فتوح العرب المسلمين في الشام في العصر الراشدي
كان لموقع شبه الجزيرة العربية وعلاقات الجوار واللغة والقرابة والدم التي ربطت بين عرب الجزيرة والقبائل الضاربة في شمالها أكبر الأثر في اتجاه المسلمين في انطلاقهم إلى بطائح العراق، وإلى مشارف الشام بعد ذلك. وهذه العلاقات قديمة وبعيدة وموغلة في التاريخ، وترجع إلى ذلك اليوم الذي بسط فيه عرب الجنوب نفوذهم على التجارة على طول شواطئ البحر المتوسط الشرقية، وعن طريق سلسلة من المحطات التجارية المنتشرة من اليمن إلى الشام. وكانت سيطرة العرب على المتاجر سببًا في خلق علاقات وثيقة بين العرب والقوى السياسية المحيطة بهم وقتئذ. فبدأ تنافس خطير حول انتزاع هذه السيادة التجارية منهم، واستبقائها فيما بينهم وبين الروم فحسب، عندما بسط هؤلاء سلطانهم على البحر المتوسط بالاستيلاء على مصر. وكانت محاولات الروم في هذا السبيل تصاب بالفشل حتى القرن الخامس الميلادي، ولم يجدوا فرصتهم إلا في عهد الإمبراطور جوستنيان "518- 527م" عندما سيطرت فارس على الطرق التجارية البرية، مما دفعهم إلى التدخل في شئون عرب الجنوب، متذرعين بالصراع الديني، الذي نشب بين اليهودية والمسيحية في عهد ذي نواس، وأتيح لهم التدخل عن طريق أحلافهم الأحباش بعد مذبحة نجران . ولكن العرب استطاعوا القضاء على النفوذ الحبشي الرومي في عهد سيف بن ذي يزن، الذي استعان بكسرى أنوشروان سنة 575م في طردهم. وأرض الشام تعتبر امتدادًا لشمالي شبه الجزيرة العربية، مما دعا عرب الشمال إلى اتخاذها دار هجرة؛ إذ إن طبيعة بلادهم كانت السبب في الدفع بهم إلى الاحتكاك بمن يصاقبونهم، والزحف وراء المناطق الخصبة التي تلي بلادهم شمالًا على أطراف الهلال الخصيب، انتهازًا للإغارة على بلدانه والتسلل إليها؛ حيث ينعمون بالخصب والخير، فلم تكن الهجرات إلى الشام تنقطع عبر الزمن. وأشهر هذه الهجرات ما حدث بعد زوال السيطرة التجارية لليمن؛ إذ ساءت أحوالها الاقتصادية، وتلا ذلك تصدع سد مأرب العظيم، فاتجهت القبائل المهاجرة تزحف إلى الشام، كما فعلت جهينة وكلب وقضاعة التي نزلت بالبادية، وعاملة وجذام اللتان نزلتا في حدود فلسطين، وغسان التي استقرت في منطقة حوران في شمال بلاد العرب. ورأى الروم في هذه القبيلة مثلما رأى الفرس في لخم، واستعانوا بها في تأسيس إمارة تضمن لهم الدفاع عن حدودهم ضد هجمات الفرس والقبائل العربية، التي تحترف الإغارة والسلب. واتسمت العلاقة بين الروم والغساسنة بالتأرجح؛ بسبب عوامل الكبت والتضييق التي انتهجها الروم مع حلفائهم وصنائعهم، إثر إثارة مشكلة الخلاف المذهبي بينهم، فقد اعتنق الغساسنة المذهب المونوفيزيتي، بينما كان سادتهم يدينون بالملكانية، فتعرض غير أمير منهم للسجن والاضطهاد، كما حدث للمنذر بن الحارث الذي غدروا به ونفوه إلى صقلية.
وكانت إمارة الغساسنة معبرًا لكثير من التأثيرات العقلية والحضارية، عبرت عن طريقها إلى العرب، ووفد إليها من شعرائهم في الجاهلية من كانوا يجدون في أمرائها أهلًا لمدائحهم ومنادمتهم؛ كالنابغة الذبياني وعلقمة وحسان بن ثابت. وترك هؤلاء الأمراء في الأدب العربي فضلًا عن هذا آثارًا قصصية وأسطورية؛ كالتي تُروى عن دروع امرئ القيس، ومنادمات حسان لجبلة بن الأيهم وغير ذلك.
وعندما تبلورت زعامة مكة المكرمة لشبه الجزيرة العربية، وتبوأت مركز الصدارة على سائر مدن الحجاز، وسيطرت على مقدراتها، واستحقت لقب أم القرى ببيتها العتيق الذي يفد إليه كل العرب من كل صوب، أخذت مكة تنظم التجارة، وتستعيد للعرب السيطرة على طرقها بين اليمن والشام، فنظم هاشم رحلاتها، وعقد مع الدول والممالك المجاورة للحجاز معاهدات ومحالفات، كتلك التي عقدها مع الروم والغساسنة، وأصبح لقريش بمقتضاها حق التجوال في الشام . وبطبيعة الحال أفاد العرب من هذه الصلات التجارية الشيء الكثير. ولا بد أن يكون منهم من ثقف لغة عملائهم بالضرورة، فقد كان التجار من رؤساء العرب وكبرائهم، وأجدرهم بنقل مدينة الروم وحضارتهم وطرق معيشتهم وأخبارهم. ولما بدأ الصراع بين دولتي الفرس والروم في مستهل القرن السابع الميلادي كان العرب يتابعون أحداث هذا الصراع المرير وتطوراته، وظهور إحداهما على الأخرى. وملأت أصداء هذه الأحداث بلاد العرب بفضل الطريق التجاري، الممتد بين اليمن وفلسطين وسوريا ومصر. فكان العرب يقفون على أخبارها أولًا بأول. وأخذ المسلمون يظهرون أمام المشركين الذين كانوا يقفون بعواطفهم إلى جانب الفرس الوثنيين ضد الروم بوصفهم أصحاب كتاب كالمسلمين بمظهر الآمل في انتصار الروم، وأنهم المظفرون في هذا الصراع عما قريب. ولم تكن أنباء الصراع هي كل ما يثير اهتمام المسلمين، وإنما يبدو أنهم كانوا يقفون أيضًا على حوادث الاضطهاد والتعذيب التي أخذت ترزح تحتها البلدان الخاضعة لحكم الروم، من جراء فرض "هرقل" مذهبه الجديد، الذي يدعو إلى التوفيق بين الملكانيين واليعاقبة، محاولًا بشتى الوسائل حمل رعاياه عليه؛ ليقضي على عوامل الفرقة المذهبية التي كان يخشى اتخاذها ذريعة للانفصال عن جسم الدولة الرومية، ولكن النتيجة كانت عكس ما تصور "هرقل". فوقف أتباع المذهبين المختلفين موقفًا واحدًا ضده، ورفضوا الدخول في مذهبه الذي عدوه زيفًا وتضليلًا، فاشتعلت نيران الفتنة. وانتشرت حركات التمرد والمقاومة السرية. ولم يتمكن هرقل من إخمادها بوسائل العنف والقهر والقمع، وبات الناس في أقاليم الدولة يتمنون من أعماقهم زوال حكم الروم عنهم؛ ليحرروا عقائدهم وأرزاقهم من قهرهم. وفي هذا الوقت كان النبي العربي صلى الله عليه وسلم ينشر دعوته في بلاد العرب، داعيًا إلى الوحدة والإخاء والمساواة. ولم ينظر الروم إلى الحركة الإسلامية نظرة جدية، وساعد هذا على أن الروم خرجوا من صراعهم مع الفرس معتدين بأنفسهم اعتدادًا كبيرًا، فلم يحاولوا أن يفهموا مدى الأثر الذي أحدثه الدين الجديد في العرب، في حين كان هؤلاء يتربصون بهم وبأخبارهم التي تجيئهم مع القوافل، وعن طريق محطات التجارة، ومع التجار المسيحيين واليهود والعرب ؛ ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجد في هذا الخلاف المذهبي مشجعًا له على أن يرسل برسائله إلى "هرقل" و"المقوقس" يدعوهما إلى الإسلام، ذلك الدين الذي يدعو إلى عقيدة جوهرها { وحدانية الله } ، جعلته أقرب إلى نفوس أتباع الطبيعة الواحدة المسيحيين من قربه إلى نفوس الروم قادة العالم المسيحي، المعتنقين لمذهب الطبيعتين. ومما لا شك فيه أن هذا يفسر السرعة والنجاح اللذين تمت بهما فتوح الشام، ووقوف دولة الروم مذهولة حيال تدفق تيارها العنيد إذا ما قورنت بفتوح العراق وفارس؛ إذ إن العقيدة الإسلامية كانت النور الذي أضاء للجيوش الإسلامية سبيلها في بلاد المونوفيزيتين، ونزلت بردًا وسلامًا على سكانها، وسط جحيم اضطهاد الروم الملكانيين. ولم يحسن الروم الرد على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل صنائعهم الغساسنة مثل صنيعهم وأنكى، فقتل أميرهم شرحبيل بن عمر رسول النبي صلى الله عليه وسلم إليه في بصرى، ولم يكن المسلمون في حالة تسمح لهم برد هذه الإهانة. وانتظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى السنة الثامنة للهجرة ، وأرسل زيد بن حارثة في بعث مكون من ثلاثة آلاف رجل إلى الجهات الشمالية الغربية من بلاد العرب ؛ ولم يكن هدف هذا البعث الرد على إهانة المسلمين أو الثأر فحسب، وإنما كان الغرض إلى جانب ذلك تأمين التخوم العربية ضد الروم، الذين تأثروا بتحريض اليهود، بعد أن أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة المنورة وعن تيماء وفدك إلى فلسطين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا البعث أن يهدد مشارف الإمبراطورية؛ ليحسب الروم حسابًا للمسلمين. كما كان هناك هدف آخر هو الاستطلاع بالوصول إلى مآب، كما يظهر في قول عبد الله بن رواحة إذ يقول:
فلا وأبي مآب لآتينها ... وإن كانت بها عرب وروم
وسار المسلمون إلى مؤتة، وبينا هم في الطريق دنا منهم الروم عند مشارف وهي قرية من قرى البلقاء، فانحازوا إلى مؤتة، وكان الروم في أعداد غفيرة، فأراد المسلمون أن يكاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتهددهم، فنهاهم عبد الله بن رواحة وقال: إنها الشهادة أو الطعن. والتقى المسلمون بالروم، فاستشهد زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة. وداور خالد بن الوليد بالمسلمين حتى قدم إلى المدينة . وبدا بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعاود الكرة، فتضاعفت الرغبة في الثأر، وقوبل بعث موتة من المسلمين باستياء بالغ، وجعل الصبيان يحثون التراب عليهم ويصيحون: يا فرار، فررتم من سبيل الله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بالفرار، لكنهم الكرار إن شاء الله".
وفي العام التالي لبعث مؤتة سار صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس المسلمين إلى الحدود العربية الرومية؛ حيث قام هناك بمناورات حربية لم تحدث فيها اشتباكات؛ إذ اكتفى فيها بإظهار قوة المسلمين في هذه الجهات5، وتراجع الروم دون قتال، وأصاب المسلمون بعض الواحات التي صالحوا عليها، كصلح النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل جرباء وأذرح، ومع صاحب أيلة. وأرسل خالد بن الوليد فصالح أكيدر صاحب دومة الجندل على الجزية . فلا عجب -وقد أثارت هاتان الغزوتان الثارات بين المسلمين والروم- أن يجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش أسامة_ابن زيد بن حارثة، وأن يكون تجهيز هذا الجيش بعض سياسته في تأمين تخوم شبه الجزيرة من الروم، وكان أسامة حدثًا لما يبلغ العشرين, وإنما ولاه رسول الله ليجعل له من فخار النصر ما يجزي به استشهاد أبيه بمؤتة. ولقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلًا، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم ذلك دراكًا، حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه، فإذا تم له النصر فليسرع بالعودة غانمًا مظفرًا. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم يلحق بربه قبل أن يجاوز جيش أسامة الخندق . وهكذا يمضي النبي صلى الله عليه وسلم مخلفًا للمسلمين خطة واضحة المعالم. ورغم ظروف ارتداد المسلمين، وحديث الناس إلى أبي بكر بألا يفرق عنه جماعة المسلمين، الذين يشملهم الجيش في مثل هذه الظروف فإنه يعتزم إنفاذ جيش أسامة ولو تخطفته السباع، ولو لم يبقَ في القرى غيره . ويمضي أسامة فيغزو قبائل قضاعة، ويغير على آبل، ويعود غانمًا في أربعين يومًا، سوى مقامه ومنقلبه. وهكذا يبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي رسم بنفسه خطة التمهيد للدعوة في بلاد الشام، وأنه قد أدرك بثاقب نظره أن أشد الخطر يكمن في الشام ويتهدد الدعوة؛ حيث الروم وعمالهم، فكان إدراكه عين الحقيقة، فلم يكن إرسال مولى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ليدلهم، وما كان سيره إليهم بنفسه وإرساله أسامة إلا لفتا إلى هذا الخطر، وإظهارًا لقوة المسلمين في هذه الأنحاء؛ ليقضيَ على هيبة الروم في نفوس صنائعهم، وليكسر خطوط المقاومة الأولى في طريق الدعوة، وليثير في نفوس المسلمين نوازع القوة الكامنة. وبرغم أن أسامة لم يلقَ جيش الروم، إذ اكتفى بأن دهم القبائل وغنم منها، فإن هذه الغزوة كانت بعيدة الأثر في حياة المسلمين، وفي حياة العرب الذين فكروا في الثورة بهم، وفي حياة الروم الذين تمتد بلادهم على حدودهم، حتى ليبعث هرقل بجيش قوي يعسكر بالبلقاء، وبرغم هذا كله لم يدر بخاطر أحد من أمراء الجيش الظافر أن يدفع أسامة لاقتفاء أثر عدوه، ذلك أن السياسة التي جرى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت ماثلة في نفوس المسلمين جميعًا ؛ وكانت تقف عند تأمين التخوم العربية، حتى لا يحدث الروم أنفسهم بغزو العرب انتقامًا لليهود الذين كانوا يأتمرون بالمسلمين، فكان طبيعيًّا إذن أن يكر أسامة راجعًا إلى المدينة، دون أن يدور غزو الروم بخاطره. ولكن الانتصار الذي حققه أسامة كان له أثر بعيد في اعتزاز المسلمين بأنفسهم، وإكبارهم للذين حققوه. حتى ليصبح لانتصار أسامة هذا من الخطر ما لا يتفق مع قيمته الحقة، بل عد فيما بعد فاتحة للحملة التي وجهت لغزو الشام ؛ أما فيما قبل فتح الشام فلم يكن له هذا الخطر ذاته؛ إذ اتبع أبو بكر سياسة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متبع لا يدع أمرًا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعه؛ ولذا كانت وصيته لأسامة أن يصنع ما أمره به نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقصرن في شيء بما أمره. وقد مر بنا أن أبا بكر كان يرى التفكير في حرب الشام بعد انتهاء فتنة الردة أهون من حرب الفرس، فمنذ بدأت طلائع النصر تساير أعلام المسلمين في حرب الردة كان التفكير في حرب الروم يتردد على خاطر أبي بكر؛ لكنه كان يخشى إبرام هذا الأمر قبل الفراغ من المرتدين، خشية انتقاض العرب عليه. فلما هون المثنى أمر العراق، وانطلق خالد بن الوليد يكتسح أمامه الفرس وأهل البادية، ويضع يده على الحيرة ويتخذها عاصمة للمسلمين، ازداد تفكير أبي بكر في أمر الشام، وبخاصة بعد أن سلمت دومة الجندل وفتحت أبوابها للمسلمين. وكما كان بدء فتح العراق نتيجة للجهود التي بذلها بعض قادة المسلمين في حروب الردة كالمثنى كان نفس الأمر في فتح الشام، فإن خالد بن سعيد بن العاص -الذي كان ردءًا بتيماء على تخوم الشام- دعا إليه القبائل بأمر أبي بكر، فاجتمعت إليه جموع كثيرة جعلت عسكره عظيمًا ، وترامت إلى هرقل أنباء هذه الجموع، فاتخذ للأمر عدته. وترامت إلى خالد بن سعيد أنباء استعدادات هرقل، فبعث بها إلى الخليفة مشفوعة برأيه أن يأذن له في منازلة الروم ومن انضم إليهم من قبائل العرب؛ مخافة أن يأخذوه ومن معه على غرة. وعقد أبو بكر مؤتمرًا دعا إليه جلة أصحابه وأهل الرأي للتداول في هذا الأمر، وطال النظر في الأمر والتشاور، حتى استقر الرأي على الغزو والتجهز له، وأن يستعين الخليفة بأهل اليمن وأهل شبه الجزيرة جميعًا. وكتب الخليفة إلى أهل اليمن وإلى عماله في أنحاء شبه الجزيرة، فلقيت دعوته آذانًا صاغية، وخفوا يطلبون المدينة. وبينما أبو بكر بعد جيوشه تسلم كتابًا آخر من خالد بن سعيد باجتماع الروم ومن نفر إليهم من بهراء وكلب وتنوخ ولخم وجزام وغسان، فكان رد الخليفة: ( أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله) . فأسرع خالد بكل قوته وتخطى الحدود لمنازلة القوم. ولم يلبث الروم وأنصارهم حين رأوه دنا منهم أن تفرقوا وتركوا منازلهم، فدخل معسكرهم وغنم ما فيه، وكتب إلى الخليفة بما صنع. فأجابه بأن يتقدم وبألا يقتحم، حتى لا يُؤتَى من خلفه. وتقدم خالد حتى بلغ القسطل في طريق البحر الميت. وهزم جيشًا من الروم على الشاطئ الشرقي لذلك البحر، ثم تابع مسيره. وثارت حمية الروم، كما ثارت حمية أهل الشام، فتجمعوا في أعداد عظيمة . وفي هذا الوقت كان أبو بكر يبعث إلى عماله يخبرهم بين العمالة والجهاد، فآثروا الجهاد كعمرو بن العاص والوليد بن عقبة، وندبوا الناس معهم. وكان عكرمة بن أبي جهل قد قدم قافلًا من كندة وحضرموت، فما إن بلغ المدينة حتى أمره أبو بكر أن يسير مددًا لخالد بن سعيد، وكذلك سار الوليد بن عقبة فأدرك خالدًا، وتقدم معه لمقابلة الروم. وكان على جيش الروم القائد الأكبر باهان، الذي خدع المسلمين، وتراجع أمامهم حتى مرج الصفر، ثم استدار فأحاط بهم وقتل سعيد بن خالد، واضطر خالد إلى الفرار، تاركًا عكرمة يقود الجيش متقهقرًا به إلى حدود الشام؛ حيث تحصن وأقام ينتظر المدد. ورأى أبو بكر أن يزيل هذه الهزيمة، وأن يرد المسلمين إلى الإيمان بالنصر، ويمدهم بما ينزل في قلوب الروم الخوف والهلع. واهتاج أبو بكر لفتح الشام وعناه أمره ، فوجه بشرحبيل ابن حسنة، الذي كان قافلًا من العراق بأنباء النصر، وأمره بالشام فجمع قوة من جيش ابن سعيد وابن عقبة، وسار بها إلى عكرمة . ودعا أبو بكر يزيد بن أبي سفيان، وأمره على جند، وأردفه بأخيه معاوية، فسارا وفصلا ببعض جيش ابن سعيد5. وندب الخليفة جيشًا عظيمًا عليه أبو عبيدة بن الجراح، وأمره على حمص، وسمى الخليفة لكل قائد مكانًا، فليزيد بن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل الأردن، ولعمرو بن العاص فلسطين، وانطلقت الجيوش في طريقها إلى الشام. وكان أبو بكر باهتياجه للشام على هذا النحو يعزز انتصارات المسلمين بالعراق، فلو وقف أمر المسلمين عند هزيمة خالد لذهب نصرهم في العراق بددًا، ولاقتحم عليهم الروم بلادهم. وظل المسلمون في مسيرهم حتى نزلوا الشام. وكان عمرو بن العاص معسكرًا في العربة. وتخطى أبو عبيدة البلقاء إلى الجابية، بعد أن خضع له عرب مآب . ونزل شرحبيل الأردن، بينما نزل يزيد البلقاء. وقد اختلفت الروايات، ألقي المسلمون حربًا في جنوبي فلسطين، أم تقدموا فيها ولم يواجههم أحد؟ وتلتقي جيوش المسلمين بجيوش عكرمة؛ ليعسكر أبو عبيدة على طريق دمشق، ويعسكر شرحبيل في مرتفع بأعلى الغور، فوق طبرية ونهر الأردن، ويظل يزيد بالبلقاء مهددًا بصرى، ويسقي عمرو بالعربة . وعندئذ أدرك الروم الذين لم يعبئوا بالمسلمين بعدما انهزموا وفر خالد أن الأمر أجل خطرًا من أن يستهينوا به. فسير هرقل قوات عظيمة وقفت إزاء جيوش المسلمين، حتى يشغل كلا منها عن غيرها فيسهل التغلب عليهم. فعسكر جيش بقيادة تذارق أخي هرقل بإزاء عمرو. ووقف جيش بإمارة الفيقار بن نسطوس بإزاء أبي عبيدة. أما شرحبيل فاستقبل الداراقص على قوة من الروم، واستقبل جرجه جيش يزيد بن أبي سفيان .
هاب المسلمون جيوش الروم حين رأوها يخطئها العد، ففزعوا بالكتب والرسل إلى عمرو بن العاص يلتمسون عنده الرأي، ورأى عمرو أنهم لا يستطيعون لقاء الروم متفرقين، فكاتبهم يقول: "إن الرأي الاجتماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، فأما إن تفرقنا لم تقم كل فرقة لمن استقبلها لكثرة عدونا". وجاءهم كتاب أبي بكر بمثل رأي عمرو، وفيه: "اجتمعوا عسكرًا واحدًا، والقوا زحف المشركين بزحفكم، فأنتم أعوان الله، والله ناصر من نصره ... " . واتعد المسلمون اليرموك على طريق دمشق، واجتمعت قواتهم كلها على شاطئه الأيسر. فلما رأى الروم ذلك جمعوا قواتهم على الشاطئ الأيمن للنهر، وتولى تذارق " تيودوريك " قيادتها. ونهر اليرموك ينحدر سريعًا بين آكام مختلفة الارتفاع إلى غور الأردن وإلى البحر الميت، وعلى مرحلة من ملتقى اليرموك بنهر الأردن تقع واقوصة في منبطح فسيح من الأرض، تحيط به من ثلاث نواح جبال بالغة الارتفاع. وقد اختار الروم هذا المنبطح معسكرًا لهم، فلما استقروا به تخطى المسلمون النهر إلى ضفته اليمنى، واختاروا منبطحًا آخر على الطريق المفتوح لجيش الروم. فلم يبقَ للروم طريق إلا عليهم. وأقام المسلمون برغم هذا لا يقدرون على شيء، ولا يقدر الروم منهم على شيء شهرين كاملين. ورأى المسلمون ألا بد لهم من مدد يعينهم، فكتبوا إلى أبي بكر يستمدونه حتى لا يسأم الجند ويضعف إيمانهم بالنصر. وجمع أبو بكر أولي الرأي من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم متعجبًا أن يقف المسلمون هذا الموقف من الروم على كثرتهم، وتكشفت الحقيقة: أن العلة في القيادة، فالموقف يحتاج إلى قائد جسور وأبو عبيدة رقيق القلب، وابن العاص على دهائه غير مقدام، وعكرمة مناور مقدام ينقصه دقة التقدير. ثم إن كثرة الأمراء تجعلهم لا يقرون لواحد منهم بالتفوق، فإذا بأبي بكر يصيب كبد الحقيقة إذ يقول: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد" . وكتب أبو بكر إلى خالد إثر عودته من الحج: "سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا" . وأخذ خالد يتدبر أمره، فتقاسم الجند مع المثنى كأمر أبي بكر، ثم اجتاز طريقًا موحشًا بطريقة فذة وفي أيام قليلة، وتمكن من إصابة بعض والواحات والقبائل في طريقه، كما استطاع بمعونة دليله رافع الطائي أن يختصر الطريق، وأن يقضي على مشكلة الإمدادات وخاصة توفير الماء فيما يشبه المعجزة ، ويدخل عمله في إطار الأسطورة. وقد تجنب خالد أن يلتقي بالروم حتى يبلغ جيوش المسلمين. وأغار في طريقه على سوى وتدمر، وصالح أهل قصم وانحدر إلى أذرعات فأغار على غسان بمرج راهط ، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى، وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد فتقدمهم خالد واقتحموا بصرى وفتحها الله عليهم، ثم ساروا جميعًا إلى فلسطين مددًا لعمرو بن العاص، فعسكر خالد بجنوده إلى جوار زملائه، واكتمل جمع المسلمين على اليرموك. وصادف قدوم خالد قدوم باهان، الذي رأى هرقل أن يعزز به جنده. وكان الموقف بالغًا غاية الدقة، فعدد المسلمين قليل جدًّا، بالقياس إلى عدد الروم. وظل الموقف جامدًا ثلاثة أسابيع يتدبر المسلمون أمرهم، وترامى إلى المسلمين أن الروم سينازلونهم في غدهم، وتحدث الأمراء في شأنهم، ولما آن لخالد أن يتحدث قال: "إن هذا اليوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر والبغي. أخلصوا لله جهادكم، وأريدوا الله بعملكم، فهذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وأنتم على انتشار" فلما سألوه الرأي، أشار بتعاورهم الإمارة، وطلب أن يتأمر في اليوم الأول، ولم يترددوا.
عبأ خالد الجيش كراديس كل منها ألف رجل، وجعل على القلب أبا عبيدة، وعلى الميمنة عمرو بن العاص وشرحبيل، وعلى الميسرة يزيد، وجعل على كردوس فارسًا من شجعان المسلمين كالقعقاع وعكرمة ومن إليهما. وعهد إلى أبي سفيان بتحريض المسلمين وتذكيرهم، فسرت إلى قلوب المسلمين قوة لم يكن لهم بمثلها عهد مذ نزلوا الشام. وتقدم القادة صفوفهم يرتجزون ويخطبون ويتمثلون، وكلهم ينتظر الأمر بالهجوم بصبر نافذ، وعزم ثابت على النصر أو الموت. فلما صدرت الأوامر من باهان بالزحف كان جرجه بجيشه في الطليعة، وكان قد تعلم العربية وسمع عن خالد ومال قلبه إليه، فتلقاه خالد وأفسح له ولعسكره طريقًا، وظن الروم أن جرجه في حاجة إلى المدد، فانقضوا على المسلمين فأزاحوهم. وكان عكرمة على كردوسه أمام فسطاط خالد، ورأى تسليم جرجه وارتاح له، فلما رأى صفوف المسلمين تنزاح أمام الروم نادى: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعمائة من وجوه المسلمين، واندفع بهم يلقون فيلق الروم في هجمة رجل واحد، فزلزلوهم كما زلزلهم انضمام جرجه إلى المسلمين، وأيقن المسلمون بالنصر أو الفناء عندما رد الروم هجومهم بأعنف منه. واندفع خالد والمسلمون وراءه يهوون على عدوهم بسيوفهم فيخطفون أرواحهم خطفًا، وازداد حماس المسلمين حتى شارك النساء الرجال، واستمات الروم في دفع المسلمين، وتأرجحت المعركة حامية الوطيس، فلما كانت الشمس في المغيب بدأت قوات الروم تهن، وكان نهر اليرموك يدور في الشمال على شكل نصف دائرة، بحيث يحتضن جنوبي القوس سهلا له باب واحد من الجنوب، فدار خالد خلف جيش الروم وحصرهم فتردوا في هاوية الواقوصة، وشدد المسلمون الضغط عليهم فتلاحقوا فيها . قضت معركة اليرموك على كل أمل للروم في استبقاء الشام، فلم يكد هرقل يسمع بهزيمة جيشه حتى جلا عن معسكره بحمص، وجعلها بينه وبين المسلمين، وقال قالته المشهورة: "سلام عليك يا سورية سلاما لا لقاء بعده ونعم البلد للعدو" . ويذهب غير قليل من المؤرخين إلى أن معركة اليرموك كانت بعد أجنادين ودمشق، وأن اليرموك كانت آخر الوقائع. يذهب إلى ذلك الواقدي والبلاذري والأزدي، مخالفين الطبري . فالواقوصة التي حدثت المعركة عندها قريبة من بادية الشام ومن تخوم العرب، وهي أدنى الأرض إلى جيوش المسلمين حين التقائها. ويؤيد رواية الطبري ما يرويه ياقوت في هذه الوقعة من أنها حدثت لعهد أبي بكر، وأن البريد جاء بموته وخلافة عمر، وبتأمير أبي عبيدة على الشام كله، وبعزل خالد، وأخفي الخبر عن المسلمين حتى تم نصرهم. ثم دخل خالد على أبي عبيدة فسلم عليه بالإمارة وأفضى بالخبر. ونحن نميل إلى هذه الرواية ونرفض رواية البلاذري ومن سايره. وليس لنا إلا أن نحتكم في ذلك إلى الشعر الذي يؤيد وجهة النظر التي اخترنا بدوره، يقول القعقاع بن عمرو -وكان ضمن كتيبة خالد- مصورًا مسيرهم إلى اليرموك:
بدأنا نجمع الصفرين فلم ندع ... لغسان أنفًا فوق تلك المناخر
صبيحة صاح الحارثان ومن به ... سوى نفر نجتذهم بالبواتر
وجئنا إلى بصرى وبصرى مقيمة ... فألقت إلينا بالحشا والمعاذر
فضضنا بها أبوابها ثم قابلت ... بنا العيس في اليرموك جمع العشائر
كتب أبو عبيدة إلى عمر بما تم من نصر المسلمين في اليرموك، وأنه خلف بشير بن سعد بن أبي الحميري عليها ليحمي ظهره، وخرج إلى مرج الصفر يتعقب فلول المنهزمين بفحل، وأنه أتاه الخبر بأن هرقل أمد دمشق بقوات من حمص، وأنه لا يدري أيبدأ بدمشق أم بفحل من بلاد الأردن؟ فأجاب عمر بالبدء بدمشق فهي حصن الشام، على أن يشغلوا أهل فحل في نفس الوقت. فأرسل أبو عبيدة إلى فحل بقوة كبيرة عليها أبو الأعور السلمي، وسار هو وخالد بن الوليد في قوة الجيش الكبرى إلى دمشق، ورأى الروم الذين لجئوا إلى فحل مقدم المسلمين عليهم، وكان أثر اليرموك وما أورثه إياهم من فزع لا يزال آخذًا بنفوسهم، فأطلقوا ماء بحيرة طبرية ونهر الأردن في الأرض حولهم، فأوحلت وتعذر السير فيها، وغاظ المسلمين ما صنع أعداؤهم فحاصروهم دون تقدم وظلوا على حصارهم. بينما كان أبو عبيدة يتقدم في كثرة الجيش إلى دمشق؛ حيث هجر الناس منازلهم ليحتموا في حصونها المنيعة برماتها ومنجنيقاتها وخنادقها التي طمتها مياه نهر بردي. وأمر أبو عبيدة جنده فسكنوا الغوطة معسكرين في كنائسها؛ حتى لا تحاصرهم قوة تأتي من حمص، وبعث بعلقمة بن حكيم وبمسروق العبسي فعسكرا بين دمشق وفلسطين؛ ليمنعا أمداد الروم من الجنوب. وعين لكل من قواده بابًا من أبواب دمشق الحصينة فنزل هو بالجابية، ونزل عمرو بن العاص بباب توماء، ونزل شرحبيل بباب الفراديس، ونزل يزيد بالباب الصغير المعروف بباب كيسان، أما خالد فنزل بباب دمشق الشرقي. ونصب المسلمون المنجنيق والدبابات حول أسوارها، لكن حصونها كانت أمنع من أن تفضها عدة العرب، فردت المدينة كل هجمات المسلمين بسهامهم ونبلهم. وكان نسطاس حاكم المدينة وباهان قائدها ينتظران أمداد هرقل، فطالت المقاومة، وأرسل هرقل ما وعد به، ولكن قوات المسلمين تصدت لأمداده. وعلى الرغم من هذا لم تسقط المدينة، وتمسكت بالمقاومة حتى انصرم الشتاء والعرب لا يريمون. وعند ذلك وهنت المقاومة وبدءوا يفكرون في الصلح. ودخل المسلمون المدينة بعد أن تسورها خالد من الشرق وفتح أبوابها، بينما دخلها أبو عبيدة من الجابية صلحًا، وكذلك فعل يزيد من باب توماء. وكان طبيعيًّا أن يتجه أبو عبيدة بادئ ذي بدء إلى التفكير فيمن خلف وراءه من جنود المسلمين عند فحل بالأردن، ولكنه شغل قليلًا بتسريح جند خالد إلى العراق كما أوصى أبو بكر، فسارت كتيبة العراق وعليها هاشم بن عتبة، وعلى مقدمتها القعقاع؛ لتدرك المسلمين في القادسية كما مر، وكاد يشغل عن فحل تمامًا؛ إذ أوعز إليه البعض بفتح حمص، مدفوعين بحماسة الظفر، ومنتهزين فرار هرقل منها إلى أنطاكية، لكنه خالف مشورتهم حتى لا يقطع أحد ساقته، فترك يزيد على دمشق، وتقدم ومعه خالد وقوات الجيش مجتمعة وبلغ بهم فحل وقد جفت الأرض. وكان أبو بكر قد جعل إمارة الأردن لشرحبيل، فله القيادة لأن القتال يقع في إمارته، فبعث أبا الأعور السلمي إلى طبرية فحاصرها، وجعل خالدًا على مقدمة الجيش، وأبا عبيدة وعمرًا على المجنبتين، وضرار بن الأزور على الفرسان. وأقاموا قبالة الروم ينتظرون وطال وقوفهم، فخيل إلى سقلار قائد فحل أنه يستطيع أخذ المسلمين على غرة، فقد أمن المسلمون وأقاموا على غير عدة لطول مقامهم، وأنهم لذلك ستضطرب صفوفهم لأول وهلة. وخاب ظنه إذ إن المسلمين لم يأمنوا، وكان شرحبيل يبيت ويصبح على تعبئة، واستبسل الروم في قتال مرير، وطالت المعركة الليل كله، والنهار الذي يليه إلى الليل، حتى خارت قوى الروم ووهنوا، فانهزموا وقتل قائدهم وأسلمتهم هزيمتهم إلى الوحل، فلحق بهم المسلمون فركبوهم وخزًا بالرماح، وقتلوهم شر قتلة، فأصيب الثمانون ألفًا لم يفلت منهم إلا الشريد ؛ ثم نهد شرحبيل ومعه عمرو فحاصر أهل بيسان، ولكنهم لم يستمروا في المقاومة واضطروا إلى التسليم والصلح، فقد هوت روحهم المعنوية إلى منحدر من الضعف؛ بسبب ما أصابهم في اليرموك وفي دمشق وفي فحل. ثم إن أهل الشام لم تبلغ عداوة المسلمين منهم مبلغًا يعاون الروم على المقاومة، فقد حكمهم الروم بيأس وقوة لا يثيران حماسة لحكمهم أو حرصًا على بقائه. وبلغ أهل طبرية ما أصاب بيسان وأهلها، فطلبوا إلى أبي الأعور أن يصالحوا شرحبيل. واحتذى أهل أذرعات وعمان وجرش ومآب وبصرى مثالهم، وكذلك أذعنت بلاد الأردن إلى حوران وإلى البادية ورضيت سلطان المسلمين، الذين أقاموا الجند في المدن وتركوا لأهلها إدارة شئونها. وسار أبو عبيدة ليفتح حمص، فلما بلغ دمشق ضم إليه ذا الكلاع وقوته التي كان قد تركها ردءًا لدمشق من الشمال. وما إن بلغ إلى الشمال الشرقي من دمشق حتى لقي جيشًا من الروم بعث به هرقل بإمرة توذر، فوقف قبالته. وإنه لكذلك إذا أقبل شنس الرومي مددا لتوذر، فعسكر على حدة. وتداول أبو عبيدة مع خالد، واستقر رأيهما على أن يلقى خالد توذر، وأن يلقى أبو عبيدة شنس، وكان همهما أن يصدا المسلمين عن حمص. وبات كل من القائدين يرتب أمر الحرب وينظم خطته، ولما تنفس الصبح لم يجد خالد أثرًا لتوذر، فقد انسحب في جنوده من أول الليل يريد دمشق، ثقة منه بأن حاميتها لن تطيق مقاومته. وتدبر خالد الأمر، فلا قيمة للانتصار على شنس إذا ما افتض توذر دمشق. وأسرع خالد في كتيبة من الفرسان يطارد توذر. وكان توذر قد وصل إلى دمشق، وبلغ يزيد خبره فخرج يلقاه، وأنشب القتال بعد أن أغلق أبواب المدينة، وبينما توذر يهاجمه أقبل خالد فأخذ الروم من خلفهم، وكبر وكبر الذين معه، فأيقن المسلمون المدافعون بوصول المدد، فأخذهم يزيد من أمامهم وخالد من خلفهم وأمعنوا فيهم قتلا، ولم يفلت منهم إلا الشريد. وغنم المسلمون خيلهم وأداة حربهم ومتاعهم. وعاد خالد إلى مرج الروم فوجد أبا عبيدة قد انتصر على شنس وقتله، ومزق جيشه كل ممزق . وانطلق يلاحق فلوله إلى حمص وحاصر بعلبك، فلما ترامت هذه الأنباء إلى هرقل ارتحل على أثرها، وأرسل إلى أهل حمص يعدهم بالمدد، وأن العرب لن يطيقوا برد حمص، ولم تطل مقاومة بعلبك أمام أبي عبيدة فصالح أهلها، وتركهم إلى حمص فحاصرها وعلى مقدمته خالد بن الوليد. وامتنع أهل المدينة بحصونها لا يخرجون لقتال المسلمين إلا في اليوم الشديد برده، وطال بالمسلمين الحصار، وطال بأهل حمص انتظار ما وعدهم به هرقل، وانصرم الشتاء ولم يرحل المسلمون، فتراجعوا إلى الصلح أخيرًا ودخلها المسلمون. وخلَّف أبو عبيدة على حمص عبادة بن الصامت ومضى نحو حماة، فتلقاه أهلها مذعنين، فصالحهم على صلح حمص. وسار إلى اللاذقية حيث حاصرها واضطر أهلها إلى الصلح، بعد أن خدعهم عن مدينتهم بحفر حفائر كالأسراب، ثم أظهر المسلمون رحيلهم فاطمأن أهلها وخرجوا إلى معاشهم، وعاد المسلمون مع الليل حيث دخلوا المدينة من حفائرهم، ومنعوا الذين خارجها من الدخول، فسلم من أقام في المدينة2، وتوجه خالد إلى قنسرين حيث هزم ميناس هزيمة منكرة، وخرب المدينة بعد استسلامها عقوبة لها، وأودى بحاضرها وبمن فيها من عرب تنوخ وسليج. وعلى الرغم من أن أبا عبيدة أجابهم إلى الأمان من بعد، فعادوا بعد أن فروا إلى أنطاكية، إلا أنهم غدروا بالعرب عندما ساروا إلى حلب، فوجه إليهم أبو عبيدة قوة حصرتهم وغنمت منهم مئونة للجيش، وتركت فيهم حامية تكفل إذعانهم وتحمي المؤخَّرة1. وسار أبو عبيدة إلى حلب فحاصرها، ولم يلبث أهلها أن خارت عزيمتهم برغم مناعة حصونهم فطلبوا الصلح ؛ وكان هرقل قد اعتصم بأنطاكية قبل ارتحاله إلى الرها، وهي عاصمة الإمبراطورية الرومانية في الشرق، وكان فتحها لدى عمر يعادل فتح المدائن، ويتلهف على أخبارها تلهفه على أخبار القادسية، ولم يكن أبو عبيدة يجعل منعتها وقوة حصونها، كما لم يغب عنها أنها مقر الذين نجوا بعد هزائمهم في مواقع الشام كلها، فاجتمعوا بها وعزموا على الدفاع عنها، ولكن دفاعهم انهار أمام المسلمين، فخرج أهلها وتركوا حصونهم حيث تلقاهم أبو عبيدة في معركة حامية، وحاصر المدينة فسلمت ونزلت على حكمه فرحل عنها. ولكن أهلها عادوا فنقضوا عهدهم، فبعث إليهم بعياض بن غنم فقضى على انتقاضهم، وأقام فيها حامية ثابتة كأمر الخليفة3. ولم يبقَ لكي يتصل الفتح في الشام بالفرات إلا تطهير شمال الشام؛ لذلك سار أبو عبيدة إلى حلب حيث بدد جيش الروم، ثم فتح قورس ومنبج، وبعث بخالد ففتح مرعش. وسار يزيد بن أبي سفيان من دمشق ففتح بيروت والثغور المجاورة4، ويئس هرقل فارتحل من الرها إلى القسطنطينية. ورأى جبلة بن الأيهم ما حل به فكتب إلى أبي عبيدة بإسلامه وإسلام بني غسان، حتى حدث أن وطئ إزاره رجل من بني فزارة فتنصر والتحق بهرقل ؛ وبينما كان أبو عبيدة يسير مظفرًا في شمال الشام كان عمرو بن العاص وشرحبيل يواجهان قوات الروم، التي اجتمعت بفلسطين لأرطبون أكبر قواد الروم وأكثرهم دهاء، وكان قد وضع بالرملة جندًا عظيمًا وبإيلياء جندًا مثله، وترك بغزة وسبسطية ونابلس واللد ويافا حاميات. وأقام ينتظر مقدم العرب واثقًا من النصر. وأدرك عمرو دقة الموقف، وخشي توزع جنوده بين هذه الأماكن، فخاطب الخليفة في ذلك. فأشار عمر بأن يتوجه معاوية إلى قيسارية ليفتحها فلا يجيء إلى أرطبون أمداد عن طريقها. وسار معاوية إليها فحصرها، وزاحف أهلها وردهم إلى حصونهم كلما خرجوا له. وطال بهم الأمر حتى استماتوا في قتاله ذات يوم فقضى عليهم، حتى ليقال: إنه قتل منهم ثمانين ألفًا. وبسقوط قيسارية أمن المسلمون جانبها، وامتنع كل مدد يجيء إلى الروم عن طريقها ؛ ولم يكتفِ عمرو بهذا، فقد رأى أرطبون يتقدم بقواته إلى أجنادين، فوجه علقمة بن حكيم ومسروقًا العكي إلى إيلياء حتى يشغل الروم عنه. ووجه أبا أيوب المالكي إلى الرملة لنفس الغرض. وسار عمرو في جلة الجيش إلى أجنادين، فإذا الروم قد تحصنوا وخندقوا. واحتال عمرو فتنكر حتى دخل على أرطبون كأنه رسول، وتأمل حصونه وعرف ما أراد. واحتال حتى خرج بعد أن كاد أمره يكتشف، ولم يبقَ أمام عمرو إلا أن ينشب القتال بعد أن عرف مأخذه ومآتيه. وبعد أن أعد له عدته التقى الجيشان بأجنادين، كما التقى جيش الروم والمسلمين بالواقوصة، وكذلك كان القتال شديدًا، وترجع النصر زمنًا بينهما. وكان أهل فلسطين من اليهود والنصارى يقفون من حكامهم ومن غزاتهم موقف المتفرج، لا تحركهم حماسة للروم ولا غضب على المسلمين. وساعد هذا على أن يكون المسلمون أكثر ثباتًا وصبرًا، فلما آذنت الشمس بالمغيب رأى أرطبون صفوفه تضطرب فانسحب في الناس متقهقرًا إلى بيت المقدس، فأفسح علقمة ومسروق طريقًا، فدخل المدينة بمن بقي من جنده معتمدًا على مناعة حصونها. وعسكرا بقواتهما إلى جانب قوات أبي أيوب بأجنادين. بينما أقام عمرو ينظر في مهاجمته أرطبون بيت المقدس. ورأى عمرو أن يحيطوا به فيقطعوا خط الرجعة عليه من ناحية البحر، ففتحوا رفح وغزة وسبسطية ونابلس واللد وعمواس وبيت جبرين ويافا ؛ وكاتب أرطبون عمرًا بأنه لن يفتح شيئًا بعد أجنادين، فعليه أن يرجع ولا يغتر. فرد بأنه صاحب فتح هذه البلاد، وطلب إليه أن يتدبر أمره قبل أن يدهمه، ولكنه كان يشعر أنه بحاجة إلى مدد، فقد أنهكت وقعة أجنادين المسلمين، فكاتب الخليفة أنه يعاني حربًا كئودًا صدومًا، وبلادًا ادخرت له، وطلب رأيه. وظل محاصرًا للمدينة والمقاومة تشتد، حتى ذاق المسلمون من قسوة المنجنيقات وشدة البرد الكثير. وكان جليًّا أن استماتة المدينة في الدفاع سببها الدين. فلما أيقنوا بانقطاع المدد عنهم، وبقسوة المنجنيقات على المسلمين خافوا على كنيستهم وقبلتهم ألا يصالحهم المسلمون على ما صالحوا عليه المدن الأخرى؛ ولهذا فقد اشترطوا أن يتولى عقد الصلح خليفة المسلمين بنفسه، وربما ليتركوا لجنودهم فرصة ينسحبون فيها إلى مصر. وكتب لهم عمر كتابًا أمنهم فيه على أنفسهم وبيعهم وصلبانهم ؛ وانتهز عمر وجوده بالشام فنظم إدارته، وعدل قيادته وقسم إقليم الشام مقاطعات تعرف بالأجناد، ثم قفل راجعًا إلى المدينة. ولم يشأ الروم بعد كل هذا أن يتركوا المسلمين ينعمون بالاستقرار في بلاد الشام. وداعب الأمل هرقل في أن يستعيد الشام في محاولة نهائية، وتصادف أن القبائل العربية الضاربة في شمالي الشام وظلت على مسيحيتها خشيت خطر المسلمين، فراسلت هرقل تطلب عونه في مهاجمة المسلمين، ورأى هرقل في ذلك فرصته فراسل هذه القبائل لتستعد، بينما أبحرت جيوشه من الإسكندرية بقيادة ابنه قسطنطين. وألقت الحملة مرساها على شاطئ أنطاكية واستولت عليها. وهناك انضم إليها قبائل العرب المتمردة، ولم يلبث شمالي الشام أن ثار. فألفى أبو عبيدة نفسه محصورًا في حمص، بينما أعداؤه يسيرون إليه برًّا وبحرًا، فراسل عمر فأمده بالقعقاع ونصحه بالتريث ؛ وكانت الخطة أن تحصر القبائل المتمردة عن دائرة جيش الروم فطوقها عبد الله بن عتبان وسرعان ما رجعت إلى مضاربها وآثرت السلامة ؛ واستطاع المسلمون -بعد انفرادهم بالروم- أن يحطموا مقاومتهم، وأن يهزموهم برغم استماتتهم في القتال، وأخيرًا ألجأهم المسلمون إلى انسحاب، ومنذ هذا اليوم عرف المسلمون قيمة الأساطيل البحرية. وقد ألمت بالمسلمين في هذه الفترة مجاعة عنيفة ووباء شديد. أصابتهم المجاعة في مواطنهم في شبه الجزيرة، وأصابهم الوباء في الميدان. ودامت المجاعة تسعة أشهر، وهلك فيها الزرع والنسل والضرع والحرث، وأصاب الناس منها الْجَهْد والبلاء. أما الطاعون فقد امتد من الشام إلى العراق فأفنى الألوف من خيرة المسلمين رجالًا ونساء وجندًا ومدنيين، حتى ارتاع له الناس أيما ارتياع. وعالج الخليفة المجاعة بصبر وحكمة، مستعينًا بما أفاءه الله من خيرات الشام والعراق. وأما الوباء فيذهب بعض المؤرخين المتأخرين أنه نشأ عن كثرة القتلى في الميادين، حتى تعذر دفن أكثرهم فأثار ذلك سبب الوباء. وعالجه عمرو بن العاص؛ إذ أشار بإخلاء المنازل والإخلاد إلى الخلاء والاعتصام بالجبال . واهتم عمر بأمر الوباء وما آل إليه أمر الشام بعد زواله، فقد فني من المسلمين خمسة وعشرون ألفًا. وانتقل من الشام إلى العراق ففتك بأهل البصرة. ولا يأمن عمر أن يكون ذلك سببًا في اضطراب النظام الاقتصادي؛ بسبب مواريث من فني، فقد يجر توزيعها ثارات بين المسلمين، فعول على الخروج إلى الشام ونزل الجابية، وزار مدن سورية جميعها يستفسر عن حال المسلمين، ووزع المواريث ونظم ثغور الشام ومسالحه، وبذلك استقر كل أمر في نصابه، وثبتت أقدام المسلمين بالشام وورثوا فيها الروم. ولكن المسلمين كانوا يدركون إدراكًا عميقًا أن وجودهم بالشام رهن بفتح مصر، بعد أن رأوا في مقاومة الروم لهم من قواعد مصر البحرية في حملة قسطنطين ما أزعجهم وهدد سلطانهم؛ فدفعهم هذا إلى التشاور مع الخليفة في مؤتمره بالجابية في فتح مصر على ضوء الأحداث والواقع.




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)