قلة الشعر على ألسنة الفاتحين في العهد الراشدي:
في اعتقادنا أن وقفة كتلك التي وقفناها من تصنيف الجيوش والإمدادات في فتح العراق وفارس ضرورية هنا للكشف عن الأسباب الفاعلة التي أدت إلى قلة الشعر على ألسنة الفاتحين في الشام وفي مصر، وهي كفيلة في نفس الوقت بالكشف عن طبيعة الاختلاف بين شعر الفتوح في الميادين المختلفة، وقيمة الإنتاج الشعري لهذه المناطق فيما بعد عصر الفتوح. ونحن لا نجد هنا تلك الروايات الواضحة التي وجدنا في العراق، في تصنيف الجيوش والأمداد التي فتحته وانطلقت منه إلى فارس وخراسان، وفي الكيفية التي تشكلت بها هذه القوات. وحقًّا نحن نجد أنفسنا أمام فيض متدفق من الروايات والقيادات والأسماء، مثل: أبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وشرحبيل، ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية، والوليد بن عقبة، وخالد بن سعيد، وعكرمة، وذي الكلاع وغيرهم، ولكننا نجد أيضًا أن خلطًا بينًا قد حدث في التأريخ لهذه الجيوش والأمداد وزمان انطلاقها، والكيفية التي تم تشكيلها عليها، وقد تغاضى عنها المؤرخون لسبب أو لآخر. وربما كان سبب الخلط الذي حدث في هذه الجيوش وقادتها راجعًا إلى كثرتها، وإلى الطريقة التي سار عليها الاستنفار والتجنيد، واختلافها في موقف عن الآخر، ويرجع إهمال الفواصل الزمنية بينها إلى اختلاف القيادات، وتعيين بلدان الفتح قبل مسير القوات إلى الشام، ودوران المعارك كلها في الشمال والجنوب في وقت واحد، إلى جانب تعاون الميادين المختلفة في تعاور الجيوش واستبدالها، وفتح بعض المناطق أكثر من مرة. ولم يكن التغاضي عن تصنيف الجيوش في روايات المؤرخين راجعًا إلى ذوبان العصبيات القبلية ذوبانًا نهائيًّا ألغيت معه العصبيات، وإنما يرجع ذلك إلى أن الفاتحين في هذا الميدان لم يختطوا لهم خطة، ولم يبتنوا محلة أو مدينة فيه كما فعلوا بالعراق، وكما فعلوا في مصر بعد ذلك، فلم يكتب لهم إقامة فيه؛ إذ تحولوا عنه إلى مصر. وقد ساعد على اختلاط تصنيف الجيوش الفاتحة للشام أنها لم تجيش في كثرتها من المدينة؛ وإنما خرجت إلى الميدان من العراق، ومن أطراف شبه الجزيرة، حينما استنفر أبو بكر عماله ففصلوا بجند من عمالاتهم.
وبرغم هذا فإننا نستطيع بمعونة الروايات القليلة التي بين أيدينا أن نصف جند الفتح الإسلامي للشام ومصر في صورة قريبة من الأصل أو دالة عليه. وكانت الخطوة الأولى في فتح الشام توجيه خالد بن سعيد بن العاص إلى تيماء، وكان أبو بكر قد عقد له في ألوية الردة، فنهاه عمر بن الخطاب عن تأميره، وما زال يحرضه على عزله، حتى جعله أبو بكر ردءًا بتيماء، على تخوم الشام لا يبرحها، وأن يدعو القبائل التي حلها للانضمام إليه إلا من ارتد، وألا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره. ونفذ خالد أمر الخليفة، فاجتمعت إليه جموع كثيرة، جعلت عسكره عظيمًا1، وهذه الجموع يمنية بطبيعة الحال، من القبائل الضاربة في تخوم الشام، كقضاعة وكلب وجهينة وعذرة. وترامى إلى هرقل نبأ خالد، وترامى إلى خالد استعداد هرقل، فكتب إلى الخليفة يستفتيه، ويطلب الإذن بقتال الروم. وكان أبو بكر قد اطمأن إلى انتهاء فتنة الردة وبلوغ خالد بن الوليد إلى الحيرة ورأى أن جموع خالد بن سعيد لا تكفي لمنازلة الروم، فاستشار صحابته ثم عول على أن يستنفر أهل اليمن لفتح الشام. ولقيت دعوته إقبالًا شديدًا خف على أثرها وجوه اليمن إلى خيلهم وسلاحهم، ونهضوا في قومهم، وساروا إلى المدينة، وكان منهم ذو الكلاع الحميري، وقيس بن هبيرة المرادي في مذحج، وجندب بن عمرو الدوسي في الأزد، وحابس بن سعد الطائي في طيئ. ورافق مقدمهم إلى المدينة كتاب خالد بن سعيد، وقدوم عكرمة فيمن معه من تهامة وعمان والشحر والبحرين، فبعث بهم أبو بكر إلى خالد. وقبل أن تصل هذه الأمداد إلى خالد بن سعيد ترامت إليه أنباء تأليب الروم لقبائل من بهراء وكلب وتنوخ ولخم وجذام وغسان، فكتب إلى أبي بكر كرة أخرى يطلب منازلتهم، فأمره بنزالهم، وانتصر خالد على قبائل العرب، ودخل عامتهم في الإسلام . وعندما التقى خالد بالروم بقيادة باهان وانتصر عليهم، تقدم إلى القسطل، وهزم جيشًا آخر للروم على الشاطئ الشرقي للبحر الميت، فتجمعت قوات الروم قبالة تيماء في أعداد ضخمة، فكتب إلى أبي بكر كتابه الثالث يستمده. وكان أبو بكر بعد أن استقر أهل اليمن منهمكًا في استنفار من حوله من المهاجرين والأنصار وأهل مكة وعماله، كعمرو بن العاص الذي كان على صدقات عمان، والوليد بن عقبة وكان على صدقات قضاعة، وكان أمر أبي بكر لهما أن يستخلفا ويندبا الناس بما يليهما لو اختاروا الجهاد فاستجاب إليهما خلق كثير . فأمر الخليفة عمرًا على جيش فلسطين، والوليد على جيش الأردن ؛ وما لبث خالد بن سعيد حينما وافاه الوليد بن عقبة وعكرمة وذو الكلاع أن التحم بالروم في مرج الصفر، التي دحر فيها المسلمون، وانحاز عكرمة بالجند، وفر خالد ؛ وعندما بلغت الهزيمة أبا بكر كان شرحبيل قادمًا من العراق، فاستعمله الخليفة على عمل الوليد، على أن يفصل بجند خالد بن سعيد، ودعا أبو بكر بيزيد بن أبي سفيان فأمره على ألف من أهل مكة ، وأردفه بأخيه معاوية؛ ليفصل ببقية جيش خالد بن سعد . ثم ندب الخليفة أبا عبيدة بن الجراح، وجعله على جيش عظيم فصل به إلى الشام، وأخذ أبو بكر يرغب الناس في الجهاد، فكانوا يأتون إلى المدينة حيث يوجههم إلى الشام، فمنهم من يسير إلى أبي عبيدة، ومنهم من يسير مع يزيد.. يسير كل إلى من أحب ، وبعد هذه التعديلات سمى أبو بكر كور الشام، لكل أمير كورته، فلأبي عبيدة حمص، وليزيد دمشق، ولشرحبيل الأردن، ولعمرو بن العاص فلسطين ؛ وبينما تدور معركة في بصرى -وجيوش المسلمين تتداعى إلى التساند- وصل خالد بن الوليد في كتيبة العراق، التي تضم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين استأثر بهم دون المثنى، ويجتمع في اليرموك -التي شهدتها كل الجنود الإسلامية- ستة وأربعون ألفًا، هي كل جند الشام، وكثرتها الكثيرة من عرب اليمن. فجيش خالد بن سعيد الذي تقسمه القواد: عكرمة وشرحبيل ومعاوية -كان يمنيًّا، وكذلك جيش الوليد وجيش عمرو بن العاص4، وأمداد عكرمة وذي الكلاع المكونة من الأزد ومذحج وطيئ وغيرها من قبائل اليمن، وكثرة كتيبة خالد بن الوليد التي كان فيها ألف من الأنصار من أهل بدر. أما جند يزيد بن أبي سفيان فهو ألف من أهل مكة. بينما لا نعلم شيئًا عن جند أبي عبيدة، وإن كان المظنون أنه من المهاجرين والأنصار. وعلى الرغم من هذا فإننا لا نجد أثرًا ولو ضئيلًا لتكتل هذه العصبية في شعر الفتح الإسلامي في الشام، فبذور العصبية التي عانَى منها المسلمون فيما بعد في هذه البلاد، وسيطرت فيها على مقدرات الحياة إلى نهاية الدولة الإسلامية لا يوجد لها أثناء عملية الفتح ظل ولو شاحب يدل عليها، ففضلًا عن انصهار هذه العصبيات في بوتقة العمل الموحد في سبيل الله والعقيدة الواحدة، وفضلًا عن التضامن تحت شعار الوحدة وإنكار الذات والتفاني في سبيل الهدف الأسمى، لم تكن هناك فرصة لظهور هذه العصبيات؛ إذا انعدم التوازن بينها، فالكثرة الكثيرة من أهل اليمن. وإذا كنا نعرف أن أهل اليمن ليسوا كأهل نجد والحجاز كلفا بالشعر ومعرفة به واستجابة له، فربما يفسر ذلك انعدام هذه الروح العصبية في الشعر، وسيزول عجبنا إذا ما عرفنا أن شعر الفتح الإسلامي في الشام ليس إلا ما خلفه جند خالد بن الوليد الذين رافقوه من العراق، وفيما عدا شعرهم لا نجد إلا قلة نادرة، إذا ما قورنت بشعر الفتح في العراق وفارس، وهذا يرجع إلى أنها كانت في جمهورها يمنية، ومعنى ذلك: أن القبائل اليمنية التي فتحت الشام جنت على الشعر في هذه المناطق، ووسمتها بالإجداب والضحالة، وجعلتها من بعد مهبطًا للشعراء الوافدين.
وحدث نفس الأمر في فتح مصر؛ إذ يجمع المؤرخون على أن الجيش الذي فتح مصر بقيادة ابن العاص كانت كثرته من أهل اليمن، من عك وغافق1، فضلًا عمن دخلوها معه ممن أسلم من عرب الشام قبل اليرموك ، وأولاد الأبناء اليمنيين الذين كانوا بصنعاء، ومسلمة الروم من بني ينة، وبني الزرق، وبني روبيل، ممن عرفوا بالحمراء، وكانوا قد أسلموا قبل اليرموك ، كما انضم إليه عرب سيناء من قضاعة، وبعد أن فصل عن العريش لحق به قوم من بني راشدة وقوم من لخم. وبهذا يشكل أهل اليمن نواة الجند الإسلامي في مصر، وتتابع الأمداد بعد ذلك. وإذا كان المؤرخون يختلفون حول هذه الأمداد وأعدادها فإنهم لا يذكرون شيئًا عن كيفية تصنيفها4. وبرغم هذا فإننا لو رجعنا إلى تسمية القبائل في الخطط التي نزلتها لاتضح لنا أن كثرتها من عرب اليمن5. ونعلم أن هذه القبائل لم تشترك جميعها في الفتح، وإنما وفدت كثرتها بعد أن استدعاها ذووها من الفاتحين. وتذكر بعض الروايات أن جموعًا كبيرة من هذيل قد دخلت مصر مع أمداد عمر لعمرو، وأنها نزلت في الحمراء الوسطى ، وقد تميز دخول المسلمين إلى مصر بمثل ما تميز به دخولهم إلى العراق، من تخطيط المدن وسكانها، ولم يرتضِ عمر أن يسكن عمرو وجنده الإسكندرية، حتى لا تتغير طباعهم العسكرية، وحتى لا يكون بينه وبينهم ماء، إذا أراد أن يركب راحلته حتى يقدم عليهم فعل، فتحول عمرو إلى الفسطاط.
وقد ساعد اشتراك كثرة الجند في أصول يمنية واحدة على عدم تشقيق الخصومات، فشحب لون القبلية، وبرزت نوازع جديدة، هي نوازع المدينة التي أفاءتها الحياة الجديدة في المدينة؛ إذ لم تستطع تحذيرات عمر ومحاربته لاتجاه الترف في البناء أن تحول دون تطورها، إلى أن تكون مدينة تامة لها ما للمدن من مرافق الحياة والعمران الذي عرف عن العرب من أهل الجنوب ، وقد ظل عرب اليمن غالبين على من سواهم في مصر زمنًا طويلًا، حتى إن عبد العزيز بن مروان قال لأبيه حين ولاه مصر: "كيف المقام ببلد ليس فيه أحد من بني أمي؟ " ، وكان نتيجة هذا أننا لا نكاد نجد صدى لأحداث الفتح الإسلامي لمصر في الشعر، بل لا نكاد نجد شعرًا في الحقيقة، وكل ما هنالك أبيات قليلة لبعض الهذليين، لا تكاد تصور جانبًا من جوانب الفتوح، ولا تكاد تكشف عن شيء من مشاعر الفاتحين، فبينما لم يفلح الشعر في الشام في إعطائنا صورة كاملة للفتوح كاد لا يوجد في مصر شعر يعطينا شيئًا ولو يسيرًا عن ظروف الفتح.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)