفي الجمود والفناء معا، وقد استفاد من إشارة الكشّاف،. ولا ريب في أن القرآن الكريم اعتمد فن التصوير لتوصيل معانيه الجليلة، وينقل التصوير الكلام في القرآن من طابع السّرد إلى مشاهدات محسوسة، والقرآن يصور بالحوار كما في القصص، وبالمفردات وبأسس النّظم. كما أن الميل القوي إلى المحسوس واحد من أهم عناصر التصوير القرآني، والصورة البصرية في القرآن تتمتع بثنائية التوضيح والتأثير معا، فلا يكون المشبّه به أو المستعار توضيحا زائدا، بل هما من صلب المعنى نفسه، وبهما يتمّ هذا المعنى، وما أبعد القرآن عن توضيح شيء ثم تصويره الشّطط والإسقاط النفسي الخاص لكيلا يخالفوا مقاصد الآيات. ولا شك في أنّ قضية الانسجام فرع أصيل في خصائص الفن، ويشمل الفنون جميعها، كالرسم والنحت والشعر والموسيقا، ونجده في تفريعات هذه الفنون على اختلاف مذاهبها ومشارب أربابها. ويلحظ في الانسجام أنه يتولّد من لقاء بين شيئين مختلفين، وهذه المقولة واردة على ألسنة الفلاسفة، والمنظّرين الجماليين منذ القدم، وقد أطلقوا على هذا الانسجام الذي يلائم بين شيئين مختلفين اسم «الوحدة في التنوع» فهو شرط أساسي من شروط الجمال، لذلك نرى الرسم الجميل قد تعاور لوحاته تناوب الألوان الغامقة والألوان الفاتحة، وفي إيقاع الفن السّمعي هنالك العلوّ الذي يتبعه انخفاض يدعى ب «القرار». ولذلك حبّذ الفلاسفة شكل المستطيل قديما، لأنه خير شكل هندسي معبّر عن الوحدة في التنوع، فهو يتكوّن من طول وعرض مختلفين متكررين، وخير مظهر لهذا الانسجام شكل الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم . وفائدة هذا المعيار الجمالي أنه معمّم، ولا يبعث حكمه الشكّ في النفس، لأنه موضوعي، وهذا ما يدعى في التراث العربي بالتلاؤم، إذ يختص ببينة المفردة فقط، على خلاف من المعاظلة التي تعني تنافر الكلمات بعضها مع بعض، وعلى خلاف أيضا من مصطلح الانسجام الذي يعني مجيء كلمات على أوزان معروفة، يقترب وزنها من أوزان بحور الشعر، وقد استشهدوا على ذلك بقوله عز وجل: { إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [ سورة يوسف، الآية: 86 ] ، وكذلك قوله تعالى: { نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ سورة الحجر، الآية: 49 ] . وقوله: { لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [ ] ، فواضح أن الآية الأولى قريبة من بحر الرّمل، وأن الثانية قريبة من البحر الكامل. وتمثل الآية الثالثة أربع تفعيلات من بحر الرمل ( فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن )، وهذه التسمية موجودة مثلا في كتاب بديع القرآن، وكتاب الفوائد. وهي نظرة منهم غير مقبولة إذ لا يخلو أي كلام من تفعيلات البحور الشعرية، ثم إن الموسيقا الداخلية لنسق القرآن في غنى عن التفعيلات. وقد جاء في تعريف الانسجام في النقد ما ينطبق على فكرة التلاؤم، ومنشأ الجمال هو الاتساق والانسجام في الألوان والأشكال والأساليب والنّغمات، سواء أكان ذلك الانسجام طبيعيا أم صناعيا، وأساس الانسجام هو الوحدة مع التّعدّد، أي اجتماع عناصر مختلفة وائتلافها بحيث تكون وحدة مترابطة الأجزاء متناسقة العناصر. والسبب في التلاؤم تعديل الحروف في التأليف، فكلّما كان أعدل كان أشدّ تلاؤما، وأما التنافر فالسبب فيه من البعد الشديد أو القرب الشديد. إننا لا نفهم سرّ السهولة في كلمات تكرّر فيها الحرف نفسه، وليس التقارب فقط، وهكذا يمر المرء بالمخرج مرّتين في كلمة واحدة، ومثل هذا في قوله عزّ وجل:( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) حيث يوجد كافان، وقوله عن الحيوانات: { أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ } ، وقوله: { أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ }[ ] ، وعلى لسان مريم العذراء عليها السلام: { لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ ] فقد تكررت السين. وإذا كان التّكرار مجرّد صوت واحد، فهناك أمثلة كثيرة من القرآن حول التقارب بين المخارج، ومن ذلك لقاء القاف والكاف في قوله عزّ وجلّ: { وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ } . وتأكيدا للانسجام ، نذكر قوله تعالى: { وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ }[ ] ، فالطّاء حرف إطباق شديد، واستعلاء وجهر، أمّا الشين فهو حرف همس ورخاوة وانفتاح، إنّه انسجام بين الصّفات. وإذا كان حرفا النّون والرّاء متقاربين مخرجا لخروج النون من طرف اللسان والثّنايا، والرّاء كذلك مخرجه أول طرف اللسان والثنايا، فإنّ كليهما من حروف الذّلاقة، والتأليف بينهما أسهل من التأليف بين الحروف المصمتة، والنّسق الموسيقى في المفردات السابقة بوساطة الحركات يجعل للسمع وفي النطق لذة، يقول عزّ وجلّ: { لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا } [ ] ، وقوله: { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً } [ ] . وأساس الانسجام هو في صفات الحروف، إذ تنقسم إلى صفات كثيرة مثل: شديدة ورخوة، ومجهورة ومهموسة، وحروف صفير واستعلاء وقلقلة وغيرها .وإذا عدنا إلى بعض مفردات القرآن الكريم التي ورد فيها حرفان متماثلان مثل السين في الآية السابقة: { لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ ] ، وكلمة ( سلككم) ، وكلمة (أمم) نجد أن السّين الأولى في يمسسني مفتوحة والثانية ساكنة، والكاف الأولى في سلككم مفتوحة والثانية مضمومة، والميم الأولى في أمم مفتوحة والثانية مضمومة، ونؤكّد السهولة في كلمة رزقكم من خلال أن نغمة القاف غير الكاف بالرغم من وجود الضمة على الاثنين. وإن القراءة الدقيقة لآيات القرآن الكريم تؤكد أنّ السهولة نابعة من الانسجام، ولا يقتصر هذا الانسجام على تباعد المخارج، بل هناك الحروف والحركات، وصفات الحروف هي المعوّل عليه هنا، وإن الانسجام يحصل بين تلاقي هذه الصفات، وليس بين مخارجها قبل النّطق بالحرف. وإذا استطلعنا بعض الآيات الكريمة وجدنا مفردات ذات أحرف كثيرة، مثل: «نستدرجهم» من قوله عزّ وجلّ: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [ سورة الأعراف، الآية: 182] ، و « نلزمكموها» من قوله عزّ وجلّ عن عناد قوم نوح عليه السلام ورفضهم للإيمان : { أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ } [ سورة هود، الآية: 28 ] ، وكذلك قوله: { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ } [ سورة إبراهيم، الآية: 14 ] ، وكلمة «أسقيناكموه» من قوله تعالى عن المطر: { فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ } [ سورة الحجر، الآية: 22 ] ، وفي قوله تعالى على لسان فرعون مهدّدا: { لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } [ سورة الشّعراء، الآية: 49] ، وكقوله تعالى : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [ سورة البقرة، الآية: 137] ، فإن هذه اللفظة تسعة أحرف، وكقوله تعالى: { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } [ سورة النّور، الآية: 55 ] ، فإن هذه اللفظة عشرة أحرف، وكلتاهما حسنة رائعة، ولو كان الطول مما يوجب قبحا لقبحت هاتان اللفظتان، وليس كذلك ، ويبدو أن جمال كلمة «ليستخلفنّهم» له وجه آخر يتّضح من وجود السين، والخاء الساكنتين، وهما من حروف الهمس، وهذا هو سرّ فصاحة الكلمة. ونستطيع أن نتلمّس جمال كلمة «أنلزمكموها» لأن فيها سمة الاختزان، لأن صيغتها تعني وجود مفعولين، وكأنّما أضمر هذان المفعولان لموافقة نبرة الغضب التي تتطلّب السّرعة، والمفعولان هما الكفّار والآيات، وكذلك يضمر مفعولان في كلمة «فسيكفيكهم» وكأنّ غرابة استعمال الكلمة على هذا الشّكل يمثّل غرابة الموقف الإلهي من البشر، فإنه عزّ وجلّ لا يجعل الإيمان فعلا قسريا كالتّنفّس والنّوم، مما ينفي إرادة البشر، ويحطّ من كرامتهم، ومن ثمّ يبطل الثّواب، إذ لا ثواب على فعل التّنفّس مثلا، ويكون للتنفس والنوم ثواب إذا قصد بهما مواصلة العبادة، ومن هذا ثواب الطعام الذي يقصد به التقوّي على إقامة العبادة والنّسك الربانية. فالإيمان محض اختيار، لأنه أرقى من سائر التصرّفات البشرية. ولو ردّت جمالية كلمة «ليستخلفنّهم» إلى أمر التوكيد باللام والنون، وسمة الهيمنة النابعة من الضّغط على السين والخاء لكان أجدى، وكذلك فإن هناك وقوفا على حرف شديد، وهو الميم، وكذلك زيادة التوكيد الدالّ على التعجرف والثّقة العمياء بالنّفس في صيغة كلمة «لأصلّبنّكم»، والتوكيد باللام ونون التوكيد معا. وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع مما يكون مستثقلا بطبيعة وضعه أو تركيبه ... إذ تراه قد هيّأ لها أسبابا عجيبة من تكرار الحروف وتنوّع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها، كقوله: { ليستخلفنّهم في الأرض } [ سورة النّور، الآية: 55 ] ، فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوّع مخارج الحروف، ومن نظم حركاتها، فإنّها بذلك صارت في النّطق كأنّها أربع كلمات، إذ تنطق على أربعة مقاطع، وقوله:{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [ سورة البقرة، الآية: 137] ، فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع، وقد تكرّرت فيها الياء والكاف، وتوسّط بين الكافين هذا المدّ الذي هو سرّ الفصاحة في الكلمة كلّها. ومما ينوّه به هنا أنّ المقطع الأول من كلمة «فسيكفيكهم» طويل إلّا أنّه يتمتّع بتوالي الفتحات، ومع الفتحة تنفرج الشّفتان مما جعل نطق الكلمة سهلا، ولو أن الرافعي استشهد بكلمة «أسقيناكموه» لوقع على كلمة ذات أربع مقاطع أيضا. ونلمّس مظاهر الرقة في إيقاع أغلب السور المدنية، وكثير من السور المكية، ففي قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: { يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا } [ سورة مريم، الآية: 45 ] وعلى الرغم من أن سورة مريم مكية، فإن الآية تفوح من كلماتها رائحة البنوّة الإنسانية، فهو يستميل قلب والده، وإضافة إلى وجود تسعة مدود في الآية، فإنّ طبيعة الأصوات الرّخوة تناسب مقام الملاينة، فلم يذكر عزّ وجلّ «يصيبك» بل «يمسّك» للطف فعلها من حيث المسّ فقط، ولهمس السين فيها، وفي المفردات الخاء والحاء في «أخاف» و «الرحمن»، والأحرف الليّنة كالواو والياء. فإذا جاء ردّ الأب المتغطرس نقرأ كلمات ذات صوت شديد، يقول عزّ وجلّ على لسان آزر: { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } [ سورة مريم، الآية: 46] ، وجرس «لأرجمنّك» يوحي بوقع الحجارة على الجسم لوجود النون، وهي ترد فيها ثلاث مرات، ومرة مدغمة باللام، فتصير شديدة، والجيم كذلك، ووردت الراء مرتين ساكنة، مما يعطي نبرا قويا مضافا إلى طبيعة هذا الحرف الذي يتكرر في أثناء نطقه. ومنها قوله تعالى: { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } [ سورة يوسف، الآية: 51 ] ، وقوله سبحانه: { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا } [ سورة يوسف، الآية: 80 ] ، نجيّا: يناجي بعضهم بعضا. فألفاظ هذه الجملة كلّها من هذا الباب، وأجزلها قوله تعالى: «اسْتَيْأَسُوا» وأفصحها قوله سبحانه: «خَلَصُوا نَجِيًّا»، وقلّ أن تجتمع الفصاحة والبلاغة في جملة من هذا الباب إلا في هذه الجملة، وخفّة مفردات القرآن متحقّقة في الأصوات القوية والأصوات الرّخيّة، ودليل هذا عدم النّبوّ، وسهولة النطق. ومن البداهة أن تكون دلالة شكّ غير دلالة ريب، وأنّ الإدغام موجود في القرآن، فليس هناك مانع من وجود «شكّ» إلا موافقة الدّال للمدلول، وهذا ينطبق على «وهن» وضعف، فقد قال تعالى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ } [ سورة يونس: الآية: 94 ] ، وقال : { قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ } [ سورة إبراهيم، الآية: 10 ] ، وذلك أنه لا بدّ من ملاحظة أمرين:
الأول: نظم الكلام الذي وقعت فيه الكلمة من حيث انسجام الصوتيات.
الثاني: المعنى المراد، فالرّيب هو الشّكّ مع التّهمة، أما الشّكّ فهو عدم ترجيح أحد الاحتمالين أو الأمرين.
ومما يستحبّ هنا هو الإحساس بقوة الضادّ ورقّة الهاء، فهو يبيّن علّة الخفّة التي خفيت على كثير من أسلافه، «ومنها «آمن» أخفّ من صدَّق، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق، و { آثرك الله } [ سورة يوسف، الآية: 91 ] أخفّ من فضّلك الله و «أتى» أخفّ من أعطى، و «أنذر» أخفّ، من خوّف، و { خَيْرٌ لَكُمْ } [ سورة البقرة، الآية: 184 ] أخفّ من أفضل لكم، والمصدر في { هذا خلق الله } [ سورة لقمان، الآية: 11] و { يؤمنون بالغيب } [ سورة البقرة، الآية: 3 ] أخفّ من مخلوق والغائب، ونكح أخفّ من تزوّج، لأن فعل أخفّ من تفعّل، ولهذا كان ذكر النّكاح فيه أكثر ،وجاء في القرآن قوله تعالى: { فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها } [ سورة الأحزاب، الآية: 37 ] ، فالتشديد يجعل الحرف ثقيلا أو قويا، وخصوصا إذا كان حرف لين، فالقرآن ذكر فعل تزوّج على قلّة. وكذلك نوعية الحركة، فالفاء قاسية اللفظ في «أفضل» وليست بقاسية في قوله تعالى: { وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين } [ سورة الشعراء، الآية: 80 ] ، وذلك لاستراحة الشّفاه مع الكسرة. ونحبّذ لفظة «آسفونا» في قوله تبارك وتعالى: { فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ } [ سورة الزّخرف، الآية: 55 ].


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)