فتوح العرب المسلمين في الشرق-2-
ب-المرحلة الثانية
انتهت المرحلة الأولى من الفتوح الشرقية باستنقاذ عياض ، واستقامة العراق للمسلمين أسفله وأعلاه. وبدأت المرحلة الثانية بالبداية نفسها ، فالمثنى وحده في العراق بعد أن صدع خالد بأمر أبي بكر، وتوجه في نصف جيش العراق إلى اليرموك. ولم يكد المثنى يعود من وداع خالد إلى تخوم الصحراء حتى بدأ ينظم الدفاع عن البلاد التي فتحها المسلمون. فلا ريب أن الفرس سيتحرشون به متى علموا بسفر خالد، ولا ريب كذلك فيما سيتكشف عنه حقد القبائل العربية التي لم يصلحها إلا بطش خالد، ولكنه أحفظها كذلك، فباتت تترقب الثورة بالمسلمين. وقد شعر خالد قبل توجهه إلى الشام بدقة الموقف، فبعث بالنساء والصبيان والضعفاء إلى المدينة المنورة . ووجد المثنى نفسه في حالة لا يُحسد عليها، فهو رائد الفتح في هذا الميدان وطليعته، وليس من الهين على نفسه أن يهزم فيه، وزاد الموقف صعوبة أن الفرس استقام أمرهم على شهر براز بن أردشير، الذي أراد إرهاب المثنى، فوجه إليه جندًا كثيفًا، بقيادة هرمز جاذويه، وفي مقدمة جيشه فيل كبير. ولم ينتظر المثنى أن يقدم عليه الفرس في الحيرة، متخطين المناطق التي حازها المسلمون، فخرج إليهم في جنده، وسار حتى بلغ أطلال بابل، وعلى مقدمتيه أخواه المعنى ومسعود، فعسكروا على مرتفع يبعد خمسين ميلا من المدائن. والتقى الجمعان، وكانت معركة رهيبة، ابتلي فيها المسلمون بالفيل الذي عانى منه الجند والخيل، حتى دل المثنى على مقاتله فقتله، وهاجموا الفرس فهزموهم شر هزيمة واحتلوا معاقلهم، وتعقبوا فلولهم إلى أبواب المدائن . ونزلت الهزيمة على شهر براز نزول الصاعقة، فحم ومات. وعاد الاضطراب إلى البلاط الفارسي من جديد، فاطمأن المثنى قليلًا، ولكنه حسب حساب الغد حينما تنتهي هذه الخلافات، ولا بد له أن يكون مستعدًّا للقائهم لقاء حاسمًا. والخليفة لا يمكن أن يمده وجيوشه موزعة في الشام والعراق، ولو كان في الإمكان إمداده لما فصل خالد بنصف جيش العراق، ولكنه كتب إلى الخليفة يستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبته من أهل الردة. وفي انتظار رد الخليفة أقام يدبر خطته ويحكم تدبيره، وأبطأ رد الخليفة، ولم يرَ المثنى بُدًّا من الانسحاب إلى أدنى أرض العراق من حدود البادية؛ حيث خلف على المسلمين بشير بن الخصاصية، وذهب بنفسه إلى المدينة ليرى رأيه مع الخليفة. وفي المدينة ألفى المثنى أبا بكر رضي الله تعالى عنه مريضًا مرضًا يشفي على الموت، ولكنه استقبله، واستدعى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأوصاه أن يندب الناس مع المثنى، لا يشغله مصيبة وإن عظمت عن وصيته. ويقضي الخليفة الأول في الحادي والعشرين من جُمَادَى الآخرة سنة 13هـ بعد إصدار أمره بندب المسلمين مع المثنى، لاستكمال المرحلة الثانية من الخطة التي رسمها. ولم يضيع الخليفة الثاني وقتًا، فأخذ يندب الناس باذلًا في ذلك جهده، حتى بلغ له من أهل المدينة المنورة ومن كان قد ارتد حشد كبير، أمر عليه أول منتدب -أبا عبيد عمر بن مسعود الثقفي- وعجل المثنى، فسبق أبا عبيد، ووصل إلى الميدان بعد عشر ليال؛ ليلحق به أبو عبيد بعد شهر من وصوله. ولا يكاد المثنى يستقر بين جنده حتى يسأل عما آل إليه أمر البلاد الفارسي فيبلغه أن الفرس ولوا ابنة كسرى عليهم ثم خلعوها، وخلفها سابور بن شهريران، الذي تآمرت عليه ابنة عمه آزرميدخت، فقتل وقتل وزيره الفرخزاد، وجلست على عرش فارس. لكن القائد رستم بن الفرخزاد انتقم لأبيه، فألحق الهزيمة بجيوش الملكة وحاصر قصرها. وأقام بوران ابنة كسرى على عرش البلاد، فأطلقت يده في أمور الدولة وجعلته على الجند، وأمرت أهل لفارس أن يسمعوا له ويطيعوا. وبلغ أبو عبيد العراق، فوجد المثنى قد انسحب إلى "خفان" على حدود البادية؛ لأن رستم أوعز إلى الدهاقين بالسواد أن يثوروا بالمسلمين، ودس في كل رستاق رجلًا يثير أهله، ثم أرسل جندًا لمصادمة المثنى، الذي آثر الحذر وانسحب من الحيرة، حتى لا يُؤتَى من خلفه، وفي "خفان" وافاه أبو عبيد، وأقاما يدبران خطة لملاقاة الفرس. وكان رستم قد عهد إلى جابان -أحد قواده- أن يتجه على رأس جيش عظيم إلى الحيرة، كما عهد إلى قائد آخر هو نرسى أن يتجه إلى كسكر. وخرج المسلمون بعد أن جمعوا في "خفان"، فالتقوا بهم عند النمارق، واقتتلوا قتالًا شديدًا، أظفر الله فيه المسلمين، فأسروا جابان ومرادا نشاه. وما إن علم رستم بهزيمة جابان حتى أمر الجالينوس بأن يسير إلى المسلمين فيلحق بنرسى في كسكر، ولكن أبا عبيد كان أسرع منه، فحث بجنده السير لمواجهة نرسى، الذي انحاز إليه فل النمارق. والتقى المسلمون بالفرس في مكان يُدعى بالسقاطية على مقربة من كسكر قبل أن يصل الجالينوس. ولم يثبت نرسى أكثر مما ثبت جابان، ففر في جنده تاركًا لهم مغانم كثيرة. وأقام أبو عبيد بكسكر، بينما سرح المثنى وغيره من القواد يغيرون على النواحي القريبة، فاحتلوا سواد العراق -أسفله وأعلاه- وأذاعوا الرعب في القوم، معيدين إلى ذاكرتهم أيام خالد بن الوليد. فما لبث الدهاقين حتى جاؤوا أبا عبيد يصالحونه، ويعتذرون عن ممالأة الفرس، وأن ذلك كان بإكراههم. ولما تم الصلح معهم جاؤوه ببعض الهدايا ، ونهد أبو عبيد للجالينوس الذي كان تحول إلى باقسياثا فهزمه وألجأه إلى الفرار. وتبلغ الهزيمة رستم، فيجهز جيشًا عليه بهمن جاذويه، ويبعث بالجالينوس والفيلة وراية فارس الكبرى "درفش كابيان" في جيش لم يعرفه المسلمون من قبل، وتراجع أبو عبيد بجنده إلى قرية قس الناطف، بعد أن عبر النهر إليها وتحصن بها ينتظر عدوه. وأقبل بهمن يفصل بينه وبين المسلمين النهر، وبعث يخير أبا عبيد في أن يعبر إليهم أو يعبروا إليه وأشار أصحاب أبي عبيد عليه بألا يعبر، وأن يدع الفرس يعبرون، لكنه أخذته العزة فقال: والله لا يكونون أجرأ منا على الموت، بل نعبر نحن إليهم. وعبر. فعبر المسلمون واقتتلوا على الجسر، فأصيب من الفرس ستة آلاف قتيل وغريق، ولم يبقَ لهم إلا الهزيمة، برغم هول الفيلة وخيبة الخيل بإزائها، وحدث أن أبا عبيد كان يعالج فيلًا فخبطه وأصابه، فتضعضع المسلمون لإصابة قائدهم، وركب الفرس أكتافهم، فبادر رجل من ثقيف إلى قطع الجسر؛ ظنًّا منه أنه بذلك يمنع الفرس عن المسلمين فكانت الطامة؛ إذ أخذت السيوف المسلمين من كل ناحية، فتهافتوا في الفرات، واستطاع المثنى في حماية نفر من المسلمين أن يعقد الجسر، وعبر المسلمون إلى المروحة عائدين إلى مكانهم. وأصيب المثنى بجراح وهو يعقد الجسر. وفر ألفان من المسلمين وقتل أربعة آلاف منهم. وبقي المثنى في ثلاثة آلاف فحسب . وكانت هزيمة الجسر. وهذه أول هزيمة صادفها المسلمون؛ ولهذا كان أثرها في المسلمين أليمًا وعنيفًا، حتى ليتجاوز ميدان المعركة إلى المسلمين في المدينة؛ حيث لجأ الفارون. ورأى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بثاقب رأيه أن يحتضنهم، وأن يعتبرهم متحفزين لقتال؛ ليداري افتضاحهم في ثباتهم ورجولتهم فيقول: أنا فئة كل مسلم . وانحدر المثنى بجنده جريحًا إلى أليس، فقد خشي أن يتعقبه بهمن واضعًا في تقديره قوة عدوه وقوته، وصح ما توقعه المثنى، فقد تجهز بهمن لتعقبه، إلا أن الأنباء واتته بتجدد الاضطرابات في المدائن، واختلاف الفرس فرقتين،إحداهما مع رستم والأخرى مع الفيروزان . فعاد بهمن إلى العاصمة، وخلف من ورائه جابان ومردانشاه في كتيبة من الجند، فسارا يتعقبان المثنى، فخرج إليهما وأسرهما وأصحابهما، وضرب أعناقهم جميعًا. فقد خدعا أبا عبيد يوم أسرا بالنمارق، وعاد إلى حرب المسلمين. وفي هذا الوقت كان عمر رضي الله تعالى عنه في المدينة المنورة يحشد أمدادًا من بجيلة وضبة. وممن ظهرت توبتهم من أهل الردة. وأدرك المثنى أن هذه الإمدادات تحتاج إلى وقت طويل حتى تصل إليه، وسرعان ما تنتهي الاضطرابات في العاصمة حتى يعود الجند تتقدمهم الفيلة، فبعث إلى من يليه من قبائل العرب فتوافوا إليه في جمع عظيم، بينهم نصارى بني النمر، ونقل عسكره من أليس إلى مرج السباخ بين القادسية وخفان ليكون على تخوم العرب يلجأ إليهم عند الحاجة. وكان عمر يتصور حال المثنى وموقفه الدقيق، فضاعف جهده في ندب الناس المتثاقلين، بعدما رأوا فالة الجسر وفرارهم، فاستصلح عمر جرير بن عبد الله البجلي في جمع من بجيلة، وحذا الناس حذو بجيلة، فانضم إليهم من فر يوم الجسر وكثير من الأزد، وبني كنانة، وخلق كثير من مختلف القبائل، وتحمل الناس ومعهم نساؤهم وساروا يريدون المثنى. وانتهى الخلاف بين رستم والفيروزان، وهالتهما أنباء الأمداد التي تسير تباعًا إلى العراق، فجمعا جندًا عظيمًا، جعلا عليه مهران الهمذاني. وسار مهران في جنده تتقدمه الفيلة، وفي خاطره أن يحرز نصرًا يُنسي الناس انتصار بهمن يوم الجسر. وقد علم المثنى بمسيره، فسار إلى البويب مكان الكوفة الحالية بعد أن كتب إلى أمراء الأمداد بموافاته فيها. وسار مهران حتى وقف قبالة جيش المسلمين، لا يفصل بينهما غير النهر. وأرسل يخير المسلمين في العبور، ولم يكن المثنى قد نسي ما حدث لأبي عبيد. فعبر الفرس إلى البويب، وتعبؤوا في صفوف ثلاثة على كل فيل. ولم يكد المسلمون يسمعون التكبيرة الأولى حتى أعجلهم الفرس فشدوا عليهم، فاختلت صفوفهم؛ ولكنهم عادوا فشدوا، وترجحت المعركة حامية الوطيس حتى حمل المثنى على قائد الفرس فأزاله عن مكانه، ودخل في ميمنته. ورأى الفرس ما حدث فاندفعوا يحمون قائدهم، وتقهقر القلب تحت ضربات المسلمين إلى النهر يريدون العبور، فسبقهم المثنى والمسلمون فردوهم عنه. فازداد اضطرابهم بعد أن حصروا فقتلوا شر قتلة، حتى لقد سُمي يوم البويب بيوم الأعشار؛ لأنهم أحصوا مائة رجل من المسلمين قتل كل منهم عشرة من الفرس، وأمعن المسلمون يتعقبون الفالة إلى الليل، وأحصوا القتلى مائة ألف من الفرس، تلوح عظامهم تلولًا . وانتصر المسلمون انتصارًا مبينًا، تطهروا فيه من عار هزيمتهم يوم الجسر، وإن كانوا فقدوا عددًا كبيرًا بين جريح وقتيل. ولم يضيع المثنى وقتًا، فأمر قواده فانطلقوا في السواد حتى بلغوا ساباط على مرأى من المدائن وجيوش الفرس تفر أمامهم فرار النعام. وانطلق هو فغزا الخنافس والأنبار أيام سوقهما فنال منهما غنمًا كثيرًا. فبلغ المسلمون دجلة وأغاروا على قرية بغداد. وبلغوا تكريت يقتلون المقاتلة، ويسبون الذرية ويستاقون الأموال. ودان بهذه الغزوة العراق لسلطان المسلمين كرة أخرى .
وتدبر الفرس موقفهم. فما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن، والخلافات عادت جذعة بين رستم والفيروزان، حتى ضج الفرس منهما، وأنذروهما إن لم يجتمعا على حرب المسلمين. وقد استجابا وتشاورا على تنصيب يزد جرد بن شهريار، واجتمع الفرس عليه وتباروا في معونته، وأعدوا العدة للثأر. وعلم المثنى بذلك، فكاتب الخليفة الذي أبطأ رده، فلم يرَ المثنى بُدًّا من أن ينسحب كرة أخرى إلى تخوم شبه الجزيرة، فنزل بذي قار ينتظر مدد الخليفة. وفي الوقت نفسه بدأ يزدجرد حركة عامة للحشد، استعدادًا لمعركة فاصلة فسمي جند الأماكن التي سيطر عليها المسلمون، فثارت هذه الأماكن وكفر أهل السواد، في الوقت الذي خرجت فيه الزحوف من المدائن، واهتزت، الأرض بالمسلمين، وجاءهم أمر الخليفة بأن يتفرق المسلمون بين المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضهم مسالح.. مسالح، يغيث بعضهم بعضًا، وكان قد كتب إلى عماله بألا يدعوا فارسًا أو ذا نجدة أو سلاح أو رأي إلا اجتلبوه. وما كاد يعود من الحج حتى وافاه الجند من كل صوب، وخرج فيهم إلى صرار في المحرم سنة 14هـ فعسكر بها، لا يدري ما يصنع. وعقد مؤتمرًا عسكريًّا، ضم أولي الرأي الذين أجمعوا على أن يقيم عمر، وأن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كسعد بن أبي وقاص وكان على صدقات هوازن وأجمع المسلمون عليه، فسرحه في أربعة آلاف ممن اجتمع إليه. وكانت بعض الجموع قد لحقت قبله بالمثنى، وقد كان بهذا الجيش خلاصة الأمة الإسلامية وقتئذ؛ إذ لم يدع عمر رئيسًا ولا ذا رأي أو سلطة أو نجدة ولا شاعرًا أو خطيبًا إلا رماهم به، فضلًا عن بضعة وسبعين بدريًّا، وثلاثمائة من أبناء الصحابة. وقبل أن يصل سعد مات المثنى متأثرًا بجراحه يوم الجسر ويوم البويب، تاركًا وصيته لخلفه في معالجة الفرس. واستمرت المكاتبات بين سعد والخليفة ينصحه ويوجهه ويأمره بأن يرسل إلى الفرس من أهل المناظرة والرأي، فاختار قومًا أجلاء، تحدثوا إلى يزدجرد وقواده أحاديث شائقة وبارعة عن روح الإسلام، التي لم يستطع الفرس إدراك أثرها في حياة العرب. وفصل رستم من المدائن في تعبئة كبرى وعدد جنوده زهاء مائة وعشرين ألفًا، وسارت طلائعه حتى وصلت الحيرة فنزلت بها، وسار رستم حتى أتى النجف فعسكر بها، والطلائع تسير أمامه، ولم يزل الجيشان يتقاربان حتى وقف رستم على العقيق، وسعد أمامه. والتقى الجيشان على الدعاء والمكاتبات حتى خرس صوت المنطق، وأجمع رستم أمره على العبور، وكان سعد قد عبأ جيشه، فأقام بأعلى القصر لمرض كان به، يشرف على المعركة من عل، ويرمي بالرقاع إلى خالد بن عرفطة وهو أسفل منه.
وكان وراء الفرس العقيق، ووراء المسلمين الخندق، وميدان المعركة بين ذلك، وعند الظهر أنشب أهل النجدات القتال، وأشعل الرجاز أوار الحماس. وكان سعد قد أمر الشماخ، والحطيئة، وعبدة بن الطبيب، والمغيرة بن شعبة، وعاصم بن عمرو، وعمر بن معديكرب وغيرهم ليقوموا في الناس بما يحق عليهم، يذكرونهم ويحرضونهم على القتال . وأقبل أهل فارس عليهم في مثل حماسهم، يلبون نداء من يريدون نزالهم. وكان غالب بن عبد الله الأسدي في مقدمة من خرجوا يبارزون، وأخذ يرتجز، فخرج إليه هرمز فأسره غالب وجاء به سعدًا، ورجع إلى المطاردة. وبينما هو يرتجز طارد فارسيًّا نفر منه. فلقي فارسًا معه بغل، ففر الفارس، فاستاق عاصم بن عمرو البغل والرجل، فإذا الرجل خباز الملك، وإذا في الرحل طعام رستم، فنقله سعد للمسلمين ليأكلوه. وكبر سعد التكبيرة الرابعة -وكان القراء قد انتهوا من سورة الأنفال- فالتقى الجيشان. وأبلى أبطال المسلمين بلاء لم يعرف له نظير. ورأى الفرس بني بجيلة وعليهم جرير بن عبد الله يصولون ويجولون، فوجهوا إليهم ثلاثة عشر فيلًا، حملوا عليهم ففرت خيلهم نفارًا، وبقي الرجال وتكاد الفيلة تبيدهم. ورأى سعد ما أصاب بجيلة، فأرسل إلى بني أسد ليذبوا عنهم، فخرج إليهم طليحة بن خويلد وجماعة من قبيلته، فشدوا عليهم، فما زالوا يطعنونهم حتى حبسوا الفيلة عنهم. لكن الفيلة عادت فحملت عليهم، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو ليرى رأيه في الفيلة، فنادى عاصم الرماة ليذبوا ركبان الفيلة بالنبل، فاستدبروها وقطعوا وضنها وضربوها بالنبل، فارتفع عواؤها وألقت بركبانها فقتلوا. ونفس عن أسد وعن بجيلة جميعًا، بعد أن قتل من أسد وحدها أكثر من خمسمائة. وظل سعد مشفقًا من مصير المعركة؛ لما كان يراه من شدة الفرس وكثرة عددهم وفعال فيلتهم. وانقضى النهار وغربت الشمس والقتال لا يزال حاميًا وطيسه. فلما ذهبت هدأة من الليل رجع الجيشان كل إلى مواقعه، وكل يحسب للغد حسابه، والمسلمون أشد لهذا الغد حسابًا، بعدما نزل بهم في اليوم الأول من كوارث. فلما تنفس الصبح شغل العرب والفرس بدفن القتلى ونقل الجرحى، وقد دفن المسلمون قتلاهم بالعذيب، ونقلوا الجرحى إلى النساء ليقمن على العناية بهم. وبينما هؤلاء وأولئك في شغل بهذا الأمر كان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص يغذ السير في ستة آلاف من المسلمين الذين فصلوا من الشام تنفيذًا لأمر عمر إلى أبي عبيدة بأن يرد جيش العراق إليه بعد أن ينصره الله بدمشق. فلما فتحت دمشق وانتصر المسلمون بفحل انطلقوا مددًا لسعد، وعلى مقدمتهم القعقاع في ألف من شجعان المسلمين، وعجله هاشم أمامه ليدرك سعدًا قبل فوات الوقت. وأراد القعقاع أن يشد عزائم المحاربين في هذه الوقعة الخطيرة، فقسم رجاله الألف عشر فرق، وعهد إليهم ألا تسير فرقة حتى تكون الفرقة التي سبقتها على مدى البصر، ثم سار على رأس الفرقة الأولى، ثم تقدم الصفوف يستفتح القتال، فخرج إليه بهمن جاذويه، فصاح القعقاع: يا لثارات أبي عبيد!! وانقض عليه فأورده حتفه، وتنشط الناس وهم يرون صنيع القعقاع ولم يروا الفيلة بينهم. وبدأت فرق القعقاع تفد، والمسلمون يكبرون، حتى خيل إلى الفرس أن لا آخر لها، وأبلى القعقاع وأبو محجن الثقفي في هذا اليوم بلاء عجيبًا، فقد حمل القعقاع ثلاثًا وثلاثين حملة يقتل في كل منها رجلًا . وصنع أبو محجن أفاعيل بالفرس تكاد تكون أساطير. واتصل القتال إلى منتصف الليل، والمسلمون يرون فيه الظفر. وقد رفه عن المسلمين غياب الفيلة، وأن بني عم القعقاع برقعوا إبلًا وجللوها ودفعوها تحمل على الفرس كأنها الفيلة، فولت خيولهم نفارًا من منظرها، ولقيت منها ما لقيت خيول المسلمين يوم "أرماث" فركبتهم قوات المسلمين، وأعملوا فيها السيوف قتلًا وبترًا. وتنصف الليل والمسلمون يزاحفون عدوهم يريدون إجلاءه عن مواقعه فيصيبون منه ويكثرون القتل فيه، ويكادون يظفرون به لولا كثرة عدده وشدة مقاومته. ولم يجد كل من الفريقين بُدًّا من أن يرجع إلى عسكره، يعيد تنظيم صفوفه؛ ليعود في الصباح إلى الزحف ابتغاء الظفر. واطمأن سعد ونام، فقد وجد الناس مغتبطين، ينتمي كل منهم إلى قبيلته. أما القعقاع بن عمرو فبات ليله يسرب أصحابه الذين جاؤوا معه من الشام إلى المكان الذي كانوا فيه بالصحراء صبح أغواث، وأمرهم أن يقبلوا مائة مائة إذا طلعت الشمس، على نحو ما فعلوه في أمسهم، فإن أدركهم هاشم بن عتبة وجاء بمن معه فذاك، وإلا فقد جددوا للناس رجاء في المدد. وأصبح الناس والجيشان في مواقفهم، وبين الصفين ألفان من المسلمين بين قتيل وجريح، وعشرة آلاف من الفرس. فدفن كل جيش قتلاه ونقل جرحاه. ووقف القعقاع في المؤخَّرة حين طلعت الشمس ينظر إلى ناحية الصحراء، فلما بدأت خيله تقبل كبر وكبر الناس معه. وكان هاشم قد أدرك رجال القعقاع وعرف ما صنع صاحبه، فقسم رجاله فرقًا تتلاحق دراكًا، فبلغ القادسية حين أخذ المسلمون مصافهم للقتال، فلما رآه الناس ورآهم كبر وكبروا معه، واندفع هاشم إلى القلب حتى بلغ النهر وهو يرمي العدو، ثم عاد فكرر فعله فلم يجرؤ أحد على مصاولته. ولم يضعضع هذا من عزم الفرس، فقد أصلحوا توابيت الفيلة واقتحموا بها المعركة. ومنذ طلعت الشمس ورآها سعد تفعل الأفاعيل وتفرق بين الكتائب سأل جماعة من الفرس الذين أسلموا عن مقاتلها. فقالوا: مشافرها وعيونها. وقد تمكن القعقاع وأخوه عاصم من الفيل الأبيض فوضعا رمحيهما في عينيه، وكذلك فعل حمال والربيل بالفيل الأجرب. وهرولت الفيلة فأحدثت هرجًا ومرجًا بين صفوف الفرس، وتواثبت في العقيق وقد ألقت ركبانها، وتخطت الماء مدبرة ولم تعقب. وواصل الجيشان القتال، وكأنما دار بخواطر الجند من الفرس والعرب ألا يضعوا السلاح حتى يحسم بينهم. وهدأ وطيس القتال حين أقبل الليل، وقدر سعد أن الجيشين سيقضيانه في الاستعداد ليوم رابع، ولكنه خشي أن يأتيه العدو من مخاضة بأسفل العسكر، فأرسل طليحة وعمرو بن معد يكرب في جماعة وأمرهما بأن يقيما فيها حتى يأتيهما أمره، وسولت لهما نفساهما أن يخوضاها فيأتيا العدو من خلفه، واختلفا كيف يفعلان، فأخذ طليحة مكانه وراء العسكر، وكبر ثلاث تكبيرات، ارتاع لها أهل فارس فظنوا أن جيش المسلمين أزمع الغدر بهم، وظن المسلمون أن الأعاجم فتكوا برجالهم ، فأغار عمرو على جماعة من الفرس أسفل المخاضة، فلم يعد لديهم ريب في غدر المسلمين بهم فزحفوا، ورأى القعقاع صنيعهم فزاحفهم دون استئذان سعد، ولكن سعدًا يطل فيراه يزاحفهم فيقول: اللهم اغفرها له وانصره، فقد أذنت له وإن لم يستأذني، وتبعه المسلمون دون انتظار لتكبير سعد، واستقبلوا الفرس بالسيوف وخالطوهم. فكان للسيوف قعقعة، والمقاتلون لا يتكلمون بل يصيحون، والقتال يشتد ويحمى وطيسه كلما تقدم الليل. وبات الجيشان يقتتلان أشد قتال وأقساه، ولم يغمض لأحد من الجند تلك الليلة جفن. فلما أصبح الصباح جعل المسلمون ينتمون إلى قبائلهم، ولم يكن النصر قد عقد لواءه لأحد من الفريقين، وسار القعقاع في الناس يقول: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فأصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فحمل المسلمون حتى الظهيرة في جلاد باسل، حتى بدأت صفوف الفرس تضطرب وتراجع الفيرزان والهرمزان في المجنبتين، فانفرج القلب وهبت ريح أطارت طيارة رستم إلى العتيق، وزحف القعقاع بمن معه إلى سريره، ففر رستم إلى النهر واقتحم وراءه نفر من فرسان المسلمين، وصَعِدَ أحدهم على سريره يصيح: قتلت رستم ورب الكعبة!! إليَّ إليَّ، وطاف به الجند يهللون ويكبرون. وأسقط في يد الأعاجم ووهنت قوتهم، وانهد ركنهم، وقام الجالينوس يعبر بقومه النهر، لكن الردم انهار بهم في النهر، فغرق بانهياره ثلاثون ألف فارس مقترنين بالسلاسل، وانهزم جيش الفرس وانطلقت فلوله يولون الأدبار. وأمر سعد فخرج القعقاع وشرحبيل وزهرة بن حوية يتعقبونهم، وأدرك زهرة الجالينوس يجمع المنهزمين فقتله. وجعل المسلمون يقتلون من يلونهم من الفرس ويأسرونهم دون مقاومة وجمع الناس الأسلاب والأموال، فإذا هي شيء لا يحيط به خيال عربي، حتى لقد بلغ عطاء الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين. وزاد أهل البلاء كل واحد منهم خمسمائة-فضلًا عن الخمس- وما بقي بعد ذلك كثير، نحاه سعد ليبعث به إلى المدينة، وأمر عمر بتوزيعه فيمن لحق بسعد ولم يشهد الموقعة، وفي حملة القرآن. وهكذا انتهت المعركة إلى النصر الحاسم، حين كان الناس في كل الأرجاء من شبه الجزيرة يتطلعون ببصائرهم وقلوبهم إلى ناحيتها، وهم على أحر من الجمر شوقًا لمعرفة أنبائها من العذيب إلى عدن، ومن الأبلة إلى بيت المقدس، يتربصون وقعة القادسية، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصدًا يكشف ما يكون من خبرهم. وانطلق المسلمون في وادي العراق من أعلاه إلى أسفله، فعاد الناس جميعًا إلى طاعتهم، معتذرين عن ولائهم للفرس بأنهم غُلبوا على أمرهم، وسعد يعذرهم تألفًا لهم، وحرصًا على أن تسود الطمأنينة ربوعهم. فأقلبت قبائل العرب المنتشرة فيما بين النهرين يعلنون إيمانهم بالله وبرسوله. وقد مكث سعد بالقادسية شهر المحرم سنة 15هـ، وارتحل في نهايته بجيشه الذي أصبح معظمه فرسانًا لكثرة ما غنموا من الخيل، ولقيتهم في سيرهم فلول القادسية، وعليهم الهرمزان فهزمهم المسلمون. وبلغ سعدًا تجمع فلول الفرس ببابل، فسار إليهم وهزمهم. وأقام ببابل حيث سير من هناك مقدمته مع زهرة بن حوية إلى بهرسير أو المدائن الدنيا على شاطئ دجلة الغربي، فحاصرها شهرين وفتحها الله عليهم، ففر أهلها إلى الجهة الشرقية حيث المدائن القصوى -معقل الساسانيين وعاصمتهم- وأصبح من المحتم على زهرة أن يعبر دجلة، واستطاع بمعاونة بعض أهل البلاد أن يصل إلى مخاضة عبر خلالها المسلمون خوضًا، وفي سرعة أذهلت أهل المدائن، الذين فوجئوا بالمسلمين دون أن يروا سفينًا يقلهم إليهم، فتركوا المدائن وفروا، وكان يزدجرد قد سبقهم بالفرار إلى حلوان، وفي المدائن غنم المسلمون أموال كسرى وخزائنه وجواهره. وبفتح المدائن تنتهي المرحلة الثانية في هذه الفتوح، من الخطة التي رسمها أبو بكر.

ج-المرحلة الثالثة:
أقام المسلمون بالمدائن ما يزيد على سنة، لاحظ خلالها الخليفة عمر رضي الله تعالى عنه انتفاء التواؤم بين المسلمين وبيئتهم الجديدة هذه، فكان أن أمر بارتياد الأرض، وباختطاط البصرة والكوفة. وقد تم للمسلمين تمصير الكوفة في المحرم من سنة 17هـ. وكانت أول أمرها مبنية بالقصب، وبنيت بعد ذلك باللبن بعد تعرضها للحريق. وفي العام نفسه بنيت الأبنية بالبصرة التي كان المسلمون قد نزلوها في أواخر سنة 13هـ وأوائل سنة 14هـ، ولم يتم تخطيطها إلا مع الكوفة.
ومنذ هذا التاريخ صارت الكوفة والبصرة مركزين حربيين، تفصل منهما الجنود لحرب الفرس، وصار لكل منها جند خاص، ومناطق بعينها يناط بها فتحها وتنسب إليها. وصار المسلمون يفدون على عمر رضي الله تعالى عنه يشكون ضيق منازلهم بهم، ويطلبون السماح لهم بضم مناطق بعينها إليهم دون غيرهم . وتكاد الفتوح في أطراف فارس تكون نتيجة مجهودات أهل هذين المصرين، بالإضافة إلى البحرين التي انطلق منها المسلمون لغزو فارس وكرمان، وكان أول ذلك عمل العلاء الحضرمي، في مغامرته التي عضده فيها أهل البصرة في طاوس ، ثم في موقعة إصطخر التي تولاها الحكم بن العاص أواخر عهد عمر، وتمخض عنها فتح كرمان . وأسهمت الكوفة في إخضاع الجزيرة التي كانت بمثابة قاعدة حربية لحلفاء الروم من نصارى العرب، مما رفه عن المجاهدين في الشام . وتتابعت فتوح أهل الكوفة، ففتحوا الري وأذربيجان وأرمينية، وطبرستان، وجرجان . بينما فتح أهل البصرة الأهواز وتستر ورامهرمز، وجند يسابور. وليس يعني استقرار الجند الإسلامي في هذين المصرين وفتحهما لهذه المناطق انتهاء المقاومة الفارسية الرسمية، فإن المنهزمين في المدائن فروا إلى جلولاء، وأزمعوا أن يستميتوا في درء المسلمين والتفاني في ذلك، فاحتفروا خندقًا حول جلولاء، أحاطوه بحسك الخشب والحديد، وقاموا ينتظرون المسلمين، وأمر عمر سعدًا رضي الله عنهما بأن يسرح إليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاس، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو. فسار هاشم في اثني عشر ألفًا حتى نزل على الفرس. وكان كسرى قد أمد قواته من حلوان بالأموال والرجال. وأحاط المسلمون بالحصن، وزاحفوا الفرس ثمانين زحفًا لم تسفر عن شيء، إلى أن اقتحم المسلمون الحصن في هجوم عارم، ترك الفرس بعده المدينة للمسلمين ؛ وبعد أن فر الفرس أرسل هاشم بالقعقاع على رأسه حملة إلى حلوان، على حافة المرتفعات الفارسية بجبال الصقر تتبع الفارين واحتلها، بعد أن فر يزدجرد إلى الري . وأخذ سعد يبسط راية الإسلام في أنحاء الجزيرة وفارس، فوجه عبد الله بن المعتم إلى تكريت بالجزيرة، فاستمال من بها من إياد وتغلب، والنمر، ووجه بضرار بن الخطاب إلى مامبذان، حيث كان آذين أحد عظماء فارس قد جمع جمعًا عظيمًا من الفرس والعرب وخرج بهم إلى السهل، وتمكن ضرار من قتله، والاستيلاء على الناحية ؛ كما أرسل عمرو بن مالك الزهري إلى "هيت" و "قرقيسيا" فاضطر أهلهما إلى النزول على الجزية ؛ وبهذا صار السواد كله بيد المسلمين، فمهدوا طرق إدارته، وأقاموا الجند مرابطة في الثغور بينهم وبين الجبال. وبعد سقوط السواد، وهزيمة الفرس في جلولاء، انهارت خطوط المقاومة الفارسية، إلا أن بقاء يزدجرد -ذلك الملك الشاب- كان لا يزال رمزًا حيًّا للوطن السليب، فجمع حوله الفلول، وعلى الرغم من أن الخليفة كان يرى الاقتصار على ما بيد المسلمين من سواد العراق، ويتمنى لو كان بين السواد والجبل سد يفصل بين العرب والفرس، فإن المسلمين لم يجدوا بُدًّا من مطاردة هذا الرمز، فظلوا يتعقبون يزدجرد؛ لأنه الذي يبعث المقاومة.. "ولن يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا، فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه عن مملكته وزعامته، فينقطع رجاء أهل فارس". وكان يزدجرد قد فر من حلوان، أمام هاشم بن عتبة إلى إقليم فارس، جنوبي إيران؛ حيث تحول إلى الري ومنها إلى قرميسين، يطارده المسلمون حتى استقر في نهاوند. وفي نهاوند كان اهتمام عمر أشد من اهتمامه بالقادسية، حتى لقد راودته نفسه الخروج إليها، ولكن المسلمين رأوا له خلاف ما رأى لنفسه. وكذلك كان اهتمام الفرس بها عظيمًا؛ إذ كتب يزدجرد إلى عماله، فاجتمع من الفرس من أهل الجبال -من بين الباب إلى حلوان- ثلاثون ألف مقاتل، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألفًا، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألفًا أخر. واجتمعوا جميعًا إلى الفيرزان. وتحصن الفرس بالحصون والخنادق. وكان على المسلمين النعمان بن مقرن، الذي عقد مؤتمرًا عسكريًّا للتشاور في أمر الحرب، شهده أبطال المسلمين كالقعقاع وطليحة وعمرو بن معد يكرب وغيرهم. وانتهى الرأي إلى أن يبدأ القعقاع القتال حتى يخرج إليه الفرس من حصونهم وخنادقهم فيقتلهم المسلمون. وتم هذا الترتيب الحربي كما قدر له . وبدأ القتال واشتد، وقتل قائد المسلمين، وأُخفي خبر استشهاده، واستلم حذيفة بن اليمان الراية، وما أتى المساء حتى أتت معه الهزيمة للفرس، ودخل المسلمون نهاوند واحتووا ما حولها. وقد سميت هذه الموقعة بفتح الفتوح؛ لأنه لم يكن بعدها كبير حرب، وتابع القعقاع المنهزمين حتى همذان، فاحتواها وملكها المسلمون ؛ وقد وضع سقوط نهاوند بعد كل هذا الحشد الذي حشده الفرس نهاية للمقاومة الفارسية الرسمية، وأصبحت المقاومة جهودًا فردية، يقوم بها حكام المقاطعات في غير تساند أو نظام لحماية "يزدجرد" فحسب. وعملًا بنصيحة الأحنف بن قيس في وجوب القضاء على يزدجرد أذن عمررضي الله تعالى عنه للمسلمين بالانسياح في بلاد الفرس لقطع دابر الشغب، حتى ييئس الملك من عودة ملكه إليه، فلا يظل شوكة في جنب المسلمين، وييئس الفرس فلا يجتمعون حوله. عين عمر رضي الله تعالى عنه رؤساء الجند لافتتاح فارس، وأرسل إليهم بالألوية، الأحنف بن قيس إلى خراسان، وعثمان بن أبي العاص الثقفي إلى أصطخر، وسارية بن زنيم الكناني إلى فاسودراخرد، وسهيل بن عدي إلى كرمان، وعاصم بن عمرو التميمي إلى سجستان، والحكم بن عمير التغلبي إلى مكران.
وكان يزدجرد قد لجأ إلى أصفهان من نهاوند، فتابع المسلمون تقدمهم حتى غلبوا عليها. فكان أن تحدر هو إلى أصطخر ، ولكنها لم تكن الملجأ الحصين؛ إذ كان المسلمون يتقدمون من البصرة إلى الأهواز وخوزستان، ويقفزون من البحرين إلى الشاطئ الشرقي المقابل للخليج الفارسي، فغادر يزدجرد أصطخر إلى المقاطعات العليا من طبرستان، يلبي دعوة جاءته من مرزبانها . وبعد أن يحتل المسلمون أصطخر ينساحون في مواطن متفرقة عن إذن عمر. وتترى مدن خراسان تتساقط في يدي الأحنف.. الطبسين.. فهراء.. فمرو الشاهجان.. فنيسابور. ثم يهرب يزدجرد إلى خاقان، ملك الترك فيما وراء النهر. ولا يلبث ولاء أمراء المقاطعات ليزدجرد أن يتناقص بازدياد تفكيرهم في مطامعهم الشخصية، والرغبة في الاحتفاظ بنفوذهم. وبعد سلسلة طويلة من التنقلات يقتل يزدجرد في مرو، وبقتله يسقط التاج الساساني إلى الأبد. وكان المسلمون قد بلغوا في تتبعهم ليزدجرد إلى حدود النهر، فكتب عمر رضي الله عنه إلى الأحنف بطل هذه الوثبة بألا يجوز النهر، وبأن يقتصر على ما دونه ، ولكن انسياح المسلمين لم يتوقف؛ لأن انتقاض البلدان والمناطق المفتوحة لم يتوقف هو الآخر، فلم يبقَ إقليم لم ينتقض بعد فتحه، وبخاصة في أطراف المنطقة الشرقية بخراسان، التي اشتد انتقاضها وكفرها في خلافة عثمان . وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يستشرفون نهر جيحون كانت جيوش أخرى تجوز الخليج العربي ؛ لتنساح في منطقة فارس وسواحل كرمان، ثم تتقدم بعد ذلك إلى مكران، حتى تبلغ قريبًا من السند. ويذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه كان قد أوصى بألا يتقدم المسلمون إلى كرمان، بعد أن أخبره صحار العبدي بسوئها.. ولكن الحكم بن عمير التغلبي يتقدم إليها ويجوزها. وتوالت ظروف الانتقاض والثورة، فلم يستطع المسلمون الإذعان لهذا الأمر ولم يقنعوا بما في أيديهم. وتكاد تذهب خلافة عثمان رضي الله عنه كلها في محاولة تأكيد الفتح الإسلامي، والمحافظة على الثغور، وإعادة من شق العصا إلى الطاعة، إذا ما استثنينا فتح طبرستان، الذي تم على يد سعيد بن أبي العاص سنة 29هـ. فهذه أذربيجان تنتقض في إمارة الوليد بن عقبة سنة 25هـ فيغزوها ويعيدها إلى ما كانت عليه . وهذه فارس تنتقض في ولاية عبد الله بن عامر على البصرة، ويقتل أهلها أميرهم عبيد الله بن معمر، فيسير إليهم عبد الله بن عامر ويستردها. وأخذ المسلمون يتدفقون لاستثمار انتصاراتهم في خراسان، معبرين عن مدى الانطلاق الروحي، راغبين في القضاء على المقاومات والانتقاضات. فأخذنا نسمع عن أول من عبر النهر؛ كعبد الله بن عامر والحكم بن عمرو الغفاري وسعيد بن عثمان، الذي ولاه معاوية خراسان ، إلى أن يستكمل فتح هذه المنطقة قتيبة بن مسلم. وهكذا تصير إلى العرب تلك المنطقة، التي يحدها من الغرب نهر الفرات، ومن الشرق نهر جيحون والسند، ومن الجنوب المحيط الهندي، ومن الشمال أرمينية وطبرستان في فترة وجيزة من الزمن، برغم أن مثل هذه الأعمال العظيمة لا تقاس بالفترات ولا بالسنين. وقد رافق الشعر المسلمين في تقدمهم خطوة بخطوة، طوال هذا الطريق المشرق، وواكب المد المنطلق إلى غايته، كما سنرى فيما بعد.



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)