موضوعات قديمة متطورة في شعر الفتوح الراشدي
تغنَّى الشعر كما تغنَّى الرجز بموضوعات بعضها قديم تداوله الشعر العربي على اختلاف عصوره كالحماسة والرثاء، وبعضها الآخر جديد، لم يعهده الشعر العربي قبل الفتوح. فشعر الجهاد وإن جال في تصوير ظروف الفتح الجديدة فإننا لا نستطيع أن نعده بابًا جديدًا من أبواب الشعر، وكذلك الرثاء؛ إذ إن لهما جذورًا في الشعر العربي ثابتة، وغاية الأمر أن هذه الظروف الجديدة قد كست هذين اللونين من الشعر صبغًا جديدًا فتطورًا قليلًا، وإن دلا على تأثرات جديدة؛ فإن أصلهما واضح جلي في الشعر العربي. ونعني بشعر الجهاد ذلك الشعر الذي يهدف إلى الإشادة بما كان من إقدام الجند أو الكتيبة أو الشاعر، أو صديق له أو زميل، أو قائده أو عدوه. وعن كل هذه الطرق يعبر الشاعر عن قسوة المعارك، وضراوة القتال، وشدة اللقاء، وما كان يحدث في أثناء المعارك من إقدام أو إحجام، وما قد تنتهي إليه من نصر أو هزيمة، وما يكون بعد ذلك من فخر أو تصميم على الثأر والانتقام، بينما قد يكون تصوير المعارك وما تشتمل عليه طريقًا إلى الإشادة بالنفس أو بالغير، وهكذا. وهذا الموضوع هو أكثر موضوعات الشعر التي بين أيدينا ترددًا واتساعًا، ومن أمثلة هذا الشعر الذي يشيد ببلاء الجماعة الإسلامية وبسالتها وإيقاعها بالعدو قول خليد بن المنذر في يوم طاوس:
بطاوس ناهبنا الملوك وخيلنا ... عشية شهراك علون الرواسيا
أطاحت جموع الفرس من رأس حالق ... تراه كموار السحاب مناغيا
فلا يبعدن الله قومًا تتابعوا ... فقد خضبوا يوم اللقاء العواليا
وقد يجعل الشاعر تصوير المعركة سبيلًا إلى تصوير بلائه والإشادة بنفسه، كقول نعيم بن مقرن قائد المسلمين في وقعة واج روذ بهمذان، التي تصدى فيها "لموتا" قائد الفرس ونكل به تنكيلًا، قال:
ولما أتاني أن "موتا" ورهطه ... بني باسل جروا جنود الأعاجم
نهضت إليهم بالجنود مساميا ... لأمنع منهم ذمتي بالقواصم
فجئنا إليهم بالحديد كأننا ... جبال تراءى من فروع الغلاسم
فلما لقيناهم بها مستفيضة ... وقد جعلوا يسمون فعل المساهم
صدمناهم في واج روذ بجمعنا ... غداة رميناهم بإحدى العظائم
فما صبروا في حومة الموت ساعة ... لحد الرماح والسيوف الصوارم
كأنهم عند انبثاث جموعهم ... جدار تشظى لبنه للهوادم
أصبنا بها "موتا" ومن لف جمعه ... وفيها نهاب قسمة غير عاتم
تبعناهم حتى أووا في شعابهم ... نقتلهم قتل الكلاب الجواحم
كأنهم في واج روذ وجوه ... ضئين أصابتها فروج المخارم
وقد يشيد الشاعر بنفسه مباشرة، فيصور شجاعته وبأسه وفعاله بالعدو وتفريجه كرب المسلمين، كما فعل عروة بن زيد الخيل الطائي، فقال في معركة نهاوند:
ألا طرقت رحلي وقد نام صحبتي ... بإيوان شيرين المزخرف خلتي
ولو شهدت يومي جلولاء حربنا ... ويوم نهاوند المهول استهلت
إذن لرأت ضرب امرئ غير خامل ... محيد بطعن الرمح أروع مصلت
ولما دعوا يا عروج بن مهلهل ... ضربت جموع الفرس حتى تولت
دفعت عليهم رحلتي وفوارسي ... وجردت سيفي فيهم ثم آلتي
وكم من عدو أشوس متمرد ... عليه بخيلي في الهياج أظلت
وكم كربة فرجتها وكريهة ... شددت لها أزري إلى أن تجلت
وقد أضحت الدنيا لدي ذميمة ... وسليت عنها النفس حتى تسلت
وأصبح همي في الجهاد ونيتي ... فلله نفسي أدبرت وتولت
فلا ثروة الدنيا نريد اكتسابها ... ألا إنها عن وفرها قد تجلت
وماذا أرجى من كنوز جمعتها ... وهذي المنايا شرعًا قد أطلت
وقد يعمد الشاعر إلى وصف بلاء قائده ومقدرته وبراعته في سياسة جنده وفتكه بأعدائه، كقول أحد المسلمين في جيش المثنى؛ إذ يقول في يوم سوق الأنبار:
وللمثنى بالعال معركة ... شاهدها من قبيلة بشر
كتيبة أفزعت بوقعتها ... كسرى وكاد الإيوان ينفطر
وشجع المسلمين إذ حذروا ... وفي ضروب التجارب العبر
سهل نهج السبيل فافتقروا ... آثاره والأمور تقتفر
وقد يعمد الشاعر إلى تصوير قوة الأعداء وثباتهم؛ ليتخذ ذلك سبيلًا إلى الفخر بنفسه وبكتيبته، مثل قول عاصم بن عمرو يوم المقر:
ألم ترنا غداة المقر فينا ... بأنهار وساكنها جهارا
لقينا من بني الأحرار فيها ... فوارس ما يريدون الفرارا
قتلناهم بها ثم انكفأنا ... إلى فم الفرات بما استجارا
هذه نماذج لشعر الجهاد، وهي في مجموعها لا تخرج عن فني الفخر والمدح الجاهليين. فالشاعر إذا أشاد بنفسه أو بقبيلته أو بكتيبته فإنما يفخر بها، شأنه في ذلك شأن أي شاعر جاهلي. وإذا أشاد بقائده أو زميله فإنما هو يمدحه، كأي شاعر جاهلي، ولكن -برغم هذا- هناك فرق كبير. فشعر الجهاد برغم كونه فخرًا إلا أنه يكتسي هذا الصبغ الإسلامي، الذي يتجلى في بروز فكرة الجهاد، التي وهبها الشاعر بلاءه وكفاحه. وهو حينما يعلن أنه قد أصبح همه في الجهاد يفترق عن الشاعر الجاهلي، الذي كان يفخر بالثأر والانتقام للقبيلة. وشاعر الجهاد وإن ظل شعره يتسم بسمات الفخر فهو فخر يختلف عن الفخر الجاهلي؛ إذ يصور فيه الشاعر إيمانه بقضية الجهاد ذاتها، كما رأينا لدى عروة بن زيد الخيل الذي يفخر بتفريج كرب المسلمين وكشف الأهوال عنهم، ويعلن في نفس اللحظة أنه ارتضى الجهاد سبيلًا، دون أن يكون له رغبة في زينة الدنيا وزخرفها، فقد باع كل شيء فيها بثواب الله، برغم ما تدفعه الدنيا إليه وإلى غيره من المجاهدين من كنوزها، فلا يغريهم كل هذا؛ لأنهم في سبيل الله وحده. وما قيمة الدنيا والمنايا فاغرة أفواهها محدقة بهم من كل جانب. وشيء آخر يختلف فيه شعر الجهاد عن الفخر الجاهلي، الذي أساسه القبلية والعصبية، فإن شعر الجهاد يقوم أساسًا على الوجدان الجماعي لجماعة المسلمين، في حين يشحب الفخر القبلي في شعر الفتوح شحوبًا واضحًا. وقد شغل الرجز بموضوع القديم؛ إذ كان له دور كبير في القيام مقام الموسيقى العسكرية في الجيوش الحديثة، من التحميس والتعبئة الروحية للجند. فهذا عمرو بن العاص في اليرموك يرى بعض المسلمين من لخم وجذام ينحرفون عندما ضغط جرجه في انضمامه إلى المسلمين مفاجأة فيدعوهم عمرو إلى مواصلة الجلاد، ويهددهم تهديدًا عاطفيًّا رائعًا في هذين البيتين؛ حيث يقول:
القوم لخم وجذام في الهرب ... ونحن والروم نموج ونضطرب
فإن تعودوا بعدها لا نصطحب ... بل نعصب الفرار بالضرب الكلب
وقد عبر الرجز في هذا المقام عن الانفعالات السريعة المتدفقة في نفوس الأبطال، وكان حافزًا لهم على الإقدام والاستمرار في النضال والفداء. فهذا أحد عشرة إخوة من بني كاهل من أسد يشيد بضرابه وطعانه يوم القادسية، وقد سبقه إلى الشهادة إخوته فيقول:
أنا ابن حرب ومعي مخراقي ... أضربهم بصارم رقراق
أذكره الموت "أبو إسحاق" ... وجاشت النفس على التراقي
وهذا أحد جند المسلمين، يرى القائد الفارسي خرزاد يفر أمام المسلمين فيقول مفتخرًا بهم:
وآل منا الفارس الحذرة ... حين لقيناه دوين المنظرة
بكل قباء لحوق مضمرة ... بمثلها يهزم جمع الكفرة
وهذا طليحة بن خويلد، يضرب الجالينوس فيقد مغفره، فيقول:
أنا ضربت الجالينوس ضربه ... حين جهاد الخيل وسط الكبه
وهذه امرأة رجل يُدعى حنبص بن الأحوص، ترى فعال زوجها، فتتمنى أن يكون قومها جميعًا مثله فتقول:
يا ليت قومي كلهم حنابصة ؛ وهذا رجل في جيش البراء بن عازب، في غزاة قزوين، يمجد بطولة قائده وكتيبته، وما لاقت من صنوف العنت والمشاق فيقول:
قد تعلم الديلم إذ تحارب ... لما أتى في جيشه ابن عازب
بأن ظن المشركين كاذب ... فكم قطعنا في دجى الغياهب
من جبل وعر ومن سباسب
هكذا ينطبع رجز الجهاد بنفس الطابع الذي رأيناه لشعر الجهاد، فيختلف عن الرجز الجاهلي، الذي كان يقوم على إثارة النعرات والتحميس للثأر والانتقام، فإذا هو أداة لتعبئة الروح المعنوية للمجاهدين في سبيل الله تعبئة روحية. فهذا الفارس تبلغ روحه الحلقوم في سبيل الله. وهذا يفخر بكتيبته التي يهزم بمثلها جمع الكفرة. وآخر يعلن أن ظن المشركين كاذب؛ إذ جاءهم المسلمون كأقدارهم.
والموضوع الثاني : من الموضوعات القديمة في شعر الفتح هو الرثاء، وهو غرض مستقل من أغراض شعر الفتح مقصود لذاته، وهو كشعر الجهاد تمجيد لبطولة الذين استشهدوا، وإشادة بفعالهم، ومواقفهم، والبكاء عليهم، وافتدائهم، وتعداد مآثرهم, وهو وإن كان يتفق مع الرثاء الجاهلي فيما يشيع فيه من الحزن والأسى، وما يغلب عليه من استشعار الأسف والجزع على الفقيد، فإنه يختلف عنه فيما يمتلئ به من روح التسليم بالقضاء، والامتثال لإرادة الله وحسن تقبلها، وتمثل ما أعده الله للشهداء من جزاء عظيم، كهذا الاستسلام الذي يبدو في رثاء أبي عامر بن غيلان لولده، الذي خرج غازيًا وأدركه طاعون عمواس؛ إذ يترجم الآية الكريمة: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان} [الرحمن: 26] في قوله:
عيني تجود بدمعها الهتان ... سحا وتبكي فارس الفرسان
لو أستطيع جعلت مني عامرا ... تحت الضلوع وكل حي فان1
وكهذا التسليم الذي يشيع في رثاء أبي الحباب -ذريح بن الحارث- لولده الذي استشهد في قتال الفرس، فيشبهه بالشهاب الذي خمد، ويشيد ببلائه في القتال، وانعدام نظيره في الفرسان إلى يوم الدين، لكنه يعود إلى اليقين بأن لكل أجل كتاب فيقول:
أبغي الحباب في الجهاد ولا أرى ... له شبها ما دام لله ساجد
وكان الحباب كالشهاب حياته ... وكل شهاب لا محالة خامد2
ويتجلى هذا التسليم بقضاء الله في صورة رائعة في قصيدة أبي ذؤيب الهذلي، الذي فقد بنيه الخمسة في طاعون بمصر؛ إذ يبكيهم بكاء مرًّا، مظهرًا أسفه البالغ على فقدهم، ويذكر حمايته لهم ودفاعه عنهم، ولكنه لم يجد شيئًا أمام مناياهم التي حمت، فيقول:
أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعقب من يجزع
أودى بنيّ وأعقبوني حسرة ... بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
فغبرت بعدهم بعيش ناصب ... وإخال أني لاحق مستتبع
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... فإذا المنية أقبلت لا تُدفَع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
لا بد من تلف مقيم فانتظر ... فبأرض قومك أم بأخرى المصرع
ولقد أرى أن البكاء سفاهة ... ولسوف يولع بالبكا من يفجع
ولتأتين عليك يوم مرة ... يبكي عليك مقنعًا لا تسمع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
فمدافعة المنون عبث، والجزع أمام صروف الدهر لا قيمة له، وعلامَ يجزع وهو لاحق بهم لا محالة؟! فليس أحد بخالد، وقد حاول الدفاع عنهم وضاعت جهوده سدى، فالمنايا لا تدفع، ولكل إنسان مصرع لا يعلم زمانه ولا مكانه والبكاء سفاهة؛ إذ لا قيمة له، والباكي سوف يُبكى عليه يومًا ما. وفضلًا عن هذه الروح الإسلامية نجد اعتزازًا كبيرًا بما أعده الله للشهداء من ثواب وأجر، كما في قول من رثَى شهداء المسلمين الذين دفنوا في القادسية بمشرق؛ إذ قال:
جزى الله أقوامًا بجنب مشرق ... غداة دعا الرحمن من كان داعيا
جنابًا من الفردوس والمنزل الذي ... يحل به م الخير من كان باقيا2
ولعلنا لا نجد في الشعر العربي قصائد كثيرة تشبه القصيدة الرائعة التي رثى بها كثير بن الغريزة النهشلي الذي كان بجيش الأقرع بن حابس التميمي شهداء جوزجان والطالقان، ورثى بها نفسه رثاء رائعًا، يذكرنا بقصيدة مالك بن الريب في فتح خراسان، وهي تجري على هذا النمط:
سقى مزن السحاب إذ استقلت ... مصارع فتية بالجوزجان
إلى القصرين من رستاق خوط ... أقادهم هناك الأقرعان
وما بي أن أكون جزعت إلا ... حنين القلب للبرق اليماني
ومحبور برؤيتنا يرجى الـ ... ـلقاء ولن أراه ولن يراني
ورب أخ أصاب الموت قلبي ... بكيت ولو نعيت له بكاني
دعاني دعوة والخيل تردى ... فما أدري باسمي أم كناني
فكان إجابتي إياه أني ... عطفت عليه خوار العنان
وأي فتى إذا ما مت تدعو ... يطرف عنك غاشية السنان
فإن أهلك فلم أك ذا صدوف ... عن الأقران في الحرب العوان
ولم أدرج لأطرق عرس جاري ... ولم أجعل على قومي لساني
ولكني إذا ما هايجوني ... منيع الجار مرتفع البنان
ويكرهني إذا استبسلت قرني ... وأقضي واحدًا ما قد قضاني
فلا تستبعدا يومي فإني ... سأوشك مرة أن تفقداني
ويدركني الذي لا بد منه ... وإن أشفقت من خوف الجنان
وتبكيني نوائح معولات ... تركن بدار معترك الزمان
حبائس بالعراق منهنهات ... سواجي الطرف كالبقر الهجان
أعاذلتي من لوم دعاني ... وللرشد المبين فاهدياني
وعاذلتي صوتكما قريب ... ونفعكما بعيد الخير وإن
فردا الموت عني إن أتاني ... ولا وأبيكما لا تفعلان
فالشاعر جزع على هؤلاء الشهداء، الذين لاقوا مصارعهم في هذه البلاد النائية، وزاد في جزعه أيضًا أنه يحن وقد رأى ما رأى إلى موطنه وإلى من خلفهن في العراق، وهو يشعر بأنه لن يلقاهن، ويتضاعف حنينه وفزعه عندما يقابل بين ما حدث لهؤلاء الفتيان وما يمكن أن يحدث له هو الآخر، فليس هناك فرق بين أن ينعى إليه أخ أو أن ينعى هو إليه. وماذا يمكن أن يفيده الجزع وقد قام بواجبه على أتم وجه، وأدى ما استطاع، وقدم كل ما يملك لهذا الأخ الذي استنجد به في المعركة في بسالة لا نظير لها، فلا ضير إذا هلك، فهو شجاع لا يجبن عن ملاقاة الأقران، عفيف لم يمتد طرفه إلى عرس جاره، ولم يؤذِ أحدًا من قومه، وهو منيع الجار، لا يقبل الضيم، وإذا أهيج يكرهه خصمه إذا لاقاه لصلابته وفتكه، وهو الآن يشعر بدنو أجله، ويحس أنه عما قريب مفتقد، فسوق يدركه الموت الذي لا مفر منه، ولن يشفع له حبه الحياة، وآنذاك سوف تعول نائحات ساجيات الطرف عليه في العراق. ألم يأنِ لعاذلتيه أن تكفا عن لومه؟ وأن تهدياه إلى الطريق القويم إن استطاعتا؟ وأن تردا عنه الموت لو تأتى لهما؟ ولكن هذا محال. وبهذا الاستبطان والتأمل الذاتي فلسف الشاعر موقفه من الموت، وجعل من رثاء شهداء الطالقان موضوعًا إنسانيًّا كبيرًا، وإن شاع في نهاية هذه الفلسفة نفس الروح الإسلامية، في التسليم بالقدر والاستسلام للقضاء. وشاعت نفس هذه المعاني في الرجز، فطبعته طوابع إسلامية؛ كالإيمان بأحقية الموت، والثقة بالله، والتسليم بقضائه.
فهذا أخو بني كاهل يرثي نفسه وينعيها إلى أخيه، ويدعوه إلى أن يصبر في لقاء عدوه، وكأنه يستخلفه مكانه، فيقول:
وجاشت النفس على التراق ... صبرا عفاق إنه الفراق
وهذا الأعور بن قطبة يستشعر شعورين متضاربين من الغبطة والحزن في لحظة واحدة يوم أغواث ، فقد قتل أخوه قائدًا من قواد الفرس، ولكن هذا القائد طعنه قبل أن يسقط، فهو فرح لأن أخاه أبلى هذا البلاء، ولكنه حزين لفقد أخيه البطل فيقول:
لم أرَ يومًا كان أحلى وأمر ... من يوم أغواث إذا افتر الثغر
من غير ضحك كان أسوى وأبر
وهكذا نجد هذين الموضوعين القديمين يتطوران في شعر الفتح؛ إذ يتطور الفخر القبلي الذي يقوم على التفاخر بالأحساب والعصبيات والنعرات إلى شعر يفخر فيه
المجاهد ببلائه وبطولته في سبيل فكرة الجهاد من أجل العقيدة التي يؤمن بها، ويتعدى ذلك إلى استشعار الشاعر وجدانًا جماعيًّا لجماعة المسلمين يصدر عنه في شعره، سواء تغنى به أو تغنى بفرديته كعضو في إطاره، ويشيع في هذا الموضوع كثير من معاني الفداء والإيمان بنصر الله للمؤمنين على أعدائهم الكافرين، كما يشيع فيه إخلاص للفكرة، ورفض لكل شيء من الدنيا يشغل عنها.
وقد قاسم الرجز الشعر هذه المعاني أيضًا، وتطور شعر الرثاء الجاهلي هو الآخر، من إشادة بالفقيد وكرمه وشرفه والجزع عليه إلى الإيمان بالموت ووجوبه والتسليم به، والصبر على قضاء الله، واستشعار ما أعد للمجاهدين والشهداء في سبيله من الأجر والثواب، فضلًا عن الإشادة ببطولة الشهيد، وما قدم في سبيل الله من تضحيات، وشارك الرجز في هذه المعاني ذاتها، وإن كان ذلك في صورة ضيقة؛ إذ إن نصوص الرجز في الرثاء قليلة جدًّا. وإلى جانب هذين الموضوعين التقليديين استجدت موضوعات أخرى سجلها شعر الفتوح، وآثرنا أن نفردها وحدها؛ لأنها كانت نتيجة لاحتكاك الفاتحين ببيئات جديدة. وقبل أن نعرض لها نرى أن نعرض للون جديد من ألوان الرثاء استجد في الشعر الذي قيل في الفتوح، وهو لون طريف لم يعرفه الشعر العربي من قبل، ذلك أن بعض المجاهدين راحوا يرثون أعضاءهم وأشلاءهم التي فقدوها في المعارك في صورة رائعة، تمتلئ بالشجاعة والبسالة وإظهار الشدة والاحتمال والبأس، واحتساب هذه الأعضاء والفخر ببذلها في سبيل الله، والاستهانة بفقدها أمام ما أفقدت العدو من أرواح وأعضاء. ومن بين هذه الصور الرائعة التي يصور فيها عبد الله بن سبرة الجرشي احتسابه يده عند الله، مشيدًا بما فعلته هذه اليد في سبيله، فقد قتلت أرطبون الروم، في مبارزة فقدت فيها يوم فلطاس فقال:
ويل أم جار غداة الروع فارقني ... أهون على به إذا بان فانقطعا
يمنى يدي غدت مني مفارقة ... لم أستطع يوم فلطاس لها تبعا
وما ضننت عليها أن أصاحبها ... ولقد حرصت على أن نستريح معا
وقائل غاب عن شأني وقائلة ... هلا اجتنبت عدو الله إذ صرعا
وكيف أتركه يسعى بمنصله ... نحوي وأعجز عنه بعدما وقعا
ما كان ذلك يوم الروع من خلقي ... ولو تقارب مني الموت فاكتنعا
يمشي إلى مستميت مثله بطل ... حتى إذا أمكنا سيفيهما قطعا
حاسيته الموت حتى اشتف آخره ... فما استكان لما لاقى ولا جزعا
فإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا
وإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فإن فيها بحمد الله منتفعا
بنانتين وجرموزا أقيم بها ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا
فهو يرثي يديه، وكأنها إنسان عزيز فقده وفارقه، وقد حَرَصَ على أن يتبعها، ولكنه لم يستطع، لا ضنا بنفسه على الموت ولا جبنا، كهؤلاء الذين يلومونه على تعرضه للبطل الرومي، ويتمنون له أن يتجنبه، وهو يسعى بسيفه نحوه، فهل يعجز بعدما كان من بروزه ويرتد مذعورًا أمامه؟ وهل يليق هذا ببطل مثله؟ وأمكنا سيفيهما، وراح الشاعر يسقيه كأس الموت حتى آخره، وثبت البطل، ولم يجزع حتى صرع قرنه وفقد يده. ولكن هذه اليد التي قُطعت قد قَطعت أوصال خصمه، وإن يكن خصمه قطعها، فإن لم يفسدها كلها، فقد بقيت فيها منافع، فله بنانتان وجرموز تمكنه من الحفاظ على المسلمين، حينما يأنسون جزعًا. وبهذه الصورة الرائعة وأمثالها سجل الشعراء والرجاز رثاءهم لأعضائهم التي فقدوا، فهذا علباء بن جحش العجلي، يطعنه فارسي في بطنه فيبقرها ويخرج أمعاءه، فإذا به ثابت الجنان يدفع بأمعائه إلى بطنه، وهو يرتجز بكلماته الأخيرة:
أرجو بها من ربنا ثوابا ... قد كنت ممن أحسن الضرابا
وهذا أخو بني كاهل، وقد قطع أحد فرسان العدو رجله، فراح يحتسبها عند الله، مستهينًا بها قائلًا:
صبرًا عفاق إنها الأساوره ... صبرًا ولا تغررك رجل نادره
وهذا حياض بن قيس القشيري، يرثي رجله، حتى ليعرف يناشد رجله، فيفخر به سوار بن أوفى في قوله:
ومنا ابن عتاب وناشد رجله ... ومنا الذي أدى إلى الحي حاجبا
وكان حياض هذا قد ضربه أحد الروم في اليرموك فقطع رجله، فقال متوهمًا الروم أساورة يخاطب فرسه:
أقدم حذام إنها الأساورة ... ولا تغرنك رجل نادره
أنا القشيري أخو المهاجرة ... أضرب بالسيف رءوس الكافرة
وذكر بعض الشعراء مثل هذا مما فعلوه بالعدو. فهذا علقمة بن الأرث، يتحدث عن الأكف والأسواق التي أطاحها المسلمون من الروم في يوم فحل فيقول:
وكم من قتيل أرهقته سيوفنا ... كفاحًا وكف قد أطيحت وأسوق
وجلي أن هذا اللون يغلب عليه طابع إسلامي بصورة ظاهرة، في معانيه وألفاظه وما يشيع فيه من روح الفداء والتضحية والاحتساب، في مقابل ما أعده للمجاهدين من حسن الثواب. وخلاصة القول: إن شعر الجهاد فارق الحماسة الجاهلية، في التخفف من كل ما حظره الإسلام من الغزل المحسوس، والتغني باللهو والعبث والشراب، ولم يعد تفاخرًا بالشجاعة في الثأر والانتقام والإغارة، وإنما أصبح تفاخرًا بالبطولة، والتفاني في الجهاد في سبيل الله، الذي يظهر فيه إيمان الشاعر بالعقيدة التي دفع عنها إيمانًا عميقًا، يستشرف فيه الشاعر مغانم أخروية وعده الله بها، ويصدر فيه عن روح الجماعة الإسلامية، التي كادت تذوب داخلها القبليات والنعرات الجاهلية، كما يصدر فيه عن نفسه كعضو في هذه الجماعة واضح الشخصية متميزها، يؤدي واجبًا يشعر بقداسته ويؤمن بدواعيه. وكذلك اختلف شعر الرثاء في الفتوح عن الرثاء التقليدي، فيما شاع فيه من آثار التعاليم الدينية ومظاهر الإيمان بالموت والاستبشار بالجنة، فضلًا عن هذا اللون الجديد من الرثاء الذي بكى فيه المسلمون أشلاءهم بكاء جديدًا، يظهرون فيه الاستهانة بما فقدوا في سبيل الله. ويلف الرثاء بلونيه التقليدي والمستحدث إطار إسلامي جلي، وإشارات واضحة إلى الجنة والثواب والأجر الذي أعده الله للشهداء والمجاهدين.



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)