آلية التأمل ومنهجية التفكر.في الكون والإنسان والحياة
وفق آلية محددة وشروط واضحة ,تبين مسار الوصول للتأمل السليم ومنهجية التفكر القويم المثمر الذي يتكون به تصوراً حيا للوجود وخالقه تصور عقدي سليماً متناغما مع الكون ومنسجما مع الفطرة , مرتبطا ارتباطا وجدانيا قويا بخالق الوجود وحميما بالكون والإنسان والحياة يبعث على الرضا والطمأنينة , هو الالتفات للقرآن والكون معاً فالحق سبحانه وتعالى يدعونا أمراً للالتفات إلى آيات الكون لنتعرف عليه من خلالها , فيتكون لدينا ذلك التصور الذي يخلق مساراً سلوكيا راشدا وتوحيدا ربانيا خالصا ,وألفة تذهب الوحشة مع كل موجودات الوجود, وقد تجلت به آيات القرآن التي تدعو للنظر في الكون والإنسان والحياة , و جليا في الآيات التالية.
{إن في خلق السماوات والأرض ،واختلاف الليل والنهار ،لآيات لأولي الألباب.الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم،ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلا.سبحانك ! فقنا عذاب النار.ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ،وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان : أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} آل عمران.19
آلية التأمل وشروطها
إن عملية التَّفّكُّرْ في آيات السموات والأرض ليست أمراً هينا يمكن أن يتناوله العبد بسهولة متى شاء وكيف شاء كلا . إن الأمر يحتاج إلى همة عالية, وأهبه وإعداد واستعداد , إنه لا يتسنَّى رؤية آيات السماوات والأرض الرؤية المبصرة الحية إلا بقلب حي متفتح يسعى لذلك. فلا يتم الدخول في تناغم وجداني مع هذه الآيات المبثوثة في الأرض والسموات وتذوق حلاوتها والتعرف على أوصاف مبدعها , إلا بشروط ثلاث , بينتها الآيات أعلى , الشرط الأول أنها حصرت ذلك على أولي الألباب ـ أصحاب العقول ـ ,لقوله تعال:( إن في خلق السماوات والأرض،واختلاف الليل والنهار،لآيات لأولي الألباب).وهم كل من عرفَ الحق واهتدى إليه, ثمَّ الذاكرون الله كثير , وهذا هو الشرط الثاني لأن الأول لا يكفي وحده للوصول إلى حدائق التفكر ! فالعقل وحده يحتاج إلى طاقة روحية , يستمدها من القلب الذي يتم تعبيته بها عن طريق الذكر بكل أنواعه فمن الذكر والأعمال الصالحة,.والقلب بدوره يوزع هذه الطاقة إلى جميع أعضاء الجسد ويأخذ العقل أوفر الحظ والنصيب ليعمل ويضيف طاقة أخرى من مجهوده إلى القلب وهكذا عملية دورية دينامكية نامية ومثمرة . فالقلب والعقل متعاونان يكمل بعضهما البعض فلا غنى لأحدهما عن الأخر. فلا يتفكر العقل إذا لم يكون بجواره القلب وليس أي قلب بل القلب الحي المفتوح المهيأ لاستقبال آيات الكون , وهذا القلب لا يكون كذلك إلا بالذكر قال تعالى:"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وهذا الذكر وظيفته إذابة غشاوة القلب وتصفية أكنَّته ورانه وحجبه التي تكونها المعاصي والغفلات , وبالذكر تمحى وتزول هذه الأكنه, ليصبح قلبا حيا مستعدا لتلقي آيات الله في الكون والآفاق, بعد أن يتهيأ القلب يبدأ عمل الشرط الثالث وهو التفكر,وذلك بالتفاتْ العقل إلى الكون ليتفكر فيستقبل القلب الآيات ويتقلب بين مغاني الأنس والمعرفة والخشية! فالكون يبث له بأسراره ,ويكاشفه عن أخباره, فيتعانق مع الموجودات التي كان يراها جامدة من قبل ولا يجدها قريبة منه تعانقا وجدانياً ,إنه يجدها اليوم لصيقة به قريبة من نفسه ومشاعره كأنه يعرفها من زمان بعيد وكأن بينه وبينها مودة وألفة وعهود ومواثيق على أهداف محببة مشتركة يقومان بها وينسجمان في تنفيذها ومن خلال الشعور والأنس بها, تصبح هذه الآيات للقلب حية مؤنسة بأحلامها وأشواقها وحديثها التي تفضي به إليه وتخصه دون سواه بما تخصه من نجوى وحوار فيتحاور معها كما يتحاور الحبيب مع حبيبه والصديق مع صديقه في ألفة وانسجام , كأحسن خليل وأجمل حبيب , فلا يجد أنسه إلا بها ولا راحته إلا عندها كل آية حبيبة لديه تعددت حبيباته وكثر أصحابه وأصدقائه حيثما التفت وأنَّ توجه هيهات أن يدهمه الغم والكدر أو يدلف إليه الملل. إنها آيات الكون حبيبة توصل إلى الحبيب فيأنس القلب بحبيب لا يغيب ويتعرف على الله أكثر بقلب وجيب , لسان حاله قول الشاعر.
ومِـمَا زادني خوفا وذلاً عجائب آيه وغياب فكري
وكنت إذا غفوت أحن وصلا لآيات بهـذا الكون تجـر
وكنت إذا ذكرت أرى صفاء وأنسا بالوجود يغذي سري
وأرشف من بديع الكون نورا أبدد حزن أيامي وعـمري
هائل الصرمي