أحدث المشاركات

بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»»

النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: اختفاء قدوسة لحسن الشيخ

  1. #1
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jun 2005
    الدولة : السعودية.الدمام
    المشاركات : 3
    المواضيع : 1
    الردود : 3
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي اختفاء قدوسة لحسن الشيخ




    اختفاء قدوسة


    قصة / حسن الشيخ

    قبيلة الغوانمة التي افترشت الصحراء بخيامها الكالحة منذ زمن بعيد ، بدت الآن خاوية ، غارقة في الوحشة البعيدة المظلمة. فابنتهم قدوسة ، اختفت فجأة. هكذا دون مقدمات ، حينما كانت تلهو بين القطعان الهزيلة ، التي تسير دون هوادة. أصبح رجال القبيلة صباحاً ، فلم يجدوا قدوسة ، وأمسوا لا يعثرون لها على أثر. وكأن قدوسة مصرة على أن يكون اختفاؤها هو غربتها الأخيرة في متاهات القيظ والعبث.

    تساءل الرجال ، لماذا اختفت قدوسة؟ وأين اختفت؟ ومن أخفاها؟ إلا أنها ظلت أسئلة محيرة دون إجابة. صحيح إن قدوسة لم تختفِ إلا بعد أن أحاطت بها الخطوب ، وأضحت الدروب الصحراوية ، متشعبة بظلامها المخيف ، إلا أن للقبيلة نواميسها التي لا يجب الإخلال بها. أين اختفت؟ هل اختطفها رجال هوشع؟ ظل السؤال الأخير لغز القبيلة المحيّر.

    هناك .. حيث لا أحد يدري ، همهمت قدوسة ، بوجل: ضاعت خطواتي المرتبكة. فلم يبق سوى أن ألملم بين أصابعي بعضاً من ورود القمر النديّة ، إنها تشبهني ، فوريقاتها تضج بالبلادة والطراوة الكئيبة. ولكن لماذا لا أتخذ من شلال القمر المضيء ، سلماً أضع قدميّ الصغيرتين على عتباته ، لأصعد نحو نوافذه المضيئة ، المحدّقة بجنون على تلك القطعان الهزيلة العابرة للأودية الضيقة.

    لم تكن قدوسة بنت إبراهيم تنوي الهرب أو الإختفاء. قال أبو داحم ، ثم تطلع للوجوه الواجمة حوله ، فأضاف ، لكنها اختفت دون أن تدرك هي ذلك أيضاً. اختفت بعد سماع أنينها ضاجاً بين أوديتنا المقفرة. وعواء ذئابها المجروحة ، يلاحقها بين الصخور المغسولة بخيبتنا ، والرمال المسكونة بألمنا النازف.

    اجتماعات رجال القبيلة ، ونسائها ، بل وحتى أطفالها تتوالى ، للبحث في أمر قدوسة. بحث عنها شباب القبيلة في الأماكن المجاورة لمضاربهم. توقفوا عند أراضي قبيلة الهواشعة. لم يتجرؤوا على الدخول هناك. صحيح أنهم بحثوا ، إنما كان بإمكانهم أن يبحثوا بشكل أكثر جدية ، وأكثر نفعاً لو نظموا أنفسهم. فقدوسة بنت إبراهيم حلم الشباب القابع تحت عباءات الليل ، ذلك الحلم الطويل الذي راود الشيوخ أيضاً. استهوى البحث رجال القبيلة ، حتى قال البعض منهم ، وبشكل حذر سيستمر البحث حتى آخر العمر. لم يستطع أحد منهم أن يبوح بأمنيته جهراً. فأهالي قبيلة الغوانمة ، السائرون دون عيون .. ليس لهم سوى مطلب واحد ، إرجاع قدوسة. حينها تهتز نخوة الغوانة المعروفة ، في عروق رقابهم ، وتتعالى أصواتهم ، بتحقيق مطلب القبيلة الوحيد ، فيبدأون من جديد بالبحث عن الفتاة الحلم.

    مَن من الغوانمة ، لا يتذكر قدوسة. كل له ذكريات جميلة معها. حين كانت تخرج من خيمتها الصحراوية .. تبدو عشبة ندية هائمة فوق رمال الصحراء المسكونة بالشبق. وتعبر على هامات الرجال بأجسامهم الضخمة ، فتهتز رؤوسهم ، فرحاً ، وإكراماً لها. تهتز الرؤوس والأجساد حتى تتطاير العمائم. وينبت شعر لحاهم الكثيف الخشن. فتسرع قدوسة إلى خيمة جدتها البدوية ملتفة بثوبها الأسود الطويل ، ومتقنعة (ببرقعها) الصحراوي. تاركة جسدها الطري العود ، يضجُ تحت ذلك الثوب المصبوغ بلون حزنها الدفين.
    نعم. الكل يتذكر ، أيام الصحراء الغارقة في الحكايات الطويلة. كانت قدوسة ، نبتتها الزاهية ، التي وهبتها السماء. فكان عمرها بضع آلاف من عمر القبيلة . أما شعرها الفاحم فقد كان طويلاً ، وطويلاً جداً ، حتى إنها تغسله ببحر أبيض هناك. وتضع تاجاً على رأسها من أغصان الزيتون. وتترك قدميها بمياه خليج حارة.

    همهمت قدوسة ، دون أن يسمعها أحد من الرجال : وحدة الصحراء ، وزوبعتها الضجرة ، تعول في كياني. أما ثغاء القطعان فإنه يتردد في صدري. وتصبغ دروبي وأيامي بصقيع موحش له لون الرماد. هنا ، بعيداً عن أرض الغوانمة التي أحببتها ، يتمطى سأم في داخلي ، ويهوي داخل شراييني. متى يستيقظ الرجال ، ويجري في عروق صحرائنا الدماء ، وتتفجر على أحاديث خيامهم المتبلدة.
    - أنا أعرف أنكن لا تستطعن نسيان قدوسة!
    قالت القابلة فطومة. ثم تطلعت إلى عيون النسوة ، فوجدتها مغرورقة بالدموع. فتابعت حديثها. كانت بيننا تغتسل ، تتمدد على حافة الغدير ، بعيداً عن أنظار الرجال. فتبدو كجنيّة نهر حالمة. قادمة من عالم آخر.
    فقاطعتها جواهر بحرقة :
    - .. ولا قصيدة قمرية قادرة على وصف جمالها.
    قالت زينة بعد تردد :
    - يقال أن بدوياً مسافراً ، قد راقبها من بعيد ، فازداد هلعه وكلما اقترب قليلاً بخطى حذرة ، زاد توجسه. فانشغل البدوي بهذا المنظر الجنائزي الجميل لعروسة الصحراء. حينما رآها مقتولة. تأكد له إنها جميلة الجميلات قد قتلها والدها ، بعد هروبها الأول مع الغرباء.
    ردت العجوز فطومة بعنف صاخب :
    - وهل عثرنا على جثتها!؟ ما هذه الأقاويل؟ ألم أنهكن عن القيل والقال.
    أضافت جواهر بسرعة :
    - لكنه دفنها حيث وجدها.
    كان ليلاً مخيفاً ، حين خرجت قدوسة من خيمتها. والجن خرج من مخبئه ، من تحت الأرض ، زرافات ، يبتسمون لغضب الطبيعة ، فشاهدوا قدوسة تغسل شعرها الطويل فغيّبوها تحت الأرض معهم. فزفّت إلى ملك الجان. هكذا تحدث بعض الرجال.
    إلا أن البدوي قال بتردد لجمع الغوانمة الصغير :
    - إنني شاهدتها .. وجسدها يئن ويتعفر على الرمال في دم لزج بلون الشهد.
    هذا ما يتذكره البدوي المسافر .. في تلك الليلة ذات الرياح الغامضة ، أما عزف المطر .. فهو آلة خرقاء يصفع الوجوه.
    وأضاف بحذر :
    - الجن .. لم يغيبها كما يدعي البعض.
    إلتفت شيخ الغوانمة إلى البدوي ، ثم أدار رأسه للرجال الملتفين حوله :
    - إن لم يخطف الجن قدوسة ، فلا شك إن قبيلة الهواشعة هي التي اختطفتها.
    قال سمعان وهو يلعق شفتيه :
    - صحراؤنا مزروعة بالحقد. والهواشعة التي خيّمت مؤخراً في شرق وسط الصحراء هي التي اختطفتها. ليس في ذلك شك.
    تدخل البدوي غاضباً :
    - إن قدوسة ابنتكم لم تختطف ... إلا أن تلك القبيلة لا بد أن ترحل.
    لم ترحل قبيلة الهواشعة ، بل بسطت خيامها في الصحراء ، وتكاثر أبناؤها الوافدون إليها من أقاصي الرمال السوداء. وفي تلك الخيام المرصعة بالأنجم الحادة ، التي أضحت باسطة حوافها على واحات الصحراء المتناثرة ، ترقد قدوسة بنت إبراهيم ، عارية ، نازفة. تئن من الألم والهوان. وتردد أنفاسها البطيئة من بين جلد وعظم. وتنظر بشوق إلى من يخلصها من الأسر.
    قالت بنت إبراهيم تخاطب خيالاً بعيداً :
    - أقدم أيها الفارس. ألا تراني وأنا أرتعد أمامك بذل. إقتحم مضارب القبيلة ، واحملني على ظهر جوادك ، لكي أصعد معك إلى الشمس. ولا تسمع لشهادات الرجال المضللة.
    في الأيام التالية لاختفاء قدوسة ، تغيّرت أقوال رجال الغوانمة ونسائها. فزوجة الراعي بدأت تردد :
    - نعم .. رأيتها بعيني هاتين ، تخرج متسللة فجراً من الخيمة ، وتهرب مع عشيقها.
    ثم تضيف بحزم :
    - إن الصحراء لا تعرف الفسق ، وقانون القبيلة هو تطهير دنسها.
    وبالرغم من كل ذلك ، فإن التوجس ، والحيرة ، التي عمت القبيلة بعد اختفاء قدوسة ، لم تهدأ بعد. القلق داهم الخيام ورجال القبيلة ونساءها بعد ازدياد الأقاويل. هناك آمال كبيرة باسترداد قدوسة. فهي ليست بنت من بنات الغوانمة فقط. بل هي ثأرهم الذي لن يهدأ ، حتى يرتوي. وكرامتهم التي لا بد أن تسترد. وأميرة الصحراء المتوجة بأغصان الزيتون. لذلك لم يتوقف الحديث عن اختفائها. إلا أن الأقوال تغيرت. فعاد عازف الربابة أبو داحم ليحكي من جديد :
    - إنني أرغب يا قوم في القول لكم ، إنني شاهدتها بمفردها فجراً يوم اختفائها ، بالرغم من أنني لست متأكداً حين كنت آنذاك بين الصحوة والنوم ، وهي تركض بعيداً.
    - ثم ماذا؟ قال الشيخ.
    - إنني أحب قدوسة. نعم أحبها ويجب أن أعترف بذلك. حتى لو أحسست أنني ساعدت على هروبها.
    فوجم الجميع. ونظر بعضهم إلى بعض.
    في الخيمة الأخرى ، بدا أخوها الصغير سعدون ، فرحاً دون الآخرين ، وفاجأ النسوة بسهم مسموم :
    - قدوسة لم تهرب. بل سافرت إلى أعلى. لقد كنت يقظاً في تلك الليلة ، ورأيت السماء تدعوها بشوق.
    تطلع سعدون للنسوة بانتباه وأضاف :
    - كانت السماء تبرق ، فتفرش رمال الصحراء زئبقاً صافياً. فضمها البرق إليه بحنو ، وطار بها قبل أن يستطيع الأعداء اختطافها.
    تلفتت النسوة إلى بعضهن ، وسرت همسات بخفوت متقطع. ثم تعالت موجات همهمات غاضبة. بينما غطت السماء والخيام بغمامة سوداء لا مطر فيها. وراح البعض منهن يقفن بعد أن كن جالسات ، ويسترحن على الأرض من بقي منهن واقفات. وفي مآقي عيونهن دمعات حائرة.
    إندفع صوت فطومة حاداً :
    - إن قدوسة هي ملاكي الصغير ، إنني أولدتها من فخذ شجرة البلوط الوحيدة في صحرائكم. إلا أنني أحسست وكأنني أمها التي أولدتها من بطني.
    صمتت القابلة فطومة ، وتجاهلت كلام سعدون وقالت :
    - إنني تحدثت مع قدوسة يوم اختفائها. فذكرت لي أن الهواشعة عازمون على اختطافها.
    اعترض سعدون على القابلة ، بسحبها من عباءتها المهترئة ، فمزقها. ركض خارج الخيمة ، فصاحت به. ثم لحقته ، وتبعتها النسوة. وحينما علا صراخهما تجمع بعض الرجال قرب الخيمة. فقال سعدون باكياً :
    - إن أختي قدوسة سافرت مع البرق.
    قالت فطومة بهدوء وحزم ، وهي تلفلف مخمرها المهترئ حول رقبتها:
    - إنها ليست أختك .. وصوت استغاثتها أسمعه الآن يطنطن في أذني.
    تجمع مزيد من الرجال. فالتفتت فطومة للجمع المحتشد :
    - ألا تخلصون قدوسة من أسرها. إنها تستصرخكم ، وصيحات ألمها ونداءاتها تصم آذانكم ، فما لكم تخاذلتم عن نصرتها؟
    قالت جواهر ، وهي تطل برأسها من الخيمة :
    - لماذا تركتم الهواشعة تستبيح أرضنا وتختطف بناتنا؟ ثم بكت بحرقة.
    إلا أن الوجوم ران على رؤوس ذلك الحشد الصغير. ففرت القابلة من أمام الجمع داخلة الخيمة. فأيقنت النساء أن قدوسة ، قد حفر القوم قبرها خلف خيامهم ، بجانب التل. لكي يبالغوا في تكريمها. لذلك بدا أن الجمع يتفرق للمرة الأخيرة ، بعد أن أعلن موتها.
    إتجه الرجال إلى جانب التل. منتحبين قرب قبرها. بينما راح الصبية يقتلعون حجارة التل الكبير ، فاقترب بعض الصبية من أرض الهواشعة ، فرموهم وانضم إليهم البقية.

    Shaikh31141@yahoo.com
    ـــــــــــــــــــــــــ ـ

  2. #2
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jun 2005
    الدولة : السعودية.الدمام
    المشاركات : 3
    المواضيع : 1
    الردود : 3
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي من مجموعة اختفاء قدوسه






    اعترافات سجين هارب


    قصة / حسن الشيخ





    خطوات لاهثة ..
    خطوات واسعة .. مسرعة للغربة الأخيرة.

    إلا أنه في أحد الأزقة الملونّة بلون اللازورد ، والملتفعة بعباءات الليل المليئة بالنعاس. لا أحد يتبعه ، ولا عيون ترصده من بعيد سوى عيون القطط المرصعة في أزقة القرية. آلاف الرجال يتهامسون إلى جانبي ، ولا أحد سواي يجتاز الظلام اللازوردي بتلك الخطوات اللاهثة.
    صاح طفل من بعيد
    - أنا غريب.
    - أي نوع من الغربة .. رد الرجل الذي بداخلي دون أن يلتفت.
    - أهكذا تحتالون على الغرباء .. وتفرون من القتال أيها الرجال؟
    - من أنت؟
    - أنا غريب أتيت إلى هذه القرية كي أوقظ النائمين وأرحل.
    - خذ قليلاً من سماء القرية اللازوردي وارحل مسرعاً.
    - ما أسخاك!

    كان علي وأنا أحث الخطى في آخر هذا الليل ، أن أتجنب العيون الجاحظة التي تنتابني ، آلاف العيون أراها على الجدران ، دون أهداب أو جفون. تلك القرية أصغر من سجني الذي تعرفت فيه على لصوص المدينة الكبار ، وكان علي أن أثأر لظلامتي فأبيد أهل القرية جميعاً.


    - أيتها القرية اللازوردية إمسخيني وحشاً كاسراً يخرج ليلاً ، ويختفي عند طلوع الفجر.
    خرج الرجال .. آلاف الرجال .. ولا أحد سواي. خرجوا من جحورهم يحملون الفؤوس ، وفي عيونهم الشبق. إلا أن الوقت كان سحراً فضياً .. فارتسمت على وجوههم كل علامات الدهشة ... فالوحش الكاسر .. لم يخلف سوى تلك الآثار لرجليه الضخمتين.
    ارتعد أحد الرجال : لا بد لنا من الإيقاع بالوحش ، ولا بد لنا من تحطيم رأسه بهذه الفؤوس.
    قال آخر : إن القطعان نفقت من الخوف ... كما أن النساء أُجهضن من سماع صوته الأجش يزلزل جدران قريتنا.
    هربت من سجن المدينة الكبير ، فأهل هذه القرية الجميلة ظالمون. اختفيت مع أحد اللصوص الكبار في كهف مهجور من الجبل الأسود. وحينما أتجوّل في أزقة القرية .. وآلاف الرجال يحيطون بي لا أشاهدهم ، ولا يشاهدونني .. أحسهم محيطين بي ويضيقون ذرعاً بي.
    آلاف العيون الجاحظة .. أعرفها عيون بلهاء ، تتربص خطاي لكي تعيدني إلى سجن المدينة ظلماً مرة ثانية.
    اختبئت حيث الجوع والمرض في كهف مظلم ، ألعق الندى أستف الغبار .. هكذا أنا منذ أقل من عشرين عاماً.
    تعبر قطعان الأغنام عائدة للقرية كل مساء قادمة من الصحراء .. هذه الليلة قررنا أنا وصديقي اللص .. أن نسطو على حمل صغير لليلة شواء عامرة بالحديث والغناء. إلا أن الحملان الصغيرة امتطت غيمة شاردة فلم نجدها. فقال لي صاحبي :
    - لماذا أصبحت لصاً محترفاً؟
    - اللص الذي يسرق الحملان الصغيرة لليلة شواء جميلة لا يسمى لصاً.
    - القرية تكرهك أيها الوحش الكاسر .. الوحش ذو الأرجل الضخمة والأيدي الطويلة ...
    - لم يعد البحر قريباً من هنا لكي نصطاد الأسماك .. إنهم سرقوه .. أليس كذلك؟
    فقال بضجر واضح :
    - لا قانون يسمح بقتل اللصوص ..
    فقاطعته منتصراً :
    - ولا قانون لا يسمح لنا بذبح الحملان اللذيذة.
    - ما هذا الهذيان؟!
    - الجوع كافر .. إنه ليس هذياناً .. عندما أدخل القرية أرى العيون تترصدني .. ترغب في زجي في ذلك السجن الزجاجي المخيف وأنا أعشق حريتي.
    - إلا أنك تخيف القرية .. فلماذا كنت بهذا الحجم المخيف .. إنك تخيفني منذ عشرين سنة في هذا الكهف وأنا صامد.
    الزنزانة الزجاجية عصيّة على الاحتمال. هذا الضوء المبهر للعيون لأسابيع عديدة يوصلك إلى حافة الجنون .. بل إنه الجنون. تلك اعترافاتي إلا أن السجّان لم يبال بها. يرغب في اعترافات أخرى قال إنها مكتوبة عنده قبل أن آتي إليه.
    العيون الجاحظة التي تملأ الأزقة سجلّت اعترافاتي ، وقدّمتها لهذا السجّان الفظ الغليظ. قال يوماً : نحن نعرف هواجسك .. أما سلوكياتك فهي ليست بحاجة إلى دليل. الزنزانة الزجاجية تلك القارورة الضيّقة المليئة بالضوء طوال اليوم لم تبق على ذاكرتي أنا لص من دون ذاكرة. هاأنذا أحلم:
    ابتسم السجّان بخبث : سوف تموت!
    - أعرف ذلك.
    - لن تموت إلى القبر. بل ستموت على الأرض حياً.
    - ما هذا أيوجد عندكم موت مختلف عن الموت الذي نعرفه؟
    - إنها حقنة صغيرة! حقنة كيميائية للتجربة فقط.
    آلام مخاض تجتاحني. تورّم في كل جسدي ، الدماء تندفع في تلك الأوردة والشرايين الضيّقة محاولة الخروج .. النمو بسرعة .. الشعر الكثيف .. القدمين الطويلتين هل هذا أنا ؟
    - لا أدري !
    أهل القرية وشوا بي .. وأنا الآن أسترد مظلمتي. والعيون الجاحظة رغم انتقامي ما زالت تترصدني.

    Shaikh31141@yahoo.com

  3. #3
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jun 2005
    الدولة : السعودية.الدمام
    المشاركات : 3
    المواضيع : 1
    الردود : 3
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي من مجموعة اختفاء قدوسة



    الراحلون عن المدينة


    قصة / حسن الشيخ

    فتح عينين مغبوشتين على جموع الظاعنين من المدينة ، بصخب خفي ، هامس ، يثير الدهشة والفضول. لكنه لم يسأل. بل رحل مع الراحلين.

    إنها المأساة السعيدة ، التي تعاود التكرار ، في مواسم خارجة على خريطة الزمن والتوقع. الظاعنون من مدن الصفيح ، من المدينة ، وأبنيتها المتعالية ، وزحامها المرير ، بدت عليهم علامات غامضة. من الصعب تفسيرها ، أو التعامل معها. إلا أن ملامح الجموع ، والتي تبدو غامضة ، كالمواسم ، تتفجر أحياناً بلا وداعة ، ودون مقدمات منطقية ، يمكن التنبؤ بها.

    لم تكن لديه أمتعة يمكن حملها. إلا أنه حمل بعضاً من كتبه الأثيرة ، وأقلاماً ، وبعضاً من الورق الأبيض. وانظم إلى الحشود ، في صمت محيّر. لا يدري لماذا هو راحل! ولا يعرف هو إلى أين راحل ، بعيداً عن هذه المدينة المتحجرة! إلا أن همساً ما ، اقتحم صمته ، أشعره بأن الهجرة ستكون إلى الصحراء البعيدة ، أي صحراء يعنون! وكم سيمكثون! ولماذا يرحلون! وأسئلة أخرى عديدة ، لم تخطر في الذهن .. ولم يسألها.
    كل ما يعرفه أن موسماً من تلك المواسم المتمردة على قوانين الزمن. قد حلّ الآن ، ولا بد من الرحيل. في ذلك اليوم ، الموسم ، تقاربت غيوم الفضاء ، بشكل حميمي. ثم بدأت تأخذ من خوف الرجال ، ودهشة الصغار ، ألواناً لها. أما الظاعنون ، فملأوا ميادين المدينة الكبرى ، وشوارعها ، وراحوا يذرعونها دونما تعليل مقنع.

    حينما يحل الموسم فجأة ، يحرك الجموع بهدوء أقرب إلى السكينة في بادئ الأمر. ثم تتحول الجموع ، وبلا مقدمات محسوسة ، في بعض الأحيان ، إلى سيل هادر ، يقتحم الأشياء بغدر. حينها فقط لا يترك الرحيل فرداً إلا ويخلف في داخله حسرة ممزوجة بالمرارة. ولا يدع منزلاً إلا ويجرفه بغباوة متحيرة. وإذا كانت الجموع قد ألفت منذ القدم ، منذ أن بدأت المواسم التي تأتي دون رسل نذر ، على دمارها الذي تتركه بعد الرحيل. فإن الكثير من الجموع الساكنة ، الجموع المتراصة في الأقبية ، والمرتعدة من غير برد ، لا تستطيع مواجهة الدمار بالنسيان والتجاهل ، ولا تستطيع إزدراءه كما يفعل هو.

    التفت على نداءات بدت مألوفة أول الأمر ، ثم غاصت في ذاكرة بئر دون قرار :
    - أبي .. أبي .. إنه أبي يا أمي.
    - هيا يا مريم ، أوقفي أباك عن الرحيل.
    تعلّقت الطفلة بساقيه ، نادته ، ضحكت في وجهه ، تدلّت كعنقود كرم حان قطافه. قالت له كلاماً طفولياً ساذجاً. بكت. ذكرته بوعوده القديمة لها ، ذكرّته بعلاقة وشيجة ، قديمة ، تربطهما. إلا أنه لم يجب. حدّق في عينيها ثم تابع رحيله.
    قالت الأم لطفلتها يوماً :
    - إنه جاء من بعيد ، من زمان ومكان سحيقين ، موغلين في القدم. ومشى ، ومنذ ذلك الزمن ، في دروب لا نهايات لها ، دروب دون علامات ترشد سالكيها. ذرع سهولاً ، وأودية جليدية مقفرة. نام ملتحفاً السماء ، وراضعاً الغيم. أعرف يا ابنتي ، إنه عبر بحاراً شاسعة ، مليئة بالحيتان وأسماك القرش القاتلة. اجتاز صحراوات مأهولة بالسراب والخيام المهترئة.

    ولكن صدقيني يا ابنتي ، لم أكن متأكدة .. إذا ما كان يسير ، أم الدروب هي التي تدور من تحت قدميه مهرولة بجزع. كيف لي أن أعرف يا ابنتي ، وأنا امرأة وحيدة وضعيفة.

    جلس على مقهى في أطراف المدينة. حدّث الأصدقاء الذين رآهم لأول مرة. قال كلاماً كثيراً ، غير مفهوم عن الظاعنين ، عن الرحلة البعيدة اللا مجدية للصحراء. أما حين صمت لكي يصطاخ إلى الإجابات المتقافزة من الأفواه الواسعة ، فإنه بدا كعجوز قد هدَّته الأمراض والسنون.

    تحدث عن القطارات الفارة من عاصفة لم تأت بعد. القطارات التي لا وجود لها في مدينة الرعب. واستمع إجابات من طيور مهاجرة هي أيضاً. لقنته طيور الحبارى والأوز وأسراب أخرى من الكركي المتوحش ، خيبة المدينة. وحثته على المسير. الرحيل البعيد.

    تسائل عند أطراف المدينة. تسائل ولأول مرة. لماذا يرحل؟ لماذا هذا الهروب الجماعي المربك؟ هل يهرب من عنادها ، نسيانها ، حبها الطاغي على كل الوجوه التي يراها؟ تخيلها أماً. فإذا هي تقول إنها ترتضيه كأخ وليس كحبيب. حقاً إنها علاقة مربكة أيضاً كرحيل الجموع.

    أما الآن. فلا شيء له معنى. المدينة التي خلفها وراءه. المدينة الموحشة التي خلفتها الجموع ، قد فارقتها براءة طفولتها الملتصقة بها كغبار ، بلون الرماد على واجهة محلاتها الزجاجية.

    لا دواء لهذا اللا معنى. تفاخر الأسلاف الفج. إنها بضاعات الوهم والتعاسة. مجلبة لألم بارق. يحط بعنف على نهايات الشوارع الممتدة ، كأحجار هضاب مدببة. أما حينما يحل الفراغ الذي لم يرحل مع الراحلين. فإنه يتداخل في الصمت .. كتداخل اللهب بحرقته ، والماء بغرقه.

    الأبناء يتحدثون. مفاخر الأسلاف. يتحدثون عن جمال المدينة والآباء يهمهمون ، بكلام غير مفهوم ، عن بهاء الصحراء وروعتها.

    لا شيء مهم. لا شيء مثير. والراحلون ليسوا من أبناء المدينة على كل حال. والقاطنون بها ليسوا من زوارها.

    إنها معادلة مقلوبة. إنه الزمن الذي ولى .. الزمان السحيق ، الذي يعاود المجيء من آن لآخر بلا أسماء تذكر.
    Shaikh31141@yahoo.com

    ـــــــــــــ








المواضيع المتشابهه

  1. اختفاء (ومضة)
    بواسطة عبد السلام هلالي في المنتدى القِصَّةُ القَصِيرَةُ جِدًّا
    مشاركات: 41
    آخر مشاركة: 14-09-2020, 11:35 AM
  2. سر اختفاء ذو النظارة السوداء
    بواسطة هشام النجار في المنتدى الحِوَارُ السِّيَاسِيُّ العَرَبِيُّ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 05-03-2014, 06:17 AM
  3. اختفاء ( ياقوت)
    بواسطة محمد نديم في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 09-06-2009, 07:04 PM
  4. إعلان بخصوص اختفاء المواضيع لهذا اليوم ويوم أمس
    بواسطة د. سلطان الحريري في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 23-02-2006, 04:35 AM