جمع القرآن الكريم في العهد الراشدي
مرَّ معنا سابقاً في عصر صدر الإسلام أنَّ القرآن الكريم قد كتب في عهد النبي صلى الله عليه ، وسلم على الرقاع والعظام ،والرِّقَاعِ ، وَالأَكْتَافِ ، وَالْعُسُبِ ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ........وجاء العهد الراشدي لتبدأ مرحلة جديدة من جمع القرآن الكريم . فعن ابن شهاب قال: لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم حتى جمع على عهد أبى بكر في الورق، فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في المصحف. ويقول زيد بن ثابت: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأديم والعسب، فلما توفى أبو بكر وكان عمر، كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده. عن أنس: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان، مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال العثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة، أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها إليه حفصة، فأمر زيد بن ثابت: عبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [ ] فألحقناها في سورتها في المصحف. وكان ذلك في سنة خمس وعشرين. ويقال: إن المسلمين اختلفوا في القرآن الكريم على عهد عثمان، رضي الله تعالى عنه حتى اقتتل الغلمان والمعلمون. فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه! فمن نأى عنى كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم ، اجتمعوا فأكتبوا للناس إماما، فاجتمعوا فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارؤوا في أي آية قالوا: هذه أقرأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلانا، فيرسل إليه، وهو على رأس ثلاث من المدينة المنورة ، فيقال له: كيف أقرأك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم آية كذا وكذا؟ فيقول: كذا وكذا، فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكانا. ولما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر رجلا من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الربعة التي فى بيت عمر فجيء بها، وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا اندرؤوا في شيء أخروه. وعن علىّ قال: لا تقولوا فى عثمان إلا خيرا. فو اللَّه ما فعل الذى يفعل في المصاحف إلا عن ملأ منا، قال: ما تقولون فى هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت. والفرق بين جمع أبى كبر وجمع عثمان أن جمع أبى بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعي صحائف مرتبا لآيات سورة على ما وقفهم عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف فى وجوه القراءة حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشى من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة فى ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة. ولم يقصد عثمان قصد أبى بكر في جمع القرآن نفسه بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي، صلّى اللَّه عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته، وحفظه خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد. واختلف في عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق، المشهور أنها خمسة، وقيل: أرسل عثمان أربعة مصاحف. وقيل: كتب سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة المكرمة ، والشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة المنورة واحدا.
أولا- جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر من الرقاع والعظام والعسب:
نظراً لكثرة من قتل من الحفاظ في موقعة اليمامة سنة- 12هـ-، فقد أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن الكريم ، فكلف أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن الكريم ، قال الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، قال: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقال: أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقال: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قال: أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ ؟ فَقال عُمَرُ: هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ. فَقال أَبُو بَكْر : إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَ اللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ ؟ فَقال أَبُو بَكْرٍ : هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِه: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } [ التوبة- ] إِلَى آخِرِهِمَا. وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ
ثانيا-جمع القرآن الكريم في عهد عثمان رضي الله عنه على قراءة واحدة:
جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه الناس على قراءة واحدة في القرآن الكريم ، وكانت أهم أسباب هذا الجمع :
1-اتساع بلاد المسلمين :
وتفرق الصحابة فيه حتى وصلت إلى بلاد ما وراء النهر شرقًا، وإلى طرابُلُس غربًا. وامتدت الفتوحات، فاستمرت طيلة فترة خلافته، تفتح بلادًا جديدة، وتوطِّد للمسلمين فيما فتح من قبل من البلدان. وباتساع دولة الإسلام كثُر المسلمون، وتفرق الصحابة في الأمصار، يدعون إلى الله، ويعلِّمون العلم، ويُقرِئون القرآن. وكان الناس يقرؤون كما عُلِّموا، فأهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب، وأهل الكوفة يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة يقرؤون بقراءة أبي موسى الأشعري، وهكذا. فعن حذيفة قال: أهل البصرة يقرؤون قراءة أبي موسى، وأهل الكوفة يقرؤون قراءة عبد الله. وكان هؤلاء القراء من الصحابة قد شهدوا نزول القرآن، وسمعوه من النَّبِيّ ، وعلموا وجوه قراءته، ولم يكن شيءٌ من ذلك لِمن تعلَّم منهم في الأمصار، فكانوا إذا اجتمع الواحد منهم مع من قرأ على غير الوجه الذي قرأ عليه يعجبون من ذلك، وينكر بعضهم على بعض، وقد يصل الأمر إلى تأثيم أو تكفير بعضهم البعض. .......وعن يزيد بن معاوية النخعي قال: إني لفي المسجد زمنَ الوليد بن عقبة في حلْقةٍ فيها حذيفة، إذ هَتَفَ هاتفٌ : مَن كانَ يقرأ على قراءة أبي موسى فليأتِ الزاويةَ التي عند أبواب كِنْدةَ، ومن كان يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعودٍ فليأتِ هذه الزاويةَ التي عند دار عبد الله، واختلفا في آية من سورة البقرة ، قرأ هذا: { وأتِمُّوا الحج ، والعمرة للبيت} [ ] ، وقرأ هذا: [ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } [ ] ، فغضب حذيفةُ ، واحمرَّت عيناه، ثم قام ففرز قميصَهُ في حُجْزَتِهِ وهو في المسجد، وذاك في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه ، فقال: إمَّا أن يَرْكبَ إليّ أميرُ المؤمنين، وإمَّا أن أرْكبَ، فهكذا كان مَن قبلَكم … وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه أنَّ عثمان رضي الله تعالى عنه قال: فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ. قلنا: فنعم ما رأيت. وانتشرت حلقات تعليم القرآن، فانتقل الخلاف إلى الغلمان والمعلمين، فخطَّأ بعضهم بعضًا، وأنكر بعضهم قراءة بعض. .......فعن أبي قلابة قال: لَمَّا كان في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه ، جعل الْمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، والمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلِّمين، قال: حتى كَفَر بعضهم بقراءة بعضٍ، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبًا، فقال: أنتم عندي تختلفون ، وتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشدُّ فيه اختلافًا ، ولحنًا. اجتمعوا يا أصحاب محمدٍ، فاكتبوا للناس ( إمامًا ) . والظاهر أن هذه الأحداث كانت قبل غزو أرمينية ، وأذربيجان، ولَمَّا وقع ما وقع من الخلاف الشديد ، والفتنة العظيمة بين المسلمين في غزو أرمينية ، وأذربيجان ، تأكدت الحاجة إلى جمع جديد للقرآن، يُلَمُّ به شمل المسلمين، وتجتثُّ به جذور تلك الفتنة . قال الحافظ ابن حجر: وهذه القصة لحذيفة يظهر لي أنَّها كانت متقدمة على القصة التي وقعت له في القراءة، فكأنه لَمَّا رأى الاختلاف أيضًا بين أهل الشام ، والعراق، اشتدَّ خوفه، فركب إلى عثمان، وصادف أن عثمان أيضًا وقع له نحو ذلك.
2-غزو أرمينية وأذربيجان:
في عام خمس، وعشرين من الهجرة النبوية اجتمع أهل الشام ، وأهل العراق في غزو أرمينية ، وأذربيجان. قال الذهبي: جاشت الروم، حتى استمدَّ أمراء الشام من عثمان مددًا، فأمدَّهم بثمانية آلافٍ من العراق. وكان أمير جند الشام في ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان أمير جند العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان حذيفةُ بن اليمان من جملة من غزا معهم، وكان على أهل المدائن من أعمال العراق. وكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب، وكان أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، فتنازع أهل الشام وأهل العراق في القراءة، حتى خطَّأ بعضهم بعضًا، وأظهر بعضهم إكفار بعضٍ، والبراءة منه، وكادت تكون فتنة عظيمة. وكان السبب وراء هذا الخلاف عدم مشاهدة هؤلاء نزولَ القرآن، وبُعْدهم عن معاينة إباحة قراءته بأوجه مختلفة، فظنَّ كلٌّ منهم أن ما يقرأ به غيره خطأ لا يَجوز في كتاب الله، فكادت تكون تلك الفتنة . قال مكي بن أبي طالب: وكان قد تعارف بين الصحابة على عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن ينكر أحدٌ ذلك على أحدٍ، لمشاهدتهم من أباح ذلك، وهو النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا انتهى ذلك الاختلاف إلى ما لم يعاين صاحبَ الشرع، ولا علِم بِما أباح من ذلك، أنكر كلُّ قومٍ على الآخرين قراءتَهم، واشتد الْخصام بينهم. رأى هذا الخلاف العظيم حذيفة بن اليمان، إضافةً إلى ما رآه من الاختلاف بين الناس في القراءة في العراق، ففزع إلى عثمان بن عفان، وأنذره بالخطر الداهم، وانضم ذلك إلى ما عاينه عثمان من الخلاف بين المعلمين ، وكذلك بين الغلمان، فصدّق ذلك ما كان استنبطه من أن من كان أبعد من دار الخلافة بالمدينة المنورة ، فهو أشدُّ اختلافًا.
أ-عن ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ ، وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
ب-وعن زيد بن ثابت : أنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى أَتَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَدْرِكْ النَّاسَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ : غَزَوْت فَرْجَ أَرْمِينِيَةَ، فَحَضَرَهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَهْلُ الشَّامِ، فَإِذَا أَهْلُ الشَّامِ يقرؤون بِقِرَاءةِ أُبَيٍّ، فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، فَيُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَإِذَا أَهْلُ الْعِرَاقِ يقرؤون بِقِرَاءةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الشَّامِ، فَيُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الشَّامِ. قَالَ زَيْدٌ: فَأَمَرَنِي عُثْمَانُ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا . فكانت هذه الْحادثة هي أهم الأسباب التي بعثت على جمع القرآن في زمن عثمان، فقد أكدت ما ظنه من أن أهل الأمصار أشد اختلافًا مِمَّن كان بدار الخلافة بالْمدينة المنورة ، وما حولَها. وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان لاحظ في إحدى المعارك اختلاف المسلمين في قراءة القران الكريم ، فقدم على عثمان ، واخبره بما رأى ، فأرسل عثمان إلى أم المؤمنين السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنهما يطلب منها إرسال ما جمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، فأمر زيد بن ثابت بتدقيق المصحف ، وترتيب سوره ، وكتب منه عدة نسخ على لهجة قريش ، ثم أرسل لكل بلد مسلم مصحفا منعاً لوقوع الاختلاف في القراءات.
ثالثا-من قام بجمع القرآن الكريم في عهد عثمان:
انعقد عزم الصحابة بعد ما رأوا من اختلاف الناس في القراءة على أن يجمعوا القرآن، ويرسلوا منه نُسَخًا إلى الأمصار، لتكون مرجعًا للناس يرجعون إليه عند الاختلاف. فانتدب عثمان بن عفان رضي الله عنه لذلك اثني عشر رجلاً، وأمرهم بأن يكتبوا القرآن في الْمصاحف، وأن يرجعوا عند الاختلاف إلى لغة قريش.
1--عن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت. والذي يظهر أن عثمان انتدب رجلين فقط أول الأمر، هما زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص.
2-كما جاء عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه في قصة جمع القرآن زمن عثمان رضي الله عنه أنه قال: فقيل: أيُّ الناس أفصح ؟ وأي الناس أقرأُ ؟ قالوا: أفصح الناس سعيد بن العاص، وأقرؤهم زيد بن ثابت. فقال عثمان: ليكتبْ أحدهُما ويُملي الآخر، ففعلا، وُجمِع الناسُ على مصحفٍ. قال الحافظ ابن حجر: بإسنادٍ صحيح. فالظاهر أنَّهم اقتصروا عليهما أول الأمر للمعنى المذكور في هذا الأثر، ثم لَمَّا احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بِحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي تُرسل إلى الآفاق أضافوا إلى زيدٍ ، وسعيدٍ عبدَ الله بنَ الزبير ، وعبدَ الرحمن بنَ الحارث بن هشام.
3-فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ . ثم أضافوا بعد ذلك آخَرِينَ بحسب ما كانوا يحتاجون إليه من الإملاء ، والكتابة، وكان منهم أبيُّ بن كعب الذي احتاجوا إليه للاستظهار. وقد وقع في الروايات الواردة تسمية تسعةٍ من هؤلاء الاثني عشر رجلاً ، وهم : ( زَيْد بْن ثَابِتٍ، عَبْد اللهِ بْن الزُّبَيْرِ، سَعِيد بْن الْعَاصِ، عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ) ، وهؤلاء هم الأربعة المذكورون في حديث أنس بن مالك السابق قريبًا، أبي بن كعب، كما في حديث كثير المتقدم أيضًا، أنس بن مالك، عبد الله بن عباس، مالك بن أبي عامر، جد مالك بن أنس، ثبت ذلك من روايته، وقال الإمام مالك بن أنس: كان جدِّي مالك بن أبي عامرٍ مِمَّن قرأ في زمان عثمان، وكان يُكتبه المصاحفَ، كثير بن أفلح، كما في حديث ابن سيرين المتقدم.
رابعا-عمل عثمان في جمع القرآن:
كان المقصود من جمع القرآن الكريم زمن عثمان رضي الله تعالى عنه قطع دابر الفتنة التي طرأت على المسلمين من الاختلاف في كتاب الله تعالى ، بجمع ، وتحديد الأوجه المتواترة المجمع عليها في تلاوة القرآن، الكريم ، وإبعاد كل ما لم تثبت قرآنيته، سواء بنسخ، أو بأن لم يكن قرآنًا أصلاً.
1-قال القاضي الباقلاني: لم يقصد عثمانُ قَصْدَ أبي بكرٍ في جمع القرآن الكريم نفسه بين لوحين، وإنما قصد جمعَهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النَّبِيّ ، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخْذَهُم بِمصحفٍ لا تقديم فيه ، ولا تأخير، ولا تأويل أُثبِت مع تنزيلٍ، ولا منسوخ تلاوته كُتِبَ مع مُثْبَت رسمه ، ومفروضٍ قراءتُه ، وحفظُه ؛ وذلك خشية وقوع الفساد ، والشبهة على من يأتي بعد . فأراد عثمان أن ينسخ من الصحف التي جمعها أبو بكر مصاحف مجمعًا عليها تكون أئمة للناس في تلاوة القرآن الكريم.
2-قال ابن حزم: خشي عثمان أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعًا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفًا، لكي -إن وهم واهمٌ، أو بدَّل مبدِّل- يرجع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد، والوهم . فلم يكن قصد عثمان جمع ما ليس مجموعًا، فقد كان القرآن زمن الصديق قد جُمِع، وإنما قصَدَ نسخَ ما كان مجموعًا منه زمن الصديق في مصاحف يقتدي بِها المسلمون.
3-قال النووي: خاف عثمان وقوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن الكريم ، أو الزيادة فيه، فنسخ من ذلك المجموع الذي عند حفصة رضي الله تعالى عنها ، الذي أجمعت الصحابة عليه مصاحفَ، وبعث بِها إلى البلدان، وأمر بإتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه ، ومن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وسائر الصحابة، وغيرهم.
4-قال البيهقي: ثم نسخ (زيدٌ) ما جمعه في الصحف (في عهد أبي بكر) في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهم على ما رسم المصطفى صلى الله عليه ، وسلم .
خامسا-منهج الجمع في مصحف عثمان:
شرع الصحابة الموكلون بجمع القرآن في كتابة المصحف( الإمام ) ، الذي نسخوا منه بعد ذلك المصاحف المرسلة إلى الأمصار، وكان الخليفة عثمان يتعاهدهم ، ويشرف عليهم، وكان الموجودون من الصحابة جميعًا يشاركون في هذا العمل. ويُمكن أن يلخص منهج الجمع العثماني فيما يأتي:
1 -الاعتماد على جمع أبي بكر الصديق ، ويظهر هذا جليًّا في طلب عثمان -رضي الله تعالى عنه -الصحف التي جمع فيها أبو بكرٍ القرآن من حفصة -رضي الله عنها-، وقد كانت هذه الصحف -كما مرَّ- مستندةً إلى الأصل المكتوب بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه ، وسلم . وبذلك ينسدُّ باب القالة، فلا يزعم زاعم أن في الصحف المكتوبة في زمن أبي بكر ما لم يُكتب في المصحف العثماني، أو أنه قد كتب في مصاحف عثمان ما لم يكن في صحف أبي بكر. -عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: … فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِها حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ.
2 - أن يتعاهد لجنة الجمع ، ويشرف عليها خليفة المسلمين بنفسه: فعن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش ، والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبـْـعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم.
3 - أن يأتي كلُّ مَن عنده شيءٌ من القرآن الكريم سمعه من الرَّسُول بِما عنده، وأن يشترك الجميع في علم ما جُمِع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحدٌ عنده شيء منه، ولا يرتاب أحدٌ فيما يودَع المصحف، ولا يُشَكُّ في أنه جمِع عن ملأٍ منهم. ويدل على ذلك ما صحَّ عن عليِّ ابنِ أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه ، أنه قال: يا أيها الناسُ! لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف ، وإحراق المصاحف، فو الله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلاَّ عن ملأٍ منَّا جميعًا! ، فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ. قلنا: فنعم ما رأيت .
أ-وورد كذلك أن عثمان دعا الناس إلى أن يأتوا بِما عندهم من القرآن المكتوب بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان يستوثق لذلك أشد الاستيثاق.
ب-فعن مصعب بن سعد قال: قام عثمان ، فخطب الناس فقال: أيها الناس! عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة سنةً، وأنتم تَمترون في القرآن… فأَعْزِم على كل رجل منكم ما كان معه من القرآن شيءٌ لَمَا جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة ، والأديم فيه القرآن الكريم ، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان، فدعاهم رجلاً رجلاً ، فناشدهم: لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ ، وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم.
4 - الاقتصار عند الاختلاف على لغة قريش : كما جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا.
والمقصود من الجمع على لغة واحدة:
الجمع على القراءة المتواترة المعلوم عند الجميع ثبوتُها عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وإن اختلفت وجوهها، حتى لا تكون فرقةٌ ، ولا اختلاف ، فإن ما يعلم الجميع أنه قراءة ثابتة عن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يختلفون فيها، ولا ينكر أحدٌ منهم القراءة بِها.
-قال أبو شامة: يحتمل أن يكون قوله: نزل بلسان قريش، أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم. فلعلَّ عثمان عندما جمع القرآن رأى الحرف الذي نزل القرآن أولاً بلسانه أولى الأحرف، فحمل الناس عليه عند الاختلاف. وقد اختلف الصحابة في كلمة (التابوت) هل هي بالتاء أم بالهاء. كما قال الزهري: واختلفوا يومئذٍ في (التابوت) و(التابوه)، فقال النفر القرشيون: (التابوت)، وقال زيدٌ: (التابوه)، فرُفِع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه (التابوت)، فإنه بلسان قريشٍ. على أنه قد ورد أن الذي رأى أنَّها بالتاء هو زيدٌ، كما روى الطحاوي عن زيد بن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ:{ إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ } [ ] ، قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: (التَّابُوتُ)، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ (التَّابُوتُ).
5 - أن يُمنع كتابة ما نُسخت تلاوته، وما لم يكن في العرضة الأخيرة، وما كانت روايته آحادًا، وما لم تُعلم قرآنيته، أو ما ليس بقرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة، شرحًا لمعنىً، أو بيانًا لناسخ ، أو منسوخٍ، أو نحو ذلك. ومِمَّا يدل لذلك ما ورد عن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم (فيمن يكتب): هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.
6 - أن يشتمل الجمع على الأحرف التي نزل بِها القرآن الكريم ، والتي ثبت عرضها في العرضة الأخيرة مع مراعاة ما يأتي: عند كتابة اللفظ الذي تواتر النطق به على أوجهٍ مختلفةٍ عن النَّبِيّ ،صلى الله عله وسلم يبقيه الكَتَبَةُ خاليًا عن أية علامة تقصِر النطق به على وجه واحد؛ لتكون دلالة المكتوب على كلا اللفظين المنقولين المسموعين متساوية، فتكتب هذه الكلمات برسم واحدٍ في جميع المصاحف، محتمل لما فيها من الأوجه المتواترة.
7 - بعد الفراغ من كتابة المصحف –الإمام- يراجعه زيد بن ثابت ، ثم يراجعه عثمان رضي الله تعالى عنه بنفسه.
أ-عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ، قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ يَقْرَأُ بِها، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ } [ ] ، فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ. كانت هذه هي المراجعة الأولى لزيدٍ ، ويظهر من الروايات أنه عرضه مرتين أخريين، فأظهرت الثانية الاختلاف في لفظ (التابوت)، ولم تكشف الثالثة عن شيء.
ب-فعن زيد بن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ: { إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ}[ ] ، قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: التَّابُوتُ، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ التَّابُوتَ، ثُمَّ عَرَضَهُ -يَعْنِي الْمُصْحَفَ- عَرْضَةً أُخْرَى، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى حَفْصَةَ أَنْ تُعْطِيَهُ الصَّحِيفَةَ، وَحَلَفَ لَهَا لَيَرُدَّنَّ الصَّحِيفَةَ إلَيْهَا، فَأَعْطَتْهُ فَعَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي شَيْءٍ، فَرَدَّهَا إلَيْهَا ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ يَكْتُبُونَ مَصَاحِفَ. وفي هذا الأثر ما يدل على أن المعارضة بِما جمعه الصديق رضي الله تعالى عنه ، كانت بعد الانتهاء من كتابة المصحف الإمام، لِمزيد الاطمئنان، وفي هذا ما يدل على بقاء الأوجه الثابتة من القراءة بغير اختلافٍ بين الحفَّاظ والعلماء. وقد نفَّذ الصحابة هذه الضوابط أدقَّ تنفيذٍ، فكانوا ربَّما انتظروا الغائب الذي عنده الشيء من القرآن زمانًا، حتى يستثبتوا مِمَّا عنده، على الرغم من أن القائمين بالكتابة ، والإملاء كانوا من الحفاظ القراء.
ج-عن مالك بن أبي عامر قال: كنتُ فيمن أملى عليهم، فربَّما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقَّاها من رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ولعله أن يكون غائبًا ، أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها ، وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء، أو يُرسَل إليه. ثم أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك بنسخ المصاحف عن المصحف الإمام، وإرسالها إلى الأمصار، وهي التي عرفت فيما بعدُ بالمصاحف العثمانية.
سادسا-مزايا جمع القرآن في عهد عثمان:
كان نسخ القرآن في المصاحف في زمن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه تحقيقًا لوعد الله بحفظ كتابه العزيز، قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ ]، فقد وحَّد هذا الجمع صف المسلمين وكلمتهم، وردَّ عنهم ما كان محدقًا بِهم من الفتنة العظيمة، واجتث بذور الشقاق من بينهم. ومِمَّا سبق ذكره من خطة عمل الصحابة في جمع القرآن زمن عثمان رضي الله تعالى عنه يتبين لنا مزايا ذلك الجمع المبارك، ويمكن تلخيص بعضها فيما يأتي:
1-مشاركة جميع من شهد الجمع من الصحابة فيه، وإشراف الخليفة عليه بنفسه.
2-بلوغ من شهد هذا الجمع وأقرّه عدد التواتر.
3-الاقتصار على ما ثبت بالتواتر، دون ما كانت روايته آحادًا.
4-إهمال ما نسخت تلاوته، وما لم يستقرَّ في العرضة الأخيرة.
5-ترتيب السور ، والآيات على الوجه المعروف الآن، بخلاف صحف أبي بكر ، فقد كانت مرتبة الآيات دون السور.
6-كتابة عدد من المصاحف يجمع وجوه القراءات المختلفة التي نزل بِها القرآن الكريم.
7- تجريد هذه المصاحف من كل ما ليس من القرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة من تفسير للفظ، أو بيان لناسخ ، أو منسوخ، أو نحو ذلك.
ولقد حظي الجمع العثماني برضى من شهده من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، والتابعين، وقطع الله تعالى به دابر الفتنة التي كادت تشتعل في بلاد المسلمين، إذ جمعهم على ما ثبتت قرآنيته، فانتهى بذلك ما كان حاصلاً من الاختلاف بين المسلمين.
أ-عن مصعب بن سعد قال: أدركت الناس حين شقَّق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعِبْ ذلك أحدٌ. وقد عُدَّ جمعُ القرآن في المصاحف في زمن عثمان من أعظم مناقبه.
ب-وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: خصلتان لعثمان بن عفَّانَ ليستا لأبي بكر، ولا لِعُمَرَ: صبرُهُ نفسَه حتَّى قُتِل مظلومًا، وجمعُهُ الناسَ على المصحف. وقد دافع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن عثمان رضي الله تعالى عنهما في جمع القرآن ، وإحراق المصاحف؛ لئلا يتهمه من لا فقه له بتضييع القرآن، أو الجرأة عليه، وأخبر أنه فعل ذلك عن رضى من شهده من الصحابة الكرام ، وأنه لو كان واليًا إذ ذاك لفعل مثل الذي فعل عثمان.
ج-وعن سويد بن غفلة قال: سمعت عليَّ بنَ أبي طالبٍ ؤضي الله تعالى عنه يقول: يا أيها الناسُ، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف ، وإحراق المصاحف، فو الله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلاَّ عن ملأٍ منَّا جميعًا … قال: قال عليُّ رضي الله تعالى عنه : والله لو وليت لفعَلْتُ مثلَ الذي فَعَلَ.
سابعا-الفرق بين جمع القرآن الكريم في مراحله الثلاث:
نستطيع بعد هذا العرض أن نتبين الفرق بين جمع القرآن في مراحله الثلاث، فقد كان لكل مرة من مرات جمع القرآن أسباب خاصة، وكان لكل مرة أيضًا كيفية خاصة، فالفرق بين المراحل الثلاث كان من حيث الأسباب والكيفيات:
أ-الفرق بين المراحل الثلاث من حيث الأسباب:
1-أسباب جمع القرآن في عهد النَّبِيّ : زيادة التوثق للقرآن الكريم ، والتحري في ضبط ألفاظه، وحفظ كلماته، وإن كان التعويل في ذلك الوقت إنما كان على الحفظ والاستظهار، وتبليغ الوحي على الوجه الأكمل.
2-سبب جمع القرآن الكريم في زمن أبي بكر : الخوف على ضياع شيء من القرآن بِهلاك حفَّاظه، وضياع ما عندهم مِمَّا كُتِب بين يدي النبي .
3-سبب جمع القرآن الكريم في عهد عثمان : خوف الفتنة التي وقع فيها المسلمون بسبب اختلافهم في القراءة بحسب ما تعلموه من الأحرف التي نزل بِها القرآن، والمحافظة على كتاب الله تعالى من التبديل ، والتغيير.
ب-الفرق بين المراحل الثلاث من حيث الكيفية:
1-كيفية جمع القرآن الكريم في عهد النَّبِيّ : ترتيب الآيات في سورها، وكتابة الآيات فيما تيسر من مواد الكتابة، مع بعثرة ذلك المكتوب، وعدم جمعه في مكان واحد.
2-كيفية جمع القرآن الكريم في زمن أبي بكر : جمع المكتوب في عهد النَّبِيّ ونقله في صحفٍ، وهي أوراق مجردة، مرتب الآيات أيضًا، وبحيث تجتمع كل سورة متتابعة في تلك الصحف، لكن من غير أن تجمع تلك الصحف في مجلد أو مصحفٍ واحد.
3-كيفية جمع القرآن الكريم في عهد عثمان : نقل ما في صحف أبي بكر في مصحف إمامٍ، ونسخ مصاحف منه، وإرسالها إلى الآفاق، لتكون مرجعًا للناس عند الاختلاف.
أ-قال البيهقي : (بعد حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاع): وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الكتاب: الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي ، ثم كانت مثبتة في الصدور، مكتوبة في الرقاع ، واللخاف ، والعسب، فجمعها منها في صحفٍ بإشارة أبي بكرٍ ، وعمر رضي الله تعالى عنهما ، ثم نسخ ما جمعه في الصحف في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه على ما رسم المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ب-قال القاضي الباقلاني: لم يقصد عثمانُ قَصْدَ أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنهما في جمع القرآن نفسه بين لوحين، وإنما قصد جمعَهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النَّبِيّ ، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخْذَهُم بِمصحفٍ لا تقديم فيه ، ولا تأخير، ولا تأويل أُثبِت مع تنْزِيلٍ، ولا منسوخ تلاوته كُتِبَ مع مُثْبَت رسمه، ومفروضٍ قراءتُه ، وحفظُه ؛ خشية وقوع الفساد ، والشبهة على من يأتي بعد.
ج-وقال ابن حزم: خشي عثمان رضي الله تعالى عنه أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعًا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفًا، لكي -إن وهم واهمٌ ، أو بدَّل مبدِّل رُجِع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد والوهم.




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)