شعراء أنطقتهم الفتوح في العهد الراشدي:
أذكت الفتوح الإسلامية جذوة الشعر العربية، التي خبت حينًا، وقد وجدت وقودًا غذاها فذكت، وانطلق الشعر على ألسنة المحجمين من الشعراء المتحرجين، فقد فتحت لهم الفتوح أبوابًا كثيرًا يدلفون خلالها من قواقعهم، إلى حيث يمارسون التعبير عن ذواتهم، في ظلال فكرة الجهاد التي اجتذبهم لألاؤها فاندفعوا إلى الميادين؛ حيث وضعوا فروسيتهم وشاعريتهم في خدمة الفكرة الإسلامية. ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، فإن شعراء آخرين بدءوا يظهرون على مسرح الشعر، وإن كانت أدوارهم لا تسمو إلى أدوار الشعراء القدامى مع أن شعرهم أكثر فاعلية في أداء مهمة الشعر في المعركة، ويدهش الباحث أمام كثرة الشعراء من هذا القبيل، حتى ليخيل إليه أن الفاتحين جميعًا قد استحالوا شعراء في الفتوح، خاصة في الميدان الشرقي. وهؤلاء الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح ينقسمون في تصورنا قسمين؛
أولهما: طائفة من الشعراء المغمورين، الذين لم يذع لهم شعر فيما قبل اشتراكهم في المعارك، ولم يذع ذكرهم أيضًا قبل ذلك. وقد وجد هذا القبيل فرصته في الفتوح؛ إذ سارت بشعره الركبان، وسجل اسمه في ذاكرة العرب. وظهرت أسماء جديدة طالعتنا في كتب التاريخ والمغازي لا بريق لها ولا ألفة لدينا، كالأسود بن قطبة التميمي، والقعقاع بن عمرو، وأخيه عاصم، وحسان بن المنذر بن ضرار الضبي، والأعور العبدي الشني، ونافع بن الأسود بن قطبة التميمي، وضرار بن الخطاب، وعمرو بن مالك الزهري، وكثير بن الغريزة النهشلي، وغيرهم. وكان هؤلاء شعراء قليلي الحظ من الشهرة والذيوع، ولم يكن لهم في ماضيهم الفني رصيد يمكن لشخصياتهم الأدبية أن تبقى في الميدان نامية الجوانب، وأن يحافظ على ذواتهم من الانطماس والضياع، هذه المحافظة التي توفرت لشخصيات الشعراء القدامي. وبرغم هذا فإن دور هؤلاء الشعراء في شعر الفتوح هذ الدور الرئيسي، فكثرة الشعر الذي يروى في الفتوح ينسب إليهم. وقد عبروا عن ذواتهم، ومشاعرهم، وأحاسيسهم في المواقف المختلفة التي مرت بهم تعبيرًا بسيطًا، أصيلًا، حارًّا وصادقًا، ويلاحظ الدارس أن شعرهم مقطعات صغيرة متماسكة، تعبر عن موقف واحد، شأن شعر الفتوح كله، وتعتبر برغم قصرها هذا أكثر كمالًا وتماسكًا من غيرها من شعر الفتوح.
والقسم الثاني : من هؤلاء الشعراء يشكلون ظاهرة مهمة جديرة بإنعام النظر، وهم أولئك الشعراء الذين لم يكونوا في الأصل يرتبطون بالشعر في قليل أو كثير؛ ذلك أنهم لم يكونوا ينطمون الشعر أو يعنون به ولكنهم حملوا السلاح وخاضوا المعارك، فإذا بنفوسهم تفيض بالبيت أو بالبيتين أو بالمقطوعة القصيرة تسرية وتنفيسًا وحثًّا لنفوسهم وتحميسًا. وهؤلاء يمثلون السواد الأعظم من الفاتحين، وشعرهم ليس إلا استجابة حرة ، وطليقة لتجاربهم وتأثرهم بمواقفهم النفسية الحافلة بالمشاعر والعواطف. ولذا يغلب عليه الرجز العفوي الحار، الذي يصدر عنهم وهم يستقبلون خصومهم، وكأنهم يدقون طبول الحرب مشجعين لأنفسهم، أو هم يتنادون، كل ينادي قبيلته أو جماعته. وأكثر هؤلاء الفاتحين المعبرين عن أنفسهم من الجند العاديين، الذين لم يكن متوقعًا منهم أن يعبروا بالشعر عن أنفسهم، ولكنهم أمام روعة الأحداث، والتهاب المشاعر، وجيشان العاطفة لم يملكوا أن يصمتوا، ففاض الشعر على ألسنتهم صادرًا من وجدانهم في عفوية حارة وصادقة، وقد جنت على هؤلاء الشعراء وعلى شعرهم شخصيتهم المنكورة ، فاختلط بينهم شعر كثير. ولم ينسب إلى أصحابه قدر كبير منه، فإذا نحن أمام عبارات تتردد لا تحمل دلالة على الشاعر، وإن كانت تجعلنا نشعر أنه شعر شاعر من هؤلاء العاديين من الجند، كـ: قال أحد المسلمين، أو: قال أحدهم، أو: ارتجز راجز، وهكذا. ولحسن الحظ حفظت لنا الروايات أسماء بعض هؤلاء، من مثل: أبي أحيحة القرشي، وبشر بن ذريح الثعلبي، وعصام بن المقشعر، وبشر بن ربيعة، والأشعث بن عبد الحجر بن سراقة، وجندب بن عمار، وعلياء بن جحش العجلي، والأعرف بن العلم العقيلي، وغيرهم كثيرون. ولعل في أبناء الخنساء الأربعة، وما جاش على ألسنتهم من رجز دافئ في القادسية خير مثال لهؤلاء. وكذلك هؤلاء المحاربون الجرحى الذين اجتمعوا حول نخلة القادسية يناجونها وقد رقت مشاعرهم وهفت نفوسهم إلى أهليهم وديارهم شعرًا بسيطًا معبرًا، وإن ضاعت أسماء بعضهم، فيروى البيت الأول لبجير "كذا"، والآخر لرجل من تميم، والثالث لغيلان، أخي بن ضبة، وهكذا. وقد أدت ظروف القتال وتشابه ظروفهم وكثرتهم إلى انطماس شخصياتهم فيما يروى لهم من شعر، واختلاط نسبة المقطعات بينهم. فمثلًا يروي صاحب الأغاني مقطوعة رائعة، تفخر ببلاء صاحبها يوم القادسية على هذا النمط:
أنخت بباب القادسية ناقتي ... وسعد بن وقاص عليَّ أمير
وسعد أمير شره دون خيره ... وخير أمير بالعراق جرير
وعند أمير المؤمنين نوافل ... وعند المثنى فضة وحرير
تذكر هداك الله وقع سيوفنا ... بباب قديس، والمكر عسير
عشية ود القوم لو أن بعضهم ... يعار جناحي طائر فيطير
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة ... دلفنا لأخرى كالجبال تسير
ترى القوم فيها أجمعين كأنهم ... جمال بأجمال لهن زفير
وواضح أن هذه الأبيات لجندي من جنود القادسية، يفضل فيها جرير بن عبد الله البجلي على سعد بن أبي وقاص، ويشيد بالمثنى، وكأنه يزري بسعد. وتُروى هذه الأبيات لبشر بن ربيعة الخثعمي، صاحب جبانة بشر بالكوفة، وصديق عمرو بن معد يكرب ، ولكن صاحب الإصابة ينسب بعض هذه الأبيات إلى آخر يدعى: بشر بن ربيعة بن أبي رهم الجهمي ، ويروى البيت الأول منها لشاعر يدعى: بشر بن ربيعة بن منارة الخثعمي4، على حين ينسبها صاحب فتوح البلدان إلى بشر بن ربيعة الخثعمي، مضيفًا إليها عدة أبيات، في مطلعها تقول:
ألم خيال من أميمة موهنا ... وقد جعلت أولي النجوم تغور
ونحن بصحراء العذيب ودارها ... حجازية إن المحل شطير
ولا غرو إلا جوبها البيد في الدجى ... ومن دوننا رعن أشم وقور
ويضيف إليها ياقوت بعد البيتين الأولين هذا البيت:
فزارت غريبًا نازحًا جل ماله ... جواد ومفتوق الغرار طرير
كذلك يلاحظ الدارس أن جل هؤلاء الشعراء من النزاريين، وليس بينهم إلا فيما ندر عرب من أهل اليمن، وأنهم جند العراق وما وراء العراق في الغالب الأعم، وهذا أمر متوقع، فنحن نعرف للنزاريين طبعًا شعريًّا واستعدادًا متهيئًا للشعر، لا يتيسر لعرب الجنوب، مما جعل الشعر يتدفع على ألسنتهم كاستجابة تلقائية لما يحسون ويشعرون. وهناك شيء يلفت الدارس لفتًا، فإن بعض هؤلاء الذين انطلق الشعر على ألسنتهم ولم يكن لهم به عهد أو كلف أمراء مشهورون، وقواد عظام، لم نكن نتوقع إطلاقًا أن يعبروا عن أنفسهم هذا التعبير الفني، من مثل: خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، والمثنى بن حارثة، وجرير بن عبد الله، وطليحة بن خويلد، والربيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، والنعمان بن مقرن وأخيه نعيم، والأحنف بن قيس، وهاشم بن عتبة، وزهرة بن حوية، والحكم بن عمرو التغلبي، وسلمى بن القين، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وأبو ليلى بن فدكي، وغيرهم، وهم جميعًا قواد، أو أمراء للجند، أو أصحاب أمداد وألوية. فما إن يتوجه أحدهم على رأس لواء لفتح بلدة أو كورة حتى تجيش بنفسه مشاعر الفداء والتضحية، وما إن تسقط في يده حتى يستشعر مشاعر النصر والغبطة، فينطلق الشعر على لسانه في تعبير تلقائي بسيط، ولكنه يكشف عن ذاته وما يعتلج فيها من أحاسيس. وهكذا يخيل للدارس أن الفاتحين جميعًا قد استحالوا شعراء، حتى لم يبقَ أحد منهم لم يسهم في تصوير الفتوح الإسلامية. وسوف نرى نموذجين لشاعرين من شعراء الفتح، أحدهما شاعر قديم والآخر شاعر مغمور، خلقت منه الفتوح شاعرًا ناضجًا، حتى ليستحق أن يلقب بشاعر الفتح الإسلامي.




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)