الشعر: قصيد ، ورجز
نحن أحوج ما نكون هنا إلى أن نتذكر ما قدمنا من وصف لتحركات الجيوش، وعنف المقاومة وأهوال القتال، وما كان يشغل المحاربين من التحول الدائم والحركة الدائبة، وما كان يملأ نفوسهم من مشاعر الأمل والخوف والقلق والغبطة، وغير ذلك من إحساسهم بالوجل والاغتراب، وما يمكن أن يتعرضوا له أمام عدو باطش، في أرض بعيدة عن أرضهم وعن ذويهم. حقًّا كانت فكرة الجهاد تجذبهم بألقها، وتدفعهم إلى استرخاص أرواحهم في سبيلها، مؤمنين بنصر الله وبما وعدوا من الجنة وحسن المآب، ولكن العواطف الإنسانية المختلفة لا بد أن تثير فيهم هذه المشاعر، في مثل هذا الموقف الرهيب. ومهما كانت مشاغل الفاتحين واهتماماتهم عظيمة وضخمة، فإنها لا بد أن تضيق عن استنفاد مثل هذه المشاعر، ولا بد أيضًا لهذه المشاعر أن تجد منفذًا تتسرب خلاله طاقاتها، فيفرج عن الفاتحين بعض ما تزخر به جنباتهم، ويعبرون فيه عن هذه العواطف وتلك المشاعر. وقد استنفد التعبير الشعري كل هذه الطاقات النفسية واستوعبها؛ إذ انطلق الشعر على كل لسان، وقدمت الفتوح بانتشارها وتمددها لهؤلاء الفاتحين مادة هذا الشعر في أحداثها، وما تثيره من أحاسيس في هذه البيئات الجديدة، وما عانوا فيها من ابتعاد عن بيئتهم. وقام الشعر بهذه المهمة خير قيام، وإن طبع بطوابع أملتها عليه الظروف القاسية للمعارك وتلاحقها وعنفها، فاتسم بخصائص معينة في شكله ومضمونه. ومن اليسير أن نتتبع أنواع هذه المنظومات، وأن نجمعها في نوعين كبيرين من حيث الشكل الفني، وهما: القصيد والرجز. فمع أن الرجز ليس إلا وزنًا من أوزان الشعر، وليس له قالب مستقل بذاته، إلا أننا نميل إلى جعله نوعًا مستقلًّا من أنواع التعبير؛ لمخالفته للشعر في شكله العام، وفي اقتصاره على أبواب معينة وموضوعات بذاتها، فضلًا عن تميزه بدور كبير في ظروف القتال، لم يتسن للشعر، في التحميس ورفع روح المحاربين، إلى جانب أن الرجز لسهولته وقربه من السليقة العربية كان سبيل الشعراء المغمورين، الذين أنطقتهم الفتوح، وهم كثرة كثيرة. بينما كان شعر القصيد سبيل الممتازين من الشعراء، وإن كان لم يحتفظ بخصائص الشعر العربي التقليدية، فأضحى مقطعات قصيرة قليلة عدد الأبيات. وفي الحقيقة: إن شعراء الفتوح جميعًا قد خضعوا خضوعًا متماثلًا للطوابع التي طبعت بها الفتوح شعرهم جميعًا، ففضلًا عن تركز اهتماماتهم ونوازعهم في المسئولية الضخمة التي يحملونها، فإن ظروف القتال وقسوة الحياة تحت ظلال السيوف لم تكن لتعينهم على التنفس الغنائي الهادي، والتعبير الوجداني المنساب، في قصائد متأنية مديدة النفس. ولهذا كان تنفسهم سريعًا لاهثًا ومتلاحقًا، وخاطفًا ومحدودًا في مضمونه وفي شكله بطبيعة الحال، فاتخذ القريض شكل المقطعات القصيرة. واستتبع هذه الإحاطة بمقدمات القصائد التي تعتبر من أهم تقاليد الشعر العربي، الموروثة عن العصر الجاهلي، والتي ظلت تحكم الشعر ردحًا من الزمان، ولم تفلح الثورات الأدبية في الإطاحة بها بعد ذلك. ومهما كان رأي الباحثين في هذه المقدمات الطللية ، والغزلية من أنها ترتفع بالشاعر إلى بيئة شعرية رفيعة يخرج فيها عن أطوار الحياة الواقعية المادية إلى عواطف الحنين والشوق مما يعده للغناء ، فإن الشاعر كان يجد فيها بلا ريب متنفسًا للحديث عن ذاته، وإشباعًا لمنازعه الفردية، قبل أن يشغل بغرضه الذي كان ينصرف دائمًا إلى الفناء في وجدان القبيلة بحكم وضعه الاجتماعي. والأمر مختلف في الفتوح، فليس هناك ما يدعو إلى أن يختلق الشاعر في مقدمات قصيده، ما يكون مسربًا لفرديته؛ إذ ليس هناك حرج في أن يشيد الشاعر بذاته، ويعبر عن فرديته داخل إطار الجماعة الإسلامية تعبيرًا حرًّا، دون النجاء إلى المقدمات التي لا بد أن تشغله في مثل هذه الظروف المضطربة السريعة الأحداث عن التعبير المباشر. وكما تخفف شعر الفتح من المقدمة الغزلية والطللية تخفف بالضرورة من النظام التقليدي للقصيدة الذي ساد في الشعر العربي، وأوصى نقدته باتباعه والتمسك به قرونًا. هذا النظام الذي يوجب تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة، فتبدأ بذكر الأطلال، ثم ينتقل الشاعر منه إلى النسيب فوصف رحلته وما يعترضه فيها، ويصف ناقته إلى تقله، ويشبهها بما يشاء من الحيوان، حتى يصل إلى غرضه من المدح أو غيره. وذهب بعض نقاد العرب مذهبًا متعسفًا في تعليل حسن هذا النظام والدعوة إليه من ثم والتوصية بالتمسك به والمحافظة عليه، ففى رأيهم أن مقصد القصيد إنما ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع والدمن والآثار؛ ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها؛ إذ كانت نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر؛ لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الشوق والصبابة؛ ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، ويستدعي به إصغاء السامح إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، أو ضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه والاستماع عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب، والسهر، وسرى الليل، وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير بدأ في المدح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل ؛ ومن ثم يلزم هؤلاء النقاد الشعراء بأن يسلكوا تلك الأساليب لا يتعدونها، وأن يعدلوا بين أقسامها، ولكن أنَّى للشاعر المحارب في أي زمان ومكان أن يصنع هذا، وأن يزيف مشاعره بهذه الصورة المعقدة، وهي على طرف لسانه يريد أن يلقي بها تلقائيًّا وبطريق مباشر، دون أن يجعل بينه وبين غرضه الملح هذه الحواجز المتدرجة، وتلك المراحل المتسلسلة.
إن الشاعر المجاهد ليريد -قبل أن يشعر أنه يريد- أن ينفض ما بنفسه ابتداء دون تقيد بتقاليد أو تمسك بنظم في التعبير، إلا ما يفرضه طبيعة الإحساس النفسي، والحالة الشعورية التي تتقمصه. ولهذا فلن نجد بين شعر الفتح كله قصيدة واحدة، تزيد أبياتها عن عشرة أبيات، ولن نجد قصيدة تشتمل على أكثر من غرض واحد إلا فيما ندر، فكل مقطوعة تستقل بموضوع واحد يعبر عنه الشاعر هذا التعبير المندفع السريع. وأدى هذا إلى جانب انطلاق الشعر على ألسنة الكثيرين من الفاتحين العاديين إلى أن يكثر الرجز، وأن ينفك عن وظيفته التي كانت له في الجاهلية كأداة للتحميس، وشحذ القوى وإلى أن يشارك القصيد في التعبير عن بعض موضوعاته التي تخرج عما ألفه الرجز في الجاهلية من الحرب والمفاخرة والحداء، فكاد يكون قسيم الشعر القصائدي، وإن ظل في شكله ومضمونه لا ينم عن إعداد أو عناية؛ نتيجة قربه من السليقة الفطرية للعرب، وارتجاله في المواطن المختلفة، وإن ظلت له نفس المهمة في التحميس. وسوف نرى أنه لم يقصر عن خوض الموضوعات التي خاضها الشعر إلا في القليل الذي لا يتفق وإيقاعه العنيف.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)