الموضوعات الجديدة في شعر الفتوح الراشدي
هذه الموضوعات الجديدة التي عبر عنها شعر الفتح نتيجة طبيعية لحياة الفاتحين في بيئة جديدة عنهم وبعيدة عن أوطانهم. وأول هذه الموضوعات ما نسميه بشعر الحنين، ونعني به ذلك الشعر الذي يعبر عن أشواق الشاعر التي كانت تملأ جوانبه، وعن المواجع التي كانت تلذع كبده، نتيجة بعده عن وطنه، عندما يتذكر مرابعه الأولى فيحن إليها، ويذكر أهله الذين فارقهم، ويتمنى لقاءهم فيشكو بعده واغترابه عنهم، كهذا المجاهد الذي يشكو غربته إلى قمرية خالها غريبة مثله في مرو الشاهجان فقال:
أقمرية الوادي التي خان إلفها ... من الدهر أحداث أتت وخطوب
تعالي أطارحك البكاء فإننا ... كلانا بمرو الشاهجان غريب
وكما يسكب الشاعر الغريب عواطفه على الطيور ويشكو إليها همومه يفزع إلى طبيعة دياره التي خلفها وراءه، عندما يعاني من قسوة أجواء هذه المناطق النائية وبردها وثلجها، فيتحسر على دفء موطنه، كهذا الشاعر الذي راح يذم جو مرو، ويتمنى جو العراق في بره وبحره؛ إذ يقول:
وأرى بمرو الشاهجان تنكرت ... أرض تتابع ثلجها المذور
أسفي على بر العراق وبحره ... إن الفؤاد بشجوه معذور
وإن كان هذا الشاعر يذم برد مرو شوقًا إلى دفء العراق، فإن شاعرًا آخر من الفاتحين يضيق بقيظ بعض المناطق البعيدة الأخرى عن وطنه، ويتنسم برد رياح نجد، وطيب مناخه، ضائقًا بغربته بين أناس ليسوا من قومه ولا من عشيرته ولا من لسانه، فيقول:
أتبكي على نجد وريا ولن ترى ... بعينيك ريا ما حييت ولا نجدا
ولا مشرفا ما عشت أقفار وجرة ... ولا واطئًا من تربهن ثرى جعدا
ولا واجدًا ريح الخزامي تسوقها ... رياح الصبا تعلو دكادك أو وهدا
تبدلت من ريا وجارات بيتها ... قرى نبطيات يسمينني مردا
ألا أيها البرق الذي بات يرتقي ... ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا
ألم ترَ أن الليل يقصر طوله ... بنجد وتزداد الرياح به بردا؟
وأخذ الشعور بالغربة على الفاتحين يتصور صورًا مختلفة، فنجد يقصر الليل فيه وتزداد رياحه بردًا، ولكنه في غربته يزداد طولًا وقيظًا. وهذا ورد بن الورد في رامهرمز يحن إلى حبيبته ودياره في بني كعب، فيصور فؤاده مصعدًا مع المصعدين إلى أرض الوطن، ولا يجد خيرًا في الدنيا إذا لم يزر فيها حبيبه فيقول:
أمغتربا أصبحت في رامهرمز ... ألا كل كعبي هناك غريب
إذا راح ركب مصعدون فقلبه ... مع المصعدين الرائحين جنيب
وإن القليب الفرد من أيمن الحمى ... إلى وإن لم آته لحبيب
ولا خير في الدنيا إذا لم تزر بها ... حبيبًا ولم يطرب إليك حبيب
وراح بعض الشعراء يبكون حظهم الذي ألقى بهم إلى هذه المناطق النائية، حتى ليضيقون بالقتال والحرب فيها، ويصرحون بهذا في شعرهم، كما فعل هذا الجندي الذي يقول:
تبدلت من نجد وممن يحله ... محله جند ما الأعاريب والجند؟
وأصبحت في أرض الجنود وقد أرى ... زماني بأرض لا يقال لها بند
ويستبد الحنين بالشاعر فينظر ناحية نجد، برغم أنه لا يرى شيئًا، ولكنه ينظر حنينًا إليها وإلى خيامها التي يقصر عنها الطرف، وبرغم ألا نفع في نظره فلا يزال ينظر، ثم تجري عبراته تتحدر هكذا كل يوم، وهكذا لا يستريح قلبه، فإما مجاهد في غزاة، أو ناء يتذكر يقول:
أكرر طرفي نحو نجد وإنني ... برغمي وإن لم يدرك الطرف أنظر
حنينًا إلى أرض كأن ترابها ... إذا أمطرت عود ومسك وعنبر
بلاد كأن الأقحوان بروضه ... ونور الأقاحي وشى برد مجير
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطرف يقصر
وما نظري في نحو نجد بنافع ... أجل لا، ولكني إلى ذاك أنظر
أفي كل يوم نظرة ثم عبرة ... لعينك مجرى مائها يتحدر
متى يستريح القلب إما مجاوز ... بحرب وإما نازح يتذكر
وفي مثل هذه الظروف القاسية الموحشة يجد الشاعر المجاهد الغريب نفسه بحاجة إلى أن يهرب إلى الطبيعة يبثها آلامه وأحزانه، ولا يزال الشعر الذي قيل في نخلة القادسية يصور لنا عاطفة الإنسان المأزوم نحو الطبيعة ولجوئه إليها، وبخاصة لو استشعر إلى جانب مشاعر الاغتراب والوحشة قلقًا يتهدد حياته، أو عندما يهاجمه الإحساس بدنو أجله. كان ذلك يوم عماس، وقد قتل من المسلمين ألفان وخمسمائة، وكان عدد الجرحى كبيرًا، وأخذ المسلمون في دفن القتلى بمشرق، ودفعوا بالجرحى إلى عناية النساء، وكان بين موقع المعركة مما يلي القادسية وبين حصن العذيب نخلة وحيدة، ليس حولها شيء من الزرع، وكان المسلمون إذا حملوا الجريح مروا به عليها، فإذا كان فيه تمييز نظر إليها طويلًا، ثم قال لحامله: أرحني تحت ظل هذه النخلة، فيرتاح تحتها برهة، يترنم فيها ببيت من الشعر يتمنى فيه السلامة لها، وكأنه يخاطب نفسه فيها؛ إذ لم يجد أهله وأحباءه حوله يقولون له هذه الكلمة فيخففون بها بعض ما به من ألم. ويذكر وحدة النخلة، وكأنه يعبر بذلك عن غربته، مثل هذه النخلة التي لا يجاورها نخل فيقول:
ألا فاسلمي يا نخلة بين قادس ... وبين العذيب لا يجاورك النخل
فإذا بجريح آخر يقول:
ألا يا اسلمي يا نخلة بين جرعة ... يجاورك الجمان دونك والرغل
فإذا بثالث من تيم الله يدعي ربعيًّا يقول:
أيا نخلة الجرعاء يا جرعة العدا ... سقتك الغوادي والغيوث الهواطل
وحمل إليها الأعور بن قطبة جريحًا -فيمن حمل- فقال:
أيا نخلة الركبان لازلت فانضري ... ولا زال في أكناف جرعائك النخل
فيرد عوف بن مالك التميمي:
أيا نخلة دون العذيب بتلعة ... سقيت الغوادي المدجنات من النخل
وموضوع الحنين على هذه الصورة باب رائع من أبواب الشعر الإسلامي، ذلك أنه يلتف في نطاق وجداني رفيق، تنسكب فيه أعمق المشاعر العاطفية في تدفق وحرارة وصدق. ونحن لا نعرف لهذا الشعر شبيهًا يقابله في شعر الجاهلية على كثرة ما كان من ظعنهم ورحيلهم إلا ما كان يعرف من بكاء الأطلال. وفي اعتقادنا أن وجود هذا الضرب من الشعر في الفتوح يعلل اختفاء المقدمات من هذا الشعر، إلى جانب ما أسلفناه من أسباب في تعليل هذه الظاهرة. وربما يعلل وجود هذا اللون أيضًا ما أخذ يشيع بعد استقرار المجتمع الإسلامي وبسط سلطانه على الأمصار المفتوحة من غزل رقيق عذري، متطور عن هذا اللون من شعر الحنين الحزين الشجي. وللتدليل على ما نذهب إليه بصدد حلول قصائد الحنين هذه محل المقدمة الطللية، الذي استوعب هذا اللون كل ما كان يسكب فيها من عوطف. نرى أنه لا ضير في أن تكون هذه الأبيات مطلعًا لإحدى القصائد التقليدية، وهي أبيات لأحد الفاتحين النازحين يقول فيها:
خليلي هل بالشام عين حزينة ... تبكي على نجد لعلي أعينها
وهل بائع نفسًا بنفس أو الأسى ... إليها فأخلاها بذاك حنينها
وأسلمنها الباكون إلا حمامة ... مطوقة قد بان عنها قرينها
تجاوبها أخرى على خيرزانة ... يكد يدنيها من الأرض لينها
نظرت بعيني مؤنسين فلم أكد ... أرى من سهيل نظرة أستبينها
فكذبت نفسي ثم راجعت نظرة ... فهيج لي شوقًا لنجد يقينها
فهل هناك فرق بين هذه الأبيات وأية مقدمة طللية؟ وهل هناك فرق بينها وبين ما نراه بعد عند العذريين من آلام الشوق والتبريح؟
وفي الوقت الذي نجد فيه الرجز يقاسم الشعر في الموضوعات القديمة المتطورة؛ كشعر الجهاد والرثاء نجده لا يستطيع أن يشاركه في شعر الحنين؛ إذ هو اللون الوحيد من ألوان الشعر في الفتوح، الذي لم يكن للرجز فيه نصيب من التعبير. وربما يرجع هذا إلى أن معاني الحنين لا يمكن نظمها إلا في ظروف وجدانية خاصة، ولحظات غنائية حالمة ومتأنية، مما يخالف طبيعة الرجز، الذي غلبت عليه طبيعة الاندفاع، والانفعال العنيف اللاهب؛ نتيجة لقيامه بدور التحميس والحث في ظروف القتال. وحظيت المشاهد الغريبة التي عاينها المسلمون لأول عهدهم بها في مناطق الفتح النائية، وبخاصة في الجناح الشرقي لفارس بغير قليل من عناية الشعراء الذين راحوا يصورون انطباعاتهم بهذه المشاهد وانعكاساتها على أنفسهم. وقد حظيت طبيعة هذه البلدان التي تختلف عن طبيعة بلاد العرب باهتمام الشعراء بها وتصويرها، والتعبير عن إعجابهم بها ، أو الضيق منها، وبخاصة أحوال الجو وبرده، الذي عانَى منه المسلمون في حصارهم بعض المناطق في مكران وما ماثلها، كما يبدو في قول الحكم التغلبي الذي افتتحها؛ إذ يقول:
لقد شبع الأرامل غير فخر ... بفيء جاءهم من مكران
أتاهم بعد مسغبة وجهد ... وقد صفر الشتاء من الدخان
وهذا أحد الفاتحين يضيق ببرودة الجو في مرو، ويعجب لتنكر الأرض التي تتابع ثلجها، ويشفق على أهلها الذين يقضون الشتاء مقرورين، دائمًا محتمين بأثواب يدسون أيديهم فيها لشدة البرد كأنهم أسرى فيقول:
وأرى بمرو الشاهجان تنكرت ... أرض تتابع ثلجها المذرور
إذ لا ترى ذا برة مشهورة ... إلا تخال كأنه مقرور
كلتا يديه لا تزايل ثوبه ... كل الشتاء كأنه مأسور
وفي نفس الوقت عبر بعض الفاتحين عن إعجابهم بطبيعة البلدان التي افتتحوها، وتغنوا بجمالها إلى أهليهم في شبه الجزيرة، كما يبدو في شعر أبي بجيد الأسود بن قطبة التي يتغنى فيها بريف الري، فيقول:
رضينا بريف الري والري بلدة ... لها زينة في عيشها المتواتر
لها نشز في كل آخر ليلة ... تذكر أعراس الملوك الأكابر
وهذا سواد بن قحطبة يتغنى بجمال الطبيعة في جرجان، فيقول:
ألا أبلغ أسيدًا إن عرضت بأننا ... بجرجان في خضر الرياض النواضر
ولعل أشد هذه المشاهد لفتًا للعرب في أول نزولهم بلاد الفرس الفيلة، التي لاقوا منها شدة في بعض معاركهم مع الديلم، وبخاصة يوم بابل، ويوم الجسر، وفي
القادسية، وقد دار ذكرها في شعر عدد كبير من شعراء المسلمين ذكرها ربيعة بن مقروم الضبي، وفخر برؤيتها وشهود معاركها، فقال:
ودخلت أبنية الملوك عليهم ... ولشر قول المرء ما لم يفعل
وشهدت معركة الفيول وحولها ... أبناء فارس بيضها كالأعبل
متسربلي حلق الحديد كأنهم ... جرب مقارفة عنية مهمل
وأشار عبدة بن الطبيب إليها في لاميته فقال:
حلت خويلة في دار مجاورة ... أهل المدينة فيها الديك والفيل
وصور الشعر ما كان يحدث لخيول المسلمين من الاضطراب بسبب الفيول، حتى كاد المسلمون أن يخسروا المعركة يوم بابل، كما خسروها يوم الجسر. وفي القادسية فعلت الفيلة فعلها في الخيل، حتى ليقول أبو محجن الثقفي:
وما رمت حتى خرقوا بسلاحهم ... إهابي وجادت بالدماء الأباجل
وحتى رأيت مهرتي مزوئرة ... لدى الفيل يدمي نحرها والشواكل
وظل هذا حال الفيلة وفعلها بالمسلمين حتى عرفوا مقاتلها. وكان من الذين قطعوا مشافر الفيلة القعقاع بن عمرو، الذي قطع مشفر الفيل الأعظم يوم القادسية، وفقأ عينه برمحه وقال:
فإن كنت قاتلت العدو فللته ... وإني لألقى في الحروب الدواهيا
فيولا أراها كالبيوت مغيرة ... أسمل أعيانًا لها ومآقيا
وأشاد سعد بن أبي وقاص ببلاء الذين تعرضوا للفيلة من المسلمين فأراحوا إخوانهم منها بعد أن قتلت في بنى أسد خمسمائة، فقال يشيد ببطولة القعقاع، وحمال الوالبي:
فقد لقيت خيولهم خيولًا ... وقد وقع الفوارس في الضراب
وقد دلفت بعرصتهم فيول ... كأنهم زهاءها إبل جراب
فلولا جمع قعقاع بن عمرو ... وحمال للجوا في الكذاب
هم منعوا جموعكم بطعن ... وضرب مثل تفتيق الإهاب
ولولا ذاك ألفيتم رعاعا ... تشل جموعكم مثل الذباب
وكما ضاق المسلمون بالفيلة ضاقوا بما لم يألفوه، من الحشرات والأوبئة التي تعرضوا لإيذائها في هذه البيئات، فشكوا منها، كما يبدو في هذا الشعر الذي يشكو فيه صاحبه من الذباب الذي يؤذي ناقته ويردها عن الماء في كربلاء عند التقاء كتيبة خالد بجند عياض حيث يقول:
لقد حبست في كربلاء مطيتي ... وفي العين حتى عاد غثا سمينها
إذا رحلت من مبرك رجعت له ... لعمرو أبيها إنني لا أهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاق من الذبان زرق عيونها
ولا ريب في أن الشعر الذي صور طاعون عمواس وأثره قد نجح في رسم صورة مؤثرة للمأساة التي أودت بكثير من المسلمين، الذين اجتمع عليهم الطعن والطاعون في وقت واحد. يقول المهاجر بن خالد بن الوليد وقد فقد أربعين من بني عمومته في هذا الطاعون:
أفنى بني ريطة فرسانهم ... عشرون لم يقصص لهم شارب
ومن بني أعمامهم مثلهم ... لمثل هذا يعجب العاجب
طعن وطاعون مناياهم ... ذلك ما خط لنا الكاتب
وفي المعنى نفسه يقول عبد الله بن سبرة الجرشي:
إن أقلب الطعن فالطاعون يرصدني ... كيف التقاء على طعن وطاعون
وكان ركوب البحر حدثًا كبيرًا سجله الشعراء وأشادوا به، وأكدوا في شعرهم أن الله قد ذلَّله لهم وبشروا بما أعده الله لمن يعبر في طاعته. يقول عفيف بن المنذر التميمي وقد غزا مع العلاء بن الحضرمي فارس من البحرين في وقعة طاوس:
ألم ترَ أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الحلائل
دعونا الذي شق البحار فجاءنا ... بأعظم من فلق البحار الأقائل
وأخذ المسلمون يعرفون بعض ألوان المآكل والمشارب الفارسية ويذكرونها في شعرهم؛ إذ إن أبا عبيد بن مسعود الثقفي -شهيد الجسر- بعد أن هزم الفرس في السقاطية بكسكر نزل بقرى باروسما؛ حيث خف إليه الفرس يصالحونه، وصنع له "فروخ" و"فرنداذ" من رؤساء الدهاقين طعامًا قدموه له، ولكنه رفض أن يطعمه دون جنده، فأخبره أنهم يطعمون في نفس الوقت فأكل، ولما عاد إلى جنده سألهم: ماذا كان طعامهم؟ فأخبروه بما جاءهم، فدعاهم ليعرفوا ألوان الطعام التي قدمت إليه. من قرو ونجم وجوزل وشواء وخردل، فقال عاصم بن عمرو التميمي:
إن تك ذا قرو ونجم وجوزل ... فعند أنب فروخ شواء وخردل
وقرو رقاق كالصحائف طويت ... على مزرع فيها بقول وقوزل
وكان المسلمون يرون أموال الفرس تنصب في حجورهم من غنائم وأسلاب وجزية تؤدَّى إليهم، فيذكرون ذلك في عزة وفخر. فبعد المدائن حاز المسلمون خزائن كسرى ودروعه وأسيافه، فقال أبو بجيد نافع بن الأسود:
فانتشلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وحاض منا جريضًا
وهذا سهيل بن عدي يفخر بصيرورة خرج الجزيرة إلى المسلمين بعد وقعة الرقة، فيقول:
وصار الخرج ضاحية إلينا ... بأكناف الجزيرة عن نقالي
وهذا عمرو بن مالك الزهري ينادي إليه الفرس بقبول الجزية، بعدما ذاقوا مرارة القتال في قرقيسيا:
فنادوا إلينا من بعيد بأننا ... ندين بدين الجزية المتواتر
ودارت مثل هذه المعاني في شعر عرب الحيرة، الذين استكثروا على المسلمين أن يسكنوا منازل المناذرة، وأن يمتلكوا الخورنق والسدير، وأن تؤدى إليهم الجزية، بعدما كانت تؤدى إلى كسرى، حتى قال عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة أحد زعماء الحيرة:
أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصًا بين مرة والحفير
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كجرب المعز في اليوم المطير
نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير
وكانت ملابس الجند الفارسيين وشكتهم يثيران في نفوس المسلمين بعض الدهشة، فذكروها في شعرهم، من مثل قول ربيعة بن مقروم:
متسربلي حلق الحديد كأنهم ... جرب مقارفة عنية مهمل
كما أخذت بعض الكلمات الفارسية تسقط إلى المسلمين فيعجبون لها، كما حدث لهذا الذي يقول:
تبدلت من ليلى وجارات بيتها ... قرى نبطيات يسمينني مردا
كذلك كانت كنائس الروم وبيعهم وما فيها من زخرف ونقوش تلفت أنظارهم كما لفتت نظر حارثة بن النمر وقد شهد اليرموك فقال:
لله باليرموك قوم طحطوا ... أحساب عاتى الروم بالأقدام
فتعطلت منهم كنائس زخرفت ... بالشام ذات فسافس ورخام
وأثرت هذه الأجواء الجديدة في بعض العرب وفتنت نفرًا منهم، فانحرفوا عن الصواب، وعكفوا على الخمر، وشهود مجالس الطرب والغناء واللهو، يغنيهم الدهاقين والمسمعات الأجنبيات، كما يصور ذلك النعمان بن عدي بن نظلة الذي ولي أعمال دست ميسان لعمر بن الخطاب فجرفته حياة اللهو بقوله:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى من زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... وصناجة تجثو على حرف ميسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
وبلغ الأمر عمر فقال: "وايم الله.. قد ساءني ذلك"، وكتب إليه فعزله.
وعندما بلغ عمر أن بعض الجند في الشام قد انصرفوا إلى الخمر كتب بأن يطبخ كل عصير بها حتى يذهب ثلثاه، فأخذ خلان الخمر يرثونها، ضائقين بهذا الأمر الصارم، كقول ذي الكلاع الذي شهد اليرموك، وكان السبب المباشر في هذا الأمر:
ألم ترَ أن الدهر يعثر بالفتى ... وليس على صرف المنون بقادر
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ... ولست على الصهباء يومًا بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر
فلا تجلدوهم واجلدوها فإنها ... هي العيش للباقي ومن في المعاصر
وأسهم الرجز بنصيب في تصوير هذه الألوان الجديدة في الشعر، وإن كان ضئيلًا، ولكنه يعبر عن هؤلاء الشعراء الذين اتخذوه سبيلًا إلى التعبير. ورأينا أن نغمات الرجز لا تصلح لحمل مشاعر الحنين، التي تفترق أوتارها في رقتها وحزنها عن أوتاره في عنفوانها ودويها إلا أنه صور انطباع الشعراء وتأثرهم ببعض المشاهد الغريبة في البيئات الجديدة كما صورها الشعر. وكان الفيل أكثر هذه المشاهد لفتًا للرجاز، فذكروه في أرجازهم ووصفوه، وهذا أحدهم يصفه لنا وصفًا دقيقًا، حتى لكأننا نراه أمامنا فيقول:
أجرد أعلى الجسم منه أضخم ... يجر أرحاء ثقالًا تحطم
ما تحتها من قرضها وتهشم ... وحنك حين يمد أفقم
ومشفر حين يمد سرطم ... يرده في الجوف حين يطعم
وكان عندي سبب أو سلم ... نجيت نفسي جاهدًا لا أظلم
وهذا آخر يصفه فيشبه آذانه بالمناديل فيقول:
من يركب الفيل فهذا الفيل ... إن الذي يركبه محمول
على تهاويل لها تهويل ... كالطود إلا أنه يجول
وأذنه كأنها منديل
وسجل الرجز ما حدث عام الطاعون، والحرج الذي عاناه المسلمون في النزوح إلى الأماكن الموبوءة أو الخروج منها، وما شاع بين الناس آنذاك من استسلام لقضاء الله، فإنما يفر من فر من قضاء الله إلى قضاء الله، وحاول بعض الناس الفرار منه خوفًا وفزعًا، فأهاب بهم البعض أن يذعنوا للقضاء. فيروى أن رجلًا خرج على حمار فارًّا من الطاعون، فإذا بمن يحدو به يقول:
لن يعجزوا الله على حمار ... ولا على ذي غرة مطار
قد يصبح الموت أمام الساري
وأزمع رجل آخر الخروج فرارًا من الطاعون أيضًا فتردد بعد أن هم وحدا به حاد يقول:
يأيها المشعر هما لا تهم ... إنك إن تكتب لك الحمى تحمم
وكذلك عبر الرجز عن ركوب المسلمين الماء. فهذا مالك بن عامر أول كتيبة عاصم بن عمرو التي عبرت دجلة إلى المدائن يستحث الناس على العبور، ويذكرهم بما أعد لهم من أجر وثواب، ونصر وعدهم الله به، وخسران لأعدائهم فيقول:
امضوا فإن البحر بحر مأمور ... والأول القاطع منكم مأجور
قد خاب كسرى وأبوه سابور ... ما تصنعون والحديث مأثور
وهكذا استخدم الفاتحون الذين أنطقتهم الفتوح بالشعر والرجز في التعبير عن الأغراض المختلفة التي يستخدم فيها القصيد، فوصفوا فيه البطولات، وأشادوا بجهادهم، واستخدموه في الرثاء، ووصف المشاهد، وما إلى ذلك من الألوان، التي لم يطرقها الرجز من قبل، وكانت وقفًا على القصيد. ويرى الدارس أن هذه لم تكن إلا مقدمة لاستخدامه فيما بعد، كقالب جديد، لا يقتصر على ألوانه الضيقة التي عرفها بها في الجاهلية، في الحرب والحداء، والمفاخرة4. فيصبح عند العجاج والأغلب العجلي وأبي النجم قالبًا موازيًا للشعر، يحتفلون به ويطورونه تطويرًا. فضلًا عن دوره الكبير الذي ظل يؤديه في التعبئة الروحية والمعنوية للجند في أثناء القتال. وهكذا يدهش من يطالع شعر الفتوح في هذه الألوان الجديدة، عندما تطالعه تلك الآثار السريعة للاحتكاك الحضاري في الميادين والأمصار المفتوحة، التي تركت ميسمها على الشعر، بعد أن أثرت في قائليه أثرًا سريعًا وموقوتًا، ولكنه ملحوظ، برغم الفترة القصيرة التي استغرقها هذا الاحتكاك.



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)